بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٣

مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(١).

والنّاس ثلاثة : رجل قلبه ميّت ، فذلك الّذى لا قلب له : فهذا ليست هذه الآية تذكرة فى حقّه. ورجل حىّ مستعدّ ، لكنّه غير مستمع للآيات المتلوّة ، التى تجزئه عن الآيات المشهودة : إمّا لعدم ورودها (٢) ، أو لوصولها إليه ، ولكن قلبه مشغول عنها بغيره. فهو غائب القلب ، ليس حاضرا. فهذا أيضا لا يحصل له الذكرى ، مع استعداده ، ووجود قلبه. والثالث رجل حىّ القلب ، مستعدّ ، تليت عليه الآيات ، فأصغى بسمعه ، وألقى السّمع ، وأحضر قلبه ، ولم يشغله بغيره ، فهم ما يسمعه ، فهو شاهد القلب ، ملق للسمع. فهذا القسم هو الّذى ينتفع بالآيات المتلوّة والمشهودة. فالأوّل بمنزلة الأعمى الّذى لا يبصر. والثانى بمنزلة الطّامح بصره إلى غير جهة المنظور إليه. والثالث بمنزلة المبصر الذى فتح بصره الطامح لرؤية المقصود ، وأتبعه بصره ، وقلبه ، على توسّط من البعد والقرب. فهذا هو الّذى يراه.

فإن قيل : فما موقع (أو) من قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) قيل : فيها سرّ لطيف. ولسنا نقول : إنّها بمعنى الواو كما يقول ظاهريّة النحاة. فاعلم أنّ الرّجل قد يكون له قلب وقّاد ، ملئ باستخراج العبر ، واستنباط الحكم. فهذا قلبه يوقعه على التّذكّر ، والاعتبار. فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور. وهؤلاء أكمل خلق الله ـ تعالى ـ ، وأعظمهم إيمانا ، وبصيرة ؛ حتى كأنّ الّذى أخبرهم به الرّسول قد كان مشاهدا لهم ، لكن لم يشعروا بتفاصيله ، وأنواعه. حتى قيل : إنّ الصّدّيق ـ رضى الله

__________________

(١) الآيتان ٣٦ ، ٣٧ سورة ق

(٢) أى بلوغها له

٣٢١

عنه ـ كان (١) حاله مع النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كحال رجلين دخلا دارا ، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها ، وجزئيّاتها ، والآخر وقع بصره على ما فى الدّار ، ولم ير تفاصيله ولا جزئيّاته ؛ لكنه علم أنّ فيها أمورا عظيمة ، لم يدرك بصره تفاصيلها ، ثم خرجا ، فسأله عمّا رأى فى الدّار ، فجعل كلّما أخبره بشيء صدّقه ، لما عنده من شواهده. وهذه أعلى درجات الصّدّيقيّة. ولا يستبعد أن يمنّ الله تعالى على عبد بمثل هذا الإيمان ؛ لأنّ فضل الله لا يدخل تحت حصر (٢) ولا حسبان. فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات ، وفى قلبه نور من البصيرة ازداد (٣) بها نورا إلى نوره. فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السّمع ، وشهد قلبه ، ولم يغب ، حصل له التّذكّر أيضا (فَإِنْ (٤) لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) والوابل والطّلّ فى جميع الأعمال ، وآثارها ، وموجباتها. وأهل الحبّ سابقون ومقرّبون ، وأصحاب يمين ، وبينهما من درجات التفضيل ما بينهما ، والله أعلم.

__________________

(١) ا ، ب : «فان»

(٢) ا ، ب : «حصن»

(٣) ا ، ب : «أراد»

(٤) الآية ٢٦٥ سورة البقرة. أى ان لم تنل الكثير فانها تنال اليسير على المثل

٣٢٢

١٧ ـ بصيرة فى التبتل

قال تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)

والتبتّل : الانقطاع. وهو تفعّل من البتل وهو القطع. وسمّيت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن نظراء زمانها ، ففاقت نساء عالمها شرفا وفضلا. (تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) كالتعلّم والتفهّم ، ولكن جاء على التّفعيل مصدر بتّل تبتيلا لسرّ لطيف ؛ فإنّ فى هذا الفعل إيذانا بالتدريج ، وفى التفعيل إيذان بالتكثير والمبالغة ، فأتى بالفعل الدّال على أحدهما ، والمصدر الدّالّ على الآخر ، كأنّه قيل : بتّل نفسك إليه تبتيلا ، وتبتّل أنت إليه تبتّلا ، ففهم المعنيان من الفعل ومصدره. وهذا كثير فى القرآن ، وهو من أحسن الاختصار والإيجاز. فالتّبتّل : الانقطاع إلى الله فى العبادة وإخلاص النيّة انقطاعا يختصّ به. وإلى هذا المعنى أشار تعالى (قُلِ (٢) اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) وليس هذا منافيا لما صحّ عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا رهبانيّة (٣) ولا تبتّل فى الإسلام» فإنّ التّبتل هاهنا هو الانقطاع عن النكاح ، والرّغبة عنه محظور (٤).

والتّبتّل يجمع أمرين : اتّصالا وانفصالا لا يصحّ إلّا بهما ، فالانفصال انقطاع قلبه عن حظوظ النّفس المزاحمة لمراد الربّ منه ، وعن التفات قلبه

__________________

(١) الآية ٨ سورة المزمل

(٢) الآية ٩١ سورة الأنعام

(٣) هو بعض حديث رواه عبد الرزاق عن طاوس مرسلا ، كما فى الجامع الصغير.

(٤) أى أمر محظور. والا قال : محظورة.

٣٢٣

إلى ما سوى الله خوفا منه ، أو رغبة فيه ، أو مبالاة وفكرا فيه ، بحيث يشتغل قلبه عن الله تعالى. والاتّصال لا يصحّ إلّا بعد هذا الانفصال. وهو اتّصال القلب بالله ، وإقباله عليه ، وإقامة وجهه له حبّا وخوفا ورجاء وإنابة وتوكلا. وهذا إنما يحصل بحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك ، وهو الرّضا بحكم الله وقسمه لك ، وبحسم مادة الخوف وهو التسليم لله ؛ فإنّ من سلّم لله واستسلم له علم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه فلا يبقى للمخلوقين فى قلبه موقع ؛ فإنّ نفسه الّتى يخاف عليها قد سلّمها إلى مولاها وأودعها عنده وجعلها تحت كنفه ، حيث لا يناله يد عاد ولا بغى باغ ، وبحسم مادّة المبالاة بالنّاس. وهذا إنّما يحصل بشهود الحقيقة وهو (١) رؤية الأشياء كلّها من الله وبالله وفى قبضته وتحت قهر سلطانه ، لا يتحرّك منها شىء إلّا بحوله وقوّته ، ولا ينفع ولا يضرّ إلّا بإذنه ومشيئته ، فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود.

__________________

(١) كذا فى أ ، وفى ب : «هى».

٣٢٤

١٨ ـ بصيرة فى التفويض

يقال : فوّض إليه أمره أى ردّه إليه. وأصله من قولهم : أمرهم فوضى بينهم وفوضوضى وفوضوضاء إذا كانوا مختلطين يتصرّف كلّ منهم فى (مال (١) الآخر). وقوم فوضى : متساوون لا رئيس لهم ، أو متفرّقون أو مختلط بعضهم ببعض. ومنه شركة المفاوضة وشركة التفاوض ، وهو الاشتراك فى كلّ شىء.

واختلف فى التفويض والتّوكّل أيّهما أعلى وأرفع. فقال الشيخ أبو عبد الله الأنصارى : التفويض ألطف إشارة وأوسع معنى ؛ فإنّ التّوكّل بعد وقوع السّبب ، والتّفويض قبل وقوعه وبعده. وهو من الاستسلام ، والتوكّل شعبة منه يعنى أنّ المفوّض بين أمر الحول والقوّة ، ويفوّض الأمر إلى صاحبه من غير أن يقيمه مقام نفسه فى مصالحه ، بخلاف التوكّل فإنّ الوكالة تقتضى أن يقوم [الوكيل] مقام الموكّل ، والتفويض براءة وخروج من الحول والقوة وتسليم الأمر كلّه إلى مالكه. وقال غيره : كذلك التوكل أيضا ، و [ما] قدحتم (٢) به فى التوكّل يرد عليكم نظيره فى التّفويض سواء ، فإنّا نقول : كيف يفوّض شيئا لا يملكه البتّة إلى مالكه وهل يصحّ أن يفوّض واحد من آحاد الرّعيّة الملك إلى ملك زمانه. فالعلّة إذا فى التّفويض أعظم منها فى التوكّل. بل لو قال : قائل : التّوكّل فوق التفويض وأجلّ

__________________

(١) عبارة القاموس : «فيما للآخر»

(٢) ا ، ب : «قد ختم».

٣٢٥

منه وأرفع ، لكان مصيبا. ولهذا القرآن مملوء (١) به أمرا وإخبارا عن خاصّة الله وأوليائه وصفوة عباده ؛ فإنّه حالهم ، وأمر به رسوله فى أربعة مواضع كما تقدّم فى بصيرة التوكّل. وسماه المتوكّل فى التوراة ، ثبت ذلك فى صحيح (٢) البخارى ، وأخبر عن رسله بأنّ حالهم التوكّل ، وأخبر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السبعين ألفا (٣) الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنّهم أهل مقام التّوكّل. ولم يجئ التفويض فى القرآن إلّا فيما حكاه تعالى عن مؤمن آل فرعون من قوله (وَأُفَوِّضُ (٤) أَمْرِي إِلَى اللهِ) وسيعود تمام الكلام عليه فى مقصد التّصوّف إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فى ا : «مهؤ» وفى ب : «مهوء».

(٢) أورده عن البخارى صاحب تيسير الوصول فى آخر الكتاب ، وهو مروى عن عبد الله ابن عمرو بن العاص.

(٣) ورد هذا فى حديث طويل فى الصحيحين ، أورد فى رياض الصالحين فى «اليقين والتوكل» ونص الحديث : «سبعون ألفا من أمتى يدخلون الجنة بغير حساب. هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» رواه البزار عن أنس كما فى الجامع الصغير

(٤) الآية ٤٤ سورة غافر.

٣٢٦

١٩ ـ بصيرة فى التسليم

وهو نوعان : تسليم لحكمه الدّينىّ الأمرىّ ، وتسليم لحكمه الكونىّ القدرىّ.

فأمّا الأوّل فهو تسليم المؤمنين العارفين. قال الله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ (١) لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فهذه ثلاث مراتب : التحكيم ، وسعة الصّبر بانتفاء الحرج ، والتسليم.

وأمّا التسليم للحكم الكونىّ فمزلّة أقدام ، ومضلّة أفهام. حيّر الأنام ، وأوقع الخصام. وهى مسألة الرّضا بالقضاء. وسيجىء الكلام عليه فى محلّه ، ونبيّن أنّ التسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك ؛ كالمصائب التى لا قدرة على دفعها. وأمّا الأحكام التى أمر بدفعها فلا يجوز له التسليم إليها ، بل العبوديّة مدافعتها بأحكام أخرى أحسن عند الله منها.

فاعلم أنّ التسليم هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر ، أو شهوة تعارض الأمر ، أو إرادة تعارض الإخلاص ، أو اعتراض يعارض القدر والشرع. وصاحب (هذه (٢) التخاليص) هو صاحب القلب السّليم الّذى لا ينجو إلّا من أتى الله به. فإنّ التسليم ضدّ المنازعة ، والمنازعة إمّا بشبهة (٣) فاسدة تعارض الإيمان بالخبر عما وصف الله تعالى به نفسه من صفاته وأفعاله ،

__________________

(١) الآية ٦٥ سورة النساء

(٢) ب : «هذا التخلص».

(٣) ب : «شبهة».

٣٢٧

وما أخبر به عن اليوم الآخر وغير ذلك. فالتسليم له ترك منازعته بشبهات المتكلّمين الباطلة ، وإمّا بشهوة تعارض أمر الله. فالتّسليم للأمر بالتخلّص منها ، أو إرادة تعارض مراد الله من عبده (١) ، فتعارضه إرادة تتعلق بمراد العبد من الرّب. فالتّسليم بالتّخلّص منها. أو اعتراض [ما] يعارض حكمته فى خلقه وأمره بأن يظنّ أنّ مقتضى الحكمة خلاف ما شرع وخلاف ما قضى وقدّر. فالتّسليم التخلّص من هذه المنازعات كلها.

وبهذا تبيّن أنّه من أجلّ مقامات الإيمان ، وأعلى طرق (٢) الخاصّة ، وأنّ التسليم هو محض الصّدّيقيّة.

ثمّ إنّ كمال التسليم السّلامة من رؤية التسليم بأن يعلم أنّ الحقّ تعالى هو الّذى يسلّم إلى الله نفسه دونه (٣). فالحقّ تعالى هو الّذى سلّمك إليه ، فهو المسلّم وهو المسلّم إليه ، وأنت آلة التسليم. فمن شهد هذا المشهد ووجد ذاته مسلّما إلى الحقّ ، وما سلّمها إلى الحقّ غير الحقّ ، فقد سلم العبد من دعوى التسليم ؛ والله أعلم.

__________________

(١) ا ، ب : «عنده».

(٢) ب : «طرف».

(٣) ا ، ب : «ما دونه».

٣٢٨

٢٠ ـ بصيرة فى التربص

يقال : تربّص به تربّصا أى انتظر به خيرا أو شرّا يحلّ به.

وقد ورد فى القرآن لثمانية أمور :

الأوّل : تربّص الإيلاء (تَرَبُّصُ (١) أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) :

الثانى : تربّص المطلّقة ثلاثة (٢) أشهر أو ثلاثة أطهار.

الثالث : تربّص (٣) المعتدّة (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ).

الرّابع : تربّص المنافقين للمؤمنين بالغنيمة أو الشّهادة (هَلْ (٤) تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ).

الخامس : تربّص (٥) كفّار مكّة فى حقّ سيّد المرسلين لحادثة أو نكبة (أَمْ (٦) يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ).

السّادس : تربّص المؤمنين للمنافقين بالنكال والفضيحة (وَنَحْنُ (٧) نَتَرَبَّصُ بِكُمْ).

__________________

(١) فى الآية ٢٢٦ ، سورة البقرة.

(٢) تربص ثلاثة الأشهر فى الآية ٤ سورة الطلاق ، وتربص ثلاثة الأطهار فى الآية ٢٢٨. سورة البقرة جاء على تفسير القروء بالأطهار.

(٣) كذا فى الأصلين ، وهذا داخل فى الثانى. وكأن الأصل فى هذا القسم : «تربص المعتدة بالوفاة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فى الآية ٢٣٤ سورة البقرة.

(٤) الآية ٥٢ سورة التوبة.

(٥) فى ب عكس الترتيب فى الخامس والسادس ، فالخامس هو السادس والسادس هو الخامس.

(٦) الآية ٣٠ سورة الطور.

(٧) الآية ٥٢ سورة التوبة.

٣٢٩

السّابع : تربّص سيّد المرسلين لهلاك أعداء الدّين (قُلْ (١) تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ).

الثامن : تربّص العموم والخصوص للقضاء والقدر (قُلْ (٢) كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا).

ويقرب من معنى التربّص الترقّب والترصّد والتّنظّر والتطلّع.

وقد ورد فى القرآن من مادّة هذه الكلمات حروف تذكر فى مواضعها من بصائر رقب ورصد ونظر وطلع إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الآية ٣١ سورة الطور.

(٢) الآية ١٣٥ سورة طه.

٣٣٠

٢١ ـ بصيرة فى التفصيل

وقد ورد فى القرآن على وجهين (١) :

الأوّل : بمعنى التّبيين والإيضاح ، إمّا لجملة (٢) الأحكام كقوله تعالى : (وَتَفْصِيلاً (٣) لِكُلِّ شَيْءٍ) وقوله (وَكُلَّ شَيْءٍ (٤) فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) وإمّا لبيان القرآن فى نفسه (بِكِتابٍ (٥) فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) (أَنْزَلَ (٦) إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) أى مبيّنا ، وإمّا لتبيين آيات القرآن أحكام الشّرع (كِتابٌ (٧) فُصِّلَتْ آياتُهُ) ، (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ (٨) ثُمَّ فُصِّلَتْ) وقيل هو إشارة إلى ما قال تعالى (تِبْياناً (٩) لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً).

__________________

(١) المذكور هنا وجه واحد

(٢) فى الأصلين : «بجملة».

(٣) الآية ١٥٤ سورة الأنعام ، والآية ١٤٥ سورة الأعراف.

(٤) الآية ١٢ سورة الاسراء.

(٥) الآية ٥٢ سورة الأعراف.

(٦) الآية ١١٤ سورة الأنعام.

(٧) الآية ٣ سورة فصلت.

(٨) الآية ١ سورة هود.

(٩) الآية ٨٩ سورة النحل.

٣٣١

الباب الخامس

وهو باب الثّاء

فيه من الحروف والكلمات المفتتحة بها : الثاء ، الثقل ، الثياب ، الثواب ، الثمرات ، الثانى ، الثلاث ، الثمانية ، ثمّ ، الثنى ، الاثنين ، الثّقف ، الثبات ، الثبور ، الثعب ، الثقب ، الثبى ، الثرب ، الثمن ، الثور.

١ ـ بصيرة فى الثاء

وهو يرد فى كلام العرب على ثمانية وجوه :

الأوّل : حرف من حروف التهجّى لثوىّ ، يظهر من أصول الأسنان ، قريبا من مخرج الذّال. ويمدّ ويقصر. والنسبة إليه ثائىّ وثاوىّ وثووىّ (١) وقد ثيّيت ثاء حسنة. ويذكّر ويؤنّث. والجمع أثواء وأثياء وثاءات.

الثّانى : اسم فى حساب الجمّل لخمسمائة من العدد.

الثالث : الثاء المكرّرة كما فى رثّ وغثّ وأثّ.

الرّابع : الثاء الكافية وهى الّتى يكتفى بها من الكلمة ، كما يكتفى بالثاء عن ذكر الثناء والثّواب ونحوه ، قال الشّاعر :

فى ثاء قومه يرى مبالغا

وعن ثناء من سواهم فارغا

__________________

(١) ا ، ب : «ثوى». والصواب : ثيوى أو ثووى ، وهو نسب الى المقصور ، وعينه تحتمل أن تكون واوا أو ياء.

٣٣٢

الخامس : ثاء العجز والضرورة كثاء الألثغ الّذى يقول فى أساس : «أثاث» ، وفى عبّاس : «عباث» ، قال الشاعر (١) :

وشادن قلت له إذ بدا

ما اسمك قل لى قال عبّاث

فصرت من لثغته ألثغا

وقلت أين الطّاث والكاث

السادس : الثاء المبدلة من الفاء كما يقال فمّ فى ثمّ ، وفوم وثوم ، وجدف وجدث (٢).

السّابع : الثّاء الأصلىّ كثاء ثلم ومثل.

الثامن : الثاء اللّغوىّ. قال الخليل : الثاء عندهم : الخيار من كلّ شىء. قال الشّاعر:

إذا ما أتى ضيف وقد جلّل الدجى

أتيت بثاء البرّ واللّحم والسّكّر

__________________

(١) هو الصاحب بن عباد. وانظر اليتيمة ٣ / ٢٦٠.

(٢) هو القبر.

٣٣٣

٢ ـ بصيرة فى الثقل

اعلم أنّ الثّقل والخفّة متقابلان. فكلّ ما يترجّح على ما يوزن أو يقدّر به يقال : هو ثقيل. وأصله فى الأجسام ، ثمّ يقال فى المعانى ؛ نحو أثقله الغرم والوزر. قال تعالى : (أَمْ (١) تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ).

والثقيل يستعمل تارة فى الذّمّ ، وهو أكثر فى التّعارف ، وتارة فى المدح ؛ نحو قول الشاعر (٢) :

تخفّ الأرض إمّا بنت عنها

وتبقى ما بقيت بها ثقيلا

حللت بمستقرّ العزّ منها

فتمنع جانبيها أن يميلا

ويقال : فى أذنه ثقل إذا لم يجد سمعه ، كما يقال : فى أذنه خفّة إذا جاد سمعه ، كأنه (٣) يثقل عن قبول ما يلقى إليه. وقد يقال : ثقل القول إذا لم يطب سماعه. وكذلك قال تعالى فى صفة القيامة (ثَقُلَتْ (٤) فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وقوله تعالى (وَأَخْرَجَتِ (٥) الْأَرْضُ أَثْقالَها) قيل : كنوزها. وقيل : ما تضمّنته من أجساد الأموات (وَتَحْمِلُ (٦) أَثْقالَكُمْ) أى أحمالكم الثقيلة

__________________

(١) الآية ٤٠ سورة الطور ، والآية ٤٦ سورة القلم.

(٢) ورد البيتان فى أمالى المرتضى بتحقيق الاستاذ أبى الفضل ١ / ٩٧ والشطر الاخير لكعب ابن زهير وثلاثة الأشطار قبل لأبيه.

(٣) ب : «كما».

(٤) الآية ١٨٧ سورة الأعراف.

(٥) الآية ٢ سورة الزلزلة.

(٦) الآية ٧ سورة النحل

٣٣٤

وقوله (وَلَيَحْمِلُنَ (١) أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أى آثامهم الّتى تثبّطهم وتثقّلهم عن الثواب.

وقوله تعالى : (انْفِرُوا (٢) خِفافاً وَثِقالاً) أى شبابا وشيوخا ، أو فقراء وأغنياء. وقيل : عزبا ومتأهّلا. وقيل : نشاطا وكسالى. وكلّ ذلك يدخل فى عمومها ؛ فإنّ القصد بالآية الحثّ على النّفر على كلّ حال يسهل أو يصعب. وقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) الآيتين (٣) ، إشارة إلى كثرة الخيرات وقلّتها.

والثّقلان : الإنس والجنّ لكثرتهم.

والثقيل والخفيف يستعملان على وجهين :

أحدهما : على سبيل المضايفة وهو ألّا يقال : الشىء ثقيل أو خفيف إلّا باعتباره بغيره (٤) ولهذا يصحّ للشىء الواحد أن يقال له : خفيف إذا اعتبر به ما هو أثقل منه ، وثقيل إذا اعتبر به ما هو أخفّ منه.

والثّانى : أن يستعمل الثقيل فى الأجسام المرجحنّة (٥) إلى أسفل كالحجر والمدر (٦) ، والخفيف فى الأجسام المائلة إلى الصّعود كالنّار والدّخان. ومن هذا قوله تعالى (اثَّاقَلْتُمْ (٧) إِلَى الْأَرْضِ).

__________________

(١) الآية ١٣ سورة العنكبوت.

(٢) الآية ٤١ سورة التوبة.

(٣) الآيتان ٦ ، ٨ سورة القارعة

(٤) ب : «كغيره»

(٥) وصف من ارجحن : مال واهتز. وفى أ : «المرجحة»

(٦) هو الطين المتقلع

(٧) الآية ٣٨ سورة التوبة

٣٣٥

٣ ـ بصيرة فى الثياب والثواب (١)

وقد ورد فى القرآن على ثمانية أوجه :

الأوّل : ثوب الفراغ والاستراحة (وَحِينَ (٢) تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ)

الثانى : لباس التجمّل والزّينة (أَنْ يَضَعْنَ (٣) ثِيابَهُنَّ).

الثالث : ثياب الغفلة والجراءة (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ)(٤).

الرّابع : لصناديد قريش ثوب الاطّلاع على السرّ والعلانية (أَلا حِينَ (٥) يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ).

الخامس : للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثوب الصلاة والطّهارة (وَثِيابَكَ (٦) فَطَهِّرْ).

السّادس : للكفّار (٧) ثوب العذاب والعقوبة (قُطِّعَتْ (٨) لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ).

السّابع : لأهل الإيمان ثوب العزّ والكرامة (عالِيَهُمْ (٩) ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ).

الثامن : للخواصّ (١٠) ثياب النّصرة والخضرة فى الحضرة (١١)(وَيَلْبَسُونَ (١٢) ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ).

__________________

(١) «والثواب» : سقط فى ب.

(٢) الآية ٥٨ سورة النور

(٣) الآية ٦٠ سورة النور

(٤) الآية ٧ سورة نوح

(٥) الآية ٥ سورة هود

(٦) الآية ٤ سورة المدثر

(٧) فى الأصلين : «الكفار»

(٨) الآية ١٩ سورة الحج

(٩) الآية ٢١ سورة الانسان

(١٠) فى الأصلين : «الخواص»

(١١) فى الأصلين : «الخضرة» والظاهر ما أثبت ، أى حضرة ذى الجلال والاكرام.

(١٢) الآية ٣١ سورة الكهف

٣٣٦

وأصل الثّوب رجوع الشىء إلى حالته الأولى التى كان عليها ، أو إلى حالته المقدّرة المقصودة بالفكرة ، وهى الحالة المشار إليها بقولهم : أول الفكرة آخر العمل.

فمن الرّجوع إلى الحالة الأولى قولهم : ثاب فلان إلى داره ، وثاب (١) إلىّ نفسى. ومن الرّجوع إلى الحالة المقصودة المقدّرة بالفكرة الثوب ، سمّى بذلك لرجوع الغزل إلى الحالة الّتى قدّر لها. وكذا ثوب العمل. وجمع الثوب أثواب ، وثياب.

والثواب : ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله. فسمّى الجزاء ثوابا تصوّرا أنّه هو (٢). ألا ترى أنه كيف جعل الجزاء نفس الفعل فى قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ (٣) مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ولم يقل : ير جزاءه.

والثواب يقال فى الخير والشر ، لكن الأكثر المشهور فى الخير. وكذلك المثوبة. وقوله تعالى (هَلْ (٤) أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً) فإنّ ذلك استعارة فى الشرّ كاستعارة البشارة فيه. والإثابة يستعمل فى المحبوب (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ)(٥) وقد قيل ذلك فى المكروه أيضا نحو (فَأَثابَكُمْ غَمًّا (٦) بِغَمٍّ) على الاستعارة كما تقدّم. والتثويب لم يرد فى التّنزيل إلّا فيما يكره نحو (هَلْ (٧) ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).

وقوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ (٨) مَثابَةً لِلنَّاسِ) قيل : معناه : مكانا

__________________

(١) فى الراغب : «ثابت»

(٢) فى الراغب : «هو هو»

(٣) الآية ٧ سورة الزلزلة

(٤) الآية ٦٠ سورة المائدة

(٥) الآية ٨٥ سورة المائدة

(٦) الآية ١٥٣ سورة آل عمران

(٧) الآية ٣٦ سورة المطففين

(٨) الآية ١٢٥ سورة البقرة

٣٣٧

يثوب النّاس إليه على مرور الأوقات. وقيل : مكانا يكتسب [فيه (١)] الثّواب قال الشّاعر (٢).

وما أنا بالباغى على الحبّ رشوة

قبيح هوى يبغى عليه ثواب

وهل نافعى أن ترفع الحجب بيننا

ومن دون ما أمّلت منك حجاب

إذا نلت منك الودّ فالمال هيّن

وكل الذى فوق التراب تراب

وقد ورد الثواب فى القرآن (٣) على خمسة أوجه :

الأوّل : بمعنى جزاء الطّاعة (هُوَ (٤) خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (نِعْمَ (٥) الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً).

الثانى : بمعنى الفتح والظفر والغنيمة (فَآتاهُمُ اللهُ (٦) ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) فثواب الدّنيا هو الفتح والغنيمة.

الثالث بمعنى وعد الكرامة (فَأَثابَهُمُ اللهُ (٧) بِما قالُوا جَنَّاتٍ) أى وعدهم.

الرّابع : بمعنى الزّيادة على الزّيادة (فَأَثابَكُمْ (٨) غَمًّا بِغَمٍّ) أى زادكم غمّا (على غم) (٩).

الخامس : بمعنى الرّاحة والمنفعة (مَنْ (١٠) كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

__________________

(١) زيادة من الراغب

(٢) هو المتنبى من قصيدة له فى مدح كافور الأخشيدى

(٣) ب : «التنزيل»

(٤) الآية ٤٤ سورة الكهف

(٥) الآية ٣١ سورة الكهف

(٦) الآية ١٤٨ سورة آل عمران

(٧) الآية ٨٥ سورة المائدة

(٨) الآية ١٥٣ سورة آل عمران

(٩) كذا فى ب. وفى أ : «بغم»

(١٠) الآية ١٣٤ سورة النساء

٣٣٨

٤ ـ بصيرة فى الثمرات

وقد ورد فى القرآن على أربعة أوجه :

الأوّل : بمعنى الفواكه المختلفة (وَمِنْ (١) ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ كُلُوا (٢) مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)(٣) ولها نظائر.

الثانى : عبارة عن كثرة المال (وَكانَ (٤) لَهُ ثَمَرٌ) أى مال كثير مستفاد. قاله ابن عبّاس.

الثالث : بمعنى الأولاد والأحفاد فى قول بعض المفسّرين (وَنَقْصٍ (٥) مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ).

الرابع : بمعنى الأزهار والأنوار (ثُمَّ كُلِي (٦) مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أى من الأزهار والأنوار.

والثّمر فى الأصل اسم لكلّ ما يتطعّم من أحمال الشجر ، الواحدة ثمرة والثّمار (٧) نحوه. والثّمر هو الثّمار. وقيل : هو جمعه. ويكنى به عن المال المستفاد كما تقدّم عن ابن عبّاس. ويقال ثمّر الله ما له أى كثّره. ويقال لكلّ نفع يصدر عن شىء : ثمرته ؛ كقولك : ثمرة العلم العمل

__________________

(١) الآية ٦٧ سورة النحل

(٢) الآية ١٤١ سورة الأنعام

(٣) الآية ٢٦٦ سورة البقرة

(٤) الآية ٣٤ سورة الكهف

(٥) الآية ١٥٥ سورة البقرة

(٦) الآية ٦٩ سورة النحل

(٧) كذا ورد فى القاموس ، وفى شرحه أن بعض اللغويين أنكره.

٣٣٩

الصّالح ، وثمرة العمل الصّالح الجنّة. وثمرة السّوط عقد أطرافها (١) تشبيها بالثمر فى الهيئة والتدلّى عنه ، كتدلّى الثمر عن الشجرة.

وأثمر القوم : أطعمهم من الثّمار. وفى كلامهم : من أطعم ولم يثمر كان كمن صلّى العشاء ولم يوتر.

وفيه يقول الشاعر :

إذا الضّيفان جاءوا قم فقدّم

إليهم ما تيسّر ثمّ آثر (٢)

وإن أطعمت أقواما كراما

فبعد الأكل أكرمهم وأثمر

فمن لم يثمر الضّيفان بخلا

كمن صلّى العشاء وليس يوتر

__________________

(١) كذا فى الأصلين. والسوط مذكر ، فكأنه أوله بالمقرعة. وفى القاموس : «أطرافه» وهى ظاهرة.

(٢) فى هذه الأبيات عيب السناد ، اذ الأول فيه تأسيس بالألف ، والثالث فيه أرداف بالواو ، والثانى ليس فيه واحد منهما وقوله : «آثر» أى آثر ضيقك وقدمه على نفسك

٣٤٠