بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ١

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ١

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٧٨

قال : كنت عند النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعته يقول : إنّ القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشقّ عنه قبره كالرجل الشاحب (١) ، فيقول له : هل تعرفنى؟ فيقول : ما أعرفك. فيقول : أنا صاحبك القرآن الذى أظمأتك فى الهواجر ، وأسهرت ليلتك. وإن كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. قال : فيعطى الملك بيمينه ، والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا. فيقولان : بم كسينا هذا؟ فيقال لهما : بأخذ ولد كما القرآن. ثم يقال له : اقرأ واصعد فى درج الجنّة وغرفها. فهو فى صعود ما دام يقرأ ، هذّا (٢) كان أو ترتيلا).

وعن معاذ قال : (كنت (٣) فى سفر مع رسول الله صلّى عليه وسلم فقلت يا رسول الله حدّثنا بحديث ينتفع به ، فقال : إن أردتم عيش السّعداء أو موت الشهداء ، والنجاة يوم الحشر ، والظّلّ يوم الحرور ، والهدى يوم الضلالة ، فادرسوا القرآن ؛ فإنّه كلام الرّحمن ، وحرس من الشيطان ، ورجحان فى الميزان) وعن عقبة بن عامر قال (٤) (خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ونحن فى الصّفّة ، فقال : أيّكم يحبّ أن يغدو كلّ يوم إلى بطحان أو العقيق ، فيأتى بناقتين كوماوين زهراوين فى

__________________

(١) كذا فى أ. وفى ب : «الصاحب»

(٢) فى أ ، ب : «جيدا» ولا معنى له هنا. والتصحيح من تنزيه الشريعة ، ومن اللآلى المصنوعة ، والهذ فى القراءة الاسراع بها. والترتيل : التمكث فيها.

(٣) الحديث رواه الديلمى عن غضيف بن الحارث. انظر كنز العمال ١ / ١٣٦

(٤) رواه مسلم وأبو داود واللفظ فى الكتاب لأبى داود كما فى الترغيب والترهيب فى كتاب قراءة القرآن. وفى هذا الكتاب بعد الحديث : «بطحان بضم الباء وسكون الطاء : موضع بالمدينة والكوماء بفتح الكاف وسكون الواو بالمد هى الناقة العظيمة السنام» والعقيق كذلك موضع من ضواحى المدينة

٦١

غير إثم ولا قطيعة رحم؟ قلنا كلّنا يا رسول الله يحبّ (١) ذلك. قال : لأن يغدو أحدكم كلّ يوم إلى المسجد فيتعلّم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين ، وثلاث خير له من ثلاث ومن أعدادهنّ من الإبل) وعن عائشة قالت (قال (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة. والذى يتتعتع (٣) فيه له أجران).

وروى عن أبى ذرّ (أنّه جاء إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّى أخاف أن أتعلّم القرآن ولا أعمل به. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يعذّب الله قلبا أسكنه القرآن) وعن أنس عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال (من علّم آية من كتاب الله كان له أجرها ما تليت) وعن ابن مسعود أنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من أراد علم الأوّلين والآخرين فليتدبّر القرآن مؤثرا؟ فإن فيه علم الأولين والآخرين ؛ ألم تسمعوا قوله : ما فرطنا فى الكتاب من شىء) عن واثلة بن الأسقع أنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أعطيت (٤) السّبع الطّوال مكان التوراة ، وأعطيت المائدة مكان الإنجيل وأعطيت المثانى مكان الزّبور وفضّلت بالمفصّل) وعن عثمان بن عفّان أنّه قال : (خيركم (٥) من

__________________

(١) ب : «تحب»

(٢) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه ، كما فى الترغيب والترهيب

(٣) فى أ ، ب : «تتبع» والتصحيح من الترغيب والترهيب وما هنا اختصار فيه ففى لفظ مسلم : «والذى يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» والتتعتع فى الكلام : التردد فيه من حصر أوعى ، ويراد هنا التردد لعدم الحفظ

(٤) ورد ببعض اختلاف فى كنز العمال ١ / ١٤٣.

(٥) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه وغيرهم ، كما فى الترغيب والترهيب.

٦٢

تعلّم القرآن وعلّمه) قال ابن عبّاس : افتخرت السماء على الأرض فقالت : أنا أفضل ، فىّ العرش ، والكرسىّ ، واللّوح ، والقلم. وفىّ الجنّة (١) المأوى وجنّة عدن ، وفىّ الشمس ، والقمر ، والنجوم. ومنّى تنزّل أرزاق الخلق. وفىّ الرّحمة. فقالت الأرض وتركت أن تقول : فىّ الأنبياء والأولياء وفىّ بيت الله بل قالت : أليس تنقلب أضلاع حملة القرآن فى بطنى : فقال الله : صدقت يا أرض. وكان افتخارها على السّماء أن قال لها الرّب صدقت. وعن أبى موسى الأشعرىّ عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) مثل الذى (يقرأ (٣) القرآن ويعمل به مثل الأترجّة (٤) : طعمها طيّب وريحها طيب ومثل الذى) لا يقرأ القرآن ويعمل به مثل التمرة : طعمها طيّب ، ولا ريح لها. ومثل الذى يقرأ القرآن ولا يعمل به كمثل الرّيحانة (٥) : لها رائحة ، وطعمها مرّ. ومثل الذى لا يقرأ القرآن ولا يعمل به مثل الحنظلة لا طعم لها ، ولا رائحة).

وسئل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) من أحسن النّاس صوتا؟ قال من إذا سمعته يقرأ خشية تخشى الله) وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأصحابه : (اقرءوا (٧) القرآن بحزن ؛ فإنه نزل بحزن) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنّ هذه القلوب

__________________

(١) كذا. وكان الأصل : «جنة المأوى» وقد يصح ما أثبت على أن «المأوى» بدل

(٢) رواه البخارى ومسلم والنسائى وابن ماجه ، كما فى الترغيب والترهيب ، وفى اللفظ المثبت هنا اختلاف عما فى الترغيب والترهيب

(٣) سقط ما بين القوسين فى أ

(٤) الأترجة ضرب من الفواكه

(٥) ب : «الريحان»

(٦) ورد فى كنز العمال ١ / ١٥٠

(٧) ورد فى كنز العمال ١ / ١٤٩ : «أحسن الناس قراءة من قرا القرآن يتحزن فيه»

٦٣

لتصدأ كما يصدأ الحديد. قيل فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال : ذكر الموت وتلاوة القرآن : ألم تسمعوا قوله تعالى : (وَشِفاءٌ لِما (١) فِي الصُّدُورِ) وقال عليه‌السلام : (القرآن هو الدّواء (٢)) وقال (لا فاقة (٣) بعد القرآن ، ولا غنى دونه) وقال : (٤) (ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه) (٥) (وقال) (القرآن (٦) شافع (٧) ، أو ما حل مصدّق) وقال : (من (٨) قرأ القرآن وعمل بما فيه لم يردّ إلى أرذل العمر) وقال فى قوله (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه) ويروى أنّ امرأة مرّت بعيسى بن مريم فقالت طوبى لبطن حملتك (٩) وثدى أرضعك (١٠) فقال عيسى لا بل طوبى لمن (١١) قرأ القرآن وعمل به.

فهذه بعض ما حضرنى من فضائل القرآن. والباب واسع. وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله.

__________________

(١) الآية ٥٧ سورة يونس

(٢) رواه السجزى فى الابانة ، والقضاعى عن على. كنز العمال ١ / ٢٣٠.

(٣) أورده فى الاتقان فى مبحث فضائل القرآن بلفظ (القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه) وذكر أنه أخرجه أبو يعلى والطبرانى من حديث أبى هريرة

(٤) من حديث رواه أبو نعيم. انظر كنز العمال ١ / ٢٣١

(٥) سقط ما بين القوسين فى ب

(٦) الحديث رواه ابن حبان فى صحيحه ، كما فى الترغيب والترهيب ، وفيه «شافع مشفع» وفيه بعد الحديث «ما حل بكسر الحاء المهملة أى ساع وقيل : خصم مجادل»

(٧) ب : «الشافع»

(٨) رواه الحاكم ، وقال : صحيح الاسناد ، كما فى الترغيب والترهيب

(٩) كذا والأكثر فى البطن التذكير

(١٠) ب : «أرضعتك» وفيه التذكير والتأنيث

(١١) سقط فى أ

٦٤

الفصل الثانى

فى ذكر إعجاز القرآن وتمييزه بالنظم المعجز عن سائر الكلام

اعلم أن الإعجاز إفعال من العجز الّذى هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأى أو تدبير. والّذى يظهر على الخلق من هذا المعنى ثلاث درجات : مخرقة (١) وكرامة (ومعجزة) (٢).

وبين المخرقة والمعجزة فروق كثيرة.

منها أنّ المخرقة لا بقاء لها ، كعصىّ سحرة فرعون ، والمعجزة باقية ، كعصا موسى. ومنها أنّ المخرقة لا حقيقة لها ، ولا معنى ؛ لأنّ بناءها على الآلات ، والحيل ؛ والمعجزة لا آلة لها (٣) ، ولا حيلة. ومنها أنّ العوامّ يعجزون عن المخرقة ، وأمّا الحذّاق والأذكياء فلا يعجزون عنها. وأمّا المعجزة فالخواصّ والعوامّ على درجة واحدة فى العجز عنها.

ومنها أنّ المخرقة متداولة بين النّاس فى جميع الأزمان غير مختصّة بوقت دون وقت ، وأمّا المعجزة فمختصّة بزمان النبوّة ، خارجة عن العرف ، خارقة للعادة

__________________

(١) يراد بالمخرقة هنا عمل غريب مبنى على تمويه لا حقيقة له. وفى مستدرك التاج : «المخرقة اظهار الخرق توصلا الى حيلة ، وقد مخرق ، والمخرق : المموه. وهو مستعار من مخاريق الصبيان» وتقدم كلام فيه فى التعليق رقم (١) ص ٤٥.

(٢) ب : «من المعجزة»

(٣) سقط فى ب

٦٥

ومنها أنّ المخرقة يمكن نقضها بأضدادها ، ولا سبيل للنّقض إلى المعجزة.

وأمّا الفرق بين المعجزة والكرامة فهو أنّ المعجزة مختصّة بالنبىّ دائما ، [و] وقت إظهارها مردّد بين الجواز والوجوب ، ويقرن (١) بالتحدّى ، وتحصل بالدّعاء ، ولا تكون ثمرة المعاملات المرضيّة ، ولا يمكن تحصيلها بالكسب والجهد ، ويجوز أن يحيل النبىّ المعجزة إلى نائبه ، لينقلها من مكان إلى مكان كما فى شمعون (٢) الصّفا الّذى كان نائبا عن عيسى فى إحياء الموتى ، وأرسله إلى الرّوم ، فأحيا الموتى هناك. وأيضا يكون أثر المعجزة باقيا بحسب إرادة النبىّ ، وأمّا الكرامة فموقوفة على الولىّ ، ويكون كتمانها واجبا عليه ، وإن أراد إظهارها وإشاعتها زالت وبطلت. وربما تكون موقوفة على الدعاء والتضرع. وفى بعض الأوقات يعجز عن إظهارها.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين المعجزة والكرامة والمخرقة.

وجملة المعجزات راجعة إلى ثلاثة معان : إيجاد معدوم ، أو إعدام موجود. أو تحويل حال موجود.

إيجاد معدوم كخروج الناقة من الجبل بدعاء صالح عليه‌السلام.

وإعدام الموجود كإبراء الأكمه والأبرص بدعاء عيسى عليه‌السلام.

وتحويل حال الموجود كقلب عصا موسى ثعبانا.

__________________

(١) ب : «تقترن»

(٢) ب : سمعون وشمعون الصفا هو الملقب ببطرس ، والصفا : الحجر. وكذلك بطرس

٦٦

وكلّ معجزة كانت لنبيّ من الأنبياء فكان مثلها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان إظهارها له ميسّرا مسلما.

وأفضل معجزاته وأكملها وأجلّها وأعظمها القرآن الذى نزل عليه (١) بأفصح اللّغات ، وأصحّها ، وأبلغها ، وأوضحها ، وأثبتها ، وأمتنها (٢) ، بعد أن لم يكن كاتبا ولا شاعرا ولا قارئا ، ولا عارفا بطريق الكتابة ، واستدعاء (٣) من خطباء (٤) العرب العرباء وبلغائهم وفصحائهم أن يأتوا بسورة من مثله ، فأعرضوا عن معارضته ، عجزا عن الإتيان بمثله. فتبيّن بذلك أن هذه المعجزة أعجزت العالمين عن آخرهم (٥)

ثم اختلف الناس فى كيفيّة الإعجاز.

فقيل : لم يكونوا عاجزين عن ذلك طبعا ، إلّا أنّ الله صرف همّتهم ، وحبس لسانهم ، وسلبهم قدرتهم ؛ لطفا بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفضلا منه عليه. وذلك قوله (وعلّمك (٦) ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما). وهو قول مردود غير مرضىّ.

__________________

(١) سقط فى ب

(٢) فى أ : «أمينها» وهو محرف عما أثبت ، ب الكلمة غير واضحة وهى أقرب الى «أبينها»

(٣) عطف على المصدر فى «أن لم يكن كاتبا ...»

(٤) أ ، ب : «خطب». والخطب جمع الخطبة لا يسوغ هنا. فان كان «الخطب» بضم الطاء جمع خطيب كنذير ونذر كان ما فى النسختين صحيحا ، غير أن هذا الجمع لم يرد فيما وقفت عليه فى المعاجم وفعل ينقاس فى فعيل الاسم كسرير وسرر وكثيب وكثب ويقل فى الوصف كنذير ونذر

(٥) أ ، ب : «آخره»

(٦) الآية ١١٣ سورة النساء

٦٧

وقال آخرون : لم يكن عجزهم عن الإتيان بمثل لفظه ، وإنما كان عن الإتيان بمثل معناه.

وقيل : لم يعجزوا عنهما ، وإنّما عجزوا عن نظم مثل نظمه ؛ فإن أنواع كلامهم كانت منحصرة فى الأسجاع ، والأشعار ، والأراجيز ، فجاء نظم التنزيل على أسلوب بديع لا يشبه شيئا من تلك الأنواع ، فقصرت أيدى بلاغاتهم عن بلوغ أدنى رتبة من مراتب نظمه.

ومذهب أهل السّنة أنّ القرآن معجز من جميع الوجوه : نظما ، ومعنى ، ولفظا ، لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين أصلا ، مميّز عن خطب الخطباء ، وشعر الشعراء ، باثنى عشر معنى ، لو لم يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعانى لكان معجزا ، فكيف إذا اجتمعت فيه جميعا.

ومجملها إيجاز اللفظ ، وتشبيه الشىء بالشىء ، واستعارة المعانى البديعة ؛ وتلاؤم الحروف ، والكلمات ، والفواصل ، والمقاطع فى الآيات ، وتجانس الصّيغ ، والألفاظ ، وتعريف القصص ، والأحوال ، وتضمين الحكم ، والأسرار ، والمبالغة فى الأمر ، والنهى ، وحسن بيان المقاصد ، والأغراض ، وتمهيد المصالح ، والأسباب ، والإخبار عما كان ، وعما يكون.

أمّا إيجاز اللفظ مع تمام المعنى فهو أبلغ أقسام الإيجاز (١). ولهذا قيل : الإعجاز فى الإيجاز نهاية إعجاز. وهذا المعنى موجود فى القرآن إمّا على سبيل الحذف ، وإما على سبيل الاختصار.

__________________

(١) ب : «الاعجاز»

٦٨

فالحذف مثل قوله تعالى : (وَسْئَلِ (١) الْقَرْيَةَ) أى أهلها (وَلكِنَ (٢) الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أى برّ من آمن. والاختصار (وَلَكُمْ (٣) فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) هذه أربع كلمات وستة عشر حرفا يتضمّنّ (٤) ما ينيّف على ألف ألف مسألة ، قد تصدّى لبيانها علماء الشريعة ، وفقهاء الإسلام فى مصنّفاتهم ؛ حتّى بلغوا ألوفا من المجلّدات ، ولم يبلغوا بعد كنهها وغايتها.

وأمّا تشبيه الشىء بالشىء فنحو قوله تعالى : (أَعْمالُهُمْ (٥) كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) وقوله : (أَعْمالُهُمْ (٦) كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ (٧) مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) وكلّ مثل من هذه الأمثال درج جواهر ، وبرج زواهر ، وكنز شرف ، وعالم علم ، وحقّ حقائق ، وبحار درر دراية ، ومصابيح سالكى مسالك السنّة. ولهذا يقال : الأمثال سرج القرآن.

وأمّا استعارة المعنى فكالتعبير عن المضىّ والقيام بالصّدع (فَاصْدَعْ (٨) بِما تُؤْمَرُ) أى قم بالأمر ، وكالتعبير عن الهلاك ، والعقوبة بالإقبال والقدوم (وَقَدِمْنا (٩) إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) ، وكالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسّلخ (وَآيَةٌ١٠) لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) ولا يخفى ما فى أمثال هذه الاستعارات من كمال البلاغة ، ونهاية الفصاحة. يحكى أنّ أعرابيّا سمع

__________________

(١) الآية ٨٢ سورة يوسف

(٢) الآية ١٧٧ سورة البقرة

(٣) الآية ١٧٩ سورة البقرة

(٤) فى أ ، ب : «تنيف» ولم اقف على تنيف فأصلحته كما أثبت

(٥) الآية ٣٩ سورة النور

(٦) الآية ١٨ سورة ابراهيم

(٧) الآية ١٩ سورة البقرة

(٨) الآية ٩٤ سورة الحجر

(٩) الآية ٢٣ سورة الفرقان

(١٠) الآية ٣٧ سورة يس

٦٩

(فاصدع بما تؤمر) فلم يتمالك أن وقع على الأرض وسجد ، فسئل عن سبب سجدته فقال ، سجدت فى هذا المقام ، لفصاحة هذا الكلام.

وأما تلاؤم الكلمات والحروف ففيه جمال المقال ، وكمال الكلام ؛ نحو قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (١) وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ (٢) يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (٣) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ (٤) فَأَدْلى (٥) دَلْوَهُ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ (٦) وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)(٧) ونظائرها.

وأمّا فواصل الآيات ومقاطعها فعلى نوعين : إمّا على حرف كطه ؛ فإنّ فواصل آياتها على الألف ، وكاقتربت ؛ فإنّ مقاطع آياتها على الراء ، وإمّا على حرفين كالفاتحة ؛ فإنّها بالميم والنّون : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ونحو (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) فإنّها بالباء والدّال.

وأمّا تجانس الألفاظ فنوعان أيضا : إمّا من قبيل المزاوجة ؛ كقوله (٨)(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ (٩) إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (١٠) يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ (١١) يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ (١٢) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ (١٣) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (١٤) وإمّا من قبيل المناسبة كقوله (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (١٥) (١٦) يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ).

__________________

(١) الآية ٢٤ سورة البقرة

(٢) الآية ٤٤ سورة النمل

(٣) الآية ٨٤ سورة يوسف

(٤) الآية ٣٠ سورة الروم

(٥) الآية ١٩ سورة يوسف

(٦) الآية ٨٩ سورة الواقعة

(٧) الآية ٥٤ سورة الرحمن

(٨) الآية ١٩٤ سورة البقرة

(٩) الآيتان ١٤ و ١٥ سورة البقرة

(١٠) الآية ١٤٢ سورة النساء

(١١) الآية ١٥ سورة الطارق

(١٢) الآية ٥٤ سورة آل عمران

(١٣) الآية ٤٠ سورة الشورى

(١٤) الآية ٦٠ سورة الرحمن

(١٥) الآية ١٢٧ سورة التوبة

(١٦) الآية ٣٧ سورة النور

٧٠

وأمّا تصريف القصص والأحوال فهو أنّ الله تعالى ذكر بحكمه (١) البالغة أحوال القرون الماضية ، ووقائع الأنبياء ، وقصصهم ، بألفاظ مختلفة ، وعبارات متنوّعه ، بحيث لو تأمّل غوّاصو بحار المعانى ، وخوّاضو لجج الحجج ، وتفكّروا فى حقائقها ، وتدبّروا فى دقائقها ، لعلموا وتيقّنوا (وتحققوا (٢)) وتبيّنوا أنّ (٣) ما فيها من الألفاظ المكرّرة المعادات ، إنّما هى لأسرار ، ولطائف لا يرفع برقع حجابها من الخاصّة إلّا أوحدهم وأخصّهم ، ولا يكشف ستر سرائرها من النحارير إلا واسطتهم (٤) وقصهم (٥).

وأمّا تضمين الحكم والأسرار فكقولنا فى الفاتحة : إن فى (بسم) التجاء الخلق إلى ظلّ عنايته ، وكلمة الجلالة تضمّنت آثار القدرة والعظمة ، وكلمة الرّحمن إشارة (٦) إلى أنّ مصالح الخلق فى هذه الدّار منوط (٧) بكفايته. وكلمة الرّحيم بيان لاحتياج العالمين إلى فيض من خزائن رحمته. والنّصف الأوّل من الفاتحة يتضمّن أحكام الرّبوبيّة. والنصف الثّانى يقتضى أسباب العبوديّة. وخذ على هذا القياس. فإنّ كلّ كلمة من كلمات القرآن كنز معان ، وبحر حقائق.

ومن جوامع آيات القرآن قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ (٨) وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فإنها جامعة لجميع مكارم الأخلاق ، وقوله : (إِنَ (٩) اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) مستجمعة لجميع أسباب السّياسة والإيالة. وقوله :

__________________

(١) ب : «بحكمته»

(٢) سقط ما بين القوسين فى أ.

(٣) ب : «عن» وهى أن فى عنعنة تميم

(٤) أ : «واسطهم»

(٥) كذا فى أ ، ب : ومن معانى القص الصدر وقد يكون «فصهم» بالتاء من فص الخاتم وهو انفس شىء فيه ، استعير للفائق بين أقرانه.

(٦) سقط فى ب

(٧) كذا فى أ ، ب. وقد يصح على أن المراد : أمر منوط ..» وقد يكون محرفا عن «منوطة»

(٨) الآية ١٩٩ سورة الأعراف

(٩) الآية ٩٠ سورة النحل

٧١

(أَخْرَجَ (١) مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) محتوية على حاجات الحيوانات كافّة. وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا (٢) أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الثلاث الآيات جامعة لجميع الأوامر والنّواهى ، ومصالح الدّنيا والآخرة. وقوله : (وَأَوْحَيْنا (٣) إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) يشتمل على أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وبشارتين.

وأمّا المبالغة فى الأسماء والأفعال فالأسماء (فَعَّالٌ (٤) لِما يُرِيدُ) (وَإِنِّي (٥) لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ ، وَما رَبُّكَ (٦) بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، (الْمَلِكُ (٧) الْقُدُّوسُ) ، (وَعَنَتِ (٨) الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ، و (الرِّجالُ (٩) قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ، (يُوسُفُ (١٠) أَيُّهَا الصِّدِّيقُ). والأفعال (أُخِذُوا (١١) وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) ، (وَيُذَبِّحُونَ (١٢) أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ، (وَقَطَّعْناهُمْ (١٣) فِي الْأَرْضِ أُمَماً) ، (وَرَتَّلْناهُ (١٤) تَرْتِيلاً) ، (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ (١٥) تَفْصِيلاً) ، (وَكُلًّا (١٦) تَبَّرْنا تَتْبِيراً) ، (قَدَّرُوها (١٧) تَقْدِيراً).

وأمّا حسن البيان فلتمام العبارة : (كَمْ (١٨) تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ، ولبيان فصل الخصومة والحكومة (إِنَّ يَوْمَ (١٩) الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) ،

__________________

(١) الآية ٣١ سورة النازعات

(٢) الآية ١٥١ سورة الأنعام

(٣) الآية ٧ سورة القصص

(٤) الآية ١٠٧ سورة هود ، والآية ١٦ سورة البروج

(٥) الآية ٨٢ سورة طه

(٦) الآية ٤٦ سورة فصلت

(٧) الآية ٢٣ سورة الحشر

(٨) الآية ١١١ سورة طه

(٩) الآية ٣٤ سورة النساء

(١٠) الآية ٤٦ سورة يوسف

(١١) الآية ٦١ سورة الأحزاب

(١٢) الآية ٦ سورة ابراهيم

(١٣) الآية ١٦٨ سورة الأعراف

(١٤) الآية ٣٢ سورة الفرقان

(١٥) الآية ١٢ سورة الاسراء

(١٦) الآية ٣٩ سورة الفرقان

(١٧) الآية ١٦ سورة الانسان

(١٨) الآية ٢٥ سورة الدخان

(١٩) الآية ١٧ سورة النبأ

٧٢

وللحجّة (١) للقيامة (يُحْيِيهَا (٢) الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، وللنّصيحة والموعظة (يا أَيُّهَا (٣) النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ، ولثبات الإيمان والمعرفة : (كَتَبَ (٤) فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، ولبيان النعت والصّفة (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ودليلا لثبوت الرّسالة (وَسْئَلْ (٥) مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) ، وإظهارا للعلم والحكمة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ، وللرّحمة السّابقة واللاحقة (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) ، وبرهانا على الوحدانيّة والفردانيّة (لَوْ كانَ (٦) فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، وتحقيقا للجنّة والنّار (أُعِدَّتْ (٧) لِلْمُتَّقِينَ) ، (أُعِدَّتْ (٨) لِلْكافِرِينَ) ، وتحقيقا للرّؤية واللّقاء (وُجُوهٌ (٩) يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، وتمهيدا لمصالح الطّهارات (وَأَنْزَلْنا (١٠) مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ، وللصّلاة (أَقِيمُوا (١١) الصَّلاةَ) وللزكاة والصيام والحجّ (وَآتُوا الزَّكاةَ) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ (١٢) الصِّيامُ) ، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ (١٣) حِجُّ الْبَيْتِ) ، وللمعاملات (أَحَلَ (١٤) اللهُ الْبَيْعَ) ، وللصّيانة والعفّة (وَأَنْكِحُوا (١٥) الْأَيامى مِنْكُمْ) ، وللطلاق والفراق بشرط العدّة (فَطَلِّقُوهُنَ (١٦) لِعِدَّتِهِنَّ) ، ولرعاية مصلحة النفوس (وَلَكُمْ فِي (١٧) الْقِصاصِ حَياةٌ)

__________________

(١) أ ، ب : «الحجة القيامة»

(٢) الآية ٧٩ سورة يس

(٣) الآية ٥٧ سورة يونس

(٤) الآية ٢٢ سورة المجادلة

(٥) الآية ٤٥ سورة الزخرف

(٦) الآية ٢٢ سورة الأنبياء

(٧) الآية ١٣٣ سورة آل عمران

(٨) الآية ١٣١ سورة آل عمران

(٩) الآيتان ٢٢ و ٢٣ سورة القيامة

(١٠) الآية ٤٨ سورة الفرقان

(١١) تكرر هذا فى القرآن كالآية ٤٣ سورة البقرة

(١٢) الآية ١٨٣ سورة البقرة

(١٣) الآية ٩٧ سورة آل عمران

(١٤) الآية ٢٧٥ سورة البقرة

(١٥) الآية ٣٢ سورة النور

(١٦) الآية ١ سورة الطلاق

(١٧) الآية ١٧٩ سورة البقرة

٧٣

ولكفّارة النّذور والأيمان (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ (١) عَشَرَةِ مَساكِينَ).

وعلى هذا القياس جميع أحكام الشريعة تأيّدت بالآيات القرآنية

وأمّا الإخبار عمّا كان وعمّا يكون : أمّا المتقدّم فكتخليق العرش ، والكرسىّ ، وحال الحملة والخزنة ، وكيفيّة (٢) اللّوح والقلم ، ووصف السّدرة ، وطوبى ، وسير الكواكب ، ودور الأفلاك ، وحكم النيّرين ، والسّعدين ، والنحسين ، وقران العلويّين والسّفليين ، ورفع السّماء ، وتمهيد الأرض ، وتركيب الطّبائع ، والعناصر ، وترتيب (٣) الأجسام والأجرام ، وحكم المشرق ، والمغرب ، من الأفق الأعلى إلى ما تحت الثرى ممّا كان ، ومما هو كائن ، وممّا سيكون : من أحوال آدم ، وعالمى الجنّ ، والإنس ، والملائكة ، والشياطين. ففى القرآن من كلّ شىء إشارة وعبارة تليق به.

وأمّا المتأخر فكأخبار الموت ، والقبر ، والبعث ، والنشر ، والقيامة ، والحساب ، والعقاب ، والعرض ، والحوض ، والسؤال ، ووزن الأعمال ، والميزان ، والصراط والجنّة ، والنّار ، وأحوال المتنعمين (٤) ، والمعذّبين فى الدركات ، وأحوال المقرّبين فى الدّرجات ، ما بين مجمل ومفصّل ، لا إجمالا يعتريه شكّ ، ولا تفصيلا (٥) يورث كلالة وملالة.

كلّ ذلك على هذا الوجه مذكور فى القرآن ، فلا غرو أن يترقّى هذا الكلام عن إدراك الأفهام ، وتناول (٦) الأوهام ، ويعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته ، ومقابلته (٧).

__________________

(١) الآية ٨٩ سورة المائدة

(٢) أ : «كفاية

(٣) ب : «تركيب»

(٤) ب : «المنعمين»

(٥) أ ، ب : «تفصيل»

(٦) أ : «يتاول» وب : «تاول» والمناسب ما أثبت

(٧) ب : «معاملته»

٧٤

وبلغنى عن الأئمة الرّاسخين ، والعلماء المحققين أنّ الّذى اشتمل عليه القرآن من الدّقائق ، والحقائق ، والمبانى ، والمعانى ، سبعون قسما.

وهى المحكم ، والمتشابه ، والنّاسخ ، والمنسوخ ، والحقيقة ، والمجاز ، والمنع ، والجواز ، والحذف ، والزّيادة ، والبيان ، والكناية ، والمقلوب ، والمستعار ، والإظهار ، والإضمار ، والإيجاز ، والاختصار ، والإخبار ، والاستخبار ، والخاصّ ، والعامّ ، والحدود ، والأحكام ، والتحليل ، والتّحريم ، والسبر ، والتقسيم ، والأمر ، والنّهى ، والجحد ، والنّفى ، والقصص ، والأمثال ، والتفصيل ، والإجمال ، والزّجر ، والتأديب ، والترغيب والترهيب ، والوعد ، والوعيد ، والعطف ، والتوكيد ، والتحكّم ، والتهديد ، والوصف ، والتّشبيه ، والكشف ، والتنبيه ، والتقديم ، والتأخير ، والتأويل ، والتفسير ، والتكرار ، والتقرير ، والتعريض ، والتصريح ، والإشارة. والتلويح ، والتجنيس ، والتقريب ، والتعجيب ، والسؤال ، والجواب ، والدّعاء ، والطّلب ، والبشارة ، والنّذارة ، والفاتحة والخاتمة. ولكلّ قسم من ذلك نظائر وشواهد فى القرآن لا نطوّل بذكرها.

والغرض من ذكر هذا المجمل التّنبيه على أنّ الكلمات القرآنية كلّ كلمة منها بحر لا قعر له ، ولا ساحل ، فأنّى للمعارض الماحل (١).

يحكى أنّ جماعة من أهل اليمامة قدموا على الصّديق الأكبر رضى الله عنه ، فسألهم عن مسيلمة ، وعمّا يدّعيه أنه من الوحى النازل عليه ، فقرءوا عليه منه هذه السّورة (يا ضفدع نقّى نقّى إلى كم (٢) تنقّين ، لا الماء تكدّرين ،

__________________

(١) وصف من المحل وهو الكيد والمكر

(٢) أب : «لم»

٧٥

ولا الطّين تفارقين ولا العذوبة تمنعين) فقال الصّدّيق رضى الله عنه : والله إنّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ (١). ويحكى عن بعض الأشقياء أنه سمع قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ (٢) إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) فقال مستهزئا : انظر إلى (هذا الدّعوى (٣) المعرّى) عن المعنى (٤). الّذى يدّعيه محمّد يأتينا به المعول (٥) والفئوس. فانشقت فى الحال حدقتاه ، وتضمخت (٦) بدم عينيه خدّاه ، ونودى من أعلاه ، قل للمعول والفئوس ، يأتيان (٧) بماء عينيك.

وذكر أنّ بعض البلغاء قصد معارضة القرآن ، وكان ينظر فى سورة هود ، إلى أن وصل إلى قوله تعالى : (يا أَرْضُ (٨) ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) الآية فانشقّت مرارته من هيبة هذا الخطاب ، ومات من حينه. ودخل الوليد بن عقبة (٩) على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال يا محمد اقرأ علىّ شيئا ممّا أنزل عليك فقرأ قوله تعالى : (إِنَ (١٠) اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية فقال الوليد : إنّ لهذا الكلام لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّ أعلاه لمثمر ،

__________________

(١) الال يطلق على الله سبحانه أى لم يأت من قبل الله ، ويعبر عن هذا ابن الاثير فى النهاية بقوله : أى لم يخرج من ربوبية. ويقول ابن الأثير أيضا : «وقيل : الال هو الأصل الجيد أى لم يجىء من الأصل الذى جاء منه القرآن ، وقيل : الال : النسب والقرابة ، فيكون المعنى أن هذا كلام غير صادر عن مناسبة الحق

(٢) الآية ٣٠ سورة الملك

(٣) كذا. والدعوى مؤنثة فالواجب : «هذه الدعوى المعراة» فاما أن يذهب بالدعوى مذهب الادعاء ، وهو مذكر ، أو أنه حكى القول كما صدر من بعض الأشقياء

(٤) أ : «المعين»

(٥) أ : «المعين» وهو اسم فاعل من أعان

(٦) ب : «تصرحت» وهو محرف عن «تضرجت»

(٧) كذا ، ولو أريد أن يكون جوابا للأمر لقال : يأتيا. وكل صحيح.

(٨) الآية ٤٤ سورة هود

(٩) كذا. والصواب : «المغيرة» فان الوليد بن عقبة صحابى متأخر. وانظر تفسير القرطبى ١٠ / ١٦٥

(١٠) الآية ٩٠ سورة النحل

٧٦

وإنّ لى فيه نظرا ، ولا يقول مثل هذا بشر. و (١) فى الآثار أنه ما نزلت من السّماء آية إلّا سمع من السّماء صلصلة كسلسلة جرّت فى زجاجة ، ولم يبق فى السّماء ملك مقرّب إلّا خرّوا لله ساجدين. وأغمى على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثقل برحاء (٢) الوحى. وكان إذا سرّى عنه ارتعدت مفاصله فرقا ، وتصبّب وجهه عرقا.

فهذا طرف ممّا ذكر فى إعجاز لفظ القرآن.

__________________

(١) سقط هذا الحرف فى ب

(٢) أى شدته

٧٧

الفصل الثالث

فى شرح كلمات لا بدّ من معرفتها قبل الخوض فى شرح وجوه التّفسير

اعلم أنّ الكلمات الّتى يحتاج إلى معرفتها فى مقدّمة هذا النّوع من العلم خمسة (١) عشر كلمة. وهى التأويل ، والتفسير ، والمعنى ، والتّنزيل ، والوحى ، والكلام ، والقول ، والكتاب ، والفرقان ، والقرآن ، والسّورة ، والآية ، والكلمة ، والمصحف ، والحرف.

أمّا التفسير فمن (٢) طريق اللغة : الإيضاح والتّبيين. يقال : فسّرت الحديث أى بيّنته وأوضحته. واختلف فى اشتقاقه.

فقيل : من لفظ التفسرة (٣) ، وهو نظر الطبيب فى البول لكشف العلّة والدواء ، واستخراج ذلك. فكذلك المفسّر ينظر فى الآية لاستخراج حكمها ومعناها.

وقيل : اشتقاقه (٤) من قول العرب : فسرت (٥) الفرس وفسّرته أى أجريته وأعديته إذا كان به حصر (٦) ، ليستطلق بطنه. وكأن المفسّر يجرى فرس فكره فى ميادين المعانى ليستخرج شرح الآية ، ويحلّ عقد إشكالها.

__________________

(١) كذا. والواجب فى العربية : «خمس عشرة»

(٢) أ ، ب : «فى» وقد أثبته كما رأيت وفقا لما يأتى فى الكلام على المعنى

(٣) أ : «التفسير» خطأ من الناسخ

(٤) ب : «هو اشتقاقه»

(٥) هذا رأى ابن الانبارى. وانظر البرهان ٢ / ١٤٧

(٦) هو احتباس الغائط ونحوه فى البطن لا يخرج

٧٨

وقيل : هو (١) مأخوذ من مقلوبه. تقول العرب : سفرت المرأة إذا كشفت قناعها عن وجهها ، وسفرت البيت إذ كنسته (٢) ويقال للسّفر سفر لأنه يسفر ويكشف عن أخلاق الرجال. ويقال للسّفرة سفرة لأنها تسفر فيظهر ما فيها ؛ قال تعالى : (وَالصُّبْحِ (٣) إِذا أَسْفَرَ) أى أضاء. فعلى هذا يكون أصل التفسير التسفير على قياس صعق وصقع ، وجذب وجبذ ، وما أطيبه وأيطبه ، ونظائره ؛ ونقلوه من الثلاثىّ الى باب التفعيل للمبالغة. وكأنّ المفسّر (٤) يتتبع (٥) سورة سورة ، وآية آية ، وكلمة كلمة ، لاستخراج المعنى. وحقيقته كشف المتغلق من المراد بلفظه (٦) ، وإطلاق المحتبس عن الفهم به.

وأمّا التأويل فصرف معنى الآية بوجه (٧) تحتمله الآية ، ويكون موافقا لما قبله ، ملائما لما بعده. واشتقاقه من الأوّل وهو الرّجوع. فيكون التأويل بيان الشيء الّذى يرجع إليه معنى الآية ومقصودها.

وقيل التأويل إبداء عاقبة الشىء. واشتقاقه من المآل بمعنى المرجع والعاقبة. فتأويل الآية ما تئول إليه من معنى وعاقبة. وقيل : اشتقاقه من لفظ الأوّل. وهو صرف الكلام إلى أوّله. وهذان القولان متقاربان. ولهذا قيل : أوّل غرض الحكيم آخر فعله.

__________________

(١) ب : «ما هو»

(٢) أ : لبسه ب : لبنته» وكلاهما تصحيف

(٣) الآية ٣٤ سورة المدثر

(٤) ب : «التفسير»

(٥) أ : «سبع» تصحيف وب : «تسفر» وصوابه : «يسفر»

(٦) ب : «بلفظ»

(٧) كذا فى أب : والاولى «لوجه»

٧٩

وقيل اشتقاقه من الإيالة بمعنى السياسة. تقول العرب : (ألنا (١) وإيل علينا) أى سسنا وسيس علينا ، أى ساسنا غيرنا. وعلى هذا يكون معنى التأويل أن يسلّط المؤوّل ذهنه وفكره على تتبّع سرّ الكلام إلى أن يظهر مقصود الكلام ، ويتّضح مراد المتكلّم.

والفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير هو البحث عن سبب نزول الآية ، والخوض فى بيان موضع (٢) الكلمة ، من حيث اللغة. والتأويل هو التفحّص عن أسرار الآيات ، والكلمات ، وتعيين أحد احتمالات الآية. وهذا إنّما يكون فى الآيات المحتملة لوجوه مختلفة ، نحو (وَأَسْبَغَ (٣) عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) وكقوله : (فَمِنْهُمْ (٤) ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ، وكقوله : (وَالشَّفْعِ (٥) وَالْوَتْرِ) ، وكقوله : (وَشاهِدٍ (٦) وَمَشْهُودٍ) فإن هذه الآيات ونظائرها تحتمل معانى مختلفة ، فإذا تعيّن عند المؤوّل أحدها ، وترجّح ، فيقال حينئذ : إنّه أوّل الآية.

وأمّا المعنى فمن طريق اللغة : المقصد. يقال : عناه يعنيه أى أراده وقصده. فيكون معنى الآية : ما به يظهر حكمة الحكيم فى نزول الآية. ويكون قصد (٧) من يروم سرّ الآية إلى خمسة (٨).

وقيل اشتقاق المعنى من العناية ، وهى الاهتمام بالأمر ، يقال : فلان

__________________

(١) أ ، ب : «التأويل» والتصحيح من مفردات الراغب فى (أول)

(٢) أ : «موضوع»

(٣) الآية ٢٠ سورة لقمان

(٤) الآية ٣٢ سورة فاطر

(٥) الآية ٣ سورة الفجر

(٦) الآية ٣ سورة البروج

(٧) سقط فى ب

(٨) كذا فى أ ، ب ولا معنى له هنا. والظاهر أنه محرف عن «فهمه» أو «محنته» أى اختباره وكشقه ففى التاج عن الأزهرى «معنى كل شىء محنته وحاله التى يصير إليها أمره»

٨٠