بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٣

٢٣ ـ بصيرة فى الخلف والخلق

خلف ـ وقد يقال بال ـ : نقيض قدّام. قال تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)(١) وخلف. نقيض تقدّم وسلف. فالمتأخّر لقصور منزلته يقال له : خلف. ولهذا قيل : خلف سوء. والمتأخر لا لقصور منزلته يقال له : خلف ، قال تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ)(٢) وقيل : «سكت ألفا ، ونطق خلفا» أى رديئا من الكلام. وهو خلف صدق من أبيه إذا قام مقامه. وقيل : الخلف والخلف سواء. وقال اللّيث : السّاكن للأشرار خاصّة والمتحرّك لضدّهم.

وتخلّف : تأخّر أو جاء خلف آخر أو قام مقامه. ومصدره الخلافة. وخلف خلافة فهو خالف أى ردىء أحمق. والخلفة ـ بالكسر ـ : الاسم من الاختلاف أى التردّد (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً)(٣) أى يجىء هذا فى إثر هذا. ويقال : هنّ يمشين خلفة أى تذهب هذه وتجىء هذه. قال زهير ابن أبى سلمى :

بها العين والآرام يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم (٤)

ويقال أيضا : القوم خلفة ، وبنو فلان خلفة ، أى نصفهم ذكور ونصفهم

__________________

(١) الآية ٢٥٥ سورة البقرة.

(٢) الآية ١٦٩ سورة الاعراف ، والآية ٥٩ سورة مريم.

(٣) الآية ٦٢ سورة الفرقان.

(٤) هذا البيت من معلقته. والعين البقر الوحشى جمع أعين وعيناء. غلب عليها ذلك لسعة عيونها ، والآرام : الظباء ، وأطلاؤها : أولادها. والمجثم حيث تسكن وتقع بالارض.

٥٦١

إناث. وخلف فلانا يخلفه إذا كان خليفته وقائما بالأمر عنه إمّا معه وإمّا بعده. قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)(١)

والخلافة : النّيابة عن الغير. إمّا لغيبة المنوب عنه وإمّا لموته وإمّا لعجزه وإمّا لتشريف المستخلف. وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه فى الأرض. قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ)(٢) والخلائف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف ، قال تعالى : (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)(٣) والخليفة : السّلطان الأعظم. وقد يؤنّث. أنشد الفرّاء :

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ، ذاك الكمال

زاد ابن عبّاد الخليف والجمع الخلائف ، جاءوا به على الأصل (٤) مثل كريمة وكرائم ، وقالوا أيضا : خلفاء من (٥) أجل أنّه لا يقع إلّا على مذكّر وفيه الهاء ، جمعوه على إسقاط الهاء فصار مثل ظريف وظرفاء ، لأن فعيلة بالهاء لا يجمع على فعلاء. وقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)(٦) أى كن خليفتى وقم مقامى فيهم.

والاختلاف والمخالفة : أن يأخذ كلّ واحد طريقا غير طريق الآخر فى حاله أو فعله. والخلاف أعمّ من الضدّ ، لأنّ كلّ ضدّين مختلفان وليس كلّ مختلفين ضدّين. ولمّا كان الاختلاف بين النّاس فى القول قد يقتضى

__________________

(١) الآية ٦٠ سورة الزخرف.

(٢) الآية ١٦٥ سورة الانعام.

(٣) الآية ٦٩ سورة الاعراف.

(٤) أى على تقدير التاء اذا كانت هى الاصل فى الكلمة.

(٥) لا يحتاج الى هذا على قول ابن عباد بثبوت خليف ، كما ذكره فى التاج.

(٦) الآية ١٤٢ سورة الاعراف.

٥٦٢

التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة ، قال تعالى : (فَاخْتَلَفَ (١) الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) وقوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ)(٢) قيل : معناه (٣) خلفوا نحو كسب واكتسب. وقيل : أتوا فيه بشيء خلاف ما أنزل الله. وقوله : (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ)(٤) من الخلاف أو من الخلف (٥). وقوله تعالى : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(٦) أى فى مجىء كلّ واحد منهما خلف الآخر وتعاقبهما.

والخلف : الاسم من الإخلاف. يقال : وعدنى فأخلفنى أى خالف الميعاد ، قال تعالى : (ما أَخْلَفْنا (٧) مَوْعِدَكَ). وأخلفه : ردّه إلى خلفه. وأخلف النبت : أخرج الخلفة ، وهى ورق يخرج بعد الورق الأوّل فى الصّيف. وأخلف الثوب : أصلحه. ويقال لمن ذهب له ولد أو مال أو شىء يستعاض : أخلف الله

__________________

(١) الآية ٣٧ سورة مريم ، والآية ٦٥ سورة الزخرف.

(٢) الآية ١٧٦ سورة البقرة.

(٣) يذكر المفسرون أن (الْكِتابَ) أن أريد به الجنس أى الكتب فالاختلاف فيها أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض ، كاليهود يؤمنون بالتوراة ويكفرون بالقرآن ، وكذا النصارى. وأن أريد القرآن فاختلاف الكفار فيه أن يقول بعضهم : انه شعر ، وبعضهم : انه سحر ، وهكذا. وأن أريد التوراة فالحديث عن اليهود ، وهم لم يتنازعوا فيها ، ففسر (اخْتَلَفُوا) بخلفوا أى جاءوا متأخرين أو كانوا ذوى رداءة وشر ، وهذا الرأى الاول هنا ، ويظهر انه على هذا يكون (فِي الْكِتابِ) متعلقا بقوله (لَفِي شِقاقٍ) أو المراد : اختلفوا أى أتوا بالخلاف لما جاء فى الكتاب. وهذان التفسيران لا تساعد عليهما اللغة ، وتبع المصنف الراغب فى ذلك. وانظر البيضاوى وحاشية الشهاب عليه.

(٤) الآية ٤٢ سورة الانفال.

(٥) يريد أن الاختلاف فى الميعاد يجوز أن يكون من الفريقين فالمؤمنون يتقاعسون عن الميعاد تهيبا للمشركين لكثرتهم ، والمشركون كذلك لما وقر فى قلوبهم من قوة المؤمنين ، فالاختلاف على هذا بمعنى الخلاف ، وقوله : «اختلفتم» يكون للفريقين. ويجوز أن يكون الاختلاف من المؤمنين وحدهم والمراد به اخلاف الموعد من جانب واحد ، وهذا ما أراده بقوله : «أو من الخلف».

(٦) الآية ٦ سورة يونس.

(٧) الآية ٨٧ سورة طه.

٥٦٣

عليك. أى ردّ الله عليك مثل (١) ما ذهب. وأخلف فلان لنفسه إذا كان قد ذهب له شىء فجعل مكانه آخر. قال تميم بن أبىّ [بن] مقبل (٢) :

ألم تر أن المال يخلف نسله

ويأتى عليه حقّ دهر وباطله

فأخلف وأتلف إنما المال عارة

وكله مع الدهر الذى هو آكله

يقول استفد (٣) خلف ما أتلفت. وخلف الله عليك أى كان لك منه خليفة.

وقوله تعالى : (لا يلبثون خلفك إلا قليلا) (٤) أى بعدك ، وقرئ (خِلافَكَ) أى مخالفة لك. وقوله : (أَوْ تُقَطَّعَ (٥) أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أى إحداهما من جانب والأخرى من جانب آخر.

وخلّفته تخليفا : تركته خلفى ، قال تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ)(٦) أى مخالفين. والخالف : المتأخّر عنك لنقصان أو قصور كالمتخلّف ، قال تعالى : (مَعَ الْخالِفِينَ)(٧). والخالفة : عمود الخيمة المتأخّر (٨) ، ويكنى بها عن المرأة لتخلّفها عن المرتحلين وجمعه خوالف. قال تعالى : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ)(٩) أى مع النّساء. والخالفة : الأحمق ، وهو خالفة بيّن الخلافة أى أحمق (١٠). والخالفة : الأمّة الباقية

__________________

(١) ب : «منك».

(٢) ديوانه ١٤٣.

(٣) فى الاصلين : «استنفد» وما أثبت من اللسان والتاج.

(٤) الآية ٧٦ سورة الاسراء. والقراءة الاولى (خلفك) قراءة نافع وابن كثير وابى عمرو وابى بكر وأبى جعفر ، كما فى الاتحاف ، والقراءات الاخرى قراءة الباقين.

(٥) الآية ٣٣ سورة المائدة.

(٦) الآية ٨١ سورة التوبة.

(٧) الآية ٨٣ سورة التوبة.

(٨) فى الاصلين : «المتأخرة» والمناسب ما أثبت.

(٩) الآية ٨٧ سورة التوبة.

(١٠) فى الاصلين : «الاحمق».

٥٦٤

بعد الأمّة السّالفة. وهو خالفة أهل بيته وخالفهم إذا كان لا خير فيه ولا هو نجيب.

وقول عمر : لو أطيق الأذان مع الخلّيفى لأذّنت. كأنّه أراد بالخلّيفى كثرة جهده فى ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنّتها ؛ فإن هذا النّوع من المصادر يدل على معنى الكثرة.

٥٦٥

٢٤ ـ بصيرة فى الخلق

وهو التقدير ، وقيل : التقدير المستقيم. ويستعمل فى إبداع الشىء من غير أصل ولا احتذاء. قال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(١) أى أبدعهما بدلالة قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٢). ويستعمل فى إيجاد الشيء من الشىء. قال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)(٣).

وليس الخلق بمعنى الإبداع إلّا لله تعالى. ولهذا قال تعالى فى الفصل بينه وبين غيره : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٤) وأمّا الّذى يكون بالاستحالة فقد جعله الله لغيره فى بعض الأحوال كعيسى عليه‌السلام حيث قال : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)(٥) والخلق لا يستعمل فى جميع النّاس إلّا على وجهين :

أحدهما فى معنى التقدير كقوله (٦) :

ولأنت تفرى ما خلقت وبعض ال

قوم يخلق ثم لا يفرى

والثانى : فى الكذب نحو قوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)(٧).

إن قيل : قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(٨) يدل على أنّه يصحّ أن يوصف به غيره ، قلنا : إن ذلك معناه : أحسن المقدّرين ، أو يكون على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أنّ غير الله يبدع ، فكأنّه

__________________

(١) الآية ٣ سورة النحل وورد فى آيات أخرى.

(٢) الآية ١١٧ سورة البقرة ، الآية ١٠١ سورة الانعام.

(٣) الآية ٦ سورة الزمر.

(٤) الآية ١٧ سورة النحل.

(٥) الآية ١١٠ سورة المائدة.

(٦) أى قول زهير من قصيدة فى مدح هرم بن سنان. وانظر الديوان بشرح ثعلب ٩٤.

(٧) الآية ١٧ سورة العنكبوت.

(٨) الآية ١٤ سورة المؤمنين.

٥٦٦

قيل : فاحسب أنّ هاهنا مبدعين وموجدين فالله تعالى أحسنهم إيجادا على ما يعتقدون ، كما قال : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ)(١). وقوله تعالى : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ)(٢) قيل : هو إشارة إلى ما يشوّهونه من الخلقة بالخصاء ونتف اللّحية وما يجرى مجراه. وقيل : معناه يغيّرون حكمه. وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)(٣) إشارة إلى ما قدّره وقضاه. وقيل : معنى لا تبديل نهى : لا تغيّروا خلقة الله. وقوله : (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ)(٤) كناية عن فروج النساء.

وكلّ موضع استعمل فيه الخلق فى وصف الكلام فالمراد به الكذب. ومن هذا الوجه امتنع كثير من الناس من إطلاق لفظ الخلق على القرآن وعلى هذا قوله : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ)(٥) وقوله : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(٦).

والخلق فى معنى المخلوق. والخلق والخلق (٧) فى الأصل واحد. كالشّرب والشّرب والصّرم والصّرم ، ولكن خصّ الخلق بالهيئات والأشكال والصّور

__________________

(١) الآية ١٦ سورة الرعد وهذه الآية لا تدل على أنهم كانوا يعتقدون أن الآلهة تخلق فان مفادها الانكار عليهم ، وأن هذه الآلهة لم يصدر منها خلق حتى يشبه الأمر عليهم ويكون لهم عذر فى عبادتها.

(٢) الآية ١١٩ سورة النساء.

(٣) الآية ٣٠ سورة الروم.

(٤) الآية ١٦٦ سورة الشعراء.

(٥) الآية ١٣٧ سورة الشعراء. وأراد المؤلف قراءة (خَلق) بفتح الخاء وسكون اللام. والقراءة الاخرى (خُلُقُ) بضم الخاء واللام. والقراءة الاخيرة قراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وخلف ، والاولى قراءة الباقين ، كما فى الاتحاف.

(٦) الآية ٧ سورة ص.

(٧) المشهور فى الخلق لقوى النفس وسجاياه ضم الاول والثانى. وفيه لغة ثانية ضم الأول وتسكين الثانى. وهذه اللغة هى التى يريدها المؤلف ـ تبعا للراغب ـ فى هذا المقام ليتسنى له المقابلة بالصرم والصرم. وكأن ضم الاول والثانى فى الخلق عنده فرع اللغة الاخرى

٥٦٧

المدركة بالبصر ، وخصّ الخلق بالقوى والسّجايا المدركة بالبصيرة. قال تعالى : لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(١) قال : ابن عباس رضى الله عنهما : لعلى دين عظيم لا دين أحبّ إلىّ ولا أرضى عندى منه وهو دين الإسلام. وقال الحسن : هو أدب القرآن. وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهى عنه من نهى الله. والمعنى : إنّك لعلى الخلق الّذى آثرك الله تعالى به فى القرآن. وفى الصّحيحين (٢) أنّ هشام ابن حكيم سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالت : كان خلقه القرآن.

واعلم أنّ الدّين كلّه خلق. فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى الدين ، وكذا التصوّف. قال الكتّانى (٣) : هو خلق ، فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى التصوّف. وقيل : حسن الخلق : بذل النّدى ، وكفّ الأذى. وقيل : فكّ (٤) الكفّ ، وكفّ (٥) الفكّ. وقيل : بذل الجميل وكفّ القبيح. وقيل : التخلى من الرذائل ، والتحلّى بالفضائل. وهو يقوم على أربعة أركان لا يتصوّر قيام ساقه إلّا عليها : الصّبر والعفّة والشّجاعة والعدل.

فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وإماطة الأذى والحلم والأناة والرّفق وعدم الطّيش والعجلة.

__________________

(١) الآية ٤ سورة القلم.

(٢) ورد فى الجامع الصغير عن مسند ابن حنبل ومسلم وأبى داود.

(٣) هو من رجال الرسالة ، صحب الجنيد والخراز والنورى. مات سنة ٣٢٢ ه‍. انظر الرسالة ٣٤ ومقالته وردت فى الاحياء فى كتاب رياضة النفس فى الجزء الثالث (حسن الخلق).

(٤) فك الكف أى اطلاق اليد بالبذل ، وكف الفك فالفك : العظم الذى ينبت عليه الاسنان ، وهما فكان أعلى وأسفل وأراد به هنا الفم ، وكف الفك منعه من الخوض فيما لا يحل.

٥٦٨

والعفّة تحمله على اجتناب الرذائل والقبيح من القول والفعل. وتحمله على الحياء وهو ركن كلّ خير ، وتمنعه من الفحش والبخل والكذب والغيبة والنّميمة.

والشجاعة تحمله على عزّة النّفس وإيثار معالى الأخلاق والشّيم ، وعلى البذل والنّدى الذى هو شجاعة النفس وقوّتها على إخراج المحبوب ومفارقته ، وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنّه بقوّة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ويكبحها (١) بلجامها عن السّطوة والبطش ؛ كما قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس (٢) الشّديد بالصّرعة إنّما الشديد الّذى يمسك نفسه عند الغضب» وهذه هى حقيقة الشجاعة. وهى ملكة يقتدر معها على قهر خصمه.

والعدل يحمله على اعتدال أخلاقة وتوسّطه بين طرفى الإفراط والتّفريط فيحمله على خلق الجود والسّخاء الّذى هو توسّط بين الإمساك والتّقتير ، وعلى خلق الحياء الّذى هو توسّط بين الذّلة والقحة ، وعلى خلق الشّجاعة الّذى هو توسّط بين الجبن والتّهوّر ، وعلى خلق الحلم الذى هو توسّط بين الغضب والمهانة (٣). والتوسّط (٤) منشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.

والخلق ورد فى القرآن على ثمانية أوجه (٥) :

الأوّل : بمعنى دين الحقّ (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)(٦) أى لدين الله (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ)(٧) أى دين الله.

__________________

(١) كذا فى ب. وفى ا : «يلتجمها» وكأن الأصل : «يلجمها».

(٢) ورد فى الجامع الصغير عن الشيخين ومسند أحمد.

(٣) فى الأصلين : «المهابة» والمناسب ما أثبت.

(٤) فى الأصلين : «وسقوط و».

(٥) ا : «وجوده».

(٦) الآية ٣٠ سورة الروم.

(٧) الآية ١١٩ سورة النساء.

٥٦٩

الثانى : بمعنى الكذب (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)(١) أى تكذبون (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ)(٢).

الثالث : بمعنى التّصوير (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)(٣) أى تصوّر.

الرابع : بمعنى التقدير (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(٤) أى يقدّرون.

الخامس : بمعنى الإنطاق (أَنْطَقَنَا اللهُ)(٥) إلى قوله (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى أنطقكم.

السّادس : الخلق بمعنى الجعل (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)(٦)(وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ)(٧).

السّابع : بمعنى الإحياء فى القيامة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا)(٨) أى بعثنا (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)(٩) أى يبعث.

الثّامن : بمعنى حقيقة الخلقة (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(١٠)(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ)(١١)(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ)(١٢) وله نظائر.

__________________

(١) الآية ١٧ سورة العنكبوت.

(٢) الآية ١٣٧ سورة الشعراء.

(٣) الآية ١١٠ سورة المائدة.

(٤) الآية ٣ سورة الفرقان.

(٥) الآية ٢١ سورة فصلت.

(٦) الآية ٢١ سورة الروم.

(٧) الآية ١٦٦ سورة الشعراء.

(٨) الآية ١١ سورة الصافات.

(٩) الآية ٨١ سورة يس.

(١٠) الآية ٥ سورة الزمر.

(١١) الآية ٢٨ سورة لقمان.

(١٢) الآية ١٦ سورة الرعد.

٥٧٠

٢٥ ـ بصيرة فى الخلو والخمود والخمر

خلا المكان خلوّا وخلاء. وأخلى واستخلى : فرغ. ومكان خلاء ؛ ما فيه أحد. وأخلاه : جعله أو وجده خاليا. وخلا : وقع فى مكان خال.

والخلوّ يستعمل فى الزّمان والمكان ، لكن لمّا تصوّر فى الزّمان المضىّ فسر أهل اللّغة قولهم «خلا الزّمان» بقولهم : مضى وذهب. قال تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ)(١) وقوله (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)(٢) أى يتحصّل مودّة أبيكم وإقباله عليكم. وخلا الإنسان : صار خاليا. وخلا فلان بفلان : صار معه فى خلاء. وخلا إليه : انتهى إليه فى خلوة ، قال تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ)(٣) وخلّيت فلانا : تركته فى خلاء ، ثمّ قيل لكلّ ترك : تخلية. قال تعالى : (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)(٤).

* * *

والخمود. الانطفاء. خمدت النّار تخمد : طفئ لهيبها (٥).

وقوله تعالى : (جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)(٦) كناية عن موتهم. ومنه قولهم : خمدت الحمّى أى سكنت.

* * *

والخمر مادّتها موضوعة للتغطية والمخالطة فى ستر. وسمّيت الخمر خمرا لأنّها تركت فاختمرت. واختمارها تغيّر ريحها ، وفى الحديث «الخمر ما خامر العقل» قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ)(٧) والخمار ـ بالكسر ـ

__________________

(١) الآيتان ١٣٤ ، ١٤١ سورة البقرة.

(٢) الآية ٩ سورة يوسف.

(٣) الآية ١٤ سورة البقرة.

(٤) الآية ٥ سورة التوبة.

(٥) ب : «لهبها».

(٦) الآية ١٥ سورة الانبياء.

(٧) الآية ٢١٩ سورة البقرة.

٥٧١

اسم لما يستر به. وصار فى التعارف اسما لما تغطّى به المرأة رأسها والجمع الخمر ، قال الله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ)(١) واختمرت (٢) المرأة وتخمّرت : لبستها. وخمرت الإناء غطّيته.

٢٦ ـ بصيرة فى الخير (٣)

وهو ضدّ الشرّ. وهو ما يرغب فيه الكلّ كالعقل مثلا والعدل والفضل والشىء النّافع. وقيل : الخير ضربان. خير مطلق وهو ما يكون مرغوبا فيه بكلّ حال وعند كلّ أحدكما وصف صلى‌الله‌عليه‌وسلم به الجنّة فقال : «لا خير (٤) بخير بعده النّار ، ولا شرّ بشرّ بعده الجنّة».

وخير وشرّ مقيّدان وهو أنّ خير الواحد شرّ الآخر كالمال الّذى ربّما كان خيرا لزيد وشرا لعمرو. ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين فقال فى موضع : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً)(٥) وقال فى موضع آخر (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ)(٦) فقوله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أى مالا. وقال بعض العلماء : لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيب ، كما روى أنّ عليّا رضى الله عنه دخل على مولى له فقال : ألا أوصى يا أمير المؤمنين؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى قال (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك مال كثير.

__________________

(١) الآية ٣١ سورة النور.

(٢) فى الأصلين : «اخمرت» وما أثبت من القاموس.

(٣) ذكر فى هذه البصيرة الخوار والخوض والخيط.

(٤) كذا فى ب وا : «بأمرين».

(٥) الآية ١٨٠ سورة البقرة.

(٦) الآيتان ٥٥ ، ٥٦ سورة المؤمنين.

٥٧٢

وعلى هذا أيضا قوله (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(١). وقال بعض العلماء : إنما سمّى المال هاهنا (٢) خيرا تنبيها على معنى لطيف ، وهو أنّ المال [الذى](٣) يحسن الوصيّة به ما كان مجموعا من وجه محمود. وعلى ذلك قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٤) وقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)(٥) قيل : عنى به مالا من جهتهم ، [و](٦) قيل : إن علمتم أن عتقهم يعود عليكم وعليهم بنفع أى ثواب.

وقوله تعالى : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)(٧) أى آثرت حبّ الخير عن ذكر ربّى. والعرب تسمّى الخيل الخير لما فيها من الخير. وقوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ)(٨) أى لا يفتر من طلب المال وما يصلح دنياه. وقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (٩) أى بخير لكم فإن يكن تخفيفا كان خيرا فى الدّنيا والآخرة. وإن يكن تشديدا كان خيرا فى الآخرة لأنّهم أطاعوا الله ـ تعالى ذكره ـ فيه.

وقال ابن عرفة فى قوله تعالى : (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ)(١٠) لم يكن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير من نسائه ، ولكن إذا عصينه فطلّقهن على المعصية فمن سواهنّ خير منهنّ.

وقال الرّاغب : الخير والشّرّ يقالان على وجهين :

أحدهما : أن يكونا اسمين كما تقدّم.

__________________

(١) الآية ٨ سورة العاديات.

(٢) أى فى آية الوصية.

(٣) زيادة من الراغب.

(٤) الآية ٢٧٣ سورة البقرة.

(٥) الآية ٣٣ سورة النور.

(٦) زيادة من الراغب.

(٧) الآية ٣٢ سورة ص.

(٨) الآية ٤٩ سورة فصلت.

(١٠) الآية ١٠٦ سورة البقرة.

(١١) الآية ٥ سورة التحريم.

٥٧٣

والثّانى : أن يكونا وصفين وتقديراهما تقدير أفعل ، نحو هو خير من ذلك وأفضل. وقوله (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(١) يصحّ أن يكون اسما وأن يكون صفة. وقوله (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)(٢) تقديره تقدير أفعل منه.

والخير يقابل به الشرّ مرّة والضر (٣) مرّة ، نحو : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ)(٤).

وقوله : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ)(٥) قرأ الحسن البصرى وأبو عثمان النهدىّ (٦) والخليل بن أحمد وطاوس وبكر بن حبيب (فيهن خيِّرات) بتشديد الياء ، والتشديد هو الأصل. وامرأة خيّرة وخيرة بمعنى. وكذلك رجل خيّر وخير كميّت وميت. وقوله تعالى : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ)(٧) جمع خيرة وهى الفاضلة من كل شىء. وقال الأخفش : وقيل لمّا وصف به ، وقيل : فلان [خير (٨)] ـ أشبه الصّفات ، فأدخلوا فيه الهاء للمؤنّث ولم يريدوا أفعل. وأنشد أبو عبيدة :

ولقد طعنت مجامع الربلات

ربلات هند خيرة الملكات (٩)

فإن أردت معنى التفضيل قلت : فلانة خير النّاس ولم تقل خيرة الناس وفلان خير النّاس ولم تقل : أخير ، لا يثنّى ولا يجمع لأنّه فى معنى أفعل.

__________________

(١) الآية ١٨٤ سورة البقرة.

(٢) الآية ١٩٧ سورة البقرة.

(٣) فى الأصلين : «الخير» وما أثبت من الراغب.

(٤) الآية ١٧ سورة الانعام.

(٥) الآية ٧٠ سورة الرحمن.

(٦) فى الأصلين : «الهندى». وما أثبت من البحر المحيط لابى حيان ٨ / ١٩٨.

(٧) الآية ٨٨ سورة التوبة.

(٨) زيادة من التاج.

(٩) الربلات جمع ربلة ـ بفتح الاول وتسكين الثانى ـ وهى باطن الفخذ. وفى اللسان أن البيت لرجل جاهلى من بنى عدى تيم تميم.

٥٧٤

وقال شمر : يقال ما أخيره وخيره وأشرّه وشرّه وهذا أخير منه وأشرّ منه. وقال ابن بزرج قالوا : هم الأخيرون والأشرّون من الخيارة والشّرارة بإثبات الألف. وتقول فى الخير والشرّ هو خير منك وشرّ منك وخيير (١) منك وشرير منك (٢).

واستخار الله العبد فخار له أى طلب منه الخير فأولاه (٣). وخايرته فى كذا فخرته : غلبته. والخيرة الحالة التى تحصل للمستخير والمختار. والاختيار : طلب ما هو خير فعله. وقد يقال لما يراه الإنسان خيرا وإن لم يكن خيرا.

وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ)(٤) يصحّ أن يكون إشارة إلى إيجاده تعالى إياهم خيرا ، وأن يكون إشارة إلى تقديمهم على غيرهم. والمختار قد يقال للفاعل والمفعول.

* * *

والخوار مختصّ بالبقر وقد يستعار للبعير (٥).

والخوض : الشروع [فى الماء (٦) والمرور فيه. ويستعار فى الأمور]. وأكثر ما ورد فى القرآن ورد فيما يذمّ الشروع (٧) فيه.

والخيط معروف وقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(٨) أى بياض النّهار من سواد اللّيل.

__________________

(١) هذا الضبط من اللسان.

(٢) هذا الضبط من اللسان.

(٣) فى الأصلين : «أولاده» وما أثبت من الراغب.

(٤) الآية ٣٢ سورة الدخان.

(٥) وقد جاء منه قوله تعالى فى الآية ١٤٨ من سورة الاعراف (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) وجاء أيضا فى الآية ٨٨ من سورة طه.

(٦) زيادة من الراغب.

(٧) وورد فى عدة آيات فى الكتاب كقوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) فى الآية ٦٩ سورة التوبة.

(٨) الآية ١٨٧ سورة البقرة.

٥٧٥

٢٧ ـ بصيرة فى الخوف

وهو توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة ، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة ، ويضادّ الخوف الأمن. ويستعمل ذلك فى الأمور الأخروية والدّنيويّة.

وقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما)(١) قد فسّر بعرفتم. وحقيقته : وإن وقع لكم خوف من ذلك لمعرفتكم. والخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرّعب كاستشعار الخوف ، بل إنّما يراد به الكفّ عن المعاصى وتحرّى الطّاعات. ولذلك قيل : لا يعدّ خائفا من لم يكن للذّنوب تاركا.

والخوف أجلّ منازل السّالكين وأنفعها للقلب. وهو فرض على كلّ أحد. قال تعالى : (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢) وقال : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)(٣) ومدح الله تعالى أهله فى كتابه وأثنى عليهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ (٤) هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) فى مسند الإمام أحمد وجامع التّرمذى عن عائشة رضى الله عنها قالت قلت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الّذى يسرق ويشرب الخمر ويزنى؟ قال : لا يا ابنة الصّديق : ولكنّه الرّجل يصوم ويصلّى ويتصدّق

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة النساء.

(٢) الآية ١٧٥ سورة آل عمران.

(٣) الآية ٤١ سورة البقرة.

(٤) الآيات ٥٧ ـ ٦١ سورة المؤمنين.

٥٧٦

ويخاف أن لا يقبل منه» وقال الحسن : عملوا والله الصّالحات واجتهدوا فيها ، وخافوا أن تردّ عليهم. وقال الجنيد : الخوف توقع العقوبة على مجارى الأنفاس. وقيل : الخوف : اضطراب القلب وحركته من تذكّر المخوف. وقيل : الخوف : هرب القلب من حلول المكروه وعند استشعاره. وقيل : الخوف العلم بمجارى الأحكام. وهذا سبب الخوف لا نفسه. وقال أبو حفص (١) : الخوف سوط الله يقوّم به الشاردين عن بابه. وقال : الخوف سراج فى القلب يبصر به ما فيه من الخير والشرّ. وكلّ واحد (٢) إذا خفته هربت منه إلّا الله فإنّك إذا خفته هربت إليه. وقال إبراهيم بن سفيان : إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشّهوات منه وطرد الدّنيا عنه. وقال ذو النّون : الناس على الطّريق ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلّوا عن الطّريق.

والخوف ليس مقصودا لذاته بل مقصود لغيره. والخوف المحمود الصّادق : ما حال بين صاحبه ومحارم الله ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. وقال أبو عثمان : صدق الخوف هو الورع عن الآثام (٣) ظاهرا وباطنا. وقال الأنصارى : الخوف هو الانخلاع عن طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر يعنى الخروج من سكون الأمن باستحضار ما أخبر الله به من الوعد والوعيد.

وأمّا التخويف من الله فهو الحثّ على التحرّز. وعلى ذلك قوله تعالى : (ذلِكَ (٤) يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ونهى الله تعالى عن مخافة الشيطان والمبالاة

__________________

(١) انظر فى هذا وما بعده الرسالة ٧٧.

(٢) ب : «أحد».

(٣) فى الأصلين : «الامام» وما أثبت من الرسالة.

(٤) الآية ١٦ سورة الزمر.

٥٧٧

بتخويفه ، فقال (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ)(١) أى لا تأتمروا للشيطان وأتمروا لله تعالى. ويقال تخوّفناهم أى تنقّصناهم تنقّصا اقتضاه الخوف منهم (٢).

وقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي)(٣) فخوفه منهم ألّا يراعوا الشريعة ولا يحفظوا نظام الدّين ، لا أن يرثوا ماله كما ظنّه بعض الجهلة. فالقنيات الدّنيويّة أخسّ (٤) عند الأنبياء من أن يشفقوا عليها.

والخيفة : الحالة الّتى عليها الإنسان من الخوف. قال تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى)(٥) واستعمل استعمال الخوف. قال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)(٦) وتخصيص لفظ الخيفة تنبيه أنّ الخوف منهم حالة لازمة لا تفارقهم. والتخوّف : ظهور الخوف من الإنسان. قال تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ)(٧).

وقد ورد فى القرآن الخوف على خمسة وجوه :

الأوّل : بمعنى القتل والهزيمة (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ)(٨)(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ)(٩) أى القتل.

الثّانى : بمعنى الحرب والقتال (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ

__________________

(١) الآية ١٧٥ سورة آل عمران.

(٢) فى الأصلين : «منه» وما أثبت هو المناسب.

(٣) الآية ٥ سورة مريم.

(٤) فى الأصلين : «أحسن» وما أثبت من الراغب.

(٥) الآية ٦٧ سورة طه.

(٦) الآية ١٣ سورة الرعد.

(٧) الآية ٤٧ سورة النحل.

(٨) الآية ٨٣ سورة النساء.

(٩) الآية ١٥٥ سورة البقرة.

٥٧٨

حِدادٍ)(١) أى إذا انجلى الحرب (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ)(٢) أى الحرب.

الثالث : بمعنى العلم والدّراية (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً)(٣) أى علم (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ)(٤) أى يعلما (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى)(٥) أى علمتم.

الرّابع : بمعنى النقص (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ)(٦) أى تنقّص.

الخامس : بمعنى الرّعب والخشية من العذاب والعقوبة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً)(٧).

وفى مواضع كثيرة قرن الخوف فى القرآن بـ «لا» النّافية وب «لا» النّاهية ، نحو (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ)(٨)(لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما)(٩)(لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى)(١٠)(وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)(١١)(لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)(١٢)(أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)(١٣)(لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(١٤)(وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)(١٥)(فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً)(١٦)(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١٧)(أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا)(١٨).

__________________

(١) الآية ١٩ سورة الاحزاب.

(٢) الآية ١٩ سورة الاحزاب.

(٣) الآية ١٨٢ سورة البقرة.

(٤) الآية ٢٢٩ سورة البقرة.

(٥) الآية ٣ سورة النساء.

(٦) الآية ٤٧ سورة النحل. وسبق له تفسير التخوف فى الآية بظهور الخوف ، وهذا غير ما هنا. وقد فسر بأن يهلك القرى التى تليهم فيخافوا ثم يأخذهم. فأما تفسير التخوف بالتنقيص فهو أن ينقص من أبدانهم وأموالهم وثمارهم شيئا فشيئا.

(٧) الآية ١٦ سورة السجدة.

(٨) الآية ٣٣ سورة العنكبوت.

(٩) الآية ٤٦ سورة طه.

(١٠) الآية ٦٨ سورة طه.

(١١) الآية ٧ سورة القصص.

(١٢) الآية ١٠ سورة النمل.

(١٣) الآية ٣١ سورة القصص.

(١٤) الآية ٧٧ سورة طه.

(١٥) الآية ٥٤ سورة المائدة.

(١٦) الآية ١٣ سورة الجن.

(١٧) الآية ٣٨ سورة البقرة.

(١٨) الآية ٣٠ سورة فصلت.

٥٧٩

٢٨ ـ بصيرة فى الخيل والخول

الخيال والخيالة بمعنى : وأصله الصّورة المجرّدة كالصّورة المتصوّرة فى المنام وفى المرآة وفى القلب بعيد غيبوبة المرئىّ. قال الشاعر البحترىّ (١)

ولست بنازل إلّا ألمّت

برحلى أو خيالتها الكذوب

ثمّ يستعمل فى صورة كلّ أمر متصوّر ، وفى كلّ شخص دقيق يجرى مجرى الخيال.

والتّخييل : تصوير خيال الشىء فى النّفس ، والتّخيّل : تصوّر ذلك. وخلت بمعنى ظننت ، يقال اعتبارا بتصوّر خيال المظنون. ويقال خيّلت السّماء : أبدت خيالا للمطر. وفلان مخيل لكذا أى خليق ، وحقيقته أنّه مظهر خيال ذلك.

والخيلاء : التكبّر عن تخيّل فضيلة تراءى للإنسان من نفسه. وفى الحديث [قال (٢) النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأبى بكر رضى الله عنه : إنك لست تصنع ذلك خيلاء] ومنها تنوول لفظ الخيل ، لما قيل : إنّه لا يركب أحد فرسا إلّا وجد فى نفسه نخوة. والخيل فى الأصل اسم للأفراس والفرسان جميعا. قال تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)(٣) ويستعمل فى كلّ واحد منهما منفردا ؛ نحو ما روى (يا خيل (٤) الله اركبى) فهذا للفرسان. وكذا قوله

__________________

(١) هذا من شعر فى الحماسة غير منسوب ويبعد أنه للبحترى. وانظر الحماسية ٩٩ من شرح المرزوقى.

(٢) زيادة من التاج فى (خيل).

(٣) الآية ٦٠ سورة الانفال.

(٤) رواه أبو الشيخ فى الناسخ والمنسوخ كما فى كشف الخفاء والالباس.

٥٨٠