بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٣

وأمّا البشارات الّتى بشّر الله تعالى بها المتّقين فى القرآن فالأوّل (١) : البشرى بالكرامات : (الَّذِينَ آمَنُوا (٢) وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى).

الثانى : البشرى بالعون والنّصرة : (إِنَّ اللهَ (٣) مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا).

الثّالث : بالعلم والحكمة : (إِنْ (٤) تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً).

الرّابع : بكفّارة الذّنوب وتعظيمه (٥) : (وَمَنْ (٦) يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).

السّادس : بالمغفرة : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَ (٧) اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

السّابع : اليسر والسّهولة فى الأمر : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ (٨) يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

الثّامن : الخروج من الغمّ والمحنة : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ (٩) يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

التّاسع : رزق واسع ، بأمن وفراغ : (وَيَرْزُقْهُ (١٠) مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

العاشر : النّجاة من العذاب ، والعقوبة : (ثُمَّ نُنَجِّي (١١) الَّذِينَ اتَّقَوْا).

الحادى عشر : الفوز بالمراد : (وَيُنَجِّي (١٢) اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ (١٣) مَفازاً).

الثانى عشر : التّوفيق والعصمة : (وَلكِنَّ الْبِرَّ (١٤) مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

__________________

(١) كذا يريد الأمر السار والأولى : «الأولى» وكذا «الثانية» وهكذا لأن هذا فى الحديث عن البشارات

(٢) الآيتان ٦٣ ، ٦٤ سورة يونس

(٣) الآية ١٢٨ سورة النحل

(٤) الآية ٢٩ سورة الأنفال

(٥) أى تعظيم المتقى بتعظيم أجره

(٦) الآية ٥ سورة الطلاق

(٧) الآية ٦٩ سورة الأنفال

(٨) الآية ٤ سورة الطلاق

(٩) الآية ٢ سورة الطلاق.

(١٠) الآية ٣ سورة الطلاق

(١١) الآية ٧٢ سورة مريم

(١٢) الآية ٦١ سورة الزمر

(١٣) الآية ٣١ سورة النبأ

(١٤) الآية ١٧٧ سورة البقرة

٣٠١

الثالث عشر : الشهادة لهم بالصدق : (أُولئِكَ (١) الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

الرابع عشر : بشارة الكرامة والأكرمية : (إِنَ (٢) أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

الخامس عشر : بشارة المحبّ : (إِنَّ اللهَ (٣) يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

السّادس عشر : الفلاح : (وَاتَّقُوا اللهَ (٤) لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

السّابع عشر : نيل الوصال ، والقربة : (وَلكِنْ (٥) يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ).

الثامن عشر : نيل الجزاء بالمحنة : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ (٦) وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

التّاسع عشر : قبول الصّدقة : (إِنَّما (٧) يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

العشرون : الصّفاء والصّفوة : (فَإِنَّها (٨) مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

الحادى والعشرون : كمال العبودية : (اتَّقُوا (٩) اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

الثانى والعشرون : الجنّات والعيون : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ (١٠) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

الثالث والعشرون : الأمن من البليّة : (إِنَ (١١) الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ).

الرابع والعشرون : عزّ الفوقية على الخلق : (وَالَّذِينَ (١٢) اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

__________________

(١) الآية ١٧٧ سورة البقرة

(٢) الآية ١٣ سورة الحجرات

(٣) الآية ٤ سورة التوبة

(٤) الآية ١٨٩ سورة البقرة وغيرها

(٥) الآية ٣٧ سورة الحج

(٦) الآية ٩٠ سورة يوسف

(٧) الآية ٢٧ سورة المائدة

(٨) الآية ٣٢ سورة الحج

(٩) الآية ١٠٢ سورة آل عمران

(١٠) الآية ٤٥ سورة الحجر ، والآية ١٥ سورة الذاريات

(١١) الآية ٥١ سورة الدخان

(١٢) الآية ٢١٢ سورة البقرة

٣٠٢

الخامس والعشرون : زوال الخوف والحزن من العقوبة : (فَمَنِ (١) اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

السادس والعشرون : الأزواج الموافقة : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ (٢) مَفازاً) إلى قوله : (وَكَواعِبَ أَتْراباً).

السّابع والعشرون : قرب الحضرة ، واللّقاء والرّؤية : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ (٣) فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

(أَفَمَنْ يَتَّقِي (٤) بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تنبيه على شدّة ما ينالهم وأن أجدر شىء يتّقون به من العذاب يوم القيامة هو وجوههم. فصار ذلك : كقوله (٥)(وَتَغْشى (٦) وُجُوهَهُمُ النَّارُ). وقوله تعالى : (هُوَ (٧) أَهْلُ التَّقْوى) أى أهل أن يتّقى عقابه. ورجل تقىّ من أتقياء وتقواء.

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة الأعراف

(٢) الآية ٣١ سورة النبأ

(٣) الآيتان ٥٤ ، ٥٥ سورة القمر

(٤) الآية ٢٤ سورة الزمر

(٥) ا ، ب «بقوله» وما أثبت عن الراغب

(٦) الآية ٥٠ سورة ابراهيم

(٧) الآية ٥٦ سورة المدثر

٣٠٣

١٤ ـ بصيرة فى التوبة

تاب إلى الله توبا ، وتوبة ، ومتابا ، وتابة ، وتتوبة : رجع عن المعصية ، وهو تائب ، وتوّاب. وتاب الله عليه : وفّقه للتوبة ، أو رجع به من التّشديد إلى التخفيف ، أو رجع عليه بفضله ، وقبوله. وهو توّاب على عباده. واستتابه : سأله أن يتوب.

والتوبة من أفضل مقامات السّالكين ؛ لأنّها أوّل المنازل ، وأوسطها ، وآخرها ، فلا يفارقها العبد أبدا ، ولا يزال فيها إلى الممات. وإن ارتحل السّالك منها إلى منزل آخر ارتحل به ، ونزل به. فهى بداية العبد (١) ، ونهايته. وحاجته إليها فى النّهاية ضروريّة ؛ كما حاجته إليها فى البداية كذلك.

وقد قال تعالى : (وَتُوبُوا (٢) إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهذه الآية فى سورة مدنيّة ، خاطب الله تعالى بها أهل الإيمان ، وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم ، وصبرهم ، وهجرتهم ، وجهادهم ، ثمّ علّق الفلاح بالتوبة تعلّق (٣) المسبّب بسببه ، وأتى بأداة (لعلّ) المشعر بالتّرجّى ؛ إيذانا بأنّكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح ، فلا يرجو الفلاح إلّا التائبون ، جعلنا الله منهم. وقد قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ (٤) لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قسّم العباد إلى تائب ، وظالم. وما قسم (٥) ثالث البتّة ، وأوقع

__________________

(١) فى الأصلين : «للعبد»

(٢) الآية ٣١ سورة النور

(٣) كذا ، والأولى : «تعليق»

(٤) الآية ١١ سورة الحجرات

(٥) أى ما هناك قسم

٣٠٤

الظّلم على من لم يتب ، ولا أظلم منه بجهله بربّه ، وبحقّه ، وبعيب نفسه ، وبآفات أعماله. وفى الصّحيح : (يا أيّها (١) النّاس توبوا إلى الله ؛ فإنى أتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرّة) ، وكان أصحابه يعدّون له فى المجلس الواحد قبل أن يقوم : (ربّ اغفر لى وتب علىّ إنّك أنت التّواب الرّحيم) مائة مرّة ، وما صلّى صلاة قطّ بعد نزول سورة النّصر إلا قال فى صلاته : سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك ، اللهمّ اغفر لى.

وقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ) يريد بالتّوبة تمييز البقيّة (٢) من العزّة : بأن يكون المقصود من التّوبة تقوى الله ، وهو خوفه ، وخشيته ، والقيام بأمره ، واجتناب نهيه ، فيعمل بطاعته على نور من الله ، يرجو ثواب الله ، ويترك معصية الله على نور من الله ، يخاف عقاب الله ، لا يريد بذلك عزّ الطّاعة ؛ فإنّ للطّاعة والتّوبة عزّا ظاهرا وباطنا ، فلا يكون مقصوده العزّة ، وإن علم أنها تحصل له بالطّاعة ، والتّوبة. فمن تاب لأجل أمر فتوبته مدخولة.

وسرائر التوبة ثلاثة أشياء هذا أحدها. والثانى نسيان (٣) الجناية. والثالث التّوبة من الإسلام (٤) والإيمان. قلنا المراد منه التّوبة من رؤية التّوبة (٥)

__________________

(١) الحديث رواه مسلم كما فى رياض الصالحين فى باب التوبة بلفظ «يا أيها الناس توبوا الى الله واستغفروه فانى أتوب الى الله فى اليوم مائة مرة».

(٢) كذا. وكأنه يريد فصل بقية العزة ونفيها. وقد يكون البقية محرفة عن (التقية) أى التقوى. والغرض أن التوبة تتمحض للتقوى وتميزها من العزة.

(٣) هذا يكون لمن وصل الى مقام الصفاء مع الله ، فلا ينبغى له أن يذكر حالته الأولى. يعبر عن هذا المعنى بعض الصوفية بقوله : (لانى اذا كنت فى حال الجفاء ، فنقلنى الى حال الوفاء فذكر الجفاء فى حال الصفاء جفاء). ورد هذا فى مبحث التوبة فى الرسالة القشيرية.

(٤) يريد ألا يرى له فضلا بأعمال الاسلام والايمان

(٥) ا ، ب : «اليوم»

٣٠٥

وأنّها إنّما حصلت له بتوفيق الله ، ومشيئته ؛ ولو خلّى ونفسه لم يسمح بها البتّة. فإذا رآها من نفسه ، وغفل عن منّة الله عليه ، تاب من هذه الرّؤية والغفلة. ولكن هذه الرّؤية ليست التّوبة ولا جزأها ، ولا شرطها ، بل جناية أخرى حصلت له بعد التوبة ، فيتوب من هذه الجناية ؛ كما تاب من الجناية الأولى. فما تاب إلّا من ذنب أوّلا ، وآخرا. والمراد التّوبة من نقصان التوبة وعدم توفيتها حقّها.

ووجه ثالث لطيف. وهو أنّه من حصل له مقام الأنس بالله ـ تعالى ـ وصفاء وقته مع الله ـ تعالى ـ بحيث يكون إقباله على الله ، واشتغاله بذكر آلائه وأسمائه وصفاته ، أنفع شىء له ، متى (١) نزل عن هذا (٢) الحال اشتغل بالتّوبة من جناية سالفة ، قد تاب منها ، وطالع الجناية ، واشتغل بها عن الله تعالى ، فهذا نقص ينبغى أن يتوب إلى الله منه. وهى توبة من هذه التّوبة ، لأنّه نزول من الصّفاء إلى الجفاء. فالتّوبة من التوبة إنما تعقل على أحد هذه الوجوه الثلاثة. والله أعلم.

واعلم أنّ صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله فى توبته نظر إلى أمور. أحدها النظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفا ، وخشية تحمله على التوبة.

الثانى : أن ينظر إلى أمره تعالى ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة ، والإقرار على نفسه بالذنب.

الثالث : أن ينظر إلى تمكين الله تعالى إيّاه منها ، وتخليته بينه وبينها ،

__________________

(١) ا ، ب : «حتى»

(٢) ب : «هذه»

٣٠٦

وتقديرها عليه ، وأنّه لو شاء لعصمه منها ، فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله ، وأسمائه وصفاته ، وحكمته ، ورحمته ، ومغفرته ، وعفوه ، وحلمه ، وكرمه ، وتوجب له هذه المعرفة عبوديّة بهذه الأسماء ، لا تحصل بدون لوازمها ، ويعلم ارتباط الخلق ، والأمر ، والجزاء. بالوعد والوعيد بأسمائه ، وصفاته ، وأنّ ذلك موجب الأسماء ، والصفات ، وأثرها فى الوجود ، وأنّ كلّ اسم مفيض لأثره. وهذا المشهد يطلعه على رياض مؤنقة المعارف ، والإيمان ، وأسرار القدر ، والحكمة يضيق عن التعبير [عنها (١)] نطاق الكلم والنّظر.

الرّابع : نظره إلى الآمر له بالمعصية ، وهو شيطانه الموكّل به ، فيفيده النظر إليه اتخاذه (٢) عدوّا ، وكمال الاحتراز منه ، والتّحفّظ والتّيقّظ لما يريده منه عدوّه ، وهو لا يشعر ؛ فإنّه يريد أن يظفر به فى عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض : عقبة الكفر بالله ، ودينه ، ولقائه ، ثمّ عقبة البدعة ، إمّا باعتقاده خلاف الحقّ ، وإمّا بالتّعبّد بما لم يأذن به الله من الرّسوم المحدثة. قال بعض مشايخنا : تزوّجت الحقيقة الكافرة ، بالبدعة الفاجرة ، فولد بينهما خسران الدّنيا والآخرة ، ثمّ عقبة الكبائر (يزينها (٣) له وأن الإيمان فيه الكفاية. ثم عقبة الصغائر بأنها مغفورة ما اجتنبت الكبائر) ولا يزال يجنيها حتى (٤) يصرّ عليها ، ثمّ عقبة المباحات ، فيشغله بها عن الاستكثار من الطّاعات. وأقلّ ما يناله منه تفويت الأرباح العظيمة ،

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق

(٢) ا ، ب : «ايجاده»

(٣) سقط ما بين القوسين فى ا

(٤) كذا فى ب. وفى ا «ثم»

٣٠٧

ثمّ عقبة الأعمال المرجوحة ، المفضولة يزيّنها له ، ويشغله بها عمّا هو أفضل وأعظم ربحا. ولكن أين أصحاب هذه العقبة! فهم الأفراد فى العالم. والأكثرون قد ظفر (١) بهم فى العقبة الأولى. فإن عجز عنه فى هذه العقبات جاء فى عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى ، على حسب مرتبته فى الخير. وهذه نبذة من لطائف أسرار التّوبة رزقنا الله تعالى [إيّاها] بمنّه وفضله إنّه حقيق بذلك.

وورد التّوبة فى القرآن على ثلاثة أوجه :

الأوّل : بمعنى التجاوز والعفو. وهذا مقيّد بعلى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ)(٢) ، (أَوْ يَتُوبَ (٣) عَلَيْهِمْ) ، (وَيَتُوبُ اللهُ (٤) عَلى مَنْ يَشاءُ).

الثّانى : بمعنى الرّجوع ، والإنابة. وهذا مقيّد بإلى : (تُبْتُ (٥) إِلَيْكَ) ، (تُوبُوا (٦) إِلَى اللهِ) ، (فَتُوبُوا (٧) إِلى بارِئِكُمْ).

الثالث : بمعنى النّدامة على الزلّة. وهذا غير مقيّد لا بإلى ، ولا بعلى : (إِلَّا (٨) الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا) ، (فَإِنْ (٩) تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

ويقال : إن التّوبة من طريق المعنى على ثلاثة أنواع ، ومن طريق اللّفظ وسبيل اللّطف على ثلاثة وثلاثين درجة :

أمّا المعنى فالأوّل : التّوبة من ذنب يكون بين العبد وبين الرّب. وهذا يكون بندامة الجنان ، واستغفار اللسان.

__________________

(١) أى ابليس

(٢) الآية ٥٤ سورة البقرة وغيرها

(٣) الآية ٢٤ سورة الأحزاب

(٤) الآية ١٥ سورة التوبة

(٥) الآية ١٥ سورة الأحقاف

(٦) الآية ٨ سورة التحريم

(٧) الآية ٥٤ سورة البقرة

(٨) الآية ١٦٠ سورة البقرة

(٩) الآية ٣ سورة التوبة

٣٠٨

والثانى : التوبة من ذنب يكون بين العبد وبين طاعة الرّب. وهذا يكون بجبر النقصان الواقع فيها.

الثالث : التوبة من ذنب يكون بين العبد وبين الخلق. وهذه تكون بإرضاء الخصوم بأىّ وجه أمكن.

وأمّا درجات اللطف فالأولى : أنّ الله أمر الخلق بالتّوبة ، وأشار بأيّها الّتى تليق بحال المؤمن (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ).

الثانية : لا تكون التّوبة مثمرة حتى يتمّ أمرها (تُوبُوا (١) إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً).

الثالثة : لا تنظر أنّك فريد فى طريق التّوبة ؛ فإنّ أباك آدم كان مقدّم التّائبين : (فَتَلَقَّى (٢) آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) ، والكليم موسى لم يكن له لمّا علا على الطّور تحفة (٣) غير التّوبة (سُبْحانَكَ (٤) تُبْتُ إِلَيْكَ).

ثمّ إنّه بشّر النّاس بالتّمتع من الأعمار ، واستحقاق فضل الرّءوف الغفّار : (ثُمَّ تُوبُوا (٥) إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً). وأشار صالح على قومه بالتّوبة ، وبشّرهم بالقربة والإجابة : (ثُمَّ تُوبُوا (٦) إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ). وسيّد المرسلين مع الأنصار والمهاجرين سلكوا طريق الناس : (لَقَدْ تابَ (٧) اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ). والصّدّيق الأكبر اقتدى فى التّوبة بسائر النّبيّين : (تُبْتُ (٨) إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

__________________

(١) الآية ٨ سورة التحريم

(٢) الآية ٣٧ سورة البقرة

(٣) ا ، ب : «بحقه» ويظهر أنه تحريف عما أثبت

(٤) الآية ١٤٣ سورة الأعراف

(٥) الآية ٣ سورة هود

(٦) الآية ٦١ سورة هود

(٧) الآية ١١٧ سورة التوبة

(٨) الآية ١٥ سورة الأحقاف. وقد تبع فى حمل الآية على الصديق رضى الله عنه ابن عباس

٣٠٩

أصحاب النبىّ ما نالوا التوبة إلّا بتوفيق الله : (ثُمَّ تابَ (١) عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) تحرّزا من انتشار العصمة أمرن (٢) بالتّوبة (إِنْ تَتُوبا (٣) إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ومن توقّف عن سلوك طريق الناس وسم جبين حاله بميسم الخائبين : (وَمَنْ لَمْ (٤) يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الأزواج اللائقة بخاتم النّبيّين تعيّنّ بالتّوبة : (قانِتاتٍ (٥) تائِباتٍ).

الرّجال لا يقعدهم على سرير السّرور إلّا التّوبة : (التَّائِبُونَ (٦) الْعابِدُونَ) ولا يظنّ التوّاب اختصاص النّعت به (فإنّا جعلنا (٧)) هذا الوصف من جملة صفات العلى : (إِنَّ اللهَ (٨) كانَ تَوَّاباً) وإذا وفّقنا العبد للتّوبة تارة قربناه (٩) بالحكمة (وَأَنَّ اللهَ (١٠) تَوَّابٌ حَكِيمٌ) وإذا قبلنا منه التّوبة قرّبناه بالرّحمة : (وَأَنَا (١١) التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). والمؤمن إذا تاب أقبلنا عليه بالقبول ، وتكفّلنا له بنيل المأمول : (وَيَتُوبَ (١٢) اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ).

وإن أردت أن تكون فى أمان الإيمان ، مصاحبا لسلاح الصّلاح ، فعليك بالتّوبة : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ (١٣) لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (إِلَّا مَنْ تابَ (١٤) وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) (وَمَنْ (١٥) تابَ وَعَمِلَ صالِحاً) وإذا أقبل العبد على باب التّوبة استحكم عقد أخوّته ، مع أهل الإسلام : (فَإِنْ (١٦) تابُوا وَأَقامُوا

__________________

(١) الآية ١١٨ سورة التوبة

(٢) أى نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٣) الآية ٤ سورة التحريم

(٤) الآية ١١ سورة الحجرات

(٥) الآية ٥ سورة التحريم

(٦) الآية ١١٢ سورة التوبة

(٧) ب : «فجعلنا»

(٨) الآية ١٦ سورة النساء

(٩) ا ، ب : «قريب»

(١٠) الآية ١٠ سورة النور

(١١) الآية ١٦٠ سورة البقرة

(١٢) الآية ٧٣ سورة الأحزاب

(١٣) الآية ٨٢ سورة طه

(١٤) الآية ٧٠ سورة الفرقان

(١٥) الآية ٧١ سورة الفرقان

(١٦) الآية ١١ سورة التوبة

٣١٠

الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ). ومن تاب ، وقصد الباب ، حصل له الفرج بأفضل الأسباب : (فَإِنْ (١) تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ومن أثار غبار المعاصى ، وأتبعه برشاش النّدم ، غلّبت حكمتنا الطّاعة على المعصية ، وسترت الزلّة بالرّحمة : (خَلَطُوا (٢) عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

السّارق المارق إذا لاذ وتحرّم بالتّوبة قبل القدرة عليه ، فلا سبيل للإيذاء إليه : (إِلَّا الَّذِينَ (٣) تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). وإذا أردت التّوبة فأنا المريد لتوبتك قبل : (وَاللهُ (٤) يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) وإذا تبت بتوبتى عليك ، وتوفيقى لك ، جازيتك بالمحبّة : (إِنَّ اللهَ (٥) يُحِبُّ التَّوَّابِينَ). وإنا لا نقبل توبة من يؤخّر توبته إلى آخر الوقت : (وَلَيْسَتِ (٦) التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ). وإنّما يتقبّل توبة من تتّصل توبته بزلّته ، وتقترن بمعصيته : (إِنَّمَا (٧) التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ). أعظم الذنوب قتل النفس وإذا حصل خطأ من غير عمد فبالتوبة والصّيام كفّر : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ (٨) مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ). نهينا سيّد المرسلين عن التحكّم على عبادنا ؛ فإنّ ذلك إلينا. ونحن نتوب عليهم لو نشاء : (لَيْسَ (٩) لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) الآية ٥ سورة التوبة

(٢) الآية ١٠٢ سورة التوبة

(٣) الآية ٣٤ سورة المائدة

(٤) الآية ٢٧ سورة النساء

(٥) الآية ٢٢٢ سورة البقرة

(٦) الآية ١٨ سورة النساء

(٧) الآية ١٧ سورة النساء

(٨) الآية ٩٢ سورة النساء

(٩) الآية ١٢٨ سورة آل عمران

٣١١

أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) لا تفرّ من التوبة ؛ فإنها خير لك فى الدّارين : (فَإِنْ (١) يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) ، (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) ومن رمى بنفسه فى هوّة الكفر فلا توبة له (لَنْ تُقْبَلَ (٢) تَوْبَتُهُمْ) أيظنون (٣) أنا لا نقبل توبة المخلص من عبادنا : (أَلَمْ (٤) يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) نحن نأخذ بيد المذنب ، ونقبل باللّطف توبته : (غافِرِ الذَّنْبِ (٥) وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) ، (وَهُوَ الَّذِي (٦) يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ).

ولهذا قيل : التّوبة قصّار (٧) المذنبين ، وغسّال المجرمين ، وقائد المحسنين وعطّار المريدين ، وأنيس المشتاقين ، وسائق إلى ربّ العالمين.

__________________

(١) الآية ٧٤ سورة التوبة

(٢) الآية ٩٠ سورة آل عمران

(٣) ا ، ب : «أما يظنون»

(٤) الآية ١٠٤ سورة التوبة

(٥) الآية ٣ سورة غافر

(٦) الآية ٢٥ سورة الشورى

(٧) على الاستعارة من قصار الثوب المبيضة

٣١٢

١٥ ـ بصيرة فى التوكل

وهو يقال على وجهين : يقال : توكّلت لفلان بمعنى تولّيت له. يقال : وكّلته توكيلا ، فتوكّل لى. وتوكّلت عليه بمعنى اعتمدته (١).

وقد أمر الله تعالى بالتّوكّل فى خمسة عشر موضعا من القرآن :

الأوّل : إن طلبتم النّصر والفرج فتوكّلوا علىّ : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ (٢) اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) إلى قوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، (وَعَلَى اللهِ (٣) فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

الثانى : إذا أعرضت عن أعدائى فليكن رفيقك التّوكّل : (فَأَعْرِضْ (٤) عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

الثّالث : إذا أعرض عنك الخلق اعتمد (٥) على التّوكّل : (فَإِنْ (٦) تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ).

الرابع : إذا تلى القرآن عليك ، أو تلوته ، فاستند على التوكّل : (وَإِذا (٧) تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

الخامس : إذا طلبت الصّلح والإصلاح بين قوم لا تتوسّل إلى ذلك إلّا بالتّوكّل : (وَإِنْ جَنَحُوا (٨) لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

__________________

(١) تبع فى هذا اللفظ الراغب والمعروف : اعتمد عليه ، فأما اعتمده فمعناه قصده

(٢) الآية ١٦٠ سورة آل عمران

(٣) الآية ٢٣ سورة المائدة

(٤) الآية ٨١ سورة النساء

(٥) كذا. والواجب : فاعتمد وكذا يقال فيما بعد مما ليس فى الجواب فاء

(٦) الآية ١٢٩ سورة التوبة

(٧) الآية ٢ سورة الأنفال

(٨) الآية ٦١ سورة الأنفال

٣١٣

السّادس : إذا وصلت قوافل القضاء استقبلها بالتّوكّل : (قُلْ لَنْ (١) يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا) الآية.

السّابع : إذا نصبت الأعداء حبالات (٢) المكر ادخل أنت فى أرض التوكّل (وَاتْلُ (٣) عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) إلى قوله : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ).

الثامن (٤) : وإذا عرفت أنّ مرجع الكلّ إلينا ، وتقدير الكلّ منّا ، وطّن نفسك على فرش التوكّل : (فَاعْبُدْهُ (٥) وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ).

التاسع : إذا علمت أنى الواحد على الحقيقة ، فلا يكن اتّكالك إلّا علينا : (قُلْ هُوَ (٦) رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ).

العاشر : إذا عرفت أنّ هذه الهداية من عندى ، لاقها بالشّكر ، والتّوكّل : (وَما لَنا (٧) أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) إلى قوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

الحادى عشر : إذا خشيت بأس أعداء الله ، والشيطان الغدّار ، لا تلتجئ إلّا إلى بابنا : (إِنَّهُ لَيْسَ (٨) لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

الثانى عشر : إن أردت أن أكون أنا وكيلك فى كلّ حال ، فتمسّك بالتّوكّل فى كلّ حال : (وَتَوَكَّلْ (٩) عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

__________________

(١) الآية ٥١ سورة التوبة

(٢) جمع حبالة وهى المصيدة

(٣) الآية ٧١ سورة يونس

(٤) لم يرقم هذا الموضع ، وترك فى الخامس عشر فلم يتم العدد المطلوب. وقد أصلحت الترقيم كما ترى

(٥) الآية ١٢٣ سورة هود

(٦) الآية ٣٠ سورة الرعد

(٧) الآية ١٢ سورة ابراهيم

(٨) الآية ٩٩ سورة النحل

(٩) الآية ٨١ سورة النساء

٣١٤

الثالث عشر : إن أردت أن يكون الفردوس الأعلى منزلك انزل فى مقام التوكّل : (الَّذِينَ (١) صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

الرابع عشر : إن شئت النزول محلّ المحبّة اقصد أولا طريق التوكّل : (فَتَوَكَّلْ (٢) عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

الخامس عشر : إن أردت أن أكون لك ، وتكون لى ، فاستقرّ على تخت التوكّل : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى (٣) اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، (فَتَوَكَّلْ (٤) عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) ،(وَتَوَكَّلْ (٥) عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ).

ثمّ اعلم أنّ التّوكّل نصف الدّين ، والنصف الثانى الإنابة. فإنّ الدّين استعانة ، وعبادة. فالتّوكّل هو الاستعانة ، والإنابة هى العبادة.

ومنزلة التوكّل (أوسع (٦) المنازل : لا يزال معمورا بالنازلين لسعة متعلّق التوكّل) وكثرة حوائج العاملين ، وعموم التّوكّل ، ووقوعه من المؤمنين والكفّار ، والأبرار ، والفجّار ، والطّير ، والوحوش ، والبهائم ، وأهل السّماوات ، والأرض ، وأنّ المكلّفين ، وغيرهم فى مقام التوكّل [سواء] وإن تباين متعلّق توكّلهم.

فأولياؤه وخاصّته متوكّلون عليه فى حصول ما يرضيه منهم ، وفى إقامته فى الخلق ، فيتوكّلون عليه فى الإيمان ، ونصرة دينه ، وإعلاء كلماته ، وجهاد أعدائه ، وفى محابّه ، وتنفيذ أوامره.

__________________

(١) الآية ٤٢ سورة النحل

(٢) الآية ١٥٩ سورة آل عمران

(٣) الآية ٣ سورة الطلاق

(٤) الآية ٧٩ سورة النمل

(٥) الآية ٥٨ سورة الفرقان

(٦) سقط ما بين القوسين فى ا

٣١٥

ودون هؤلاء من يتوكّل عليه فى معلوم يناله : من رزق ، أو عافية ، أو نصر على عدوّ ، أو زوجة ، أو ولد ، ونحو ذلك.

ودون هؤلاء من يتوكّل عليه فى حصول ما لا يحبّه الله ، ولا يرضاه : من الظّلم ، والعدوان ، وحصول الإثم ، والفواحش. فإنّ أصحاب هذه المطالب لا ينالون غالبا إلّا باستعانتهم ، وتوكّلهم عليه. بل قد يكون توكّلهم أقوى من توكّل كثير من أصحاب الطّاعات. ولهذا يلقون أنفسهم فى المهالك ، معتمدين على الله ـ تعالى ـ أن يشمّهم ، ويظفرهم بمطالبهم.

فأفضل التّوكّل فى الواجب : أعنى واجب الحقّ ، وواجب الخلق ، وواجب النّفس. وأوسعه وأنفعه التّوكّل فى التأثير فى الخارج فى مصلحة دينه ، أو فى دفع مفسدة دينه. وهو توكّل الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ فى إقامة دين الله ، ودفع المفسدين فى الأرض. وهذا توكّل ورثتهم.

ثمّ النّاس فى التوكّل على حسب [أغراضهم]. فمن متوكل على الله فى حصول الملك ، ومتوكّل عليه فى حصول (رغيف (١). ومن صدق توكّله على الله فى حصول) شىء ناله. فإن كان محبوبا له مرضيّا كانت له فيه العاقبة المحمودة. وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكّله مضرّة. وإن كان مباحا حصلت له مصلحة (٢) التوكّل ، دون مصلحة ما توكّل فيه ، إن لم يستعن به على طاعة.

فإن قلت : ما معنى التوكّل؟ قلت : قال الإمام أحمد : التوكل : عمل القلب : يعنى ليس بقول ، ولا عمل جارحة ، ولا هو من باب العلوم ،

__________________

(١) سقط ما بين القوسين فى ا

(٢) ا : «بمصلحة» وب : «بمصلحته»

٣١٦

والإدراكات. ومن الناس من يجعله من باب المعارف ، فيقول : هو علم القلب بكفاية العبد من الله. ومنهم من يقول : هو جمود حركة القلب ، واطّراحه بين يد الله كاطّراح الميّت بين يدى الغاسل : يقلّبه كيف يشاء. وقيل : ترك الاختيار ، والاسترسال مع مجارى الأقدار. ومنهم من يفسّره بالرّضا ، ومنهم من يفسره بالثّقة بالله ، والطّمأنينة إليه.

وقال ابن عطاء (١) : هو ألّا يظهر فيه انزعاج إلى الأسباب ، مع شدّة فاقته إليها ؛ ولا يزول عن حقيقة السّكون إلى الحقّ ، مع وقوفه عليها. وقيل : ترك تدبير النّفس ، والانخلاع من الحول والقوّة.

وإنّما يقوى العبد على التوكّل إذا علم أن الحقّ سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقيل : التوكّل أن ترد عليك موارد الفاقات ، فلا تسمو إلّا إلى من له الكفايات ، أو نفى الشكوك ، أو التفويض إلى مالك الملوك ، أو خلع الأرباب ، وقطع الأسباب ، أى قطعها من تعلّق القلب بها [لا] من ملابسة الجوارح لها. وقال أبو سعيد (٢) الخّراز : هو اضطراب بلا سكون ، وسكون بلا اضطراب. وقال سهل (٣) : من طعن فى الحركة ، فقد طعن فى السّنّة.

ومن طعن فى التّوكّل فقد طعن فى الإيمان. فالتوكّل حال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكسب سنّته. فمن عمل على حاله فلا يتركنّ سنّته.

__________________

(١) هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء ، من رجال الرسالة القشيرية. وهو من أقران الجنيد. مات سنة تسع وثلاثمائة : كما فى الرسالة. ومقالته فى التوكل فى الرسالة فى باب التوكل.

(٢) هذا القول فى الرسالة فى باب التوكل.

(٣) هو سهل بن عبد الله التسترى من رجال الرسالة مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين. ومقالته هذه فى الرسالة.

٣١٧

وحقيقة الأمر أنّ التوكّل : حال مركّب من مجموع أمور لا يتمّ حقيقة التّوكّل إلّا بها. وكلّ أشار إلى واحد من هذه الأمور ، أو اثنين أو أكثر. فأوّل ذلك معرفة الرّبّ وصفاته : من قدرته ، وكفايته ، وفيوضه ، وانتهاء الأمور إلى علمه ، وصدورها عن مشيئته ، وقدرته. وهذه المعرفة أولى (١) درجة والثّانية إثبات الأسباب والمسبّبات ، فإنّ من نفاها فتوكّله مزح (٢). وهذا عكس ما يظهر فى بادئ الرّأى : من أنّ إثبات الأسباب يقدح فى التوكّل. ولكنّ الأمر بخلافه : فإنّ نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكّل البتّة. فإنّ التوكّل أقوى الأسباب فى حصول المتوكّل به ؛ فهو كالدّعاء الذى جعله الله سببا فى حصول المدعوّ به.

الدّرجة الثالثة رسوخ القلب فى مقام التّوحيد ؛ فإنّه لا يستقيم توكّله حتى يصحّ توحيده.

الدرجة الرابعة اعتماد القلب على الله تعالى ، واستناده عليه ، وسكونه إليه ، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من جهة الأسباب.

الخامسة حسن الظنّ بالله. فعلى قدر حسن ظنّك به يكون توكّلك عليه.

السّادسة استسلام القلب له ، وانجذاب دواعيه كلّها إليه.

السّابعة التفويض. وهو روح التوكّل ، ولبّه ، وحقيقته. فإذا وضع قدمه فى هذه الدّرجة انتقل منها إلى درجة الرضا وهى ثمرة التوكّل. ونستوفى الكلام عليه إن شاء الله تعالى فى محلّه من المقصد المشتمل على علم التّصوّف.

__________________

(١) كذا فى ا .. والواجب فى العربية : أول درجة. وذلك أن أفعل التفصيل اذا أضيف الى نكرة التزم فيه التذكير والافراد.

(٢) فى ا ، ب : «مدح» ولم يبن لى وجهها. واستظهرت ما أثبته أى لعب غير جد.

٣١٨

١٦ ـ بصيرة فى التذكر والتفكر

التّذكر : تفعّل من الذّكر. والذكر : هيئة للنّفس ، بها يمكن للإنسان (١) أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة. والفكرة : قوّة مطرّقة (٢) للعلم إلى المعلوم. والتفكّر غيره ؛ فإنّ تلك القوّة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان. ولا يقال إلّا فيما يمكن أن يحصل له صورة فى القلب. ولهذا روى (تفكّروا (٣) فى آلاء الله ، ولا تفكّروا فى ذات الله). إذ كان الله منزّها أن يوصف بصورة. قال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ (٤) يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) ، (أَوَلَمْ (٥) يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ثمّ اعلم أنّ التذكّر قرين الإنابة. قال ـ تعالى ـ : (وَما يَذَّكَّرُ (٦) إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

والتّذكّر والتفكّر منزلان يثمران أنواع المعارف ، وحقائق الإيمان والإحسان. فالعارف لا يزال يعود تفكّره على تذكّره ، وتذكّره على تفكّره ، حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتّاح العليم. قال الحسن البصرىّ : ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكّر ، وبالتّفكّر على التّذكّر ، ويناطقون القلوب (٧)

__________________

(١) فى الراغب «الانسان» وهو أفصح

(٢) أى جاعلة العلم طريقا الى المعلوم ، من قوله : طرق للابل : جعل لها طريقا

(٣) جاء الحديث فى الجامع الصغير

(٤) الآية ٨ سورة الروم

(٥) الآية ١٨٥ سورة الأعراف

(٦) الآية ٢٦٩ سورة البقرة ، والآية ٧ سورة آل عمران.

(٧) ا ، ب : «القلب» وفى الاحياء فى باب الفكر ، «حتى استنطقوا قلوبهم»

٣١٩

حتى نطقت. قال الشيخ أبو عبد الله الأنصارىّ : والتّذكّر فوق التفكّر ؛ لأنّ التفكّر طلب ، والتّذكّر وجود. يعنى أنّ التّفكر التماس الغايات من مبادئها. وقوله : التذكّر وجود ؛ لأنه يكون فيما قد حصل بالتّفكّر ، ثمّ غاب عنه بالنّسيان ، فإذا تذكّره وجده ، وظفر به. واختير له بناء التفعّل ؛ لحصوله بعد مهلة وتدريج ؛ كالتبصّر ، والتفهّم. فمنزلة التذكّر من التفكّر منزلة حصول الشىء المطلوب بعد التفتيش عليه. ولهذا كانت آيات الله المتلوّة والمشهودة ذكرى ؛ كما قال فى المتلوّة : (وَلَقَدْ آتَيْنا (١) مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، وقال فى القرآن : (وَإِنَّهُ (٢) لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ، وقال فى الآية المشهورة : (أَفَلَمْ (٣) يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) فالتّبصرة آية البصر ، والتّذكرة آية القلب. وفرق بينهما. وجعلا لأهل الإنابة ؛ لأنه إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر ، فاستدلّ بها على ما هى آيات له ، فزال عنه الاعتراض بالإنابة ، والعمى بالتبصرة ، والغفلة بالتّذكر (٤) ؛ لأنّ التبصرة توجب له حصول صورة المدلول فى القلب ، بعد غفلته عنها. فترتّبت المنازل الثلاثة أحسن ترتيب. ثمّ إنّ كلّا منها يمدّ صاحبها ، ويقوّيه ، ويثمره. وقال ـ تعالى ـ فى آياته المشهودة : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ

__________________

(١) الآيتان ٥٣ ، ٥٤ سورة غافر

(٢) الآية ٤٨ سورة الحاقة

(٣) الآيات ٦ ـ ٨ سورة ق

(٤) ب : «بالتذكرة»

٣٢٠