بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٣

والجنح ـ بالكسر ـ : قطعة من اللّيل مظلمة لأنّها جانب منه. وفى الحديث «إنّ الملائكة (١) لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع».

٤٥ ـ بصيرة فى الجند

وهو العسكر ، سمّى به اعتبارا بالغلظ والاجتماع من الجند بالتّحريك وهو الأرض الّتى فيها الحجارة المجتمعة ؛ ثمّ يقال لكلّ مجتمع : جند نحو «الأرواح (٢) جنود مجنّدة» وجمع الجند أجناد وجنود. وقوله تعالى (إِذْ جاءَتْكُمْ (٣) جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) فالجنود الأولى من الكفّار ، والثانية من الملائكة.

٤٦ ـ بصيرة فى الجهد بالفتح والضم

وهو الطّاقة والمشقّة. وقيل بالفتح : المشقّة ، وبالضمّ الوسع. وقيل : الجهد : ما يجهد الإنسان.

قوله تعالى (لا يَجِدُونَ (٤) إِلَّا جُهْدَهُمْ) (وَأَقْسَمُوا (٥) بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أى حلفوا واجتهدوا فى الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما فى وسعهم. والاجتهاد : أخذ النّفس ببذل الطّاقة ، وتحمّل المشقّة فى العبادة. يقال جهدت رأيى واجتهدت : أتعبته بالفكر. والجهاد والمجاهدة : استفراغ الوسع فى مدافعة

__________________

(١) رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان وغيرهم ، كما فى الترغيب والترهيب فى «كتاب العلم» فى صدر الكتاب

(٢) رواه البخارى معلقا ومسلم وغيرهما ، كما فى الجامع الصغير.

(٣) الآية ٩ سورة الأحزاب.

(٤) الآية ٧٩ سورة التوبة.

(٥) الآية ١٠٩ سورة الأنعام. وورد فى آيات أخرى.

٤٠١

العدوّ. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المجاهد» (١) من جاهد نفسه فى طاعة الله» وكان إذا رجع من الغزو يقول : «رجعنا (٢) من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وقال «أفضل الجهاد مجاهدة النّفس» وقال للنّساء «لكنّ (٣) أفضل الجهاد : حجّ مبرور» وسأله رجل عن الخروج إلى الغزو فقال «أوالداك (٤) فى الأحياء؟ قال : بلى. قال : ففيهما فجاهد».

قال الشاعر :

يا من يجاهد غازيا أعداء دين الله

يرجو أن يعان وينصرا

هلّا غشيت النفس غزوا إنها

أعدى عدوّك كى تفوز وتظفرا

مهما عنيت جهادها وعنادها

فلقد تعاطيت الجهاد الأكبرا

وقال آخر فى الجهد ومعنييه :

تعاليت عن قدر المدائح صاعدا

فسيّان عفو القول عندك والجهد

وإنى لأدرى أنّ وصفك زائد

على منطقى لكن على الواصف الجهد

وإنّ قليل القول يكثر وقعه

إذا عرفت فيه الموالاة والودّ

وورد فى القرآن على معان :

الأوّل : مجاهدة الكفّار والمنافقين بالبرهان والحجّة (جاهِدِ (٥) الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) (وَجاهِدْهُمْ (٦) بِهِ جِهاداً كَبِيراً).

__________________

(١) رواه الترمذى وابن حبان ، كما فى لجامع الصغير.

(٢) أخرجه البيهقى ، فى الزهد من حديث جابر. وقال : هذا اسناد فيه ضعف. انه تخريج أحاديث الأحباء فى «عجائب القلب» فى صدر الجزء الثالث.

(٣) رواه البخارى كما فى كتاب الحج.

(٤) أخرجه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه ، كما فى تيسير الوصول.

(٥) الآية ٧٣ سورة التوبة ، والآية ٩ سورة التحريم.

(٦) الآية ٥٢ سورة الفرقان.

٤٠٢

الثانى : جهاد أهل الضّلالة (١) بالسّيف والقتال (وَفَضَّلَ اللهُ (٢) الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) (هاجَرُوا (٣) وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

الثالث : مجاهدة (٤) مع النفس (وَمَنْ جاهَدَ (٥) فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ).

الرابع : مجاهدة مع (٦) الشيطان بالمخالفة طمعا فى الهداية (وَالَّذِينَ (٧) جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).

الخامس : جهاد مع القلب لنيل الوصل والقرب (وَجاهِدُوا (٨) فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ).

والحقّ أن يقال : المجاهدة (٩) ثلاثة أضرب : مجاهدة العدوّ الظّاهر ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النّفس. ويدخل الأضرب الثلاثة فى (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) وفى الحديث : «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم» والمجاهدة تكون باليد وباللّسان. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاهدوا الكفّار (١٠) بأيديكم وألسنتكم».

__________________

(١) ب : «الضلال».

(٢) الآية ٩٥ سورة النساء.

(٣) الآية ٢١٨ سورة البقرة.

(٤) فى أصل ب : «مجاهدته».

(٥) الآية ٦ سورة العنكبوت.

(٦) فى التاج فى الكلام على المجاهدة : «قال شيخنا : والاتيان بمع فيه من لحن العامة ، كما نصوا عليه» أى فالصواب أن يقال : مجاهدة النفس ومجاهدة الشيطان.

(٧) الآية ٦٩ سورة العنكبوت.

(٨) الآية ٧٨ سورة الحج.

(٩) فى الأصلين : «المجاهد».

(١٠) ورد فى الجامع الصغير بلفظ «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» عن أحمد وأبى داود وغيرهما.

٤٠٣

٤٧ ـ بصيرة فى الجهر

قال الله تعالى (سَواءٌ (١) مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) وقال تعالى : (أَرِنَا اللهَ (٢) جَهْرَةً).

والمادّة موضوعة لظهور الشىء بإفراط لحاسّة البصر أو لحاسّة السّمع. أمّا للبصر فنحو قولك : رأيته جهارا. وأمّا للسّمع فنحو قولك : جهر بالكلام. وكلام جهورىّ وجهير ورجل جهير : رفيع الصوت ، والّذى يجهر بحسنه : وجهر البئر ، واجتهرها : أظهر ماءها. والجوهر فوعل منه ، وهو ما إذا بطل بطل (٣) محموله ، وسمّى بذلك لظهوره للحاسّة.

٤٨ ـ بصيرة فى الجل

وقد ورد فى القرآن على خمسة (٤) عشر وجها :

الأوّل : فى ذكر آدم بحمل (٥) الأمانة (إِنَّهُ كانَ (٦) ظَلُوماً جَهُولاً).

الثانى : خطاب لنوح عليه‌السلام أن يحفظ رقم الجهالة على نفسه بدعوة الجهلة ودعائهم (إِنِّي (٧) أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

الثالث : ذكر هود عليه‌السلام قومه لمّا امتنعوا عن إجابة الحقّ (وَلكِنِّي (٨) أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ).

__________________

(١) الآية ١٠ سورة الرعد.

(٢) الآية ١٥٣ سورة النساء.

(٣) يريد بالمحمول ما يعرف بالعرض.

(٤) المراد جنس الانسان. وكان الأدب ألا يذكر آدم عليه‌السلام فى هذا الموطن.

(٥) فى الأصلين : «تحمل».

(٦) الآية ٧٢ سورة الأحزاب.

(٧) الآية ٤٦ سورة هود.

(٨) الآية ٢٣ سورة الأحقاف.

٤٠٤

الرّابع : استعاذة (١) موسى بالحقّ عن ملابسة الجهلة (أَعُوذُ (٢) بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقال مرّة (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(٣) وقال يوسف : إن لم تبذرقنى (٤) بعصمتك أصير من جملة الجهلاء (أَصْبُ (٥) إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقال تعالى (إِذْ أَنْتُمْ (٦) جاهِلُونَ) وخاطب نبيّه وحبيبه. (فَلا تَكُونَنَ (٧) مِنَ الْجاهِلِينَ) قل (٨) يا محمّد لنسائك يجتنبن من التزيّي بزىّ الجهلاء (وَلا تَبَرَّجْنَ (٩) تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) (فِي قُلُوبِهِمُ (١٠) الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ (١١) يَجْهَلُونَ) ما صدر من العصاة من المعاصى فبسبب جهلهم (عَمِلُوا السُّوءَ)(١٢)(بِجَهالَةٍ) ليكن جوابك لخطاب الجاهلين سلاما طلبا للسّلامة (وَإِذا خاطَبَهُمُ (١٣) الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ (١٤) لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(١٥).

والجهل نقيض العلم ، جهله يجهله جهلا وجهالة. وجهل عليه : أظهر الجهل كتجاهل. وهو جاهل. والجمع جهل وجهل وجهّل وجهّال وجهلاء.

__________________

(١) فى الأصلين : «استعانة» والمناسب ما أثبت.

(٢) الآية ٦٧ سورة البقرة.

(٣) الآية ١٣٨ سورة الأعراف.

(٤) أى تحرسنى وتحمنى. والبذرقة الخفارة والحماية. والكلمة فارسية ، وفى التاج «وأصل هذه الكلمة مركبة من «بد» و «راه» والمعنى : الطريق الردىء ، فعربوا الهاء بالقاف ، وأعجموا الذال».

(٥) الآية ٣٣ سورة يوسف.

(٦) الآية ٨٩ سورة يوسف.

(٧) الآية ٣٥ سورة الأنعام.

(٨) قبله فى ا : «ولتكونن من الجاهلين» وفى ب : «ليحبطن عملك ولتكونن من الجاهلين» والتلاوة : (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وهى فى الزمر آية ٦٥.

(٩) الآية ٣٣ سورة الأحزاب.

(١٠) الآية ٢٦ سورة الفتح.

(١١) الآية ١١١ سورة الأنعام.

(١٢) الآية ١١٩ سورة النحل.

(١٣) الآية ٦٣ سورة الفرقان.

(١٤) الآية ٥٥ سورة القصص.

(١٥) يلاحظ أن المؤلف لم يذكر العدد بعد الرابع. وقد ذكر خمسة عشر موضعا حذفنا منها موضعا أخطأ فى تلاوة آيته ، وهى «ليحبطن عملك ولتكونن من الجاهلين».

٤٠٥

والجهل على ثلاثة أضرب :

الأول : خلوّ النّفس من العلم ، هذا هو الأصل. وقد جعل بعض المتكلّمين الجهل معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النّظام ، كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية (١) على النّظام.

الثانى : اعتقاد الشىء على خلاف ما هو عليه.

الثالث : فعل الشىء بخلاف ما حقّه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا كمن يترك الصّلاة عمدا. وعلى ذلك قوله (أَتَتَّخِذُنا (٢) هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). فجعل فعل الهزو جهلا.

والجاهل يذكر تارة على سبيل الذمّ وهو الأكثر ، وتارة لا على سبيل الذمّ نحو (يَحْسَبُهُمُ (٣) الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أى من لا يعرف حالهم. وليس المراد المتّصف بالجهل المذموم. والمجهل كمقعد : الأمر والأرض والخصلة التى تحمل الإنسان على الاعتقاد بالشىء بخلاف ما هو عليه. واستجهلت الرّيح الغصن : حرّكته كأنها حملته على تعاطى الجهل. وذلك استعارة حسنة. والمجهلة : ما يحملك على الجهل. والمجهل والمجهلة ـ بكسر ميمهما ـ والجيهل والجيهلة : خشبة يحرّك بها الجمر.

__________________

(١) كذا فى ب. وهو موافق لما فى الراغب. وفى أ : «الخارجة» ومعنى الخروج عن النظام الحدوث على مقتضاه ، فهى عبارة صحيحة. وذلك بخلاف : «الخارجة عن النظام».

(٢) الآية ٦٧ سورة البقرة.

(٣) الآية ٢٧٣ سورة البقرة.

٤٠٦

٤٩ ـ بصيرة فى الجهم

وهو الوجه الغليظ المجتمع السّمج. وقد جهم جهومة وجهامة. وجهنّم : اسم لنار الله الموقدة فارسىّ معرّب ، أصله جهنّام وقيل : عربىّ. سمّيت به نار الآخرة لبعد قعرها ، من قولهم : بئر جهنّام وجهنّام وجهنّام أى بعيدة (١) القعر. وإنّما لم يجر (٢) لثقل التّعريب وثقل التّأنيث.

٥٠ ـ بصيرة فى الجوب

وهو قطع الجوبة وهى الغائط (٣) من الأرض ، ثمّ يستعمل فى قطع كل أرض كقوله تعالى (جابُوا الصَّخْرَ (٤) بِالْوادِ) ويقال هل عندك جائبة (٥) خبر. وجواب الكلام هو ما يقطع الجوب (٦) فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع ، لكن خصّ بما يعود من الكلام ، دون المبتدإ من الخطاب.

والجواب يقال فى مقابلة السؤال. والسّؤال على ضربين : طلب مقال وجوابه المقال ، وطلب نوال وجوابه النّوال. فعلى الأوّل قوله تعالى (أَجِيبُوا (٧) داعِيَ اللهِ) وعلى الثانى (أُجِيبَتْ (٨) دَعْوَتُكُما) أى أعطيتما ما سألتما.

__________________

(١) فى الأصلين : «بعيد».

(٢) أى يصرف وينون.

(٣) أى المنخفض المطمئن.

(٤) الآية ٩ سورة الفجر.

(٥) أى خبر يجوب البلاد لطرافته ، كأن التاء فيه للنقل من الوصفية الى الاسمية.

(٦) جمع جوبة ، وتقدم تفسيرها.

(٧) الآية ٣١ سورة الأحقاف. يريد أن الاجابة هنا بالنطق بالشهادتين أمارة التوحيد والاسلام وهى مقال.

(٨) الآية ٨٩ سورة يونس.

٤٠٧

والاستجابة قيل : هى الإجابة. وحقيقتها هى التحرّى للجواب والتّهيّؤ له ، لكن عبّر به عن الإجابة (١) لقلّة انفكاكها منها. قال تعالى (ادْعُونِي (٢) أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

٥١ ـ بصيرة فى الجار والجار والجارى

أمّا الجار فمن يقرب مسكنه من مسكنك. وهو من الأسماء المتضايفة ، فإنّ الجار لا يكون جارا لغيره حتّى يكون ذلك الغير جارا له ؛ كالأخ والصّديق ونحو ذلك. ولمّا استعظم حقّ الجار شرعا وعقلا عبّر عن كلّ من يعظم حقّه أو يستعظم حقّ غيره بالجار ، كقوله تعالى : (وَالْجارِ (٣) ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) ويقال : استجرت فأجارنى ، وعلى هذا قوله تعالى (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ)(٤) وقوله تعالى (وَهُوَ يُجِيرُ (٥) وَلا يُجارُ عَلَيْهِ).

وقد تصوّر من الجار معنى القرب فقيل لما يقرب من غيره : جاره. وجاوره وتجاوروا قال تعالى (وَفِي الْأَرْضِ (٦) قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) وباعتبار القرب قيل : جار عن الطّريق. ثم جعل ذلك أصلا فى كلّ عدول عن كلّ حقّ ، فبنى منه الجور ، قوله تعالى (وَمِنْها (٧) جائِرٌ) أى عادل عن المحجّة. وقيل : الجائر من النّاس هو الذى يمتنع عن التزام ما يأمر به الشّرع.

__________________

(١) ا ، ب «الاحاطة».

(٢) الآية ٦٠ سورة غافر.

(٣) الآية ٣٦ سورة النساء.

(٤) الآية ٤٨ سورة الأنفال.

(٥) الآية ٨٨ سورة المؤمنين.

(٦) الآية ٤ سورة الرعد.

(٧) الآية ٩ سورة النحل.

٤٠٨

وأمّا الجأر بالهمزة ، فهو الإفراط فى الدّعاء والتضرّع ، تشبيها بجوار الوحشيّات ؛ كالظّباء وغيرها.

وأمّا الجارى والجارية والجوار ففى القرآن على ستّة أوجه :

الأوّل : بمعنى مسير الشّمس فى الفلك (وَالشَّمْسُ (١) تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها).

الثانى : لسيلان الأنهار فى الجنّة (تَجْرِي (٢) مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ولهذا نظائر فى التنزيل.

الثالث : بمعنى سيلان أنهار الدّنيا (وَجَعَلْنَا (٣) الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أى تحت أمرهم وتصرّفهم.

الرّابع : بمعنى جريان أنهار مصر (وَهذِهِ (٤) الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) قاله فرعون.

الخامس : بمعنى السّفينة (حَمَلْناكُمْ (٥) فِي الْجارِيَةِ) (فَالْجارِياتِ (٦) يُسْراً) (وَلَهُ (٧) الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ).

السّادس (٨) : بمعنى الحوراء من الحور العين. قال الشاعر :

فى الخلد جارية بالفنج ماشية (٩)

للزّوج ساقية فى شطّ أنهار

من عنبر خلقت بالمسك قد عجنت

باللّطف قد ثقبت فى نفس أبكار (١٠)

__________________

(١) الآية ٣٨ سورة يس.

(٢) الآية ٢٥ سورة البقرة ، وورد فى آيات أخرى.

(٣) الآية ٦ سورة الأنعام.

(٤) الآية ٥١ سورة الزخرف.

(٥) الآية ١١ سورة الحاقة.

(٦) الآية ٣ سورة الذاريات.

(٧) الآية ٢٤ سورة الرحمن.

(٨) لم يذكر لهذا الوجه مثالا فى القرآن.

(٩) كذا فى الاصلين. وقد تكون «مائسه».

(١٠) هذا الشطر الأخير مضطرب فى الأصلين ، وما أثبت أقرب الى الصواب فيه.

٤٠٩

٥٢ ـ بصيرة فى الجواز

قال تعالى (فَلَمَّا (١) جاوَزَهُ) أى تجاوز جوزه والجوز : وسط الطّريق. وجاز الشّىء جوازا كأنّه لزم جوز الطّريق ، وذلك عبارة عمّا يسوغ. وجوز السّماء : وسطها. والجوزاء قيل سمّيت بذلك لأنّها معترضة فى جوز السّماء. وشاة جوزاء : أبيض وسطها. وجزت المكان : ذهبت فيه. وأجزته أنفذته وخلفته. وقيل : استجزت فلانا فأجازنى إذا استسقيته فسقاك ، وذلك استعارة. والمجاز من الكلام : ما تجاوز موضوعه الذى وضع له ، والحقيقة ما لم يتجاوز ذلك.

٥٣ ـ بصيرة فى الجوس

وهو الدّخول فى وسط المكان. ولعلّ السّين مبدلة من الزاى لقرب المخرج. وقال تعالى (فَجاسُوا (٢) خِلالَ الدِّيارِ) أى توسّطوها وتردّدوا بينها. وقيل : الجوس : طلب ، الشّىء بالاستقصاء. يقال : جاسوا وداسوا.

__________________

(١) الآية ٢٤٩ سورة البقرة.

(٢) الآية ٥ سورة الاسراء.

٤١٠

٥٤ ـ بصيرة فى المجىء والجيئة

وقد ورد فى القرآن على خمسة عشر وجها : الأوّل : جيئة الهيبة من الملك والملك (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(١). الثانى : جيئة السيّارة (وَجاءَتْ (٢) سَيَّارَةٌ). الثالث : جيئة الخجالة (٣)(وَجاؤُ (٤) أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ). الرّابع : جيئة الصّيانة (فَجاءَتْهُ (٥) إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ). الخامس : جيئة النّصيحة من حزقيل (٦) لموسى (وَجاءَ (٧) رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى). السّادس : جيئة الدّعوة من حبيب (٨) النّجار لأصحاب (٩) ياسين (وَجاءَ (١٠) مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) السّابع جيئة الرّسالة من المصطفى (لَقَدْ جاءَكُمْ (١١) رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ). الثامن : جيئة المعذرة (وَإِذا جاءَكَ (١٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا). التاسع : جيئة النّصيحة من المنافقين (إِذا جاءَكَ (١٣)

__________________

(١) الآية ٢٢ سورة الفجر.

(٢) الآية ١٩ سورة يوسف.

(٣) كذا. يريد الخجل.

(٤) الآية ١٦ سورة يوسف.

(٥) الآية ٢٥ سورة القصص.

(٦) فى الأصلين : «جبريل». وما أثبت عن تفسير ابن عباس وحاشية الجمل على الجلالين وقيل فى اسمه غير هذا.

(٧) الآية ٢٠ سورة القصص.

(٨) قيل هو من أهل أنطاكية. كان عيسى عليه‌السلام أرسل اثنين من أصحابه الى هذه المدينة ليدعوا أهلها الى التوحيد ، وكانوا أهل أوثان. فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا فدعواه الى الايمان ، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ ، فآمن حبيب. وقد أرسل عيسى فى أثر الرسولين ثالثا قيل هو شمعون. وانظر البيضاوى ٧ / ٢٣٥ على هامش حاشية الشهاب.

(٩) يريد رسل عيسى عليه‌السلام المذكورة قصتهم فى سورة يس.

(١٠) الآية ٢٠ سورة يس.

(١١) الآية ١٢٨ سورة التوبة.

(١٢) الآية ٥٤ سورة الأنعام.

(١٣) أول سورة المنافقين.

٤١١

الْمُنافِقُونَ). العاشر : جيئة الغمز والنّميمة (إِنْ (١) جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا). الحادى عشر : جيئة أهل الطّاعة والمعصية إلى جهنّم والجنّة (حَتَّى (٢) إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها). الثّانى عشر : جيئة الحسرة والنّدامة على قرناء السّوء بالصّحبة (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ (٣) بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). الثالث عشر : جيئة المكر والحيلة من الكفرة لنبيّ الأمّة (إِذْ جاؤُكُمْ (٤) مِنْ فَوْقِكُمْ). الرّابع عشر : جيئة النّصرة من ربّ المغفرة لنبيّ الملحمة (إِذا جاءَ (٥) نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ). الخامس عشر : جيئة المناجاة والقربة (وَلَمَّا جاءَ مُوسى (٦) لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).

والجيئة والمجىء بمعنى الإتيان لكن المجىء أعمّ ؛ لأنّ الإتيان مجىء بسهولة ، والإتيان قد يقال باعتبار القصد وإن لم يكن منه الحصول ، والمجىء يقال اعتبارا بالحصول.

وقد يقال : جاء فى الأعيان والمعانى ، وربّما يكون مجيئه بذاته وبأمره ، ولمن قصد مكانا أو عملا أو زمانا قال تعالى (وَلَقَدْ (٧) جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) (فَإِذا (٨) جاءَ الْخَوْفُ) (فَقَدْ (٩) جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أى قصدوا الكلام وتعمّدوه ، فاستعمل فيه المجىء كما استعمل فيه القصد. وقوله تعالى (وَجاءَ (١٠) رَبُّكَ) فهذا بالأمر لا بالذّات ، وهو قول ابن عباس. ويقال :

__________________

(١) الآية ٦ سورة الحجرات.

(٢) الآية ٧١ سورة الزمر.

(٣) الآية ٣٨ سورة الزخرف.

(٤) الآية ١٠ سورة الأحزاب.

(٥) أول سورة الفتح.

(٦) الآية ١٤٣ سورة الأعراف.

(٧) الآية ٣٤ سورة غافر.

(٨) الآية ١٩ سورة الأحزاب.

(٩) الآية ٤ سورة الفرقان.

(١٠) الآية ٢٢ سورة الفجر.

٤١٢

جاء بكذا وأجاءه. قال تعالى (فَأَجاءَهَا (١) الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) قيل ألجأها ، وإنما هو معدّى عن جاء. وجاء بكذا : استحضره نحو (لَوْ لا جاؤُ (٢) عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ويختلف معناه بحسب اختلاف المجىء به. وجاياه مجاياة لغة فى المهموز أى قابله.

والجوّ والجوّة : الهواء ، قال تعالى (فِي جَوِّ السَّماءِ)(٣) والجمع جواء كجبال. والجوّ : اليمامة ، وثلاثة عشر موضعا غيرها.

__________________

(١) الآية ٢٣ سورة مريم.

(٢) الآية ١٣ سورة النور.

(٣) الآية ٧٩ سورة النحل.

٤١٣

الباب السّابع

فى وجوه الكلمات المفتتحة بحرف الحاء

وهى الحاء ، الحبّ ، الحبر ، الحبط ، الحبك ، الحبل ، حتّى ، الحجّة ، الحجّ ، الحجب ، الحجر ، الحجارة ، الحدّ ، والحديد ، الحديث ، والحدوث ، الحذر ، الحرّ ، الحرب ، الحرث ، الحرج ، الحرد ، الحرس ، الحرص ، الحرض ، الحرف ، الحرة ، الحرام ، الحزب ، الحزن ، الحسن ، الحساب ، الحسر ، الحسم ، الحسن ، الحشر ، الحصّ ، الحصد ، الحصر ، الحصن ، الحصى ، تقدّم فى الإحصاء ، الحصب ، الحف ، الحفظ ، الحقّ ، الحكمة ، والحكم ، الحلم ، الحل ، الحلق ، الحمل ، الحمد ، الحميم ، الحنّ ، الحنث ، الحسد ، الحنف ، الحنك ، الحوب ، الحور ، الحيّز ، الحيص ، الحيض ، الحوط الحول ، الحين ، الحىّ ، الحياء.

٤١٤

١ ـ بصيرة فى الحاء

وهى يرد على عشرة أنحاء :

الأوّل : حرف من حروف التهجّى يذكّر ويؤنّث ، مخرجه وسط الحلق قرب مخرج العين ، ويمدّ ويقصر ، والنسبة حائىّ وحاوىّ وحيوىّ (١) وتقول منه حيّيت حاء حسنة وحسنا والجمع أحواء وأحياء وحاءات.

الثانى : فى حساب الجمّل اسم لعدد الثمانية.

الثالث : الحاء الكافية الّتى يكتفى بها عن سائر حروف الكلمة كقول الله تعالى (حم) فقيل : الحاء حكمه ، وقيل حكمته ، وقيل من حمّ الأمر أى قضى ما هو كائن.

الرّابع : الحاء المكرّرة مثل سحّر وصحّح.

الخامس : الحاء المدغمة مثل صحّ وألحّ.

السّادس : حاء العجز والضّرورة ، كقول الهنود الهمد لله.

السّابع : الحاء الصّوت من قبيل الزّجر ، مبنىّ على الكسر كقولك : حاء وعاء فى زجر الغنم ودعائه (٢).

الثامن : الحاء الأصلىّ فى الكلمة نحو حاء حمد ومدح ورحم.

التّاسع : الحاء المبدلة نحو مدح ومده وأنه أنوها وأنح إذا زحر عند (٣) السّؤال.

__________________

(١) فى الأصلين : «حوى» ويصح أن يكون الأصل : «حووى» والوجه ما أثبت.

(٢) كذا والمناسب : «دعائها».

(٣) فى ب : «زقر». والزحير : صوت مع أنين.

٤١٥

العاشر : الحاء اللغوىّ قال [الخليل](١) الحاء عندهم المرأة البذيئة (٢) اللّسان السّليطة قال :

جدودى بنو العنقاء وابن محرّق (٣)

وأنت ابن حاء بظرها مثل منخل

٢ ـ بصيرة فى الحب والمحبة

ولا يحدّ المحبّة بحدّ أوضح منها ، والحدود لا تزيدها إلّا خفاء وجفاء فحدّها وجودها. ولا توصف المحبّة بوصف أظهر من المحبّة ، وإنّما يتكلّم النّاس فى أسبابها وموجباتها (٤) وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها ، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستّة.

وهذه المادّة تدور فى اللّغة على خمسة أشياء : أحدها الصّفاء والبياض ومنه قيل حبب الأسنان لبياضها ونضارتها. الثانى : العلوّ والظّهور ومنه حبب الماء وحبابه وهو ما يعلوه من النفاخات عند المطر ، وحبب الكأس منه. الثالث : اللّزوم والثبات ومنه حبّ البعير وأحبّ إذا برك فلم يقم. الرّابع : اللّباب والخلوص. ومنه حبّة القلب للبّه وداخله. ومنه الحبّة لواحدة الحبوب إذ هى أصل الشىء ومادّته وقوامه. الخامس : الحفظ والإمساك

__________________

(١) زيادة عن القاموس.

(٢) فى الأصلين : «الندية» وما أثبت عن التاج.

(٣) العنقاء ثعلبة بن عمرو ، وعمرو هو مزيقيا ، لقب بالعنقاء لطول عنقه ومحرق هو الحارث بن عمرو مزيقيا. وقوله : «ابن محرق» قد يكون «ابنا». وهؤلاء جدود الأنصار. والبيت ينظر الى قول حسان رضى الله عنه.

ولدنا بنى العنقاء وابنى محرّق

فاكرم بنا خالا واكرم بنا ابنما

وقوله : «منخل» فى التاج «منجل»

(٤) فى الأصلين : «هو حياتها» ويظهر أنه محرف عما أثبت.

٤١٦

ومنه حبّ (١) الماء للوعاء الّذى يحفظ فيه ويمسكه. وفيه معنى الثّبوت أيضا.

ولا ريب أنّ هذه الخمسة من لوازم المحبّة ، فإنّها صفاء المودّة وهيجان إرادة القلب وعلوّها وظهورها منه لتعلّقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوما لا تفارق ، ولإعطاء المحبّ محبوبه لبّه وأشرف ما عنده وهو قلبه ، ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعانى الخمسة. ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للشّيء غاية المناسبة : الحاء الّتى من أقصى الحلق والباء للشفة الّتى هى نهايته ، فللحاء الابتداء وللباء الانتهاء ، وهذا شأن المحبّة وتعلّقها بالمحبوب ، فإنّ ابتداءها منه وانتهاءها إليه.

ويقال فى فعله : حببت فلانا بمعنى أصبت حبّة قلبه ، نحو شغفته وكبدته وفأدته ، وأحببت فلانا جعلت قلبى معرّضا لأن (٢) يحبّه. لكن وضع فى التعارف محبوب موضع محبّ واستعمل حببت أيضا فى معنى أحببت ، ولم يقولوا محبّ إلّا قليلا قال (٣) :

ولقد نزلت فلا تظنى غيره

منى بمنزلة المحبّ المكرم

وأعطوا الحبّ حركة الضمّ الّتى هى أشدّ الحركات وأقواها ، مطابقة لشدّة حركة مسمّاه وقوّتها ، وأعطوا الحبّ وهو المحبوب حركة الكسر لخفّتها عن الضمّة ، وذلك لخفّة ذكر المحبوب على قلوبهم وألسنتهم مع إعطائه

__________________

(١) فى شفاء الغليل أن حب الماء معرب.

(٢) فى الأصلين : «بأن» وما أثبت عن الراغب.

(٣) أى عنترة فى معلقته.

٤١٧

حكم نظائره كنهد (١) وذبح للمنهود والمذبوح وحمل للمحمول ، فتأمّل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين اللّفظ والمعنى يطلعك على قدر هذه اللغة الشريفة وإنّ لها لشأنا ليس كسائر اللغات.

وقد ذكر الله تعالى ذلك فى مواضع كثيرة من التنزيل الحميدىّ منها (٢)(فَسَوْفَ (٣) يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (وَالَّذِينَ آمَنُوا (٤) أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (وَمِنَ النَّاسِ (٥) مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (إِنْ كُنْتُمْ (٦) تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (وَاللهُ يُحِبُ (٧) الْمُحْسِنِينَ) (وَاللهُ (٨) يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (إِنَّ اللهَ (٩) يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (إِنَّ اللهَ يُحِبُ (١٠) الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (إِنَّ اللهَ (١١) يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (فِيهِ رِجالٌ (١٢) يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) (إِنِّي أَحْبَبْتُ (١٣) حُبَّ الْخَيْرِ) (وَلكِنَ (١٤) اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) وقال تعالى (وَاللهُ (١٥) لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُ (١٦) كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) وقال تعالى (إِنِ

__________________

(١) هو ما تخرجه الرفقة من النفقة فى السفر بالسوية ، وحكى عن الحسن أنه قال : أخرجوا نهدكم ، فانه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم ، وأطيب لنفوسكم ، كما فى التاج ، وظاهر كلامه أنه يقال نهده ، ولم أر هذا ، وانما يقال : تناهدوا : أخرجوا النهد.

(٢) ب : الحميد. والحميدى منسوب الى الحميد وهو الله تعالى ، كما قال سبحانه : «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».

(٣) الآية ٥٤ سورة المائدة.

(٤) الآية ١٦٥ سورة البقرة.

(٥) الآية ١٦٥ سورة البقرة.

(٦) الآية ٣١ سورة آل عمران.

(٧) الآية ١٣٤ سورة آل عمران.

(٨) الآية ١٤٦ سورة آل عمران.

(٩) الآية ٢٢٢ سورة البقرة.

(١٠) الآية ٤ سورة الصف.

(١١) الآية ٤ سورة التوبة.

(١٢) الآية ١٠٨ سورة التوبة.

(١٣) الآية ٣٢ سورة ص.

(١٤) الآية ٧ سورة الحجرات.

(١٥) الآية ٢٠٥ سورة البقرة.

(١٦) الآية ١٨ سورة لقمان.

٤١٨

اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ)(١) أى آثروه (٢) عليه. وحقيقة الاستحباب أن يتحرّى الإنسان فى الشىء أن يحبّه. واقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار ، وفى الحديث الصّحيح (٣) «إذا أحبّ الله عبدا دعا جبرئيل فقال : إنى أحبّ فلانا فأحبّه فيحبّه جبرئيل ، ثم ينادى فى السّماء فيقول : إنّ الله يحبّ فلانا فأحبّوه فيحبّه أهل السّماء ، ثمّ يوضع له القبول فى الأرض» وفى البعض ذكر مثل ذلك. وفى الصّحيح أيضا : «ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله» (٤) ، وفى صحيح البخارىّ : «يقول الله تعالى : من عادى لى وليّا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىّ عبدى بشيء أحبّ إلىّ من أداء ما افترضته عليه ، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنّوافل حتّى أحبّه. فإذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به ، وبصره الّذى يبصر به ، ويده الّتى يبطش بها ورجله التى يمشى بها. وإن سألنى أعطيته (٥) ولئن (٦) استعاذنى لأعيذنّه. وفى الصّحيحين من حديث أمير السّريّة الذى (٧) كان يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) لأصحابه فى كلّ صلاة وقال : لأنّها صفة الرّحمن وأنا أحبّ أن أقرأ بها فقال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبروه أنّ الله يحبّه» وعن التّرمذى عن

__________________

(١) الآية ٢٣ سورة التوبة.

(٢) فى الأصلين : «آثروا».

(٣) ورد هذا الحديث فى البخارى ومسلم ، كما فى رياض الصالحين.

(٤) بقية الحديث : «وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار» كما فى البخارى فى كتاب الايمان ، وقوله فى الحديث : «وجد بهن» ليس فى البخارى «بهن». وهى فى رواية فى الترغيب والترهيب.

(٥) فى الأصلين : «لأعطينه» وما أثبته عن رياض الصالحين.

(٦) فى الأصلين : «ان» وما أثبته عن رياض الصالحين.

(٧) فى الأصلين : «التى». وهذا الخبر فى الصحيحين ، كما فى رياض الصالحين.

٤١٩

أبى الدّرداء يرفعه : «كان من دعاء داود عليه‌السلام : اللهمّ إنّى أسألك حبّك وحبّ من يحبّك ، والعمل الّذى يبلّغنى حبّك. اللهمّ اجعل حبّك أحبّ إلىّ من نفسى وأهلى ، ومن الماء البارد». وفيه أيضا من حديث عبد الله بن يزيد الخطمىّ (١) أنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول فى دعائه : «اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ من ينفعنى حبّه عندك. اللهمّ ما رزقتنى ممّا أحبّ فاجعله قوّة لى فيما تحبّ ، وما زويت عنّى ممّا أحبّ فاجعله فراغا لى فيما يحبّ».

والقرآن والسنّة مملوءان بذكر من يحبّ الله سبحانه من عباده ، وذكر ما يحبّه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم. فلا يلتفت إلى من أوّل محبّته تعالى لعباده بإحسانه إليهم وإعطائهم الثواب ، ومحبّة العباد له تعالى بمحبّته طاعته والازدياد من الأعمال لينالوا به الثواب ، فإن هذا التأويل يؤدّى إلى إنكار المحبّة ، ومتى بطلت مسألة المحبّة بطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ، وتعطّلت منازل السّير ، فإنّها روح كلّ مقام ومنزلة وعمل ، فإذا خلا منها فهو ميّت ، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها ، بل هى حقيقة الإخلاص ، بل هى نفس الإسلام ؛ فإنّه الاستسلام بالذّل والحبّ والطّاعة لله. فمن لا محبّة له لا إسلام له البتّة.

ومراتب المحبّة عشرة : الأوّل (٢) العلاقة والإرادة والصبابة (٣) ، والغرام

__________________

(١) فى الأصلين : «رديت» والتصويب من النهاية الا فى العاشر. ويلاحظ أنه عد العلاقة والارادة والصبابة والغرام أربعة وظاهر الكلام أنها واحد. فى غريب الحديث ومن الجامع الصغير.

(٢) الأولى حذفه ، فانه لم يذكر «الثانى» وما بعده ، بل جرى على طريقة السرد.

(٣) فى الأصلين : «الصيانة» والوجه ما أثبت.

٤٢٠