بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٣

وباق بجنسه ، ونوعه ، دون شخصه ، وجزئه ؛ كالإنسان ، والحيوانات. فكذا (١) فى الآخرة باق بشخصه ؛ كأهل الجنّة ؛ فإنهم يبقون على التأبيد لا إلى مدة ، وباق بنوعه ، وجنسه ؛ كما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ ثمار الجنّة يقطعها (٢) أهلها ، ويأكلونها ، ثمّ تخلف مكانها مثلها.

ولكون ما فى الآخرة دائما قال الله تعالى : (وَما عِنْدَ (٣) اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى).

__________________

(١) فى الراغب : «وكذا» وهو أولى

(٢) فى الراغب : «يقطفها»

(٣) الآية ٦٠ سورة القصص

٢٢١

١٣ ـ بصيرة فى البصيرة

وهى قوّة القلب المدركة. ويقال لها : بصر أيضا : قال الله ـ تعالى ـ : (ما زاغَ (١) الْبَصَرُ وَما طَغى) وجمع البصر أبصار ، وجمع البصيرة بصائر. ولا يكاد يقال للجارحة الناظرة بصيرة ؛ إنما هى بصر ؛ نحو (كَلَمْحٍ (٢) بِالْبَصَرِ) ويقال للقوّة الّتى فيها أيضا : بصر. ويقال منه : أبصرت ، (٣) ومن الأوّل : أبصرته ، وبصرت به. وقلّما يقال (٤) فى الحاسّة إذا لم تضامّه رؤية القلب : بصرت. ومنه (أَدْعُوا إِلَى (٥) اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أى على معرفة وتحقّق. وقوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ (٦) بَصِيرَةٌ) أى عليه من جوارحه بصيرة ، فتبصّره وتشهد عليه يوم القيامة. وقال الأخفش (٧) : جعله فى نفسه بصيرة ؛ كما يقال : فلان جود وكرم. فههنا أيضا كذلك ؛ لأنّ الإنسان ببديهة عقله يعلم أن ما يقرّبه إلى الله هو السّعادة ، وما يبعده عن طاعته الشقاوة.

__________________

(١) الآية ١٧ سورة النجم.

(٢) الآية ٥٠ سورة القمر.

(٣) كذا وهو منقول عن الراغب. والظاهر أن الأصل : «بصرت» بضم الصاد أى صرت ذا بصر للجارحة أو للقوة فيها. وهو لا يتعدى. وأما الثانى فالمراد به الادراك وهو يتعدى بنفسه أو بالباء.

(٤) ا : «يقال به» وما هنا يوافق ما فى ب والراغب.

(٥) الآية ١٠٨ سورة يوسف.

(٦) الآية ١٤ سورة القيامة.

(٧) ا : «الأحسن» وب : «الحسن» وكتب فى الهامش : «الأحسن كذا فى». ونقل صاحب التاج عن البصائر (الحسن) والأقرب الى رسم (الأحسن) هو (الأخفش) ونسخة (الحسن) سقط فيها (أبو) فأصلها (أبو الحسن) وهو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة. فى التاج «وقال الأخفش : بل الانسان على نفسه بصيرة جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك» وترى أن الرأيين فى معنى واحد الا فى التنظير والتمثيل ، وقد يكونان من الأخفش ، وقد يكون أحدهما ممن نقل كلام الأخفش فزاد.

٢٢٢

وتأنيث البصير (١) لأنّ المراد بالإنسان هنا جوارحه. وقيل : الهاء للمبالغة ؛ كعلّامة ، وراوية. والضّرير يقال له : البصير (٢) ، على سبيل العكس. والصّواب أنه قيل له ذلك لماله من قوّة بصيرة القلب.

وقوله : (لا تُدْرِكُهُ (٣) الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) حمله كثير من المتكلّمين على الجارحة. وقيل (٤) : فى ذلك إشارة إلى ذلك ، وإلى الأذهان (٥) ، والأفهام. والباصرة : الجارحة الناظرة.

(وَجَعَلْنا آيَةَ (٦) النَّهارِ مُبْصِرَةً) قيل (٧) معناه : صار أهله بصراء ؛ نحو رجل مخبث ، ومضعف أى أهله خبثاء وضعفاء. (وَلَقَدْ آتَيْنا (٨) مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ) : آية جعلناها عبرة لهم. وقوله : (وَأَبْصِرْ (٩) فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أى انتظر حتى ترى ويرون (١٠). وقوله : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)(١١) أى طالبين للبصيرة. ويصحّ (أن يستعار (١٢)) الاستبصار للإبصار ؛ نحو استعارة الاستجابة للإجابة. وقوله : (تَبْصِرَةً (١٣) وَذِكْرى) أى تبصيرا (١٤) وتبيينا. يقال : بصّرته تبصيرا ، وتبصرة ؛ نحو ذكّرته تذكيرا وتذكرة.

__________________

(١) ا ، ب : «البصر» وما أثبت عن التاج فيما نقله عن هذا الكتاب ، والكلام فى (بصيرة) فى الآية الكريمة

(٢) ب : «بصير».

(٣) الآية ١٠٣ سورة الأنعام.

(٤) سقط هذا الحرف فى الراغب. وهو أولى.

(٥) فى الراغب : «الأوهام».

(٦) الآية ١٢ سورة الاسراء.

(٧) ا ، ب : «وقيل» والمناسب ما أثبت.

(٨) الآية ٤٣ سورة القصص.

(٩) الآية ١٧٩ سورة الصافات.

(١٠) كذا ، والواجب : يروا.

(١١) الآية ٣٨ سورة العنكبوت.

(١٢) كذا فى ب. وفى ا : «استعارة».

(١٣) الآية ٨ سورة ق.

(١٤) ا : «أى».

٢٢٣

والبصيرة : قطعة من الدّم تلمع ، والترس اللامع ، وما بين شقّتى الثوب (١) ، والمزادة ، ونحوها الّتى تبصر منه. والبصرة : حجارة رخوة تلمع كأنّها تبصر.

وورد البصر فى القرآن على وجوه : بصر النظر والحجّة : (فَارْجِعِ (٢) الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) ، وبصر الأدب ، والحرمة : (ما زاغَ (٣) الْبَصَرُ وَما طَغى) ، وبصر للتعجيل والسّرعة : (وَما أَمْرُنا (٤) إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ، وبصر الحيرة والحسرة : (فَإِذا (٥) بَرِقَ الْبَصَرُ) ، وبصر للعمى فى الكافر ، والجهالة : (وَجَعَلَ (٦) عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ، وبصر السّؤال عن المعصية ، والطّاعة : (إِنَ (٧) السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) ، وبصر فى عدم الفائدة والمنفعة : (فَما أَغْنى (٨) عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ) ، وبصر للغىّ والغفلة : (أُولئِكَ (٩) الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ، وبصر للغطاء واللعنة : (فَأَصَمَّهُمْ (١٠) وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ، وبصر لإبعاد المنكرين عن اللّقاء والرّؤية : (لا تُدْرِكُهُ (١١) الْأَبْصارُ) ، وبصر للختم والخسارة : (خَتَمَ (١٢) اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) وبصر للنّظر والعبرة : (فَاعْتَبِرُوا ١٣) يا أُولِي الْأَبْصارِ).

__________________

(١) فى هامش ب : «البيت» وهو يوافق ما فى القاموس. وما هنا يوافق ما فى الراغب

(٢) الآيتان ٣ ، ٤ سورة الملك

(٣) الآية ١٧ سورة النجم

(٤) الآية ٥٠ سورة القمر

(٥) الآية ٧ سورة القيامة

(٦) الآية ٢٣ سورة الجاثية

(٧) الآية ٣٦ سورة الاسراء

(٨) الآية ٢٦ سورة الأحقاف

(٩) الآية ١٠٨ سورة النحل

(١٠) الآية ٢٣ سورة محمد

(١١) الآية ١٠٣ سورة الأنعام

(١٢) الآية ٧ سورة البقرة

(١٣) الآية ٢ سورة الحشر

٢٢٤

١٤ ـ بصيرة فى البحر «والبحيرة»

وقد ورد على أنحاء : بمعنى ضدّ البرّ : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ (١) رَهْواً) ، (وَجاوَزْنا بِبَنِي (٢) إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) ، وبمعنى بحر (٣) فارس والرّوم : (وَما (٤) يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ، وبمعنى البحر الذى تحت العرش المجيد ، وفيه عجائب لا يعلمها إلا الله وبمائه يحيى الله الأموات : (وَالْبَيْتِ (٥) الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، وبمعنى الأرياف والقرى : (ظَهَرَ الْفَسادُ (٦) فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أى فى البوادى والحواضر.

وأصل البحر : كل مكان واسع جامع للماء الكثير. ثم اعتبر تارة سعته المكانيّة (٧) ؛ فيقال : بحرت كذا : أوسعته سعة البحر ؛ تشبيها به. ومنه بحرت البعير : شققت أذنه شقّا واسعا. ومنه البحيرة : (ما جَعَلَ (٨) اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) وذلك ما كانوا يجعلونه بالنّاقة إذا ولدت عشرة أبطن

__________________

(١) الآية ٢٤ سورة الدخان

(٢) الآية ٩٠ سورة يونس

(٣) انظر ما ذا يراد ببحرى فارس والروم فالمعروف أن بحر الروم هو البحر الأبيض المتوسط ، وبحر فارس هو الخليج الفارسى. وكلاهما ملح. وأكثر المفسرين على أن البحرين غير معينين وانما هما العذب والملح كما فسرتهما الآية.

(٤) الآية ١٢ سورة فاطر

(٥) الآيات ٤ ـ ٦ سورة الطور وما ذكره بعض ما قيل فى الآية ، وفى تنوير المقباس بعد ايراده هذا القول أنه يقال : هو بحر حار يصير نارا ويفتح فى جهنم يوم القيامة

(٦) الآية ٤١ سورة الروم

(٧) فى الراغب : «المعاينة»

(٨) الآية ١٠٣ سورة المائدة

٢٢٥

شقّوا أذنها وسيّبوها ، فلا تركب ، ولا يحمل عليها. وسمّوا كلّ متوسع فى شىء بحرا. فالرّجل المتوسّع فى علمه بحر ، والفرس المتوسّع فى جريه بحر. واعتبر من البحر تارة ملوحته ، فقيل : ماء بحر أى ملح. وقد أبحر (١) الماء. قال :

وقد عاد ماء الأرض بحرا وزادنى

إلى مرضى أن أبحر المشرب العذب (٢)

وقال بعضهم : البحر فى الأصل الملح ، دون العذب. وقوله تعالى : (الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ)(٣) إنّما سمى العذب بحرا ؛ لكونه مع الملح ؛ كما يقال للشّمس والقمر : قمران.

__________________

(١) ا ، ب : «بحر» وما أثبت عن الراغب والقاموس.

(٢) الشعر لنصيب كما فى التاج

(٣) الآية ١٢ سورة فاطر ، وسقطت فى ب.

٢٢٦

١٥ ـ بصيرة فى البخل

والبخل ـ بالضّم ، وبالفتح ـ ، والبخل ـ بالتّحريك ـ ، والبخول مصادر بخل يبخل ، كعلم يعلم ، فهو باخل من بخّل ـ كركّع ـ ، وبخيل من بخلاء. ورجل بخل ـ محرّكة ـ وصف بالمصدر (وبخال (١) وبخّال ومبخّل) كسحاب وشدّاد ومعظّم.

والبخل : إمساك المقتنيات عمّا لا يحقّ حبسها عنه. ويقابله الجود. والبخل ثمرة الشّحّ ، والشّحّ يأمر بالبخل ؛ كما قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إياكم (٢) والشح ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم : أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا) فالبخيل : من أجاب داعى الشحّ ، والمؤثر من أجاب داعى الجود ، والسّخاء ، والإحسان.

والبخل ضربان : بخل بقنيات نفسه ، وبخل بقنيات غيره. وهو أكثرهما ذمّا. وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ)(٣)(يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ).

والبخيل من [الباخل](٤) : الذى يكثر منه البخل ؛ كالرّحيم من الرّاحم.

__________________

(١) سقط ما بين القوسين فى ا

(٢) ورد الحديث فى الجامع الصغير. أخرجه أبو داود والحاكم. وفى الشرح : «قال الشيخ : حديث صحيح»

(٣) الآية ٣٧ سورة النساء والآية ٢٤ سورة الحديد

(٤) زيادة يقتضيها السياق

٢٢٧

١٦ ـ بصيرة فى البخس

وهو نقص الشىء على سبيل الظلم. والبخس ، والباخس : الشىء الطفيف النّاقص. وقوله ـ تعالى ـ (وَشَرَوْهُ (١) بِثَمَنٍ بَخْسٍ) قيل : معناه : باخس ، أى ناقص. وقيل : مبخوس أى منقوص. وتباخسوا أى تغابنوا فبخس بعضهم بعضا. قيل كان الثمن عشرين (درهما (٢) ، وقيل اثنين وعشرين).

__________________

(١) الآية ٢٠ سورة يوسف

(٢) سقط ما بين القوسين فى ا

٢٢٨

١٧ ـ بصيرة فى البخع

وهو لغة : قتل النفس غمّا ، بخع نفسه يبخع بخعا كمنع يمنع. وبخع بالحقّ بخوعا ، وبخاعة : أقرّ به ، وخضع له. وبخع الرّكية بخعا : حفرها ، حتى ظهر ماؤها. وبخع له نصحه : أخلصه ، وبالغ فيه. وبخع الأرض بالزّراعة : نهكها ، وتابع حراثتها ، ولم يجمّها عاما. وبخع الرجل خبره : صدقه. وبخع الشّاة : بالغ فى ذبحها (فَلَعَلَّكَ (١) باخِعٌ نَفْسَكَ) أى مهلكها ، وقاتلها ؛ حرصا على إسلامهم. وفيه حثّ على ترك التأسّف ؛ نحو (فَلا تَذْهَبْ (٢) نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).

__________________

(١) الآية ٦ سورة الكهف

(٢) الآية ٨ سورة فاطر

٢٢٩

١٨ ـ بصيرة فى البدار

قال ـ تعالى ـ : (وَلا تَأْكُلُوها (١) إِسْرافاً وَبِداراً) أى مسارعة. يقال : بدرت إليه ، وبادرت. ويعبّر عن الخطأ الّذى يقع عن حدّة : بادرة (٢) يقال : كانت من فلان بوادر فى هذا الأمر. والبدر قيل : سمّى به لمبادرته الشمس بالطلوع. وقيل : لامتلائه ، تشبيها بالبدرة (٣). فعلى ما قيل يكون مصدرا فى معنى الفاعل. قال الرّاغب : «الأقرب عندى أن يجعل البدر أصلا فى الباب ، ثم يعتبر معانيه الّتى تظهر منه ، فيقال تارة : بدر كذا أى طلع طلوع البدر. ويعتبر امتلاؤه تارة فتشبّه البدرة به. والبيدر : المكان المرشّح لجمع الغلّة فيه وملئه منه.

__________________

(١) الآية ٦ سورة النساء

(٢) كذا. وكأنه ضمن (يعبر) معنى يقال. والا فالواجب أن يقول : «ببادرة»

(٣) البدرة : كيس فيه عدد من المال ألف درهم أو غيرها

٢٣٠

١٩ ـ بصيرة فى البديع

وقد جاء بمعنى (المبتدع (١) وبمعنى المبتدع). والبديع أيضا : حبل ابتدئ فتله ، ولم يكن حبلا فنكث ، ثم غزل ، ثم أعيد فتله. والبديع : الزقّ الجديد ، والرّجل السّمين. قال ـ تعالى ـ (بَدِيعُ (٢) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) (بَدِيعُ (٣) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً) بمعنى المبدع ، المبتدئ لإيجاده. وروى أنّ اسم الله الأعظم : يا بديع السّماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام. والبدع ـ بالكسر ـ : المبتدع ، والبديع ، والغمر من الرّجال والغاية فى كلّ شىء. وذلك إذا كان عالما ، أو شجاعا ، أو شريفا. والجمع أبداع. وهى بدعة من بدع. وقد بدع بداعة ، وبدوعا و (ما كُنْتُ (٤) بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) قيل : معناه : مبتدعا لم يتقدمنى رسول. وقيل : مبدعا فيما أقوله.

والبدعة : الحدث فى الدّين بعد الإكمال. وقيل : ما استحدث بعده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من الأهواء ، والأعمال. والجمع بدع. وقيل : البدعة : إيراد قول ، أو فعل ، لم يستنّ قائلها (٥) ، ولا فاعلها (٦) فيه بصاحب

__________________

(١) فى الراغب أنه بمعنى المبدع وبمعنى المبدع.

(٢) الآية ١٠١ سورة الأنعام

(٣) الآية ١١٧ سورة البقرة

(٤) الآية ٩ سورة الأحقاف

(٥) التأنيث باعتبار البدعة. والا فالواجب التذكير

(٦) التأنيث باعتبار البدعة. والا فالواجب التذكير

٢٣١

الشريعة ، وأماثلها (١) المتقدّمة ، وأصولها المقنّنة (٢). وروى (كلّ محدث بدعة (٣) وكلّ بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النّار) وأبدع : أبدأ ، والشاعر : أتى بالبديع ، وفلان بفلان : قطع به ، وخذله ، ولم يقم بحاجته ، وحجّته : بطلت ، وبرّه بشكرى ، وقصده بوصفى : إذا شكره على إحسانه إليه ، معترفا بأن شكره لا يفى بإحسانه.

__________________

(١) جمع أمثل ، وهو الخير والأفضل

(٢) فى الراغب : «المتقنة»

(٣) ورد الحديث فى الجامع الصغير. أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما

٢٣٢

٢٠ ـ بصيرة فى البدن

وهو [من](١) الجسد : ما سوى الرّأس ، والشّوى (٢). وقيل : العضو ، وقيل : البدن خاصّ بأعضاء الجزور. وقيل فى الفرق بين البدن والجسد : إن البدن يقال اعتبارا بعظم الجثّة ، والجسد اعتبارا باللّون. ومنه قيل : ثوب مجسّد (٣). ومنه قيل : امرأة بادنة ، وبادن ، وبدين أى عظيمة (٤) الجسم. وسمّيت البدنة بذلك لسمنها. ويقال : بدن إذا سمن. وكذلك بدّن. وقيل : بل بدّن (مشدّدة) معناه : أسنّ. ومنه الحديث : (لا تبادرونى (٥) بالرّكوع والسّجود فإنى قد بدّنت) أى كبرت وأسننت. وقوله : تعالى : (نُنَجِّيكَ (٦) بِبَدَنِكَ) أى بجسدك. وقيل : بدرعك. وقيل : سمّى الدّرع بدنة (٧) ، لكونه على البدن ؛ كما يسمّى موضع اليد من القميص يدا ، وموضع الظهر ، والبطن ظهرا ، وبطنا. وقوله ـ تعالى ـ (وَالْبُدْنَ (٨) جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) هى (٩) جمع البدنة الّتى تهدى. والبدنة من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم. وهنّ (١٠) للذكر والأنثى. والجمع بدن ، وبدن.

__________________

(١) زيادة من القاموس

(٢) الشوى : اليدان والرجلان وما كان غير مقتل ، كما فى القاموس

(٣) أى مصبوغ بالزعفران

(٤) ا ، ب : «عظيم»

(٥) ورد الحديث فى النهاية وشرح

(٦) الآية ٩٢ سورة يونس

(٧) كذا والمعروف فى الدرع البدن. وقد تبع فى هذا الراغب

(٨) الآية ٣٦ سورة الحج

(٩) ، ب : «وهى» وما أثبت عن الراغب

(١٠) كذا والأولى : «هى»

٢٣٣

٢١ ـ بصيرة فى البرج

وهو القصر ، وجمعه بروج.

وقد جاء فى القرآن على وجوه ثلاثة.

الأوّل : بمعنى مدار الكواكب : (وَالسَّماءِ (١) ذاتِ الْبُرُوجِ) ، (تَبارَكَ الَّذِي (٢) جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) (وَلَقَدْ جَعَلْنا (٣) فِي السَّماءِ بُرُوجاً).

والثانى : بمعنى القصور : (وَلَوْ كُنْتُمْ (٤) فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أى قصور محكمة ، مطوّلة. قيل : يجوز أن يراد بها بروج فى الأرض ، وأن يراد بروج النجوم ، ويكون استعمال لفظ المشيّدة فيها على سبيل الاستعارة. ويكون الإشارة بالمعنى إلى نحو ما قال زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو نال أسباب السّماء بسلّم (٥)

(وأن يكون البروج (٦) فى الأرض) ويكون الإشارة إلى ما قال الآخر (٧) :

ولو كنت فى غمدان يحرس بابه

أراجيل أحبوش وأسود آلف

إذا لأتتنى ـ حيث كنت ـ منيّتى

يخبّ (٨) بها هاد لإثرى قائف

__________________

(١) الآية ١ سورة البروج

(٢) الآية ٦١ سورة الفرقان

(٣) الآية ١٦ سورة الحجر

(٤) الآية ٧٨ سورة النساء

(٥) هو فى معلقته

(٦) هذا تكرار مع ما سبق. وانما أعاده لما ذكره من الاشارة الى قول الشاعر

(٧) هو ثعلبة بن حزن العبدى ، كما فى حماسة البحترى فى الباب ٥٢

(٨) فى الراغب : «يحث»

٢٣٤

وثوب مبرّج : صوّر عليه بروج.

الثالث : بمعنى التزيّن والتّوسّع (وَلا تَبَرَّجْنَ (١) تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) ، (غَيْرَ (٢) مُتَبَرِّجاتٍ). وهذا كلّه مأخوذ من (المبرّج) (٣) فى اعتبار حسنه. فقولهم : تبرّجت المرأة : تشبّهت بالمبرّج (٤) فى إظهار المحاسن. وقيل : ظهرت من برجها أى قصرها. والبرج : سعة العين ، وحسنها ؛ تشبّها بالبرج فى الأمرين. كتب إلىّ بعض الفضلاء :

بنفسى من أهدى إلىّ كتابه

فأهدى لى الدّنيا مع الدّين فى درج (٥)

كتاب معانيه خلال سطوره

كواكب فى برج لآلئ فى درج (٦)

__________________

(١) الآية ٣٣ سورة الأحزاب

(٢) الآية ٦٠ سورة النور

(٣) ا ، ب : «البروج» وما هنا مأخوذ عن الراغب. والمراد الثوب المبرج

(٤) ا ، ب : «بالبروج» وقد علمت ما فيه.

(٥) الدرج : الصحيفة

(٦) الدرج : سقط صغير تضع فيه المرأة متاعها وطيبها

٢٣٥

٢٢ ـ بصيرة فى البراح

وهو المكان الواسع الّذى لا بناء فيه ، ولا شجر. فيعتبر تارة ظهوره ، فيقال : فعل كذا براحا ، أى صراحا لا يستره شىء. وبرح الخفاء : ظهر كأنّه حصل فى براح يرى. وبراح الدّار : ساحته (١) ، وبرح ـ كسمع ـ صار فى البراح. ومنه البارح للرّيح الشديدة. وبرح : (ثبت (٢) فى البراح) ومنه لا أبرح. وخصّ بالإثبات ؛ كقولهم : لا زال ؛ لأن برح ، وزال اقتضيا معنى النفى ، ولا للنّفى ، والنفيان يحصل من اجتماعهما إثبات. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (لا أَبْرَحُ (٣) حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ). ولما تصوّر من البارح معنى التشاؤم اشتقّ منه التبريح والتباريح ، فقيل ، برّح به الأمر وبرّح بى (٤) فلان فى التقاضى. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : واضربوهنّ ضربا غير مبرّح. ولقى منه البرحين ـ مثلّثة الأولى ـ أى الدّواهى والشدائد. وبرحة من البرح أى ناقة من خيار الإبل. والبارح : الرّيح الحارّة فى الصّيف. قال الشاعر :

يا ساكن الدنيا لقد أوطنتها

ولتبرحنّ وإن كرهت براحها

ما زلت تنقل مذ خلقت إلى البلا

فانظر لنفسك إن أردت صلاحها

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَنْ (٥) أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أى أنتقل من مصر إلى كنعان.

__________________

(١) كذا. وكأنه أول الدار بالمنزل

(٢) الأولى أن يقول كما قال فى القاموس : برح مكانه زال عنه وثبت فى البراح ، حتى يأتى قوله : ومنه لا أبرح فى معنى الاثبات لما فيه من اجتماع نفيين ، وحتى يكون برح وزال فى معنى واحد ، كما يقول.

(٣) الآية ٦٠ سورة الكهف.

(٤) ا : «تبرح»

(٥) الآية ٨٠ سورة يوسف

٢٣٦

٢٣ ـ بصيرة فى البروز

وهو الظهور البيّن. وأصله البراز. وهو الفضاء. وبرز : حصل فى براز. وذلك إما أن يظهر بذاته ؛ نحو (وَتَرَى الْأَرْضَ (١) بارِزَةً) تنبيها أنّه يبطل فيها الأبنية ، وسكّانها. ومنه المبارزة فى القتال ، وهى الظهور من الصّفّ ، أو الظّهور لما عنده من فضل الشجاعة. وهو أن يظهر نفسه فى فعل محمود ، وإمّا أن ينكشف عنه ما كان مستورا به (٢). ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَبَرَزُوا (٣) لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، وقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ (٤) لِلْغاوِينَ) تنبيها أنّهم يعرضون عليها. وامرأة برزة : عفيفة ؛ لأنّ رفعتها بالعفّة.

__________________

(١) الآية ٤٧ سورة الكهف

(٢) فى الراغب : «منه» وهى أولى

(٣) الآية ٤٨ سورة ابراهيم

(٤) الآية ٩١ سورة الشعراء

٢٣٧

٢٤ ـ بصيرة فى البرزخ

هو الحاجز بين الشيئين. وهو تارة قدرة الله تعالى ، وتارة بقدرة الله تعالى. والبرزخ من وقت الموت إلى القيامة : من مات دخله. وبرازخ الإيمان : ما بين أوّله وآخره. والبرزخ فى القيامة : الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل الرّفيعة فى الآخرة وذلك إشارة إلى العقبة المذكورة فى قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ (١) الْعَقَبَةَ). وتلك العقبة موانع من أحوال لا يصل إليها إلّا الصّالحون.

__________________

(١) الآية ١١ سورة البلد

٢٣٨

٢٥ ـ بصيرة فى البرق

وهو لمعان السّحاب. والبرق ، والبارقة : السّيف. سمّى للمعانه. ويقال فى البرق : يشرى ويومض ، ويعنّ ويعترض ، ويوبص (١) ، ويستطير ، ويستطيل ، ويلمع ويتبوّج ، ويخطف ، ويخفق ، ويبرق ، ويتألّق ، ويتلألأ ، ويستشرى ، وينبض ، ويهبّ ، ويخرق ، ويتسلسل ، ويستنّ ، ويبتسم ، ويضحك ، وينبعق ، وينشقّ ، ويرتعص ، ويفرى ، ويهضّ (٢) ، وينبعث (٣) ، ويلوح ، ويتهلّل ، ويتكلّل (٤).

ومما يستحسن فى وصف البرق وخفائه ، والرّعد فى حدائه ، والثّلج ولألائه ، قول بعضهم :

ينبض نبض العرق فى استخفاء

شرارة تطرف من قصباء

أو طرف طير همّ باقتذاء (٥)

حتى إذا امتدّت (٦) على السّواء

ورجفت بزجل الحداء

وقعقعت بالرّعد ذى الضّوضاء

كأنّ بين الأرض والسّماء

رجل (٧) جراد ثار فى عماء(٨)

__________________

(١) كذا والظاهر أنه محرف عن «بيص» فالمعروف من الوبيص يبص

(٢) كذا والهض : الكسر ، فاذا لم يكن محرفا فانه استعارة لشق البرق الظلام.

(٣) فى الأصلين الكلمة غير واضحة. وقد أثبتها بالاحتمال

(٤) كذا. والذى فى القاموس للبرق : انكل

(٥) الاقتذاء : نظر الطير ثم اغماضه

(٦) اى السحب

(٧) رجل الجراد : القطعة العظيمة منه

(٨) هو السحاب المرتفع

٢٣٩

أو سرعانا من دبى (١) غوغاء

أو كرسفا (٢) يندف فى الهواء

تطيره الريح على القواء (٣)

أو (حلبا ينطف فى الخباء) (٤)

أو رغوة تنفشّ من عزلاء (٥)

أو كنقىّ الفضّة البيضاء

أو كانتشار الدرّ ذى اللآلاء

أو كانتظام الودع فى الإخفاء (٦)

فاشمطّت الأرض على فتاء

واستوت الآكام بالضّراء (٧)

وقال الأصمعىّ : أحسن ما قيل فى البرق والغيث قول عدىّ بن الرّقاع :

فقمت (٨) أخبره بالغيث لم يره

والبرق إذ أنا محزون له أرق

مزن يسبّح فى ريح شآمية

مكلّل بعماء الماء منتطق

ألقى على ذات أجفار كلاكله

وشبّ نيرانه وانجاب يأتلق

وبات يحتلب الجوزاء درّتها

فنوؤها حين ناحت مربع لثق (٩)

تبكى ليدرك محلا كان ضيّعه

يزيله (١٠) سبط منه ومندفق

جون المشارب رقراق تظلّ به

شمّ المخارم والأثناء تصطفق (١١)

يكاد يظلع ظلما ثم يغلبه

عن الشواهق والوادى به شرق

__________________

(١) الدبى : صغار الجراد. والغوغاء : الجراد بعد أن ينبت جناحه

(٢) هو القطن

(٣) هو القفر من الأرض

(٤) الشطر فى الأصلين محرف. والحلب : اللبن الحليب. وينطف : يقطر

(٥) العزلاء : مصب الماء من القربة ونحوها. وانفشاش الرغوة : خروجها منها.

(٦) الودع ـ بتسكين الدال وفتحها ـ خرز أبيض يخرج من البحر شقه كشق النواة كما فى القاموس

(٧) الضراء : المستوى من الأرض ، والاشمطاط اختلاف الشعر بين سواد وبياض ، وذلك مبدأ الشيب ، والفتاء حداثة السن.

(٨) ما قبله فى صفة جزيرة العرب للهمدانى ص ٢٣٤ :

وصاحب غير نكس قد نشأت به

من نومه وهو فيه ممهد أنق

(٩) المربع : المخصب الناجع فى المال. واللثق المبتل

(١٠) هذه العبارة فى الأصلين غير واضحة ، وقد أثبتها هكذا على حسب ظنى وهى (يربط) فى الأصلين

(١١) المخارم : الطرق فى الجبل ، والاثناء : جمع ثنى (بكسر فسكون) ، وهو المحنى.

٢٤٠