بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

أنّ السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه. وكثيرا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن قدرة منه ولا رويّة ، ويستغربه هو من نفسه ، كما يستغربه السّامع له. وربّما لم يعلم بعد انقضائه بما صدر منه. وأكثر ما يكون هذا عند الحاجة ، وصدق الرغبة من السائل والمجالس ، وصدق الرغبة منه هو إلى الله. ومن جرّب هذا عرف قدر منفعته وعظمها ، وساء ظنّه بما يحسن به الغافلون ظنونهم فى كلام كثير من الناس. وهى موهبة من الله تعالى ليست بسببيّة ولا كسبية ، كالسّكينة الّتى كانت فى التّابوت تنقل معهم حيث شاءوا. وقد أحسن من قال:

وتلك مواهب الرّحمن ليست

تحصّل باجتهاد أو بكسب

ولكن لا غنى عن بذل جهد

بإخلاص وجدّ لا بلعب

وفضل الله مبذول ولكن

بحكمته وعن ذا النصّ ينبئ

فما من حكمة الرّحمن وضع ال

كواكب بين أحجار وترب

فشكرا للذى أعطاك منه

ولو قبل المحلّ لزاد ربّى

والمسكين ـ بكسر الميم وفتحها ـ : من لا شىء له ، وهو أبلغ من الفقير.

وقوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ)(١) فإنّه جعلهم مساكين بعد ذهاب سفينتهم ، أو لأن سفينتهم غير معتدّ بها فى جنب ما كان لهم

__________________

(١) الآية ٧٩ سورة الكهف.

٢٤١

من (١) السكينة. وقيل : الفقير أبلغ. وقد بسطنا القول ووفينا الكلام فى شرح قولنا : المسكينة من أسماء المدينة ، فى كتابنا «المغانم المطابة فى معالم طابة». فلينظر من أراد ذلك.

__________________

(١) يريد أن المسكين مأخوذ من السكينة. وفى الراغب عقب هذا : «فالميم زائدة فى أصح القولين» والقول الآخر أن الميم أصلية بدليل قولهم : تمسكن ، ولا دليل فيه لأن الميم جاءت فى الفعل على توهم أصالتها. وهو باب فى العربية جاء منه قدر صالح ، كتمندل من المنديل وتمدرع من الدرع.

٢٤٢

٣٣ ـ بصيرة فى السلب

وهو نزع الشّىء من الغير على القهر ، قال تعالى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ)(١) ، وقد يقال للحاء الشجر المنزوع منه : سلب. والسّلب أيضا : لحاء شجر معروف باليمن / تعمل منه الحبال ، وهو أجفى (٢) من ليف المقل (٣). والسّلب أيضا : خوص الثمام (٤) ، قال مرّة بن محكان :

ينشنش الجلد عنها وهى باركة

كما تنشنش كفّا فاتل سلبا (٥)

رواه الأصمعىّ بالفاء وابن الأعرابىّ بالقاف ، والصّحيح ما رواه الأصمعىّ بالفاء.

وسلب الذّبيحة : إهابها. وسلب القتيل : ما عليه من الثياب

__________________

(١) الآية ٧٣ سورة الحج.

(٢) فى الأصلين : «أخفى» وما أثبت عن التاج. وقد عطف عليه : «وأصلب».

(٣) هو الدوم.

(٤) هو نبت يسد به فرج البيوت وخصاصها.

(٥) الضمير فى (ينشنش) للجازر ، وفى (عنها) للناقة المذبوحة ، كما يدل عليه قوله فى البيت قبله :

أمطيت جازرها أعلى سناسنها

فخلت جازرنا من فوقها قتبا

أراد بامطاء جازرها تمكينه من اعتلائها. وأراد بنشنشة الجلد عنها سلخه ، وبنشنشة كف الفاتل السلب أن ينزع لحاء السلب ليتخذ منه حبالا ، والسلب على هذا شجر. فأما رواية (قاتل) فالسلب ما على المقتول من ثياب وغيرها. ونشنشته : نزعه من المقتول. وانظر اللسان (نشنش).

٢٤٣

والسّلاح. وفى الحديث الصّحيح : «من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلبه (١)».

وسلّبت المرأة إذا لبست السّلاب ، وهو واحد السّلب ، ككتاب وكتب ، وهى ثياب المآتم السّود. وقال لبيد رضى الله عنه :

يخمشن حرّ أوجه صحاح

فى السّلب السّود وفى الأمساح (٢)

وكأنّها سمّيت سلبا (لنزعه (٣) ما كان يلبسه) قبل.

والأسلوب : الفنّ. وأخذ فى أساليب من القول : فى فنون منه. والأسلوب : الشموخ والكبر ، قال الأعشى :

ألم تروا للعجب العجيب

إنّ بنى قلابة القلوب

أنوفهم ملفخر فى أسلوب

وشعر الأستاه بالجبوب

أى فى شموخ وتكبّر لا يلتفت يمنة ويسرة.

وتسلّبت المرأة على ميّتها ، وسلّبت : لبست السّلب ، فهى مسلّب.

__________________

(١) أخرجه الشيخان وغيرهما كما فى تيسير الوصول فى مبحث الغنائم والفىء من كتاب الجهاد.

(٢) الأمساح : جمع مسح ، وهو الكساء من الشعر.

(٣) المناسب لما هنا : «لنزعها ما كانت تلبسه» ، وقد نقل عبارة الراغب وهى مناسبة لقوله فى السلب : «هى الثياب التى يلبسها المصاب».

٢٤٤

٣٤ ـ بصيرة فى السلاح وسلخ

كلّ عدّة للحرب تسمّى سلاحا. وتسلّح : لبس السّلاح. وسلّحته : ألبسته إيّاه. قال تعالى : (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)(١). وفى موضع كذا مسلحة ومسالح : وهم قوم وكّلوا بمرصد معهم السّلاح. وأخذت الإبل سلاحها ، وتسلّحت ، أى سمنت وحسنت. وذو السّلاح : السّماك (٢) الرّامح.

والإسليح : نبت إذا أكلت [منه] الإبل سمنت وغزر لبنها ، كأنما سمّى لأنّها إذا أكلت [منه] أخذت السّلاح ؛ لأنّها تمنع نفسها أن تنحر.

والسّلاح ـ بالضّمّ ـ : ما يقذفه آكل الإسليح ، ثم جعل كناية عن كلّ عذرة (٣) ، حتى قيل فى الحبارى (٤) : سلاحه سلاحه.

والسّلخ : نزع جلد الحيوان. سلخ الشاة. وكشط مسلاخها : إهابها ، وأعطانى مسلوخة : شاة سلخ جلدها. وسلخ الشهر ، وانسلخ (٥). وقوله تعالى : (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(٦) : ننزعه. وأسود (٧) سالخ. وانسلخ وتسلّخ. ونخلة مسلاخ : ينتثر بسرها أخضر.

__________________

(١) الآية ١٠٢ سورة النساء.

(٢) هو والسماك الأعزل نجمان نيران.

(٣) هى الغائط.

(٤) هو طائر على شكل الأوزة.

(٥) أى مضى.

(٦) الآية ٣٧ سورة يس.

(٧) هو الأسود من الحيات.

٢٤٥

٣٥ ـ بصيرة فى سلط

السّلاطة : التمكّن من القهر ، سلّطته فتسلّط ، قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ)(١) ، ومنه سمّى السّلطان (٢). قيل : هو جمع (٣) سليط [للزيت] كبعير وبعران ، سمّى لتنويره الأرض ، وكثرة الانتفاع به. والسّلطان أيضا : السّلاطة ، قال تعالى : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً)(٤) ، وقد يقال لذى السلاطة سلطان أيضا ، وهو الأكثر. وسمّى الحجّة سلطانا وذلك لما للحقّ (٥) من الهجوم على القلوب ، لكن أكثر تسلّطه على أهل العلم والحكمة من المؤمنين ، قال تعالى : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً)(٦) ، وقوله (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)(٧) يحتمل السّلطانين. وامرأة سليطة : طويلة اللسان صخّابة. ورجل سليط ، وقد سلط سلاطة. وفى الحديث : «السّلطان ظلّ الله فى الأرض يأوى إليه كلّ مظلوم (٨)» وقال : «من اقترب من أبواب السّلطان افتتن» وقيل : فى صحبة السّلطان خطر : إن أطعته خاطرت بدينك ، وإن عصيته خاطرت بروحك ، فالسّلامة ألّا يعرفك ولا تعرفه. قال :

__________________

(١) الآية ٩٠ سورة النساء.

(٢) أى الذى بيده القوة والولاية.

(٣) أى أن السلطان فى الأصل معناه الزيوت يوقد بها ويستنار فأطلق على من يحكم الناس ، وكأنه جماعة الزيت لتنويره الناس وكثرة الانتفاع به.

(٤) الآية ٣٣ سورة الاسراء.

(٥) فى الأصلين والراغب : «يلحق» وهو تصحيف.

(٦) الآية ١٤٤ سورة النساء.

(٧) الآية ٢٩ سورة الحاقة.

(٨) من حديث رواه البيهقى فى شعب الايمان عن ابن عمر. كما فى الفتح الكبير.

٢٤٦

دع السّلطان فالسّلطان ليث

ولا تتعرضنّ له فتضرس

وكن فى مجلس السّلطان أعمى

وكن عن مجلس السّلطان أخرس

وقال :

صاحب السّلطان لا بدّ له

من غموم تعتريه وغمم

والذى يركب بحرا سيرى

قحم الأهوال / من بعد قحم

والسّلطان ورد فى القرآن على وجوه :

الأوّل : بمعنى آيات القرآن : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ)(١).

الثانى : بمعنى الحجّة والبرهان : (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)(٢) ، (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ)(٣) أى بحجّة.

الثالث : بمعنى الاستيلاء : (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا)(٤) ، (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ)(٥).

الرّابع : بمعنى المعجزة : (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٦).

__________________

(١) الآية ٤٠ سورة يوسف.

(٢) الآية ٢٩ سورة الحاقة.

(٣) الآية ٣٣ سورة الرحمن.

(٤) الآية ٩٩ سورة النحل.

(٥) الآية ٢١ سورة سبأ.

(٦) الآية ٣٨ سورة الذاريات.

٢٤٧

٣٦ ـ بصيرة فى السلف

قال تعالى : (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)(١) أى معتبرا متقدّما.

وقوله : (فَلَهُ ما سَلَفَ)(٢) أى يتجافى عمّا تقدّم من ذنبه. وكذا قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ)(٣) ، أى ما قد تقدّم من فعلكم فذلك يتجافى عنه. فالاستثناء عن (الإثم لا (٤)) عن جواز الفعل.

وسلف القوم : تقدّموا ، سلوفا. وهم سلف لمن وراءهم ، وهم سلّاف العسكر والقافلة. وكان ذلك فى الأمم السّالفة ، والقرون السّوالف. وضمّ إلى سالف نعمه آنفها.

وامرأة حسنة السّالفة ، والسّالفتين ، وهما جانبا العنق. قال ذو الرمّة :

وميّة أحسن الثقلين جيدا

وسالفة وأحسنه قذالا (٥)

والسّلاف والسّلافة : أفضل الخمر.

والسّلفة : ما يقدّم من الطعام على القرى. وتسلّفوا : أكلوها. وسلّفوا ضيفكم.

وهو سلفى [وهى](٦) سلفتى. وبيننا سلف : بيننا صهر.

__________________

(١) الآية ٥٦ سورة الزخرف.

(٢) الآية ٢٧٥ سورة البقرة.

(٣) الآية ٢٣ سورة النساء.

(٤) فى الأصلين : «العلم» وما أثبت عن الراغب.

(٥) القذال ما خلف القفا. وانظر الديوان ٤٣٦.

(٦) زيادة من الأساس.

٢٤٨

٣٧ ـ بصيرة فى سلق وسلك

السّلق : بسط بقهر ، إمّا باليد وإمّا باللسان ، ومنه : (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ)(١). وسلقته لقفاه وسلقيته : بسطته على الأرض ، قال :

حتى إذا قالوا تيفّع مالك

سلقت أميمة مالكا لقفاه (٢)

وسلقت اللحم عن العظم : قشرته. وطبخ لنا سليقة ، وهى الذّرة المهروسة ، وهى أيضا : الخبز المرقّق.

وهو يتكلّم بالسّليقة (٣) ، وكلام سليقىّ ، قال :

ولست بنحوىّ يلوك لسانه

ولكن سليقىّ أقول فأعرب

ولسان مسلق وسلّاق ، وهى سلقة من السّلق : امرأة سليطة.

والسّلوك : النفاذ فى الطريق ، [يقال : سلكت الطريق ، و (٤)] سلكت كذا فى طريقه ، قال تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)(٥) ، ومن الثانى (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(٦) ، وقوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)(٧) قال بعضهم : سلكت فلانا طريقا ، فجعل (عَذاباً) مفعولا ثانيا. وقيل : (عَذاباً) مفعول لفعل محذوف ، كأنّه قال : يعذّبه عذابا.

__________________

(١) الآية ١٩ سورة الأحزاب.

(٢) ورد البيت فى الأساس غير معزو. وأيفع الغلام : شارف الاحتلام.

(٣) الذى فى القاموس : «بالسليقية»

(٤) زيادة من الراغب.

(٥) الآية ٦٩ سورة النحل.

(٦) الآية ٤٢ سورة المدثر.

(٧) الآية ١٧ سورة الجن.

٢٤٩

وورد فى القرآن على وجوه :

الأوّل : بمعنى الإدخال : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ)(١) ، (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(٢).

الثّانى : بمعنى الجعل : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)(٣) أى يجعل.

الثالث : بمعنى التكليف : (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)(٤).

الرّابع : بمعنى التّرك والإهمال : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ)(٥).

__________________

(١) الآية ٣٢ سورة القصص.

(٢) الآية ٤٢ سورة المدثر

(٣) الآية ٢٧ سورة الجن.

(٤) الآية ١٧ سورة الجن

(٥) الآية ١٢ سورة الحجر وتفسيره للسلك فى الآية بالترك والاهمال يعنى به اهمال المجرمين ، والا فالسلك فى الآية هو الادخال ، كما فى البيضاوى وغيره.

٢٥٠

٣٨ ـ بصيرة فى السل

سلّ السّيف من غمده ، واستلّه فانسلّ منه : نزعه فانتزع. وسلّ الشعرة من العجين ، فانسلّت انسلالا. وانسلّ من المضيق والزحام ، واستلّ (١) ، وتسلّل. وسلّ الشّىء من البيت على سبيل السّرقة. وسلّ الولد من الأب ، ومنه قيل للولد : سليل.

قال تعالى : (يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً)(٢) ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)(٣) أى من الصّفو الّذى يسلّ من الأرض. وقيل : السّلالة كناية عن النطفة ، تصوّر فيه صفو ما يحصل منه

وفى بنى فلان سلّة أى سرقة. قال :

فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة

فنقبل ضيما أو نحكّم قاضيا (٤)

واستلّ بكذا : ذهب به فى خفية. أنشد ابن الأعرابىّ :

إذ بيّتوا الحىّ فاستلّوا بجاملهم

ونحن يسعى صريخانا إلى الدّاعى (٥)

والهدايا تسلّ السّخائم ، وتحلّ الشّكائم.

وتسلسل الثوب : رقّ من البلى. قال ذو الرمّة :

قف العيس فى أطلال ميّة فاسأل

رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل (٦)

__________________

(١) كذا. والمعروف فى هذا التعدى لا المطاوعة.

(٢) الآية ٦٣ سورة النور.

(٣) الآية ١٢ سورة المؤمنين.

(٤) ورد البيت فى الأساس من غير عزو.

(٥) ورد البيت فى الأساس من غير عزو.

(٦) مطلع قصيدة له فى الديوان ٥٠١ وقد ذكره المؤلف عقب تسلسل الثوب. وذكره فى الأساس عقب قوله : «وثوب مسلسل : رق من البلى ، ولبسته حتى تسلسل» وهو أولى.

٢٥١

٣٩ ـ بصيرة فى سلم

السّلام والسّلامة : التعرّى من الآفات الظّاهرة والباطنة ، قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(١) أى من الدّغل ، هذا فى الباطن ، وقال : تعالى : (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها)(٢) هذا فى الظّاهر. يقال : سلم يسلم سلامة ، وسلاما ، وسلّمه الله.

وقوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ)(٣) أى بسلامة. والسّلامة الحقيقية ليست إلّا فى الجنّة ؛ لأنّ فيها بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعزّا بلا ذلّ ، وصحّة بلا سقم.

وقوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(٤) أى السّلامة. وقيل : السّلام : اسم من أسماء الله تعالى ، وكذا قيل فى قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ)(٥). قيل : وصف الله بالسّلام من حيث لا يلحقه العيوب والآفات الّتى تلحق الخلق.

وقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(٦) ، و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ)(٧) ، كلّ ذلك من النّاس والملائكة بالقول ، ومن الله بالفعل ، وهو إعطاء ما تقدّم ذكره ممّا يكون فى الجنّة من السّلامة.

__________________

(١) الآية ٨٩ سورة الشعراء.

(٢) الآية ٧١ سورة البقرة.

(٣) الآية ٤٦ سورة الحجر.

(٤) الآية ١٦ سورة المائدة.

(٥) الآية ١٢٧ سورة الأنعام.

(٦) الآية ٥٨ سورة يس.

(٧) الآية ٢٤ سورة الرعد.

٢٥٢

وقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(١) أى نطلب منكم السّلامة ، فيكون (سَلاماً) منصوبا بإضمار فعل. وقيل معناه : قالوا سدادا من القول ، فيكون صفة لمصدر محذوف.

وقوله : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)(٢) إنّما رفع الثّانى لأنّ الرفع فى باب الدّعاء أبلغ ، فكأنّه يجرى فى باب الأدب المأمور به فى قوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها)(٣). ومن (٤) قرأ (سلم) فلأن السّلام لمّا كان يقتضى السّلم وكان إبراهيم عليه‌السلام قد أوجس منهم فى نفسه خيفة ، فلمّا رآهم مسلّمين تصوّر من تسليمهم أنّهم قد بذلوا له سلما ، فقال فى جوابهم : (سلم) تنبيها أنّ ذلك حصل من جهتى لكم ، كما حصل من جهتكم لى.

وقوله : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً)(٥) هذا لا يكون لهم بالقول فقط ، بل ذلك بالقول والفعل جميعا. وقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ)(٦) هذا فى الظّاهر أنّه سلّم عليهم ، وفى الحقيقة سؤال الله السلامة (٧) منهم.

و (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)(٨) ، وكذلك البواقى ، كلّ ذلك تنبيه من الله أنّه جعلهم بحيث يثنى عليهم ، ويدعى لهم.

__________________

(١) الآية ٦٣ سورة الفرقان.

(٢) الآية ٢٥ سورة الذاريات.

(٣) الآية ٨٦ سورة النساء.

(٤) الذى قرأ بذلك حمزة والكسائى ، كما فى الاتحاف.

(٥) الآية ٢٦ سورة الواقعة.

(٦) الآية ٨٩ سورة الزخرف.

(٧) فى الاصلين : «بالسلامة». وما أثبت من الراغب.

(٨) الآية ٧٩ سورة الصافات.

٢٥٣

والسّلام ، والسّلم ، والسّلم : الصّلح. وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً)(١) ، قيل : نزلت فيمن قتل بعد إقراره بالإسلام ومطالبته بالصّلح.

وقوله : (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ)(٢) أى مستسلمون.

وقوله : ورجلا سالما لرجل (٣) ، وقرئ : (سَلَماً)(٤) وسِلما (٥) ، وهما مصدران (٦) وليسا بوصفين ، تقول : سلم سلما وسلما ، وربح ربحا وربحا. وقيل : السّلم اسم بإزاء الحرب : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(٧) ، لأنّ كلّ واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر ، ولهذا يبنى على مفاعلة ، فيقال : المسالمة.

والإسلام : الدّخول فى السّلم ـ وهو أن يسلم كلّ واحد منهما أن يناله ألم من صاحبه ، ومصدر أسلمت الشىء إلى فلان إذا أخرجته إليه. ومنه السّلم / فى البيع.

__________________

(١) الآية ٩٤ سورة النساء

(٢) الآية ٤٣ سورة القلم.

(٣) الآية ٢٩ سورة الزمر. وما أثبت (سالما) هو قراءة ابن كثير وابن عمرو ويعقوب ، كما فى الاتحاف.

(٤) هى قراءة عاصم وحمزة والكسائى ونافع وابن عامر وبقية الأربعة عشر ، كما فى الاتحاف.

(٥) هى قراءة ابن جبير ، كما فى البحر المحيط ٧ / ٤٢٤.

(٦) وقد وصف بهما على المبالغة بالتأويل بالوصف أو على تقدير «ذا».

(٧) الآية ٦١ سورة الأنفال.

٢٥٤

والإسلام فى الشرع على ضربين :

أحدهما : دون الإيمان ، وهو الاعتراف باللّسان. وبه يحقن الدّم ، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل ، وإياه قصد بقوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا)(١).

والثانى : فوق الإيمان. وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ، ووفاء بالفعل ، والاستسلام لله تعالى فى جميع ما قضى وقدّر ؛ كما ذكر عن إبراهيم عليه‌السلام فى قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٢).

__________________

(١) الآية ١٤ سورة الحجرات.

(٢) الآية ١٣١ سورة البقرة.

٢٥٥

٤٠ ـ بصيرة فى السلوى والسم والسمر

أصل السّلوى (١) : ما يسلّى الإنسان. ومنه السّلوان والتسلّى. وقيل : السّلوى : طائر كالسّمانى. وقال ابن عباس : المنّ : الذى يسقط من السماء ، والسلوى ، طائر. وقيل : أشار ابن عبّاس بذلك إلى رزق الله عباده من النّبات واللحوم ، فأورد ذلك مثالا.

وأصل السّلوى من التّسلّى. يقال : سليت كذا ، وسلوت عنه ، وتسلّيت : إذا زالت عنك محبّته. والسلوان : ما يسلّى. وكانوا يتداوون من العشق بخرزة يحكّونها ويشربونها ، يسمّونها : السّلوان.

وعين سلوان بالبيت المقدّس قال :

قلبى المقدّس لمّا أن حللت به

لكنّه ليس فيه عين سلوان

والسمّ ـ مثلثة السّين ـ : كلّ ثقب ضيّق ؛ كخرت الإبرة ، وثقب الأنف والأذن ، والجمع : سموم. وسمّه : أدخل فيه. ومنه السّامّة للخاصّة الذين يقال لهم الدخلل ، أى يدخلون فى بواطن الأمور. وعرف ذلك السّامّة والعامّة. قال تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(٢).

والسمّ القاتل هو مصدر فى معنى الفاعل ، فإنّه بلطف تأثيره يدخل بواطن البدن. والسّموم : الرّيح الحارّة الّتى تؤثّر تأثير السمّ القاتل.

__________________

(١) ورد فى قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) فى الآية ٥٧ سورة البقرة ، وورد فى مواطن أخر.

(٢) الآية ٤٠ سورة الأعراف.

٢٥٦

٤١ ـ بصيرة فى السمع

وهو قوّة فى الأذن ، بها تدرك الأصوات. وفعله يقال له السّمع أيضا. وقد سمع سمعا. ويعبّر تارة بالسّمع عن الأذن نحو : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ)(١). وتارة عن فعله كالسّماع نحو : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)(٢) ، وتارة عن الفهم ، وتارة عن الطّاعة ، تقول : اسمع ما أقول لك. ولم تسمع ما قلت ، أى لم تفهم.

وقوله : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا)(٣) ، أى فهمنا ولم نأتمر لك. وقوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا)(٤) ، أى فهمنا وارتسمنا. وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(٥) ، يجوز أن يكون معناه : فهمنا وهم لا يعملون بموجبه ، وإذا لم يعمل بموجبه فهو فى حكم من لم يسمع ، قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ)(٦)(خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أى أفهمهم بأن جعل لهم قوّة يفهمون بها.

وقوله : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ)(٧) ، فغير مسمع يقال على وجهين :

أحدهما : دعاء على الإنسان بالصّمم.

والثّانى : أن يقال أسمعت فلانا إذا سببته. وذلك متعارف فى السّبّ.

__________________

(١) الآية ٧ سورة البقرة

(٢) الآية ٢١٢ سورة الشعراء.

(٣) الآية ٩٣ سورة البقرة. والآية ٤٦ سورة النساء

(٤) الآية ٢٨٥ سورة البقرة ، والآية ٤٦ سورة النساء.

(٥) الآية ٢١ سورة الأنفال.

(٦) الآية ٢٣ سورة الأنفال.

(٧) الآية ٤٦ سورة النساء.

٢٥٧

وروى أن أهل الكتاب كانوا يقولون [ذلك](١) للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوهمون أنّهم يعظّمونه ويدعون له ، وهم يدعون عليه بذلك.

وكلّ موضع أثبت فيه السّمع للمؤمنين أو نفى عن الكافرين أو حثّ على تحرّيه فالقصد به إلى تصوّر المعنى والتفكر فيه. وإذا وصف / الله بالسّمع فالمراد به (٢) علمه بالمسموعات وتحرّيه للمجازاة به ، نحو : (قَدْ سَمِعَ اللهُ)(٣) وقوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى)(٤) أى إنك لا تفهمهم ؛ لكونهم كالموتى فى افتقادهم ـ لسوء فعلهم ـ القوّة العاقلة الّتى هى الحياة المختصة بالإنسانية.

وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)(٥) أى (يقوله فيه تعالى (٦)) من وقف على عجائب حكمته ، ولا يقال فيه : ما أبصره وما أسمعه لما تقدم ذكره ، وأن الله تعالى لا يوصف إلّا بما ورد به السّمع. وقوله فى صفة الكفار : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا)(٧) معناه : أنهم يسمعون ويبصرون فى ذلك اليوم ما خفى عنهم وضلّوا عنه اليوم ؛ لظلمهم أنفسهم وتركهم النّظر.

__________________

(١) زيادة من الراغب.

(٢) هذا جنوح الى انكار السمع من الصفات الذاتية ورده الى العلم ، وقد تبع فى هذا الراغب وهو فى علم الكلام على رأى المعتزلة. والأشاعرة يثبتون السمع والبصر صفتين زائدتين على العلم. راجع الجوهرة وغيرها.

(٣) صدر سورة المجادلة.

(٤) الآية ٨٠ سورة النمل.

(٥) الآية ٢٦ سورة الكهف.

(٦) عبارة الراغب. «يقول فيه تعالى ذلك».

(٧) الآية ٣٨ سورة مريم.

٢٥٨

وقوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)(١) أى يسمعون منك لأجل أن يكذبوا ، (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ)(٢) أى يسمعون لمكانهم (٣).

والاستماع : الإصغاء. وقوله : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ)(٤) أى من الموجد لأسماعهم وأبصارهم ، والمتولّى بحفظها. والمسمع والمسمع : خرق الأذن. وفى دعاء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا من لا يشغله سمع عن سمع ، ويا من لا تغلّطه المسائل ، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحّين ، ارزقنى برد عفوك ، وحلاوة رحمتك ، وروح قربك. وقال الشاعر :

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا

وقد ورد السّمع فى التنزيل على وجوه :

الأوّل : بمعنى الإفهام : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى)(٥) أى لا تفهمهم.

الثانى : بمعنى إجابة الدّعاء : (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ)(٦).

الثالث : بمعنى فهم القلب : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٧) ، (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)(٨) أى سمع الفؤاد ، (سَمِعْنا وَأَطَعْنا)(٩) أى سمعنا بقلوبنا ، وأطعنا بجوارحنا.

__________________

(١) الآية ٤١ سورة المائدة.

(٢) الآية ٤١ سورة المائدة.

(٣) أى لأجلهم أى ليخبروهم بما سمعوا.

(٤) الآية ٣١ سورة يونس.

(٥) الآية ٨٠ سورة النمل.

(٦) الآية ٣٨ سورة آل عمران.

(٧) الآية ٣٧ سورة ق.

(٨) الآية ٢١٢ سورة الشعراء.

(٩) الآية ٢٨٥ سورة البقرة ، والآية ٤٦ سورة النساء.

٢٥٩

الرّابع : بمعنى سماع جارحة الأذن : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)(١) ، (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ)(٢) ، (سَمِعْنا وَعَصَيْنا)(٣) أى سمعنا بالآذان ، وعصينا بالجنان.

الخامس : بمعنى سمع (٤) الحقّ تعالى النزه عن الجارحة والآلة ، المقدّس عن الصّماخ (٥) والمحارة (٦) : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(٧) ، (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٨) ، (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٩).

وقد يكون السميع بمعنى المسمع ، قال عمرو بن معد يكرب رضى الله عنه :

أمن ريحانة الداعى السميع

يؤرّقنى وأصحابى هجوع

__________________

(١) الآية ١٢ سورة الفرقان.

(٢) الآية ٩ سورة الجن.

(٣) الآية ٤٦ سورة النساء.

(٤) جرى هنا على مذهب الأشاعرة أن السمع صفة ذاتية غير العلم.

(٥) صماخ الأذن : الخرق الذى يفضى الى الرأس ، كما فى المصباح. والمحارة للأذن : جوفها.

(٦) الآية ١٣٤ سورة النساء.

(٧) الآية ٢٢٤ سورة البقرة.

(٨) الآية ٥٠ سورة سبأ.

٢٦٠