الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

أمّا الجهة الثالثة : فالبحث فيها على تقدير التنزّل والقول بأنّ الترخيص في جميع الأطراف من الشارع لا محذور فيه ، وإلّا لا موضوع للبحث عنها أصلا.

وكيف كان فقد ادّعى الشيخ (١) ـ قدس‌سره ـ عدم شمول أدلّة الأصول لموارد العلم الإجمالي ، نظرا إلى أنّ صدر بعض الروايات الواردة في الباب معارض مع الذيل ، كما في «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام» (٢) فإنّ الصدر ـ وهو «كلّ شيء لك حلال» ـ مطلق شامل للمشكوك المقرون بالعلم الإجمالي وغيره ، وهكذا الذيل ـ وهو «حتى تعرف أنّه حرام» ـ مطلق شامل للعلم التفصيليّ والإجمالي ، فتقع المعارضة بينهما ، ويسقط الدليل عن الحجّيّة في مورد المعارضة.

وأمّا توهّم أنّ لفظ «بعينه» في بعض (٣) الروايات قرينة على أنّ المراد بالعلم هو العلم التفصيليّ فلا معارضة ، ففاسد ، إذ التقييد بلفظ «بعينه» يصحّ في مورد العلم الإجمالي أيضا تأكيدا للمعلوم بالإجمال ، كما يقال : «إناء زيد بعينه نجس» مع أنّه مردّد بين إناءين ، فقوله : «حتى تعرف أنّه حرام بعينه» لا ظهور له في العلم التفصيليّ ، ولفظ «بعينه» لا يصلح لأن يكون قرينة على ذلك ، بل تأكيد للمعلوم مطلقا بالإجمال أو بالتفصيل.

وهذا الّذي أفاده ـ قدس‌سره ـ غير تامّ ، فإنّ ظاهر قوله : «حتى تعرف أنّه حرام» و «لكن ينقضه بيقين آخر» (٤) أو «يعلم أنّه قذر» (٥) أنّ الغاية هي العلم بالخلاف ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٤١.

(٢ و ٣) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٤) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٥) الكافي ٣ : ١ ـ ٢ و ٣ ، التهذيب ١ : ٢١٥ ـ ٦١٩ ، الوسائل ١ : ١٣٤ ، الباب ١ من أبواب ـ

٨١

المتعلّق بما تعلّق به العلم الأوّل ، وأنّ الناقض هو اليقين المناقض ، المتعلّق بما تعلّق به اليقين الأوّل ، لا العلم بعنوان أحدهما واليقين بنجاسة المتيقّن طهارته أو شيء آخر مثلا ، فلا ريب في أنّ الذيل أيّا ما كان ـ سواء كان عنوان العلم أو العرفان أو اليقين ـ ظاهر في العلم التفصيليّ ، ولا يشمل العلم الإجمالي ، فلا معارضة.

هذا ، مضافا إلى أنّ قوله عليه‌السلام في بعض الروايات : «حتى تعرف الحرام منه بعينه» (١) كالصريح في أنّ لفظ «بعينه» قيد للحرام ، وأنّ المحرّم المعلوم لا بدّ وأن يكون معيّنا غير مردّد بين أمرين أو أزيد ، لا أنّه تأكيد للمعلوم حتى يقال : إنّه يصدق على المعلوم بالإجمال أنّه حرام بعينه.

هذا ، مع أنّ لازمه عدم جريان الأصول في موارد الشبهات غير المحصورة وما يكون بعض أطرافه خارجا عن محلّ الابتلاء من الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، إذ مقتضى معارضة الصدر والذيل وعدم شمول الأدلّة الموارد العلم الإجمالي هو : عدم الجريان حتى فيما ذكر ، فلا بدّ أن يلتزم ـ قدس‌سره ـ بأنّ استصحاب حياة المقلّد فيما إذا مات أحد وتردّد أمره بين ذلك المقلّد وبين تاجر خارج عن محلّ الابتلاء أو بين أشخاص أخر غير المحصورة غير جائز مع أنّه لا يلتزم به أحد لا هو ـ قدس‌سره ـ ولا غيره.

وبالجملة ، لو قلنا بانحفاظ رتبة الحكم الظاهري في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي في مقام الثبوت ، لا مانع من شمول أدلّة الأصول إيّاها في مقام

__________________

ـ الماء المطلق ، الحديث ٥.

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣٩ ، و ٦ : ٣٣٩ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٨ و ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ ، و ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

٨٢

الإثبات ، ولكنّك عرفت عدم انحفاظها فيها ، وعدم إمكان الترخيص في جميع الأطراف عقلا ، فأدلّة الأصول مخصّصة بغير الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي عقلا ، لا أنّها قاصرة عن الشمول لها من دون أن تكون مخصّصة عقلا.

هذا تمام الكلام في الحيثيّة الثالثة ـ أي : حرمة المخالفة القطعيّة ـ بمقدار يناسب المقام.

وأمّا الحيثيّة الأولى ـ وهي كفاية الامتثال الإجمالي وعدمها ـ فتفصيلها في بحث البراءة والاشتغال.

ومجمل القول فيها أنّه لا ينبغي الشكّ في حسن الاحتياط وكفاية الامتثال الإجمالي مع عدم التمكّن من الامتثال التفصيليّ سواء كان في التعبّديات أو التوصّليّات كان مستلزما للتكرار أم لم يكن ، وهكذا لا ريب في حسنه في التوصّليّات مطلقا كان متمكّنا من الامتثال التفصيليّ أم لم يكن ، لأنّ المفروض أنّ الغرض تعلّق بمطلق وجود المأمور به في الخارج ، فإذا أتى المكلّف بما علم وجود المأمور به في ضمنه من الأفراد ، فقد أتى بالمأمور به ، وحصل غرض المولى بذلك.

هذا ، وربما يستشكل في خصوص العقود والإيقاعات من جهة أنّ ترتّب الأثر عليها متوقّف على قصد الإنشاء ، ومع الشكّ في ترتّب الأثر لا يتحقّق قصد الإنشاء ، فلا يحسن الاحتياط فيها.

وهذا الإشكال بمعزل عن التحقيق ، فإنّ قصد الإنشاء يتحقّق مع العلم بعدم إمضاء الشارع فكيف مع الشكّ!؟ والبائع يعتبر الملكيّة بقوله : «بعت» كان هذا الاعتبار موردا لإمضاء الشارع أو لم يكن ، فقصد الإنشاء ممكن على كلّ حال ، ولا ربط له بترتّب الأثر الشرعي عليه وعدمه ، ولذا ترى أنّ الكفّارة يعاملون ويعتبرون ملكيّة الخمر والخنزير قاصدين في ذلك مع علمهم بعدم

٨٣

إمضاء الشارع معاملاتهم هذه وعدم ترتّب الأثر الشرعي عليها.

وأمّا في التعبّديّات : فالكلام يقع في مقامين :

الأوّل : فيما لا يحتاج إلى التكرار.

والثاني : فيما يحتاج إليه. وفي كلّ من المقامين يبحث في أمرين :

الأوّل : في العبادات النفسيّة.

والثاني : في العبادات الضمنيّة.

أمّا الأمر الأوّل من المقام الأوّل ـ وهو العبادات النفسيّة فيما لا يحتاج إلى التكرار ـ فإن لم يكن الشكّ منجّزا للتكليف بأنّ كانت الشبهة موضوعيّة مطلقا ، أو كانت حكميّة بعد الفحص ، فلا ينبغي الريب أيضا في حسن الاحتياط وتحقّق الامتثال بالإتيان برجاء المطلوبيّة واحتمالها ولو مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ ، بل هو من أعلى مراتب العبوديّة.

نعم هو موجب للإخلال بقصد الوجه ، ولكن لا دليل على اعتباره وإن ادّعي عليه الإجماع وأفتى به جماعة ، ولعلّ مستندهم هو العقل ، وهو لا يحكم إلّا بوجوب الإطاعة والإتيان بما أمر به المولى ، وعدم وجدان دليل نقلي ـ مع كثرة الابتلاء ـ عليه أقوى دليل على عدم الوجود.

وإن كان الشكّ منجّزا للتكليف ، فإن كان في خصوص التكليف الإلزاميّ مع معلوميّة أصل المطلوبيّة ـ كما في الدعاء عند رؤية الهلال ـ فهو أيضا كذلك يحسن الاحتياط ولو قبل الفحص ومع التمكّن منه ، أي من الامتثال التفصيليّ.

وإن لم يكن كذلك ، بل كان منجّزا للتكليف لو كان موجودا واقعا ، كما في الشبهة الحكميّة قبل الفحص ، فقد وقع الخلاف بين صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ قدس‌سرهما ، فذهب صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ إلى جواز الاحتياط وتحقّق الامتثال لو صادف الواقع من جهة أنّ الامتثال يتحقّق بأمرين : وجود المأمور به

٨٤

والمفروض أنّه أتى به ، وقصد القربة وقد تحقّق بالإتيان بداعي احتمال المطلوبية (١).

واستشكل عليه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّ الحاكم في باب الطاعة حيث إنّه هو العقل وهو إنّما يحكم بحسن الاحتياط وكفاية التحرّك باحتمال الأمر مع عدم التمكّن من الامتثال التفصيليّ ، والتحرّك بنفس تحريك المولى والانبعاث يبعثه ، فالإتيان بداعي احتمال الأمر ورجاء المطلوبيّة امتثال في طول الإتيان بداعي الأمر المعلوم ، والتحرّك بتحريك المولى بحكم العقل ، فلا يحسن الاحتياط قبل الفحص.

وعلى تقدير الشكّ وعدم استكشاف ذلك من العقل فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال لا البراءة ، إذ الشكّ ليس في أمر مجعول شرعا حتى يرفع بحديث الرفع ، بل الشكّ في موضوع حكم العقل ، وأنّه هل هذه العبادة المأتيّة بهذه الكيفيّة ممّا يراه العقل طاعة ، ولا يعتبر أمر آخر في كونها مصداقا للطاعة العقليّة أو لا؟ ومن المعلوم أنّه لا بدّ من إحراز ذلك ، فالقاعدة تقتضي لزوم الفحص والإتيان بقصد الأمر على تقدير الوصول والظفر بالتكليف ، وباحتمال الأمر على تقدير عدم الظفر (٢).

هذا ، والحقّ ما أفاده صاحب الكفاية من حسن الاحتياط وكفاية الامتثال الإجمالي ولو مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ ، وذلك لأنّا لا نشكّ أوّلا في عدم اعتبار التحرّك بتحريك المولى وقصد أمره في مقام الامتثال ، إذ حكم العقل بوجوب الطاعة ـ الّذي مرجعه إلى إدراك العقل استحقاق العقاب على ترك المأمور به ـ لا يقتضي إلّا وجوب إتيان المأمور به ، سواء كان تعبّديّا أو

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٤ ـ ٤٦.

٨٥

توصّليّا ، وأمّا أنّ المأمور به أيّ شيء هو فلا ربط له بالعقل ، وقد مرّ في بحث التعبّدي والتوصّلي أنّ المستفاد من الروايات الواردة في باب اعتبار النيّة في العبادات أنّ الفعل لا بدّ وأن يكون بنيّة صالحة ، مضافا إلى الله تبارك وتعالى ، لا رياء ولا بداع آخر من الدواعي السيّئة أو ما لا تكون صالحة ولا سيّئة ، وهذه الإضافة كافية في تحقّق القربة المعتبرة في العبادة في ضمن أيّ داع من الدواعي تحقّقت ، ومن الظاهر أنّه بالإتيان بداعي احتمال المطلوبيّة ورجائها تتحقّق هذه الإضافة.

وثانيا على فرض الشكّ يكون الموارد مورد البراءة لا الاشتغال ، إذ الشكّ في اعتبار أمر زائد على هذه الإضافة شرعا ، وقد مرّ إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به ومتعلّقه وفي متعلّق الأمر الثاني ، فلو كان بخصوصه ممّا له دخل في المأمور به فلا بدّ من بيانه ، ومع عدمه يحكم بعدم اعتباره بمقتضى أدلّة البراءة.

والحاصل : أنّ قصد الأمر وتوابعه (١) مأخوذ من الشارع ، ومع الشكّ فيه يرفع بحديث الرفع.

وأمّا الأمر الثاني من المقام الأوّل ـ وهو البحث عن العبادات الضمنيّة التي لا تحتاج إلى التكرار ـ فالشكّ فيه أيضا إمّا في جهة الطلب من الوجوب أو الاستحباب مع معلوميّة أصل الطلب ، كما إذا شكّ في أنّ السورة هل هي واجبة في الصلاة أو مستحبّة؟ ولا شبهة في جواز الاحتياط وكفاية الامتثال الإجمالي مع التمكّن من التفصيليّ منه.

والظاهر أنّ من استشكل في ذلك في العبادات النفسيّة من جهة قصد الأمر لا يستشكل في الضمنيّة من العبادات ، فإنّ قصد الوجه اعتباره إمّا من جهة

__________________

(١) أي : توابع الأمر.

٨٦

الإجماع ، وهو مفقود فيهما لو لم يكن إجماع على خلافه ، أو من جهة أنّ العمل لا يتّصف بالحسن إلّا إذا قصد جهة حسنة وأتي بقصدها أو أتي بقصد عنوان إجمالي مشير إليهما إجمالا ، كعنوان الصلاة والصوم وغيرهما ، وهي ـ على تقدير تماميّتها ـ تختصّ بنفس العبادة لا أجزائها ، فإنّ كلّ جزء ليس فيه جهة حسن غير الجهة التي تكون في نفس العمل حتى يلزم على هذا القول إتيان الجزء بقصدها ، بل قصد عنوان العمل ـ المشير إلى الجهة التي تكون في العمل ـ كاف في وقوع الأجزاء على وجهها.

وإمّا في أصل المطلوبيّة ، كما إذا شكّ في أنّ السورة هل هي مأمور بها في الصلاة أم لا؟

ولا بدّ من فرض الكلام فيما لم يكن احتمال الحرمة ـ بمعنى المبطليّة ـ في البين بأن شكّ في أنّ السورة هل هي مأمور بها أو مبطلة للصلاة؟ إذ هو داخل في المقام الثاني ، وخارج عن الفرض ، وهو ما لا يكون مستلزما للتكرار.

فذهب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ إلى حسن الاحتياط فيه بدعوى أنّ إتيان العمل حيث إنّه بداعي الأمر المعلوم فتتحقّق الإطاعة اليقينيّة لو أتي بالجزء المشكوك ، ولا يضرّ كون الجزء مشكوكا في كون نفس العمل مأتيّا به بداعي الأمر القطعي المتعلّق به ، وتحرّك العبد وانبعاثه بتحريك المولى وبعثه القطعي لا الاحتمالي ، فالامتثال الإجمالي وإن كان في طول الامتثال التفصيليّ في العبادات النفسيّة لكنّه في العبادات الضمنيّة في عرضه (١).

والحقّ أنّه لا فرق بين المقامين ، ونفس العمل وأجزاؤه مشتركان في ذلك ملاكا ، فإن قلنا بأنّ امتثال نفس العمل إجمالا في طول امتثاله التفصيليّ ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤.

٨٧

فلا بدّ من القول به في الأجزاء أيضا ، إذ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء ، وهي بعينها هو المركّب ، ولذا قلنا في بحث مقدّمة الواجب : إنّ وجوب الأجزاء ليس وجوبا غيريّا ، بل هي مأمور بها بعين الأمر المتعلّق بالمركّب ، فلو اعتبر الإطاعة اليقينيّة في نفس العمل ـ الّذي هو عين الأجزاء ـ فلا بدّ من الاعتبار فيها أيضا بحيث لو سألنا المصلّي عن كلّ جزء يأتي به وقلنا : لما ذا تأتي به؟ يجيبنا بأنّه مأمور به ، ولا يبقى متحيّرا ، فعلى هذا لا يكفي الإتيان بالجزء المشكوك رجاء وباحتمال المطلوبيّة ، والفرق تحكّم.

وقد عرفت بطلان أصل المبنى ، وأنّ الإطاعة لا بدّ فيها من أمرين ، وجود المأمور به الواقعي في الخارج ، وكونه مضافا إلى الله تعالى ، وكلاهما موجود في الإطاعة الاحتمالية. فالصحيح هو القول بالاكتفاء في هذا الفرض أيضا. هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني ـ أي ما يحتاج إلى التكرار من العبادات ـ فهل يحسن فيه الاحتياط أو لا؟ وقد ذكرنا أنّ البحث فيه من جهتين :

الأولى : في العبادات النفسيّة.

والثانية : في العبادات الضمنيّة.

أمّا الجهة الأولى : فقد ذكر في وجه المنع وجهان :

الأوّل : ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، وهو : أنّ التكرار عبث ولغو ، وما يكون لغوا وعبثا لا يقع على صفة المقرّبيّة (١).

وأفاد في الكفاية في جوابه وجهين :

الأوّل : أنّ التكرار لا يكون مطلقا عبثا ، بل ربما يكون بداع عقلائي ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٥.

٨٨

فالدليل أخصّ من المدّعى.

الثاني : أنّ العبثيّة واللغويّة إنّما تكون في طريق الامتثال لا في نفس الامتثال ، فإنّ إحدى الصلوات مثلا تقع في الخارج مطابقة للمأمور به ، وهي مأتيّ بها بالداعي الإلهي ، ولا تكون لغوا وعبثا ، وإنّما اللغو هي الصلوات المتقدّمة عليها أو المتأخّرة عنها.

وبعبارة أخرى : اللغوية إنّما تكون في تحصيل القطع بالامتثال لا في نفس الامتثال ، والأفعال المتقدّمة والمتأخّرة مقدّمات علميّة للمأمور به لا وجوديّة (١).

والصحيح هو الجواب الثاني لا الأوّل ، فإنّ التكرار وإن كان ـ كما أفاده ـ قد لا يكون عبثا ويكون بداع عقلائي إلّا أنّ مجرّد كون الداعي عقلائيّا لا يرفع الإشكال ، فإنّ التكرار إن كان منافيا لقصد القربة وموجبا لعدم تحقّق الداعي الإلهي في المأمور به ، فتبطل العبادة به ، سواء كان بداع عقلائي أو سفهائي ، وإن لم يكن كذلك ، فتصحّ العبادة مطلقا ، كان التكرار لغوا أو لم يكن.

فظهر أنّ الحقّ في الجواب هو الجواب الثاني ، وأنّ التكرار على تقدير كونه عبثا ولغوا لا يستلزم اللغويّة والعبثيّة في المأمور به ، بل هي في طريق الامتثال وفيما تقدّم على المأمور به وتأخّر عنه لا في نفس المأمور به.

والوجه الثاني : ما أفاده شيخنا الأستاذ سابقا فيما لم يكن مستلزما للتكرار من أنّ الإطاعة حيث إنّها ممّا يحكم بها العقل ، وهو لا يرى الإطاعة الاحتماليّة في عرض الإطاعة القطعيّة ، فإتيان الصلوات المتعدّدة ـ التي يؤتي بكلّ واحدة منها بداعي احتمال الأمر مع التمكّن مع الامتثال القطعي ـ غير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٦.

٨٩

جائز ، فإنّه ليس من الإطاعة في نظر العقل (١).

والجواب عمّا أفاده ـ مضافا إلى ما سبق من القطع بأنّ العقل لا يفرّق بين الأمرين ولا يرى أمرا زائدا على إتيان الفعل مضافا إلى الله تعالى بأيّ إضافة كانت في تحقّق الإطاعة وأنّ [الأصل] ـ على فرضه ـ هو البراءة ـ : أنّ الامتثال في المقام قطعي ، فإنّ المكلّف يعلم بوجوب الصلاة ، ويأتي بها بداعي نفس الأمر لا احتماله ، غاية الأمر أنّه لا يميّز الواجب عن غيره ولا يدري أنّه هو التمام أو القصر ، والتمييز غير معتبر في تحقّق الإطاعة والقربة قطعا.

نعم ، لو كان قاصدا للاقتصار على إحدى الصلاتين ، فيكون الامتثال احتماليّا ، وهو أمر آخر. وقد نبّه عليه الشيخ ـ قدس‌سره ـ في بعض تنبيهات الاشتغال والتزم بعدم جواز الاكتفاء على تقدير مصادفة الواقع (٢). ووافقه عليه شيخنا الأستاذ (٣).

والحقّ هو جواز الاكتفاء فيه أيضا ، لما ذكرنا من أنّه إتيان للفعل مضافا إلى الله ، وهو كاف في تحقّق الطاعة عقلا. هذا في الجهة الأولى.

وأمّا الجهة الثانية : فإن قلنا بجواز الاحتياط في العبادات النفسيّة ، فلا ينبغي الإشكال فيها ـ أي في العبادات الضمنيّة ـ أيضا ، ففي دوران أمر القراءة بين وجوب الجهر ووجوب الإخفات ، يأتي المصلّي بصلاة واحدة ويقرأ فيها قراءتين : إحداهما جهرا والأخرى إخفاتا بداعي جزئيّة ما يكون في الواقع جزءا وقراءة القرآن في الآخر.

وإن لم نقل بجواز الاحتياط فيها وقلنا بأنّ الامتثال الاحتمالي في طول

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) فرائد الأصول : ٢٧٠.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٣.

٩٠

الامتثال القطعي ، فلا بدّ من القول به في المقام أيضا بلا فرق بين المقامين.

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ مع أنّه بنى على كون الامتثال الاحتمالي في طول القطعي منه وعدم جواز الاحتياط في العبادات المستقلّة ـ التزم بجواز الاحتياط في العبادات الضمنيّة ، لما أفاده في المقام الأوّل من أنّ الامتثال فيها قطعي ، للعلم بوجود الأمر وتعلّقه بالمركّب قطعا (١).

وقد عرفت ما فيه من أنّ الأمر بالمركّب ينحلّ إلى الأجزاء ، فكلّ جزء لا بدّ من الإتيان به بداعي نفس الأمر لا احتماله على هذا القول.

وبالجملة لا فرق بين الواجبات النفسيّة والضمنيّة ، فإن قلنا بلزوم الامتثال التفصيليّ مع التمكّن منه وعدم جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي والاحتمالي ، فلا يجوز الاحتياط في كلتيهما ، وإلّا يجوز فيهما. هذا كلّه في الامتثال القطعي.

أمّا الامتثال الظنّي فإنّ كان الظنّ ظنّا خاصّا اعتبره الشارع وجعله علما تعبّديّا ، فحاله حال العلم الوجداني بجميع أحكامه.

نعم ، هناك فرق واحد في البين ، وهو حسن الاحتياط عقلا في الظنّ الخاصّ ، بل هو من أرقى مراتب العبودية ، فيأتي الصلاة قصرا إذا قامت أمارة معتبرة على لزوم القصر في مورد ، ويأتي بالتمام برجاء المطلوبية واحتمال عدم إصابة الأمارة للواقع ، وهذا بخلاف ما علم وجدانا بوجوب القصر ، فإنّه لا يعقل تحقّق القربة في صلاة التمام.

وهل يقدّم القصر ـ في الفرض ـ على التمام ، أو يجوز تقديم التمام أيضا؟ قولان مبنيّان على الخلاف السابق من كون الامتثال الاحتمالي في عرض القطعي أو في طوله؟ ولذا احتاط بعض (٢) في حاشيته على نجاة العباد بالجمع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤.

(٢) الظاهر هو السيد إسماعيل الصدر ، راجع نجاة العباد : ١٧٦.

٩١

بين القصر والإتمام وتقديم القصر لمن سافر إلى أربع فراسخ ولم يرجع ليومه. وبعض آخر عكس ، فقال بالاحتياط وتقديم التمام ، فمن ترجّح في نظره القصر ، قال بالأوّل ، ومن ترجّح في نظره الإتمام ، قال بالثاني.

وممّا ذكرنا يظهر جواز كلّ منهما والإتيان كيف شاء مع أنّه على كلّ تقدير إتيان القصر بداعي نفس الأمر وإتيان التمام بداعي احتمال الأمر مع رجحان القصر ، وبالعكس مع رجحان التمام سواء تقدّم الراجح على المرجوح أم تأخّر ، وليس من باب الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن من التفصيليّ حتى يقال : إنّه غير جائز.

وإن كان الظنّ ظنّا ثبتت حجّيّته بدليل الانسداد ، فعلى تقدير الكشف ـ بأن تكون إحدى مقدّمات دليل الانسداد هو بطلان الاحتياط من جهة لزوم الجزم بالنيّة في مقام الامتثال بتقريب أنّ العقل بعد ثبوته التكاليف الواقعيّة قطعا ، وعدم حجّيّة الطرق والأمارات على الفرض ، ولزوم الجزم بالنيّة والإتيان بداعي نفس الأمر لا احتماله يكشف عن أنّ الشارع جعل لنا طريقا إلى تلك التكاليف ، إذ لا يعقل عدم جعله الطريق إليها وتكليفه بالجزم بالنيّة والإتيان بداعي نفس الأمر ، فإنّه تكليف بما لا يطاق ، وهذا الطريق بالسبر والتقسيم منحصر في الظنّ ، فإنّه أقرب إلى الواقع بعد تعذّر العلم ـ يكون حال الظنّ المطلق بهذا المعنى حال الظنّ الخاصّ بلا تفاوت بينهما ، بل هو أيضا ظنّ خاصّ في الحقيقة ، وتسميته بالظنّ المطلق مجرّد اصطلاح ، إذ هذا الظنّ على هذا حجّة من قبل الشارع وعلم في نظره كالظنّ الخاصّ ، غاية الأمر أنّ الكاشف عن الحجّيّة في الظنّ الخاصّ هو آية النبأ مثلا ، وفي الظنّ المطلق ـ على الكشف ـ هو العقل.

ومما ذكرنا ظهر أنّ بطلان الاحتياط لا بدّ أن يكون من هذه الجهة ـ أي :

٩٢

لزوم الجزم بالنيّة ـ لا من جهة لزوم العسر المخلّ بالنظام ، إذ مقتضاه ليس إلّا بطلان الاحتياط الكلّي ، أمّا الاحتياط في بعض الشبهات بمقدار لا يستلزم العسر المخلّ بالنظام فلا ، ومع عدم ثبوت بطلان الاحتياط في جميع الموارد وكلّيّا لا تنتج مقدّمات دليل الانسداد الكشف ، وتفصيل الكلام في محلّه.

وعلى تقدير الحكومة ـ بأن كانت إحدى مقدّماته هو عدم وجوب الاحتياط لا بطلانه بتقريب أنّ العقل بعد عدم وجوب الاحتياط في جميع الشبهات من جهة لزوم العسر ، وثبوت التكاليف الواقعية غير المعلومة لنا يضيّق دائرة الاحتياط في مقام الامتثال ، ويحكم بوجوب الاحتياط بمقدار لا يستلزم العسر ، وهو الاحتياط في المظنونات فقط دون المشكوكات والموهومات ، فالظنّ واجب الاتّباع من باب وجوب الاحتياط فيه خاصّة ، وليس فيه كاشفيّة عن الواقع لا بحكم الشرع ولا بحكم العقل ، فالتعبير عنه بالحجّة مسامحة واضحة ـ فلا محالة يكون الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال الظنّي بحكم العقل ، فللمكلّف اختيار أيّ منهما شاء.

وظهر ممّا ذكرنا أنّ تعجّب الشيخ (١) قدس‌سره ـ من ذهاب المحقّق القمّي إلى كون الامتثال الإجمالي في طول الامتثال الظنّي مع أنّه قائل بحجّيّته من باب الانسداد (٢) ـ في غير محلّه ، لأنّه قائل بالكشف (٣) ، فالأمر كما أفاده ـ قدس‌سره ـ بناء على اعتبار الجزم في النيّة ، الّذي هو مبنى الكشف.

هذا كلّه في العبادات النفسيّة ، وبها يظهر الحال في الجهة الثانية ، وهي العبادات الضمنيّة التي تحتاج إلى التكرار ، فلا نعيده.

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٥.

(٢) قوانين الأصول ١ : ٤٣٩ وما بعدها و ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٣) قوانين الأصول ١ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

٩٣

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ الاحتياط جائز وحسن في التوصّليّات والتعبّديّات مطلقا ، سواء كان مستلزما للتكرار أو لا ، وسواء كان في العبادات المستقلّة أو غيرها ، وأنّه في عرض الامتثال التفصيليّ العلمي فضلا عن الظنّي بالظنّ الخاصّ أو الانسدادي على تقدير الكشف أو الحكومة.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالقطع بمقدار يناسب المقام. وبعد ذلك يقع الكلام في أصل المقصد ، وهو بيان الأمارات الظنّيّة.

وينبغي التنبيه على أمور (١) :

الأوّل : أنّه لا ريب في أنّ الظنّ ليس كالقطع في كون الحجّيّة من لوازمه الذاتيّة ، ولا يكون فيه اقتضاء الحجّيّة أيضا لا في مرحلة ثبوت التكليف به ولا في مرحلة سقوطه به ، بل ثبوتها له لا بدّ له من جعل شرعيّ بأن يعطي الشارع له صفة الحجّيّة ، ولا يمكن ثبوت الحجّيّة له ـ بعد ما لم يكن بحسب ذاته علّة ولا مقتضيا لها ـ بطروّ الحالات وثبوت مقدّمات بحيث تكون موجبة لاقتضائه الحجّيّة ذاتا ، كما يظهر من صاحب الكفاية (٢) ، ضرورة أنّ الذاتي غير قابل للانفكاك وغير قابل للتغيير بطروّ الحالات.

ويظهر من بعض المحقّقين ـ كما في الكفاية ، ولعلّه الشيخ محمد تقي قدس‌سره صاحب الحاشية ـ الاقتضاء في مرحلة السقوط.

وقال في الكفاية : لعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل. ثم بعد ذلك أمر بالتأمّل (٣).

ولعلّ وجهه : أنّ ما يستظهر من كلامه أنّ الاكتفاء بالظنّ في مقام الامتثال

__________________

(١) يأتي الأمر الثالث في ص ١١٧ عند قوله : وبعد ذلك يقع الكلام في مقتضى الأصل عند الشكّ في الحجّيّة.

(٢ و ٣) كفاية الأصول : ٣١٧.

٩٤

من جهة الانسداد على تقدير الحكومة لا من جهة اقتضائه ذلك ذاتا ، كما بيّنّا ، مع أنّ المستند لو كان عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، لوجب الحكم بسقوط التكليف بالعمل بالمحتمل أيضا ، مضافا إلى أنّ الضرر في المقام ضرر أخرويّ ، ولا خلاف في وجوب دفعه ، بل العقل يحكم بوجوب دفعه ولو كان موهوما ، وإنّما الخلاف في الضرر الدنيوي.

الثاني : في بيان إمكان التعبّد بالظنّ. والمراد بالإمكان في المقام هو الإمكان الوقوعي لا الذاتي ، بمعنى أنّ التعبّد بالظنّ هل يلزم من وقوعه محال حتى يمتنع وقوعه ، أو لا يلزم حتى يمكن وقوعه؟ لا بمعنى أنّه مستحيل ذاتا كاجتماع النقيضين ، ولا الإمكان الاحتمالي ، كالإمكان في كلام الشيخ الرئيس «كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان» (١) بداهة أنّ الاحتمال من الأمور الوجدانية ومن مدركات العقل إمّا موجود أو معدوم ، ولا يعقل التعبّد به.

وهل الأصل الأوّلي عند الشكّ في إمكان وقوع شيء أو استحالته وعدم قيام الدليل على أحدهما هو الإمكان أو الامتناع؟

ذهب الشيخ ـ قدس‌سره ـ إلى الأوّل بدعوى بناء العقلاء على ذلك (٢).

وأورد عليه صاحب الكفاية أوّلا : بأنّه لم يثبت من العقلاء بناء على ذلك.

وثانيا : على تقدير ثبوته لا يحصل منه إلّا الظنّ ، والكلام في اعتباره.

وثالثا : على تقدير اعتباره لا فائدة في إثبات مجرّد الإمكان ، ولا يترتّب

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات ٣ : ٤١٨ النمط العاشر.

(٢) فرائد الأصول : ٢٤.

٩٥

عليه أثر عملي ما لم يثبت وقوعه (١).

واعترض عليه شيخنا الأستاذ أيضا : بأنّ المراد من الإمكان هو الإمكان في عالم التشريع ، وبناء العقلاء على تقدير ثبوته مختصّ بالشكّ في الإمكان التكويني لا التشريعي (٢).

والظاهر أنّ الحقّ مع الشيخ قدس‌سره ، ولا يرد عليه شيء.

أمّا ما أورده شيخنا الأستاذ من أنّ الإمكان والامتناع في المقام تشريعيّان لا تكوينيّان ، فلا نعقل له معنى صحيحا ، ضرورة أنّ الشيء إمّا ممكن الوقوع في الخارج أو ممتنع الوقوع ، وأيّ ربط للتشريع في كون التعبّد بالظنّ ممّا يلزم من وقوعه محذور عقلي حتى يمتنع أو لا يلزم حتى يكون ممكنا؟ نعم ، قد يكون التشريع معروضا للإمكان أو الاستحالة ، فيقال : إنّه ممكن أو مستحيل.

وأمّا ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره : فهو تامّ لو كان مراد الشيخ ـ قدس‌سره ـ من بناء العقلاء على الإمكان وترتيب آثار الإمكان على المحتمل استحالته هو أنّه لمجرّد احتمال الإمكان بلا ورود دليل ظاهر فيه. لكنّه من المظنون أنّ مراده ـ قدس‌سره ـ ثبوت بناء العقلاء فيما ورد دليل ظاهر في وقوعه لا مطلقا ، ولا ريب أنّه كذلك ، وأنّهم يبنون على الإمكان ، ويرتّبون عليه آثاره ما لم يدلّ دليل قطعي على الاستحالة ، فإذا دلّت آية النبأ ـ مثلا ـ على وجوب العمل بالظنّ الحاصل من خبر العادل والتعبّد به ، فمجرّد احتمال استحالة هذا التعبّد لا يوجب رفع اليد عن هذا الظاهر بحكم العقل وبناء العقلاء.

مثلا : لو قال المولى : «أكرم العلماء» الشامل بعمومه للفسّاق من العلماء أيضا ، فلو احتملنا استحالة التكليف بإكرام الفسّاق من جهة عدم وجود ملاك

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٦٢.

٩٦

الوجوب في إكرامهم ، ليس لنا الاقتصار بإكرام العدول منهم فقط بمجرّد هذا الاحتمال ، ولا عذر لنا في ترك ذلك ، وللمولى أن يعاقبنا عليه بحكم العقل والعقلاء.

وبالجملة ، الأصل الأوّلي بمقتضى بناء العقلاء ـ فيما ورد دليل ظاهر في وقوع شيء ـ هو الحكم بالإمكان ما لم يكن دليل خارجي قطعي على خلاف الظاهر ، كما أفاده الشيخ قدس‌سره ، فإذا أبطلنا دليل القائل بالاستحالة ، نحكم بالإمكان ، ولا نحتاج إلى إقامة البرهان عليه.

وما استدلّ به ابن قبة على الاستحالة يرجع حاصله ـ بعد ما أوضحه المتأخّرون ـ إلى أمرين :

أحدهما : لزم المحذور في ناحية الخطاب ، وهو اجتماع المثلين في صورة موافقة الحكم الواقعي مع مؤدّى الأمارة ، واجتماع الضدّين في صورة المخالفة وعدم الإصابة بأنّ كان أحدهما الوجوب والآخر حكما آخر من الأحكام.

وثانيهما : لزوم المحذور في ناحية الملاك ، وهو تحليل الحرام بأن يرخّص الشارع في فعل ما يكون فيه مفسدة ملزمة أو ترك ما فيه مصلحة إلزاميّة ، فإنّه إلقاء في المفسدة وتفويت للمصلحة ، وكلاهما قبيح على الحكيم ، وتحريم الحلال بأنّ يحرّم فعل ما لا مصلحة ولا مفسدة فيه ، أو تركه إذا كان في الواقع مباحا وقامت الأمارة على وجوبه أو حرمته.

أمّا الجواب عن المحذور الثاني ـ وهو المحذور الملاكي ـ فهو أنّه له طرفان : أحدهما : ما كان مؤدّى الأمارة هو الوجوب أو الحرمة مع كونه في الواقع جائزا. وثانيهما : ما إذا كان للفعل مفسدة ملزمة أو مصلحة ملزمة وقامت الأمارة على جوازه.

٩٧

أمّا الطرف الأوّل : فليس فيه كثير إشكال ، ضرورة أنّ تعميم الحكم للموارد المشتبهة ـ التي لا يمكن للمكلّف تشخيصها حفظا للمصالح الواقعيّة ـ لا مانع منه ، فإنّ المصلحة النوعيّة والحكمة الإلهية تقتضيان إيجاب المباح أو تحريم المشتبه بين الواجبات أو المحرّمات لأجل الوصول إلى تلك المصالح الواقعيّة وعدم الوقوع في تلك المفاسد الواقعيّة.

وهذا في العرف : كما إذا علم شخص بأنّ أحدا يريد قتله ويعلم أنّ عبيده لا يعرفونه ، فمقتضى الحكمة أن يأمر عبيده بأن لا يدخلون عليه أحدا من الناس حفظا لنفسه. وفي الشرع : كما في وجوب العدّة لعدم اختلاط الأنساب ، فإنّ الشارع أوجب العدّة على كلّ مرأة ولو مع العلم بعدم الاختلاط ، لئلا يقع المكلّفون في الاشتباه من جهة جهلهم بخصوصيّات الموارد ، ويفوت هذا الغرض المهمّ ولو في مورد.

وأمّا الطرف الآخر : فإمّا أن يفرض في حال انسداد باب العلم في جميع الأحكام أو معظمها ، فليس التعبّد بالأمارة إيقاعا في المفسدة أو تفويتا للمصلحة ، بل المكلّف من جهة جهله بالواقع وعدم تمكّنه من العلم به يقع في المفسدة ويفوت منه المصلحة على كلّ حال تعبّده الشارع بالأمارة أو لا ، فإذا رأى الشارع أنّ العمل بالأمارة موجب لإدراك المصالح الواقعيّة أزيد من العمل بغيرها ، فلا مانع من التعبّد بها.

نعم ، لو كان الفعل في الواقع واجبا وقامت الأمارة على حرمته أو كان حراما وقامت الأمارة على وجوبه ، فالتعبّد بالأمارة موجب للإيقاع في المفسدة وتفويت المصلحة لكنّه لا مانع منه إذا كان العمل بالأمارة سببا للوصول إلى أغراض المولى أكثر من العمل بغيرها ، ولا ريب في حسن تفويت مصلحة أو مصلحتين أو الوقوع في مفسدة أو مفسدتين لأجل إدراك المصالح الكثيرة وعدم

٩٨

الوقوع في المفاسد الكثيرة.

أو يفرض في حال انفتاح باب العلم ، بمعنى التمكّن من الوصول إلى الواقعيّات على ما هي عليها ، فإن علم الشارع بعدم وصول المكلّف إلى الواقعيّات وإن كان متمكّنا منه لكنّه لا يصل خارجا من جهة تحصيله القطع من أسباب غير مصادفة للواقع غالبا ، وعلم أنّ العمل بالأمارة أغلب مصادفة للواقع من العمل بالقطع الحاصل لهم من تلك الأسباب ، فليس في التعبّد بالأمارة إلقاء في المفسدة أو تفويت للمصلحة إلّا بمقدار لا يعتنى به في جنب الغرض المهمّ المترتّب عليه من إدراك كثير من المصالح الواقعيّة ، فلا قبح فيه أصلا.

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ هذا الفرض ، أي : فرض العلم بعدم وصول المكلّف إلى الواقعيّات فرض انسداد باب العلم (١) ، لما عرفت من أنّ انسداد باب العلم بمعنى امتناع الوصول وعدم التمكّن منه ، وفرض الانفتاح فرض التمكّن من الوصول ولو لم يتحقّق الوصول خارجا.

وإن كان المكلّف يصل إلى الواقعيّات على ما هي عليها بدون التعبّد بالأمارة ، فلا مورد لهذه الشبهة أيضا بناء على القول بأنّ حجّيّة الأمارات غير العلميّة من باب السببيّة والموضوعيّة لا الطريقيّة المحضة ، ونعني بالسببيّة سببيّة الأمارة لحدوث المصلحة ، وهي تتصوّر على أقسام ثلاثة :

الأوّل : ما التزم به الأشعري ، وهو : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في متعلّقها موجبة للحكم الواقعي ، بمعنى أنّ الحكم الواقعي تابع لقيام الأمارة عند الجاهل ، ولا حكم واقعي له سوى ما أدّى إليه الأمارة ، وهذا مثل وجوب إطاعة الوالدين ، التابع ، حدوثا لأمرهما ، واستحباب إجابة استدعاء

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٦.

٩٩

المؤمن ، التابع لاستدعائه.

والسببيّة بهذا المعنى وإن كانت تدفع إشكال ابن قبة من أصله ، وذا القضيّة سالبة بانتفاء الموضوع ، وليس وراء المصلحة أو المفسدة ـ التي حدثت بقيام الأمارة ـ مصلحة أو مفسدة حتى يستلزم أمر الشارع باتّباع الأمارة إيقاع المكلّف في المفسدة أو تفويت المصلحة العائدة إليه إلّا أنّه باطل قطعا ومستلزم للدور ، فإنّ الواقع لو كان خاليا عن كلّ حكم فالأمارة تحكي عن أيّ شيء وتخبر بما ذا؟ مضافا إلى تحقّق الإجماع ووجود الأخبار المتواترة ـ كما في كلام الشيخ (١) قدس‌سره ـ على أنّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل حدوثا وبقاء.

الثاني : أن تكون الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل لكنّه بقيام الأمارة يزول الحكم الواقعي بقاء وتحدث المصلحة في مؤدّى الأمارة.

وهذا القسم أيضا يدفع إشكال ابن قبة ، إذ بعد قيام الأمارة ليس في البين إلّا مصلحة المؤدّى ، والواقع خال عن المصلحة ، فلا يلزم تفويت مصلحة الواقع بالتعبّد بالأمارة إلّا أنّه أيضا ـ كسابقه ـ باطل وإن كان معقولا ممكنا ، لانعقاد الإجماع على أنّ الأمارة لا تغيّر الواقع ، وأنّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل حدوثا وبقاء.

الثالث : ما اختاره بعض العدليّة من أنّ قيام الأمارة سبب لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع على ما هو عليه من المصلحة والمفسدة وهكذا المؤدّى ، فالمصلحة في تطبيق العمل على طبق المؤدّى ، وهذه المصلحة السلوكيّة تختلف قلّة وكثرة باختلاف مقدار السلوك وزمانه طولا وقصرا ، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة وعمل المكلّف على

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٧.

١٠٠