بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٣

٤١ ـ بصيرة فى بعثر

قال ـ تعالى ـ : (وَإِذَا (١) الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أى قلب ترابها ، وأثير ما فيها ومن (٢) رأى أن تركيب الرّباعىّ والخماسىّ من ثلاثيين نحو هلّل وبسمل ، ـ إذا قال : لا إله إلّا الله ، وبسم الله ـ يقول : إن بعثر مركّب من بعث ، وأثير. وهذا غير بعيد فى هذا الحرف ؛ وإنّ البعثرة يتضمّن معنى بعث ، وأثير.

__________________

(١) الآية ٤ سورة الانفطار

(٢) هو ابن فارس

٢٦١

٤٢ ـ بصيرة فى البغى

وهو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرّى (١) ، تجاوزه أولم يتجاوزه. فتارة يعتبر فى القدر الّذى هو الكمّيّة ، وتارة يعتبر فى الوصف الّذى هو الكيفيّة. يقال : بغيت الشىء إذا طلبت أكثر ممّا يجب ، وابتغيت كذلك.

والبغى على ضربين :

أحدهما محمود ، وهو تجاوز العدل إلى الإحسان ، والفرض إلى التطوّع.

والثانى مذموم. وهو تجاوز الحقّ إلى الباطل ، أو تجاوزه إلى الشّبه ؛ كما قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنّ الحلال (٢) بيّن ، وإنّ الحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات. ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

وقد ورد فى القرآن لفظ البغى على خمسة أوجه :

الأوّل : بمعنى الظّلم : (وَيَنْهى (٣) عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) ، (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ (٤) مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ).

الثانى : بمعنى المعصية ، والزلّة ، (يا أَيُّهَا النَّاسُ (٥) إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) (فَلَمَّا (٦) أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ) أى يعصون.

الثالث : بمعنى الحسد : (بَغْياً (٧) بَيْنَهُمْ) أى حسدا.

__________________

(١) ا ، ب : «يتحدى»

(٢) الحديث رواه الشيخان ، كما فى رياض الصالحين

(٣) الآية ٩٠ سورة النحل

(٤) الآية ٣٣ سورة الأعراف

(٥) الآية ٢٣ سورة يونس

(٦) الآية ٢٣ سورة يونس

(٧) الآية ١٤ سورة الشورى ، والآية ١٧ سورة الجاثية

٢٦٢

الرّابع : بمعنى الزّنى : (وَلا تُكْرِهُوا (١) فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ).

الخامس : بمعنى الطلب : (وَيَبْغُونَها (٢) عِوَجاً) أى يطلبون لها اعوجاجا ، (يَبْتَغُونَ (٣) مِنْ فَضْلِ اللهِ) ولها نظائر.

ولأنّ البغى قد يكون محمودا ومذموما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّمَا السَّبِيلُ (٤) عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فخصّ العقوبة بمن (٥) بغيه بغير الحقّ.

وأبغيتك الشىء : أعنتك على طلبه. وبغى الجرح : تجاوز الحدّ فى فساده. وبغت المرأة : إذا فجرت ؛ لتجاوزها إلى ما ليس لها. وبغت السّماء تجاوزت فى المطر حدّ الحاجة. وبغى : تكبّر ؛ لتجاوزه منزلته. ويستعمل ذلك فى أىّ أمر كان ، فالبغى فى أكثر المواضع مذموم. وقوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ (٦) وَلا عادٍ) أى غير طالب ما ليس له طلبه ، ولا متجاوز لما رسم له. وقال الحسن : غير متناول للّذّة ، ولا متجاوز سدّ الجوعة [وقال (٧)] : مجاهد : «غير باغ» على إمام ، «ولا عاد» فى المعصية طريق الحقّ.

وأمّا الابتغاء فالاجتهاد (٨) فى الطلب ، فمتى كان الطّلب لشىء محمود كان الابتغاء محمودا ؛ نحو (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ (٩) رَبِّكَ تَرْجُوها).

__________________

(١) الآية ٣٣ سورة النور

(٢) الآية ٤٥ سورة الأعراف وغيرها

(٣) الآية ٢٠ سورة المزمل

(٤) الآية ٤٢ سورة الشورى

(٥) ا ، ب : «من»

(٦) الآيات ١٧٣ سورة البقرة ، ١٤٥ سورة الأنعام ، ١١٥ سورة النحل

(٧) زيادة من الراغب

(٨) ا ، ب : «بالاجتهاد»

(٩) الآية ٢٨ سورة الاسراء

٢٦٣

انبغى مطاوع بغى ، فإذا قيل ينبغى أن يكون كذا فعلى وجهين :

أحدهما : ما يكون مسخّرا للفعل ؛ نحو النار ينبغى أن تحرق الثوب.

والثانى على معنى الاستئهال ؛ نحو فلان ينبغى أن يكرم لعلمه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ (١) وَما يَنْبَغِي لَهُ) على الأوّل فإنّ معناه : لا يتسخّر ، ولا يتسهّل له ؛ ألا ترى أنّ لسانه لم يكن يجرى به؟!

__________________

(١) الآية ٦٩ سورة يس

٢٦٤

٤٣ ـ بصيرة فى البقاء

وهو ثبات الشىء على الحالة الأولى. (وهو (١) يضادّ الفناء) وبقى يبقى كرضى يرضى ، وبقى يبقى كسعى يسعى : ضدّ فنى. وأبقاه وتبقّاه واستبقاه والاسم البقوى بالفتح وبالضّمّ والبقيا بالضمّ وقد توضع الباقية موضع المصدر ، و (بَقِيَّتُ (٢) اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أى طاعة الله ، أو انتظار ثوابه ، أو الحالة الباقية لكم من الخير ، أو ما أبقى لكم من الحلال. و (أُولُوا (٣) بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ) أى إبقاء ، أو فهم. و (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) كل عمل صالح ، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، أو الصّلوات الخمس. وفى الحديث : «بقينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : أى انتظرناه وترصّدنا له مدّة كثيرة. والباقى ضربان : باق بنفسه لا إلى مدّة. وهو البارئ تعالى. ولا يصحّ عليه الفناء. وباق بغيره. وهو ما عداه ، ويصحّ عليه الفناء. والباقى بالله ضربان : باق بشخصه ، إلى أن يشاء الله أن يفنيه ؛ كبقاء الأجرام السماويّة.

وباق بنوعه وجنسه ، دون شخصه وجزئه ؛ كالإنسان ، والحيوانات. وكذا فى الآخرة باق بشخصه ؛ كأهل الجنة ؛ فإنّهم يبقون على التأبيد ؛ لا إلى مدّة. وباق بنوعه ، وجنسه ؛ كما روى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ ثمار أهل الجنّة يقطفها (٤) أهلها ، ويأكلونها ، ثمّ يخلف مكانها مثلها. ولكون ما فى الآخرة دائما قال الله ـ عزوجل ـ : (وَما عِنْدَ اللهِ (٥) خَيْرٌ وَأَبْقى)

__________________

(١) سقط ما بين القوسين فى ب

(٢) الآية ٨٦ سورة هود

(٣) الآية ١١٦ سورة هود

(٤) ا ، ب : «يقطعها» وما أثبت عن الراغب

(٥) الآية ٦٠ سورة القصص. وليعلم أن معظم هذه البصيرة سبق فى بصيرة «البقية» ص ٢٢٠

٢٦٥

٤٤ ـ بصيرة فى البك

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ (١) وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) ، قيل : هى اسم لمكّة. وقيل : لغة فيها ؛ كلازب فى لازم. وقيل : اسم لما بين جبليها. وقيل : هى اسم للمطاف.

والبكّ لغة : الخرق والتّخريق ، والشّقّ والتفريق. وبكّ فلانا : أى زاحمه ، فيشبه أن يكون من الأضداد. وبكّه : وضعه. وبكّ عنقه : دقّها. وبكّ فلانا : ردّ نخوته ، والشىء : فسخه ، والمرأة : جهدها جماعا ، وفلان : افتقر ، وخشن بدنه ؛ شجاعة. وتباكّ : تراكم ، والقوم : ازدحموا ؛ كتبكبكوا. والبكبكة : طرح الشىء بعضه على بعض ، والازدحام. وسمّيت مكّة بها لازدحام الحجيج ؛ أو لأنّها تدقّ أعناق الجبابرة إذا أرادوا بإلحاد فيها.

__________________

(١) الآية ٩٦ سورة آل عمران

٢٦٦

٤٥ ـ بصيرة فى البكم

الأبكم : هو الّذى يولد أخرس. وكل أبكم أخرس ، وليس كلّ أخرس أبكم. قال ـ تعالى ـ : (صُمٌ (١) بُكْمٌ) وقيل : البكم ، والبكامة : الخرس. وقيل : الخرس مع عىّ وبلاهة. وقيل : هو أن يولد لا ينطق ، ولا يسمع ، ولا يبصر. بكم يبكم ـ كفرح يفرح ـ فهو أبكم ، وبكيم. وبكم ـ ككرم ـ امتنع عن الكلام تعمّدا ، وانقطع عن النكاح ، جهلا أو عمدا. وتبكّم عليه الكلام : أرتج.

__________________

(١) الآيتان ١٨ ، ١٧١ سورة البقرة

٢٦٧

٤٦ ـ بصيرة فى البكاء

بكى يبكى بكاء وبكى ، فهو باك. والجمع بكاة وبكىّ ، والتبكاء ـ بالفتح والكسر : البكاء ، أو كثرته. وأبكاه : فعل به ما يوجب بكاه. وبكّاه على الميّت تبكية : هيّجه للبكاء. وبكاه بكاء ، وبكّاه : بكى عليه ، ورثاه. وبكى : غنّى. فهو من الأضداد. وقيل : البكاء بالمدّ (سيلان (١) الدمع عن حزن وعويل. هكذا يقال بالمدّ) إذا كان الصوت أغلب كالرّغاء ، والثّغاء ، وسائر الأبنية الموضوعة للصّوت ؛ والبكى ـ بالقصر ـ : إذا كان الحزن أغلب. وبكى يقال فى الحزن ، وإسالة الدّمع معا ، ويقال فى كلّ واحد منهما منفردا عن الآخر.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً (٢) وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) إشارة إلى الفرح ، والتّرح ، وإن لم يكن مع الضّحك قهقهة ولا مع البكاء إسالة دمع. وكذا قوله ـ تعالى ـ (فَما (٣) بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) وقيل : إنّ ذلك على الحقيقة. وذلك قول من يجعل له (٤) حياة ، وعلما. وقيل : ذلك على المجاز ، على تقدير مضاف أى أهلهما.

__________________

(١) سقط ما بين قوسين فى

(٢) الآية ٨٢ سورة التوبة

(٣) الآية ٢٩ سورة الدخان

(٤) أى للمذكور من السماء والأرض ، وفى الراغب : «لهما» وهو أولى.

٢٦٨

٤٧ ـ بصيرة فى بل

وقد ورد فى القرآن على وجهين.

الأوّل : للتأكيد نيابة عن إنّ : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا (١)(فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أى إنّ الذين.

الثانى : لاستدراك ما بعده ، أو للإضراب عما قبله : (بَلْ أَنْتُمْ (٢) بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) ،(فَسَيَقُولُونَ (٣) بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ، (بَلْ أَنْتُمْ (٤) بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ).

قال الراغب : بل كلمة للتدارك. وهو ضربان :

ضرب يناقض ما بعده ما قبله ؛ لكن ربّما يقصد (٥) لتصحيح الحكم الّذى بعده ، وإبطال ما قبله ، وربّما يقصد تصحيح الّذى قبله ، وإبطال الثانى ، نحو قوله ـ تعالى ـ : (إِذا (٦) تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، (كَلَّا (٧) بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أى ليس الأمر كما قالوا ، بل جهلوا. فنبّه بقوله : (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) على جهلهم. وعلى هذا قوله : (بَلْ فَعَلَهُ (٨) كَبِيرُهُمْ هذا) وممّا قصد به تصحيح الأوّل

__________________

(١) الآية ٢ سورة ص

(٢) الآية ١٨ سورة المائدة

(٣) الآية ١٥ سورة الفتح

(٤) الآية ٣٦ سورة النمل

(٥) فى الراغب : «يقصد به» وقوله : «لتصحيح» كذا فى الراغب. والأنسب بما بعده : «تصحيح»

(٦) والآية ١٥ سورة القلم

(٧) الآية ١٤ سورة المطففين

(٨) والآية ٦٣ سورة الأنبياء

٢٦٩

وإبطال الثانى قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا (١) الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ) إلى قوله : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أى ليس إعطاؤهم من الإكرام ، ولا منعهم من الإهانة ، لكن جهلوا ذلك بوضعهم المال فى غير موضعه. وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) فإنه دلّ بقوله : (والقرآن) أنّ القرآن مقرّ للتذكر ، وأن ليس امتناع الكفّار (٢) من الإصغاء إليه أنّه ليس موضعا للذكر ، بل لتعزّزهم ومشاقّتهم. وعلى هذا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا) أى (٣) ليس امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد (فى (٤) القرآن) ، ولكن لجهلهم (٥). ونبّه بقوله : (بَلْ عَجِبُوا) على جهلهم ؛ لأنّ التعجّب من الشىء يقتضى الجهل بسببه. وعلى هذا قوله : (ما غَرَّكَ (٦) بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) إلى قوله : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) ، كأنه قيل : ليس هاهنا ما يقتضى أن يغرّهم به ـ تعالى ـ ولكن تكذيبهم هو الّذى حملهم على ما ارتكبوه.

والضّرب الثانى من بل هو أن يكون مبيّنا للحكم الأوّل ، وزائدا عليه بما بعد بل ، نحو قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ قالُوا (٧) أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) فإنّه نبّه أنهم يقولون : أضغاث أحلام ، بل افتراه (يزيدون على ذلك (٨) بأن الذى أتى به مفترى افتراه ، بل يزيدون) فيدّعون أنّه كذّاب ؛ فإن الشّاعر فى القرآن عبارة عن الكاذب بالطّبع. وعلى هذا قوله :

__________________

(١) الآية ١٥ سورة الفجر

(٢) ا ، ب : «القرآن» وما أثبت عن الراغب

(٣) ا ، ب : «أن» وما أثبت عن الراغب

(٤) فى الراغب «للقرآن»

(٥) ا ، ب : «بجهلهم» وما أثبت عن الراغب

(٦) الآية ٦ سورة الانفطار

(٧) الآية ٥ سورة الأنبياء

(٨) سقط ما بين القوسين فى ا.

٢٧٠

(لَوْ يَعْلَمُ (١) الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) إلى قوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) أى لو يعلمون ما هو زائد على الأوّل ، وأعظم منه وهو أن تأتيهم بغتة.

وجميع ما فى القرآن من لفظ (بل) لا يخرج من أحد هذين الوجهين ، وإن دقّ الكلام فى بعضه.

__________________

(١) الآية ٣٩ سورة الأنبياء

٢٧١

٤٨ ـ بصيرة فى البلد

وقد ورد فى القرآن على خمسة أوجه :

الأوّل : بمعنى مكّة (لا أُقْسِمُ (١) بِهذَا الْبَلَدِ) ، (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)(٢) (اجْعَلْ (٣) هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (وَتَحْمِلُ (٤) أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ).

الثانى : بمعنى مدينة سبأ : (بَلْدَةٌ (٥) طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).

الثالث : كناية عن جملة المدن : (لا يَغُرَّنَّكَ (٦) تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ).

الرّابع : بمعنى الأرض لا نبات فيها : (فَأَنْشَرْنا (٧) بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) (فَسُقْناهُ (٨) إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ).

الخامس : بمعنى الأرض الّتى بها نبات : (وَالْبَلَدُ (٩) الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ). وقيل : هو كناية عن النفوس الطّاهرة ، وبالذى (١٠) خبث عن النفوس الخبيثة.

والبلد لغة : المكان المحدود ، المتأثّر باجتماع قطّانه ، وإقامتهم فيه. وجمعه

__________________

(١) أول سورة البلد

(٢) الآية ٣ سورة التين

(٣) الآية ٣٥ سورة ابراهيم

(٤) الآية ٧ سورة النحل ، وحمل البلد فى الآية على مكة هو ما فى تنوير المقباس ، والأولى التعميم ، كما جرى عليه المفسرون

(٥) الآية ١٥ سورة سبأ

(٦) الآية ١٩٦ سورة آل عمران

(٧) الآية ١١ سورة الزخرف

(٨) الآية ٩ سورة فاطر

(٩) الآية ٥٨ سورة الأعراف

(١٠) كذا. أى (وكنى بالذى) والأولى : «والذى».

٢٧٢

بلاد ، وبلدان. وسمّيت المفازة بلدا ؛ لكونها موضع الوحشيّات ، والمقبرة بلدا ؛ لكونها موطن الأموات (والبلدة منزل من منازل القمر) (١) والبلد : البلجة (٢) ما بين الحاجبين ؛ تشبيها بالبلد ؛ لتحدّده (٣). وسمّيت الكركرة (٤) بلدة لذلك. وربّما استعير ذلك لصدر الإنسان. ولاعتبار الأثر قيل : بجلده بلدة : أى أثر. وجمعه أبلاد ، قال (٥) :

* وفى النّحور كلوم ذات أبلاد*

وأبلد : صار ذا بلد ؛ كأنجد وأتهم ، وبلد : لزم البلد. ولمّا كان اللّازم لوطنه كثيرا ما يتحيّر إذا حصل فى غير وطنه ، قيل للمتحيّر : بلد فى أمره وأبلد ، وتبلّد.

__________________

(١) سقط ما بين القوسين فى ا.

(٢) البلجة نقاوة ما بين الحاجبين من الشعر

(٣) ا ، ب : «لتجدده» وما أثبت عن الراغب.

(٤) الكركرة صدر البعير ونحوه.

(٥) أى القطامى ، كما فى اللسان والتاج. وصدره :

* ليست تجرّح فرّارا ظهورهم*

يصفهم بالشجاعة وأنهم لا يولون فى الحرب ، فلا يصابون بالجروح فى ظهورهم ، وانما يصابون فى نحورهم.

٢٧٣

٤٩ ـ بصيرة فى البلاء «وبلى»

قد ورد فى القرآن على ثلاثة أوجه :

الأوّل : بمعنى النعمة : (وَلِيُبْلِيَ (١) الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أى ولينعم.

الثانى : بمعنى الاختبار والامتحان : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ (٢) الْمُؤْمِنُونَ) ، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ (٣) أَحْسَنُ عَمَلاً).

الثالث : بمعنى المكروه : (وَفِي ذلِكُمْ (٤) بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أى محنة.

والمادّة موضوعة لضدّ الجدّة : بلى الثّوب بلا ، وبلاء : خلق. وقولهم : بلوته : اختبرته ، كأنى أخلقته من كثرة اختبارى. وقرئ (هُنالِكَ (٥) تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أى تعرف حقيقة ما عملت.

وسمّى الغمّ بلاء ؛ من حيث إنّه يبلى الجسم. وسمّى التكليف بلاء ؛ لأنّ التكاليف مشاقّ على الأبدان ، أو لأنّها اختبارات. ولهذا قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ (٦) حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) وقيل : اختبار الله تعالى لعباده تارة بالمسارّ ليشكروا ، وتارة بالمضارّ ليصبروا. فصار المنحة والمحنة جميعا بلاء. فالمحنة مقتضية للصّبر ، والمنحة مقتضية للشكر ، والقيام بحقوق الصّبر أيسر من القيام بحقوق الشكر. فصارت المنحة أعظم البلاءين.

__________________

(١) الآية ١٧ سورة الانفال

(٢) الآية ١١ سورة الأحزاب

(٣) الآية ٧ سورة هود

(٤) الآية ١٤١ سورة الأعراف

(٥) الآية ٣٠ سورة يونس ، والقراءة الأخرى : «تتلوا» وهى قراءة حمزة والكسائى وخلف ، كما فى الاتحاف

(٦) الآية ٣١ سورة محمد

٢٧٤

ولهذا قال عمر ـ رضى الله عنه ـ بلينا بالضّرّاء فصبرنا ، وبلينا بالسّراء فلم نصبر. وقال علىّ ـ رضى الله عنه ـ : من وسّع عليه (١) دنياه ، فلم يعلم أنه قد مكر به ، فهو مخدوع عن عقله. وقال ـ تعالى ـ : (وَنَبْلُوكُمْ (٢) بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). وقوله : (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) راجع إلى المحنة التى فى قوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) ، وإلى المحنة الّتى أنجاهم. وإذا قيل : بلا الله كذا ، وابتلاه ، فليس المراد إلّا ظهور جودته ورداءته ، دون التعرّف لحاله ، والوقوف على ما يجهل منه ، إذ كان الله تعالى علّام الغيوب. وعلى هذا قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذِ ابْتَلى (٣) إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) وأبلاه (٤) : أحلفه و [أبلى] حلف له ، لازم متعدّ.

وبلى : ردّ للنفى : (وَقالُوا لَنْ (٥) تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) إلى قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) أو جواب لاستفهام مقترن بنفى ؛ نحو (أَلَسْتُ (٦) بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ونعم يقال فى الاستفهام المجرّد ؛ نحو (فَهَلْ وَجَدْتُمْ (٧) ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) ، ولا يقال هاهنا : بلى. فإذا قيل : ما [عندى](٨) شىء فقلت : بلى كان ذلك ردّا لكلامه. فإذا قلت : نعم كان إقرارا منك.

__________________

(١) ا ، ب : «علينا»

(٢) الآية ٣٥ سورة الأنبياء

(٣) الآية ١٢٤ سورة البقرة

(٤) ا ، ب : «ابتلاه» وما أثبت عن الراغب والقاموس

(٥) الآية ٨٠ سورة البقرة

(٦) الآية ١٧٢ سورة الأعراف

(٧) الآية ٤٤ سورة الأعراف

(٨) زيادة من الراغب

٢٧٥

٥٠ ـ بصيرة فى البنان

وقد ورد فى موضعين. وهى الأصابع ، وقيل : رءوس الأصابع. الواحدة بنانة. سمّيت بذلك لأن بها (١) إصلاح الأحوال الّتى (تمكّن (٢) الإنسان) أن يبنّ فيما (٣) يريد أى يقيم. ويقال بنّ بالمكان ، وأبنّ : أى أقام به. ولذلك خصّ فى قوله : (بَلى (٤) قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ، (وَاضْرِبُوا (٥) مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) خصّه لأجل أنّها يقاتل بها ويدافع. والبنّة : الريح الطّيّبة والمنتنة : ضدّ. والجمع بنان بالكسر. والبنان (٦) ـ بالضّمّ ـ : الرّوضة المعشبة.

__________________

(١) ا ، ب : «لأنها» وما أثبت عن الراغب

(٢) ا ، ب : «يمكن للانسان» وما أثبت عن التاج فيما نقله عن الراغب

(٣) ا ، ب : «مما» وما أثبت عن التاج

(٤) الآية ٤ سورة القيامة

(٥) الآية ١٢ سورة الأنفال

(٦) الذى فى القاموس : «البنانة»

٢٧٦

٥١ ـ بصيرة فى البنيان

وقد ورد فى القرآن على أربعة أوجه :

الأوّل : بمعنى الصّرح ، والقصر العالى : (فَأَتَى (١) اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) بنيانهم : أى صرحهم.

الثّانى : بمعنى المسجد : (فَقالُوا (٢) ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) (مَسْجِداً)(٣) (أَفَمَنْ (٤) أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ) ، (لا يَزالُ (٥) بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) أى مسجدهم.

الثالث : بمعنى بيت النار : (قالُوا (٦) ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ).

الرّابع : بمعنى تشبيه صفّ الغازين بالجدران المرصوصة : (إِنَّ اللهَ (٧) يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

والبنيان واحد لا جمع له. وقال بعضهم : جمع واحدته بنيانة ، على حدّ نخلة ونخل. وهذا (٨) النّحو من الجمع يصحّ تذكيره وتأنيثه.

وابن أصله بنى (٩) لقولهم فى الجمع : أبناء ، وفى التّصغير بنىّ. وسمّى

__________________

(١) الآية ٢٦ سورة النحل. والمراد بالصرح الذى فسر به البنيان صرح نمرود الذى بناه ليترصد أمر السماء. وقد قيل فى الآية بغير هذا التخصيص. راجع البيضاوى

(٢) الآية ٢١ سورة الكهف. وتفسير البنيان بالمسجد غير ظاهر ، فان اقتراح بناء المسجد جاء بعد من الذين غلبوا وكان لهم النفوذ. وفى تفسير الجلالين أن المراد بالبناء ما يسترهم لا المسجد ، وكان هذا رأى الكفار ، أما المؤمنون وكان لهم الغلبة لأن الملأ كان منهم فرأوا بناء المسجد.

(٣) سقط ما بين القوسين فى ا.

(٤) الآية ١٠٩ سورة التوبة

(٥) الآية ١١٠ سورة التوبة

(٦) الآية ٩٧ سورة الصافات

(٧) الآية ٤ سورة الصف

(٨) ا ، ب : «وعلى هذا» وكتب فى ب وضرب عليه.

(٩) كذا ، وأكثر اللغويين على أن أصله بنو كأب وأخ ، وانظر التاج.

٢٧٧

بذلك ؛ لكونه بناء للأب ؛ فإنّ الأب قد بناه. ويقال لكلّ ما يحصل من جهة شىء ، أو من تربيته أو بتفقده ، أو كثرة خدمته له ، وقيامه بأمره : هو ابنه ؛ نحو فلان ابن الحرب ، وابن السّبيل للمسافر. وابن بطنه ، وابن فرجه إذا كان همّه مصروفا إليهما ، وابن يومه إذا لم يتفكّر فى غده. وجمع ابن أبناء ، وبنون. ومؤنّثه ابنة وبنت. والجمع بنات.

وقوله : (هؤُلاءِ (١) بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ، وقوله : (لَقَدْ (٢) عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) فقد قيل : خاطب بذلك أكابر القوم ، وعرض عليهم بناته ، لا أهل قريته كلّهم ؛ فإنّه محال أن يعرض بنات قليلة على الجمّ الغفير. وقيل : بل أشار بالبنات إلى بنات أمّته. وسمّاهنّ بنات له ؛ لكون النبىّ بمنزلة الأب لأمّته ، بل لكونه أكبر الأبوين لهم. وقوله : (وَيَجْعَلُونَ (٣) لِلَّهِ الْبَناتِ) يريد به قولهم : الملائكة بنات الله.

__________________

(١) الآية ٧٨ سورة هود.

(٢) الآية ٧٩ سورة هود.

(٣) الآية ٥٧ سورة النحل.

٢٧٨

٥٢ ـ بصيرة فى الباب (١)

وهو مدخل الشىء. وأصل ذلك مداخل الأمكنة ؛ كباب المدينة والدّار ، وجمعه أبواب ، وبيبان ، وأبوبة نادر. والبوابة : حرفة البوّاب. وباب له يبوب : صار بوّابا له. وتبوّب بوّابا : اتّخذه. ومنه يقال فى العلم باب كذا ، وهذا العلم باب إلى كذا : أى يتوصّل إليه. وقد يقال : أبواب الجنّة ، وأبواب جهنّم للأسباب الّتى بها يتوصّل إليهما. والباب ، والبابة فى الحساب ، والحدود : الغاية. وهذا بابته : أى يصلح له. وبابات الكتاب : سطوره لا واحد لها.

٥٣ ـ بصيرة (٢) فى البياض

وهو ضدّ السّواد. وجمع (٣) الأبيض بيض. وأصله بيض بالضمّ أبدلوه بالكسر ، ليصحّ الياء. وقد ابيضّ يبيضّ ابيضاضا.

ولمّا كان البياض أفضل لون عندهم ـ كما قيل : البياض أفضل ، والسّواد أهول ، والحمرة أجمل ، والصّفرة أشكل ـ عبّر عن الفضل والكرم بالبياض ؛ حتى قيل لمن لم يتدنّس بمعاب : هو أبيض الوجه. وقد تقدّم فى بصيرة الأبيض

__________________

(١) هذا الفصل مكرر مع ما سبق فى ص ١٩٨.

(٢) تقدم شىء من هذا فى بصيرة (الأبيض) ص ١٣٣.

(٣) ب : «الأبيض جمعه».

٢٧٩

٥٤ ـ بصيرة فى البيع

وهو إعطاء المثمن ، وأخذ الثمن. والشّرى : إعطاء الثمن ، وأخذ المثمن. ويقال للبيع : الشرى ، وللشرى : البيع. وذلك بحسب ما يتصوّره (١) من الثمن ، والمثمن. وعلى ذلك قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ (٢) بِثَمَنٍ بَخْسٍ) ، وقال عليه‌السلام (لا يبيعنّ (٣) أحدكم على بيع أخيه) أى لا يشتر على شراه. وأبعت الشىء : عرضته للبيع. وبايع السّلطان : إذا تضمّن بذل الطّاعة بما رضخ (٤) له. ويقال لذلك : بيعة ومبايعة.

وقوله : (فَاسْتَبْشِرُوا (٥) بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) إشارة إلى بيعة الرّضوان التى (٦) فى قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ (٧) رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) والتى (٨) فى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى (٩) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَبِيَعٌ (١٠) وَصَلَواتٌ) جمع بيعة هو : مصلّى النّصارى ، فإن كان عربيّا فى الأصل فلما قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية.

__________________

(١) فى الراغب : «يتصور».

(٢) الآية ٢٠ سورة يوسف.

(٣) الحديث رواه الشيخان ، وفى اللفظ بعض اختلاف ، وانظر رياض الصالحين فى مبحث البيع.

(٤) ا ، ب : «يصح» وما أثبت عن الراغب. والرضخ : الاعطاء غير الكثير.

(٥) الآية ١١١ سورة التوبة.

(٦) ا ، ب : «أكثر» ويبدو انها محرفة عما أثبت. وفى الراغب : «المذكورة». ـ

(٧) الآية ١٨ سورة الفتح.

(٨) ا ، ب : «أكثر» وقد عرفت ما فيه.

(٩) الآية ١١١ سورة التوبة.

(١٠) الآية ٤٠ سورة الحج.

٢٨٠