الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

ثمّ إنّ الأقسام المذكورة للقطع تأتي في الظنّ أيضا بكلا قسميه : ما اعتبره الشارع وأعطاه صفة الطريقيّة ، وما لم يعتبره ولم يعطه تلك ، فكما أنّ القطع يمكن أن يكون طريقا محضا لمتعلّقه ، ومخالفته توجب استحقاق العقاب على تقدير الإصابة والتجرّي على تقدير عدمها ، كذلك الظنّ المعتبر يثبت به متعلّقه ، وفي فرض المخالفة مخالفته تجرّ على المولى.

ويمكن أيضا أخذه موضوعا لحكم آخر ـ مخالف لحكم متعلّقه لا يضادّه ولا يماثله ـ بنحو الطريقيّة والصفتيّة ، وفي الثاني إمّا بنحو يكون تمام الموضوع أو جزءا للموضوع ، كما إذا أخذ الظنّ المعتبر بوجوب الصلاة في موضوع وجوب الصدقة بأحد الأنحاء الثلاثة.

وهكذا يمكن أخذه موضوعا لما يماثل متعلّقه من الحكم ولو قلنا باستحالته في القطع ، للزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع الّذي لا يرى إلّا الواقع باعتقاده ، وذلك لأنّ الظنّ المعتبر وإن كان قطعا تعبّدا والشارع ألغى احتمال الخلاف فيه إلّا أنّ احتمال مخالفته للواقع تكوينا مع ذلك موجود بالوجدان ، فإذا كان الظنّ بخمريّة مائع ، الحاصل من طريق معتبر مأخوذا في موضوع الحرمة ، لا يلزم [منه] اجتماع المثلين في نظر الظانّ ، فإنّه يحتمل أن لا يصادف ظنّه للواقع ، فيكون من قبيل عنوانين محكومين بحكمين متماثلين بينهما عموم من وجه ، فيتأكّد الحكم إذا صادف الظنّ للواقع واجتمع فيه عنوان الخمر الواقعي المحكوم بالحرمة وعنوان مظنون الخمريّة المحكوم بالحرمة أيضا ، فظهر أنّ قياس الظنّ بالقطع ـ كما فعله شيخنا الأستاذ (١) على تقدير

__________________

ـ حقّه ، فالعلم متعلّق بالوجوب الإنشائيّ والمترتّب عليه هو الوجوب الفعلي ، فلا دور. (م).

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩.

٦١

تسليم ذلك في القطع ـ في غير محلّه.

هذا كلّه في الظنّ المعتبر ، وأمّا الظنّ غير المعتبر فحاله كحاله فيما ذكر.

وربما يتوهّم استحالة أخذه جزءا للموضوع ، لاستحالة فعليّة الحكم المترتّب عليه ، وكلّ حكم استحال فعليّة يستحيل جعله أيضا.

بيان ذلك : أنّ الظنّ الّذي لم يعتبره الشارع لا يحرز به الواقع لا تعبّدا ولا وجدانا ، فالواقع الّذي هو أحد جزأي الموضوع لا يمكن إحرازه بمثل هذا الظنّ ، وإحرازه بالقطع وإن كان ممكنا إلّا أنّه لا يجتمع مع الظنّ الّذي هو أحد جزأي الموضوع ، وإذا لا يلتئم الموضوع المركّب يستحيل فعليّة حكمه ، فيستحيل جعله.

ويدفعه : أنّ الجزء الآخر يمكن إحرازه بأمارة شرعيّة أو أصل محرز ، ولا ينحصر طريق الإحراز بالقطع ، فإذا قام أمارة أو أصل على وجوب الصلاة أو خمريّة مائع في الخارج وحصل للمكلّف ظنّ من طريق غير معتبر بذلك بحيث لم يحصل الظنّ له من الأصل أو الأمارة ، فالواقع محرز عنده بمقتضى التعبّد ، والجزء الآخر من الموضوع ـ وهو الظنّ ـ محرز بالوجدان ، فيلتئم الموضوع ، ويترتّب الحكم عليه.

وأمّا أخذه موضوعا لما يضادّ متعلّقه من الحكم : فقد وقع الخلاف فيه بين صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ قدس‌سره ، فذهب صاحب الكفاية إلى الجواز بدعوى أنّ مرتبة الحكم الظاهري مع الظنّ محفوظة ، فيكون الأمر فيه كما في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، فكما أنّ جعل الحكم ظاهرا على مشكوك الخمريّة والتعبّد بإباحته بحسب الظاهر لا يوجب احتمال اجتماع الضدّين ، لاحتمال كون المائع خمرا واقعا ، كذلك الحكم بجواز شرب مظنون الخمريّة لا يوجب الظنّ باجتماع الضدّين بواسطة ظنّ المكلّف بخمريّة

٦٢

المائع (١).

وأورد عليه شيخنا الأستاذ : بأنّ عدم لزوم المحذور المذكور في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي لخصوصيّة تكون في الحكم الظاهري ـ على ما يأتي في محلّه إن شاء الله ـ وهي مفقودة في المقام الّذي يكون كلّ من الحكمين واقعيّا ، لا أنّ أحدهما واقعيّ والآخر ظاهريّ ، بداهة أنّ [شرب] مظنون الخمريّة جائز واقعا على الفرض مع أنّ دليل حرمة الخمر الواقعي بإطلاقه شامل للخمر الّذي تعلّق ظنّ المكلّف بخمريّته ، وبعد إطلاق دليل الحرمة وشموله لما يكون مقيّدا بتعلّق الظنّ به لا يفيد تقييد موضوع الحرمة بالظنّ ، في جواز جعل الجواز لهذا الموضوع المقيّد المحكوم بالحرمة بمقتضى الإطلاق ، ولا يرتفع التضادّ بذلك(٢).

والإيراد وارد عليه (٢) واقع في محلّه.

الأمر الرابع : هل القطع بالحكم يقتضي الموافقة التزاما ـ بمعنى عقد القلب على المقطوع به والبناء عليه ـ كما يقتضي الموافقة عملا ، أو لا؟

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٠٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٠.

(٣) أقول : ظاهر كلام صاحب الكفاية هو التفريق بين القطع والظنّ بمعنى أنّ جعل الحكم الظاهري المضادّ في مورد القطع بالحكم الواقعي مستحيل ، وأمّا في مورد الظنّ بالحكم الواقعي فيمكن ويتصوّر جعل الحكم الظاهري المضادّ للمظنون ، وأمّا كون الحكم المترتّب على الظنّ واقعي أو ظاهري فليس مورد نظره.

وبعبارة أخرى : يقول المحقّق النائيني : الحكم المترتّب على الظنّ لا يكون إلّا واقعيّا ، ولذا يستحيل. والآخوند قدس‌سره يقول : يمكن أن يكون ظاهريّا.

نعم ، يرد على صاحب الكفاية أنّه لم يقيّد الظنّ بكونه غير معتبر ، فإنّ ترتّب الحكم الظاهري على الظنّ المعتبر أيضا مستحيل كالقطع ، ولعلّ مراد النائيني قدس‌سره من الإشكال هو عدم التقييد. (م).

٦٣

ومحلّ النزاع مورد لا يكون فيه مخالفة عمليّة أصلا ، كما إذا دار أمر شيء بين أن يكون واجبا أو حراما ، وهكذا في كلّ مورد يكون الأمر دائرا بين محذورين ، وكما إذا علم تفصيلا بنجاسة إناءين ، ثم علم بطهارة أحدهما أو قامت البيّنة على ذلك.

والكلام تارة يقع من حيث شمول أدلّة الأصول بنفسها للمقام مع قطع النّظر عن وجوب الموافقة الالتزاميّة وعدمه ، وتفصيل القول من هذا الحيث وبيان أنّ أدلّة الأصول شاملة بنفسها لأمثال هذه الموارد أو منصرفة إلى غيرها موكول إلى محلّه.

وأخرى من حيث وجوب الموافقة الالتزاميّة وعدمه ، وعلى تقدير الوجوب في مانعيّة المخالفة القطعيّة الالتزامية عن إجراء الأصول وعدمها ، فهناك جهتان :

الأولى : في أصل وجوب الموافقة الالتزاميّة.

فنقول : إنّ القائل بالوجوب إن أراد به وجوب الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ـ بأن التزم تفصيلا بوجوب ما يعلم بوجوبه تفصيلا ، وإجمالا بما يعلم بوجوبه إجمالا ، وهكذا سائر الأحكام الإلزاميّة تكليفا أو وضعا ـ فلا ريب فيه ، ولا ينبغي إنكاره ، ضرورة أنّه من لوازم التصديق بالنبوّة ، ولا يختصّ بالتكاليف الالتزاميّة ، بل يعمّ جميع الأحكام ما يكون متوجّها إلى نفسه ، كوجوب الصلاة ، وما يكون متوجّها إلى غيره ، كأحكام الحائض ، المختصّة بالنساء ، بل غير الأحكام والتكاليف ، فكلّ ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سواء كان الإخبار بالحكم أو بأمر آخر غيره ـ يجب الالتزام به على تقدير العلم به بنحو ما علم به إن تفصيلا فتفصيلا وإن إجمالا فإجمالا.

وإن كان مراده أنّه يجب في خصوص التكاليف الإيجابيّة الإتيان بعنوان

٦٤

الوجوب الّذي هو عبارة أخرى عن قصد الوجه ، فقد مرّ في بحث التعبّدي والتوصّلي أنّ الواجب في باب العبادات ليس إلّا إتيان الفعل بداع من الدواعي الإلهيّة ، ويكفي مجرّد إضافة الفعل إليه تبارك وتعالى ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك.

وإن كان مراده أنّ شخص الحكم المجعول في الواقع يجب الالتزام به ، فهو ممّا لا يمكن مع الجهل به ، وما هو ممكن هو الالتزام بأحد الطرفين فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة ـ مثلا ـ إمّا بالوجوب بالخصوص أو الحرمة كذلك ، إلّا أنّه من التشريع المحرّم وإدخال لما لا يعلم أنّه من الدين في الدين.

والحاصل : أنّ القول بوجوب الالتزام بالمقطوع به قلبا كما يجب عملا في الخارج ـ بحيث يثاب على الموافقة بكلا المعنيين بثوابين ، وعلى الموافقة الالتزاميّة فقط دون العمليّة بثواب واحد ، وهكذا يعاقب بعقابين على فرض عدم العمل خارجا ولا قلبا ، وبعقاب واحد على تقدير الالتزام به قلبا ومخالفته عملا ـ لا يمكن الالتزام به.

الجهة الثانية : في أنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة على القول به هل يمنع من جريان الأصل فيما يستلزم المخالفة الالتزاميّة أو لا؟

والحقّ هو الثاني ، فإنّ إجراء الأصول لا ينافي الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ، والالتزام في الظاهر بالإباحة مع العلم بأنّ الواقع خلافه بمقتضى الدليل الشرعي والتعبّد المولوي ، فبمقتضى قوله عليه‌السلام : «رفع ما لا يعلمون» (١) و «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٢) نحكم بالإباحة الظاهريّة ، ونلتزم

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ ـ ٩ ، التوحيد : ٣٥٣ ـ ٢٤ ، الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النّفس ، الحديث ١.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٩٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات ـ

٦٥

بالحكم الواقعي إجمالا ، ولا محذور فيه.

الأمر الخامس : ذهب بعض (١) إلى عدم الاعتبار بقطع القطّاع الّذي يقطع ممّا لا ينبغي أن يقطع منه كما في كثير الظنّ وكثير الشكّ.

والحقّ أنّه لا ريب في أنّ الشكّ المأخوذ في الموضوع وهكذا الظنّ المأخوذ في الموضوع منصرف إلى الشكوك والظنون المتعارفة ، فإذا ورد «أنّه إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن علي الأكثر وافعل كذا» لا يشمل كثير الشكّ ومن كان خارجا عن المتعارف في ذلك ، وهكذا إذا عيّن في دليل وظيفة للظانّ في الركعات لا يشمل الدليل من يظنّ كثيرا ، بل حكمه حكم الشاكّ ، ومقتضى القاعدة ـ لو لا الدليل الخارجي ـ هو البطلان في كليهما.

وأمّا القطع : فهو وإن كان كذلك فيما إذا أخذ في الموضوع ـ ومن جهة انصراف الدليل إلى غير من يقطع ممّا لا ينبغي حصول القطع منه لا يرتّب غير القاطع آثار القطع على قطع القطّاع ، مثلا : لو كان الشاهد قطّاعا لا يرتّب الحاكم على قطع مثل هذا الشاهد أثرا ولا يقبل شهادته ـ إلّا أنّ نفس القاطع لا يلتف إلى أنّ قطعه خارج عن المتعارف وحاصل ممّا لا ينبغي حصوله منه ، بل هو يخطئ غيره ويرى أنّ كلّ أحد يقطع لو التفت إلى سبب قطعه ، فلا يفيد الانصراف بالنسبة إلى نفس القطّاع ولا يمكن نهيه عن اتّباع القطع ، لما عرفت من أنّه لا يرى قطعه خارجا عن المتعارف أبدا حتى ينتهي بنهيه عن اتّباع مثل هذا القطع ، فلا يفيد النهي في حقّه أصلا.

هذا في القطع الموضوعي ، أي الطريقي أو الصفتي المأخوذ في

__________________

ـ القاضي ، الحديث ٦٧.

(١) هو صاحب كشف الغطاء كما نقل عنه في أجود التقريرات ٢ : ٤١ ، وانظر : كشف الغطاء : ٦٤ ، المقصد العاشر.

٦٦

الموضوع ، أمّا الطريقي المحض : فأمره أوضح ، إذ الانصراف الّذي ادّعينا في القطع الموضوعي لا يكون في الطريقي ، ولا يعقل النهي عن اتّباعه أيضا ، لما مرّ من أنّ القطع عين الطريقيّة ، وأنّ حجّيّته من لوازمه الذاتيّة له لا تقبل للجعل نفيا ولا إثباتا. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره.

والتحقيق أن يقال : إنّ القطع إمّا ضروري لا يحتاج إلى أزيد من الالتفات إلى الشيء المقطوع به وتصوّره ، وهذا لا يعقل النهي عنه بوجه من الوجوه ، سواء كان طريقيّا أو موضوعيّا ، وإمّا نظريّ لا يحصل إلّا بعد حصول القطع بثبوت الملازمة بين المقطوع به وشيء آخر ، وثبوت ذلك الشيء الملزوم له.

والحاصل : أنّ كلّ قطع نظريّ معلول لقطعين آخرين : أحدهما : القطع بثبوت الملازمة ، والآخر : القطع بثبوت الملزوم ، فإذا حصل هذان القطعان ، يحصل القطع باللازم أيضا بالضرورة ، وإذا لم يحصل أحدهما أو شيء منهما ، لا يحصل هو أيضا ، بل الحاصل حينئذ هو الشكّ ، ونعني بالشكّ غير العلم حتى يشمل الظنّ أيضا.

ثمّ إنّ القطّاع تارة يكون منشأ كونه كثير القطع هو حصول الأسباب المتعارفة ، كما في الطبيب كثيرا ما يرى أنّ المريض يطيب أو يموت ، لقطعه بثبوت الملازمة والملزوم من طريق عاديّ لو حصل لغيره لحصل القطع لذلك الغير أيضا لكنّ غيره لا يكون كثير القطع ، لفقد هذا الطريق العاديّ له ، ومثل القطّاع بهذا المعنى لا ريب في استحالة منعه عن اتّباعه قطعه بالنسبة إلى المولى الحكيم.

وأخرى يكون منشؤه حصول أسباب لا يتعارف حصول القطع منها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١ ـ ٤٢.

٦٧

ولا ينبغي تحصيل القطع منها ، ومثل هذا وإن لا يعقل التفاته إلى كونه قطّاعا حال قطعه ـ كما هو كذلك في كثير الشكّ ـ ولا يحتمل أنّ يكون قطعه هذا ممّا هو حاصل من طريق غير متعارف ، إذ هذا الاحتمال ناشئ من أحد أمرين : إمّا عدم القطع بثبوت الملازمة أو عدم القطع بثبوت الملزوم ، وكلاهما خلاف الفرض ، فإنّ المفروض أنّه قطع بكلا الأمرين ، إلّا أنّه يمكن التفاته إلى كونه كذلك بالنسبة إلى ما حصل له في الأزمنة الماضية من القطع ، لحصول القطع له مرّات عديدة وانكشاف خلافه وظهور كونه حاصلا من سبب غير عاديّ وممّا لا ينبغي حصول القطع منه ، فهو يعلم بذلك بكونه قطّاعا يقطع من الأسباب غير المتعارفة وإن لا يحتمل ذلك في هذا القطع الشخصي الحاصل له فعلا.

وحينئذ لو كان القطع موضوعا لحكم من الأحكام ، يمكن تقييده بغير قطع القطّاع بهذا المعنى ، فإذا حصل له القطع حيث يجد من نفسه هذا المعنى ، لا يجوز الاعتماد على قطعه ، وأمّا لو كان طريقا ، فلا يعقل تقييده به ، فإنّه عين الطريقيّة والانكشاف ، وعند حصوله يدرك العقل صحّة مؤاخذته لدى المخالفة ، وعذره عند موافقته وعدم الإصابة ، وهو من لوازم ذاته لا يمكن انفكاكه عنه.

نعم ، يمكن النهي عن التفكّر في أمور مخصوصة موجبة للقطع ، والمنع عن تحصيل القطع من بعض الأسباب ، فلو حصل المكلّف القطع بسوء اختياره من السبب المنهيّ عنه فلا يقبح عقابه لو لم يصادف الواقع وإن لا يمكن نهيه ـ بعد حصوله ـ عن اتّباعه.

ثمّ إنّه نسب إلى بعض الأخباريّين عدم حجّيّة القطع بالحكم ، الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، كالحاصل من المقدّمات والبراهين العقليّة. والكلام يقع في مقامين :

٦٨

الأوّل : في ثبوت هذه النسبة ، وقد أنكرها صاحب الكفاية واستظهر كذبها من بعض كلماتهم (١).

والحقّ ثبوتها ، لصراحة بعض عباراتهم وظهور بعضها في ذلك ، فإنّ ظاهر المحدّث الأسترآبادي ـ حيث حصر مدرك الأحكام بما استقلّ به العقل من الضروريّات والفطريّات ك «الواحد نصف الاثنين» وما روي عن الصادقين عليهم‌السلام واستفيد من الكتاب والسنّة ـ عدم الاعتبار بما أدركه العقل من النظريّات بالبراهين العقليّة (٢) ، وصريح السيّد نعمة الله الجزائري أيضا ذلك (٣). والحاصل : أنّ بعضهم قائل بهذه المقالة ولا يمكن إنكارها.

المقام الثاني : أنّ ما يمكن أو يتوهّم كونه مدركا لجواز تحصيل القطع من غير الكتاب والسنّة من البراهين العقليّة النظريّة أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : إدراك العقل مصلحة شيء أو مفسدته والقطع بكون شيء ذا مصلحة أو ذا مفسدة ، فإنّ الأحكام الشرعيّة حيث إنّها تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة فكلّما أدرك العقل وأحرز مصلحة أو مفسدة في شيء فيستكشف أنّه واجب أو حرام.

وهذه الكبرى الكليّة وإن كانت مسلّمة ، وعلى فرض حصول القطع بأنّ لشيء مصلحة ملزمة غير مزاحمة مع شيء آخر لا ينبغي الشكّ في ترتّب الحكم الشرعي واستكشافه بطريق «الإنّ» إلّا أنّ الكلام في صغرى هذه الكبرى ، وأنّى لنا بإثبات ملاكات الأحكام ، التي هي أمور واقعيّة خفيّة لا طريق للعقل إليها ولا يمكنه الوصول إلى جميع ما له دخل في الحكم من المقتضي والشرط وعدم عليه‌السلام

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١١.

(٢) الفوائد المدنية : ١٢٨ ـ ١٣١.

(٣) الأنوار النعمانيّة ٣ : ١٣٢ ـ ١٣٣.

٦٩

المانع ، فإنّ غاية الأمر إدراك العقل وإحرازه مصلحة شيء أو مفسدته وأنّها مقتضية للوجوب أو التحريم ، أمّا إحراز عدم وجود مانع يمنعها ومزاحم يزاحمها وغير ذلك ممّا له دخل في تأثيرها فلا ، كيف وقد جمع الشارع بين المختلفات وفرّق بين المجتمعات في كثير من الموارد!؟ ومن هنا ورد «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (١).

الثاني : إدراك العقل حسن شيء أو قبح شيء بمعنى أنّ فاعله أو تاركه ينبغي أن يمدح عليه أو يذمّ عليه ، ومدح الشارع ثوابه كما أنّ ذمّه عقابه.

وهذا المعنى ممّا لا يمكن استتباعه الحكم الشرعي وإحرازه به ، لما تقدّم في بحث التجرّي من أنّ إدراك العقل استحقاق الثواب أو العقاب على فعل شيء أو تركه من المستقلّات العقليّة التي لا تقبل الحكم الشرعي ، وإلّا يلزم التسلسل ، بل هو حكم من الرسول الباطني ـ وهو العقل ـ متمّم ومكمّل للرسالة الظاهريّة ، ولولاه لما ارتدع أحد بردع الشارع ولما انبعث ببعثه ، فهو أمر في طول الحكم الشرعي لا في عرضه ، فظهر أنّ إحراز الحسن والقبح أيضا ممّا لا يمكن إثبات الحكم الشرعي المولويّ به.

الثالث : إدراك العقل أمرا تكوينيّا لا ربط له بالحسن والقبح ولا بالمصلحة والمفسدة ، كإدراكه استحالة اجتماع النقيضين ، مثلا : لو أدرك العقل الملازمة بين وجوب الشيء وطلب مقدّمته ، أو حرمة الشيء وحرمة مقدّمته ، أو وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، فقد أدرك أمرا واقعيّا ، كإدراكه استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وبعد إدراك العقل هذا الأمر التكويني ـ أي الملازمة بين طلب الشيء وطلب مقدّمته مثلا ـ لا يعقل عدم ثبوت الوجوب للمقدّمة أو كونه

__________________

(١) إكمال الدين : ٣٢٤ ـ ٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٦٢ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

٧٠

محكوما بحكم آخر ، فإنّه بنظر العقل من اجتماع الضدّين ، فإنّه يعلم بثبوت الملزوم ، وهو وجوب ذي المقدّمة بالتعبّد ، وبثبوت الملازمة بالوجدان ، وبعد هذين العلمين يعلم بالنتيجة ، وهي وجوب المقدّمة لا محالة ، لما عرفت من أنّ العلم بالنتيجة معلول للعلم بثبوت الملزوم والملازمة ، وما أظنّ أنّ أحدا ينكر هذا المعنى ويقول : إنّ الحكم الشرعي لا يترتّب على مثل هذا البرهان العقلي.

والظاهر أنّ كلام الأخباريّين ناظر إلى الوجه الأوّل ، وقد عرفت أنّ الحقّ معهم بحسب الصغرى ، أي عدم إمكان العلم بملاكات الأحكام من المصلحة والمفسدة غير المزاحمتين ، أمّا على تقدير تحقّق الصغرى والعلم بالملاك فلا وقع للمنع عن استكشاف الحكم.

بقيت فروع تعرّض لها شيخنا العلّامة الأنصاري (١) ـ أعلى الله مقامه ـ تكون بظاهرها منافية لكون حجّيّة القطع ذاتيّة ، وفي الحقيقة هي إشكال نقضي على القول بكون القطع حجّة ذاتا ، ولا يمكن للشارع منع القاطع عن متابعة قطعه أو التجويز في مخالفته.

منها : ما يستفاد من رواية السكوني من أنّ الودعيّ لو كان عنده لأحد درهم ، والآخر درهمان ، فتلف أحد الدراهم ، يأخذ صاحب الدرهم نصفا وصاحب الاثنين درهما ونصفا (٢) ، فإنّه قد ينجرّ إلى العلم التفصيليّ بالمخالفة فيما إذا انتقل الدرهم المشترك بينهما إلى ثالث فاشترى به جارية ، فإنّ المشتري للجارية يعلم تفصيلا بعدم انتقال ثمن الجارية إليه من مالكه الواقعي ، وأنّ النّظر إلى هذه الجارية المشتراة بذلك الثمن حرام كما أنّ وطأها أيضا كذلك مع أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٧.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٣ ـ ٦٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠٨ ـ ٤٨٣ ، الوسائل ١٨ : ٤٥٢ ، الباب ١٢ من كتاب الصلح ، الحديث ١. وفيها بدل الدرهم : الدينار.

٧١

مقتضى هذه الرواية جواز النّظر إليها ووطئها.

وأجيب : بأنّها تنطبق على قاعدة الشركة ، فإنّ أحد أسباب الشركة هو الامتزاج ، فإذا امتزج مال أحد المالكين بمال المالك الآخر عند الودعيّ ، تحصل الشركة قهرا ، فيكون الباقي لهما ، كما أنّ التالف يحسب عليهما ، فيكون الحكم على القاعدة ولا يوجب الترخيص على مخالفة القطع.

وفيه : أوّلا : أنّه لم يكن في الرواية ما يدلّ على حصول الامتزاج الموجب للشركة.

وثانيا : أنّ مقتضى قاعدة الشركة أن يكون التالف أثلاثا بينهما بأن يحسب ثلثان من الدرهم التالف على صاحب الاثنين ويعطى درهما وثلثا ، ويحسب ثلث على صاحب الدرهم الواحد ويعطى ثلثين.

فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّ الشارع حسما لمادّة النزاع صالح بينهما قهرا بهذا الوجه وله ذلك ، فإنّه المالك على الإطلاق ، وعلى هذا يملك كلّ من المالكين نصيب الآخر واقعا على تقدير كون التالف واقعا لغيره ، فالثمن ـ أي : ثمن الجارية تلك ـ للمشتري حقيقة وانتقل إليه واقعا ، فجواز النّظر والوطء يكون على القاعدة.

أو نقول بأنّها تنطبق على قاعدة العدل والإنصاف ، التي ادّعي أنّها من الأصول العقلائيّة بتقريب أنّ بناء العقلاء ـ فيما إذا دار الأمر بين الموافقة الاحتماليّة المستلزمة للمخالفة الاحتماليّة أيضا وبين الموافقة القطعيّة المستلزمة للمخالفة القطعيّة أيضا ـ على تقديم الموافقة القطعيّة ويرونها مقتضى العدل والإنصاف.

وبعبارة أخرى : لو دار الأمر بين حرمان شخص بالكلّيّة احتمالا ووصول مقدار من حقّه إليه قطعا ، يرون الثاني مقتضى العدل والإنصاف.

٧٢

ففي المقام حيث إنّ واحدا من الدرهمين الباقيين يكون لصاحب الاثنين قطعا وأمر الدرهم الآخر مردّد بين كونه له بتمامه أو لصاحب الواحد بتمامه ، فإن نصّفناه بينهما وحكمنا لكلّ واحد من المالكين نصفا منه ، فقد أنصفنا ، إذ نقطع بوصول نصف المال إلى مالكه الواقعي قطعا ، بخلاف ما إذا أعطيناه بتمامه واحدا منهما فإنّه وإن كان من المحتمل وصول تمام الحقّ إلى مالكه الأصلي إلّا أنّه من المحتمل أيضا حرمان المالك الواقعي بالكلّيّة ، ووصول المال إلى غير من ينبغي الوصول إليه ، فالحكم المذكور المستفاد من الرواية ينطبق على هذه القاعدة العقلائيّة التي أمضاها الشارع ، ومقتضاها جواز تصرّف كلّ من المالكين في مال الآخر في المقام.

فإذا نقل الدرهم إلى ثالث ، فإن قلنا بأنّ نقل مال ممّن يجوز له التصرّف فيه ظاهرا إلى غيره يوجب الملكيّة الواقعيّة ، فواضح أنّ الدرهم الّذي نقل إلى مشتري الجارية وجعله ثمنا لها يصير ملكا له واقعا ، فيملك الجارية ، ويحلّ له النّظر والوطء وغير ذلك من التصرّفات الموقوفة على الملك ، فأين هناك علم تفصيلي على خلاف الحكم المقطوع به؟

وإن قلنا بأنّه يوجب الملكيّة الظاهريّة ، فنلتزم بأنّه لا يجوز التصرّف للثالث في هذا الدرهم المنقول إليه على تقدير علمه بأنّ بعضه ملك للغير ، ولا يجوز له اشتراء الجارية به ولا وطء الجارية المشتراة به وغير ذلك من التوالي الفاسدة المترتّبة عليه ، ولا محذور في هذا الالتزام ، إذ ليس في الرواية ما يدلّ على جواز أخذ غير العالم بالحال الدرهم منهما واشترائه الجارية به ووطئها والنّظر إليها ، بل ليس في الرواية إلّا الحكم بجواز التصرّف لصاحب الاثنين فيما يأخذه من درهم ونصف ، ولصاحب الواحد كذلك ، أي فيما يأخذه من نصف الدرهم.

٧٣

وبالجملة ، إذا تمّ ما ادّعيناه من الصلح القهري أو قاعدة العدل والإنصاف ، فهو ، وإلّا لا نلتزم إلّا بما في الرواية من جواز التصرّف في الدرهم لكلّ من المالكين.

ومنها : ما أفتى به الفقهاء من أنّه لو اختلف البائع والمشتري في الثمن مع اتّفاقهما في المبيع وأنّه جارية مثلا ، فقال أحدهما : إنّه عشرة دراهم ، وقال الآخر : بل عشرة دنانير ، ولم تكن بيّنة لأحدهما وحلف كلاهما أو نكلا كذلك ، تردّ الجارية إلى مالكها الأوّل ، ولا يعطي المشتري شيئا لا دراهم ولا دنانير ، مع أنّ البائع يعلم تفصيلا بعدم جواز وطء الجارية والنّظر إليها لكونها ملكا للمشتري على كلّ حال.

وجوابه أوّلا : بأنّ التحالف يوجب انفساخ المعاملة فينقل كلّ من العوضين إلى مالكه الأصلي بذلك واقعا ، فأين هناك مخالفة للعلم التفصيليّ؟

وثانيا : لو سلّمنا أنّ الانفساخ حكم ظاهري لا يوجب انتقال الجارية إلى ملك البائع واقعا وإنّما يجوز له التصرّف في الجارية تقاصّا كما يجوز للمشتري التصرّف في الثمن تقاصّا أيضا ولو لم نلتزم بشيء منهما ، فنمنع المخالفة للعلم التفصيليّ ولم يرد في المقام نصّ خاصّ ، وإنّما الحكم على طبق القاعدة.

وبهذا ظهر الجواب عن عكس الفرض بأنّ اتّفقا في الثمن واختلفا في المبيع ، فقال أحدهما : إنّه عبد ، وقال الآخر : لا ، بل جارية.

ومنها : فتوى بعض الفقهاء بصحّة ائتمام من وجد المنيّ في ثوبه المشترك بين من ائتمّ به وبينه ، أو صحّة الائتمام بأحد واجدي المنيّ في صلاة الظهر وبالآخر في صلاة العصر مثله ، فإنّه في الصورة الأولى يعلم المأموم تفصيلا ببطلان صلاته إمّا لكونه صلّى جنبا أو لأنّ إمامه صلّى جنبا ، وفي الصورة الثانية يعلم تفصيلا ببطلان صلاة عصره إمّا لكونها مؤتمّة بالمحدث أو

٧٤

لعدم حصول الترتيب بين الصلاتين ، وهكذا يعلم تفصيلا ببطلان صلاة واحدة لو ائتمّ بكلّ واحد من واجدي المنيّ بأنّ صلّى بعض صلاته مع أحدهما فحدث للإمام حدث فاقتدى بالآخر وأتمّ صلاته معه.

وهذه المسألة ليست بمنصوصة ، بل هي مبتنية على أنّ المناط في صحّة الائتمام وجوازه هل هو صحّة صلاة الإمام عند نفسه وبحسب الظاهر أو صحّتها عند المأموم وفي الواقع ، فمن يقول بالأوّل يلتزم بجواز الائتمام ، ولا يلزم مخالفة أصلا ، ومن يقول بالثاني ليس له الحكم بالصحّة ، ويجب عليه الحكم بالبطلان في أمثال ذلك.

ومنها : ما إذا قال أحدهما : بعتك الجارية بكذا ، وقال الآخر ، وهبتني إيّاها ، فقد أفتى الفقهاء أنّ الجارية تردّ إلى صاحبها لو تحالفها أو نكلا معا من الحلف ، مع أنّا نعلم تفصيلا بانتقالها عن ملك صاحبها إلى الآخر.

والجواب : أنّ المدّعي للهبة تارة يدّعي الهبة الجائزة فواضح أنّ صاحب الجارية ، له الرجوع فيها ، ومجرّد إظهار عدم المجّانيّة وإنكار الهبة رجوع عن الهبة ، كما أفتوا بأنّ إنكار الطلاق رجوع عن الطلاق.

وأخرى يدّعي الهبة اللازمة ، فبنفس التحالف أو النكول من كليهما تنفسخ المعاملة ، بيعا كانت أو هبة لازمة ، وتنتقل الجارية إلى ملك صاحبها ، ولا مخالفة في البين.

ومنها : ما لو أقرّ أحد بعين لشخص ثم أقرّ بها لآخر ، فحكموا بأنّه يدفع العين إلى الأوّل ويغرم قيمتها للثاني ، فإذا اجتمع كلّ من العين والقيمة عند ثالث واشترى جارية بهما ، يعلم تفصيلا بعدم انتقالها إليه ، لكون بعض ثمن الجارية مال المقرّ قطعا إمّا العين أو القيمة.

والجواب : أنّه إن قلنا بأنّ جواز التصرّف للمنتقل عنه ظاهرا يكفي في

٧٥

انتقال المال إلى المنتقل إليه واقعا ، ويوجب الملكيّة الواقعيّة ، فثمن الجارية تلك ، لمشتريها حقيقة ولا مخالفة.

وإن قلنا بأنّه لا يكفي ولا يوجب إلّا الملكيّة الظاهريّة ، فلا نلتزم بانتقال الجارية إليه.

هذه جملة ممّا توهّم كونه نقضا للقاعدة ، وقد عرفت فساده وأنّ حجّيّة القطع من لوازمه الذاتيّة غير قابلة للانفكاك عنه ، ولا يمكن للشارع المنع عن العمل به ، فكلّ ما كان موهما لذلك فلا بدّ من التوجيه.

الأمر السادس : في العلم الإجمالي.

والكلام تارة يقع من حيث كفاية الامتثال الإجمالي مع إمكان الامتثال التفصيليّ ، وعدمها ، وأخرى من حيث وجوب الموافقة القطعيّة وعدمه ، وثالثة من حيث حرمة المخالفة القطعيّة.

والكلام من الحيثيّتين الأوليين يأتي إن شاء الله في بحث البراءة والاشتغال مفصّلا ، وأمّا الحيثيّة الأخيرة : فالبحث عنها في جهات ثلاث :

الأولى : في اقتضاء العلم الإجمالي للتنجّز في نفسه مع قطع النّظر عن أدلّة الأصول.

الثانية : في إمكان جعل الحكم الظاهري على خلاف العلم الإجمالي ، وعدمه.

الثالثة : في وقوع ذلك ـ بعد إمكانه ـ وعدمه ، وأنّ أدلّة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالي أم لا؟

أمّا الجهة الأولى : فربما يتوهّم عدم الاقتضاء ، نظرا إلى أنّ الوصول شرط في تنجّز التكليف قطعا ، وما يكون قبيحا بحكم العقل هو المخالفة حين العمل لا العلم بوقوع المخالفة بعد العمل ، ومن المعلوم أنّ المقدّمة الأولى

٧٦

ليست بموجودة في المقام ، فإنّ حرمة كلّ واحد من الأطراف لم تصل إلى المكلّف على الفرض. وهكذا المقدّمة الثانية ، ضرورة أنّ العلم بالمخالفة إنّما هو بعد الارتكاب لا حينه.

ولا يخفى أنّ ما ذكر ـ من أنّ تحصيل العلم بوقوع الحرام منه لا يكون قبيحا ـ مسلّم ولذا لا يلتزم أحد بحرمة السؤال من الإمام عليه‌السلام عن وقوع حرام فيما ارتكبه من الشبهات البدويّة ، وهكذا اشتراط الوصول في تنجّز التكليف ، إلّا أنّ التكليف في المقام واصل ، لأنّ الوصول يحصل بحصول أمرين : العلم بجعل الكبرى الكلّيّة ، كحرمة شرب الخمر ، والعلم بوجود الموضوع ، وكلاهما موجود في المقام ، فإنّ المكلّف يعلم بأنّ الخمر في الشريعة المقدّسة محكوم بالحرمة ، وأنّه موجود في البين لكنّه لا يعلم به متعيّنا ولا يميّزه ، والتعيين والتمييز غير معتبر في تنجّز التكليف ، وإلّا لزم أن يكون الناظر إلى امرأتين ـ إحداهما غير المعيّنة أجنبيّة ـ بنظرة واحدة غير مرتكب للحرام ، لعدم تميّز الأجنبيّة عن غيرها ، وأن يكون التارك لصلاة القصر والإتمام ـ فيما إذا دار أمر التكليف بينهما ـ غير صادر منه قبيح ، وأن يكون القاتل لشخصين ـ يعلم بأنّ أحدهما ابن المولى ولا يميّزه ـ غير مرتكب للقبيح أصلا ، وهذا خلاف الوجدان ، وممّا لا يرضى به أحد.

وبالجملة ، لا ريب في فساد هذا التوهّم ، وأنّ العلم الإجمالي مقتض للتنجّز ، ولا يفرّق العقل في ذلك بين العلم التفصيليّ والإجمالي.

أمّا الجهة الثانية : فقد ادّعى صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ أنّ مرتبة الحكم الظاهري في العلم الإجمالي محفوظة ، لأنّ التكليف لم ينكشف به تمام الانكشاف ، ومع انحفاظ مرتبته لا مانع من ترخيص الشارع مخالفته احتمالا بل

٧٧

قطعا (١) ، ولا يلزم منه محذور المناقضة بينه وبين المعلوم بالإجمال ، كما لا يلزم ذلك ، في الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة غير المحصورة بل الشبهة البدويّة ، فكما أنّ شرب التتن محكوم ـ بالحكم الظاهري ـ بالإباحة مع احتمال كونه حراما في الواقع ولا تنافي ولا مناقضة في البين ، كذلك من الممكن أن يحكم كلّ من المائعين ـ اللذين أحدهما خمر ـ بحكم الشارع في الظاهر بجواز الشرب مع حكمه بأنّ الخمر الواقعي حرام واقعا ، إذ احتمال اجتماع المتناقضين كالقطع به في الاستحالة ، فمن وقوع الترخيص في الشبهات البدويّة يعلم عدم التنافي والمناقضة بين الحكم الظاهري والواقعي ، فلا مانع من جعله على خلاف المعلوم بالإجمال في الأطراف ، لانحفاظ رتبته من جهة الشكّ في التكليف في كلّ واحد من أطراف العلم ، وعدم إمكان الإذن في مخالفة العلم التفصيليّ من جهة عدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري وهو الشكّ في الحكم ، الّذي هو مفقود في العلم التفصيليّ ، بخلاف الإجمالي ، ولو فرض محالا أن يشكّ أحد فيما يعلمه تفصيلا ، لا يمكن جعل الحكم الظاهر على خلاف المعلوم بالتفصيل أيضا.

وللجواب عمّا أفاده نقدّم مقدّمة ، وهي : أنّ التضادّ بين الحكمين ـ كما سيأتي إن شاء الله في أوّل مبحث الظنّ في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ـ ليس باعتبار كونهما كلامين صادرين من المولى ، فإنّ قوليه : «افعل كذا» و «لا تفعل» لا تضادّ بينهما بما أنّهما قولان بالضرورة ، ولا باعتبار واقعهما ، وهو اعتبار كون الفعل على ذمّة المكلّف إتيانه أو تركه ، أو كونه مرخّصا في الفعل والترك ، ضرورة أنّ الاعتبار فعل من أفعال النّفس خفيف

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٣.

٧٨

المئونة يمكن تعلّقه بالفعل والترك معا بأن يعتبر المولى كون الفعل والترك كليهما على ذمّة المكلّف ، أو كونه مرخّصا في الفعل والترك ، أو كونه ملزما بأحدهما ، بل التضادّ إمّا يكون من ناحية مبدأيهما وعلّتيهما ـ بأنّ كان أحدهما ناشئا من مصلحة ملزمة تكون في الفعل ، والآخر من مفسدة تكون كذلك ، فإنّ الفعل الواحد لا يعقل أن يجتمع فيه كلا الأمرين ـ أو يكون من ناحية منتهاهما ومعلوليهما وما يترتّب عليهما ـ وبعبارة أخرى : من مقام الوصول والامتثال ـ بأن كان الوجوب والحرمة كلاهما واصلين إلى المكلّف ، وكان مكلّفا بالفعل والترك معا ، ومن الضروري أنّه لا يمكنه امتثال مثل هذا التكليف ، ويبقى عقله متحيّرا في مقام الامتثال لا يدري ما يصنع.

والحاصل : أنّ الحكمين ـ بما أنّهما حكمان ـ لا تضادّ بينهما ، وإنّما يكونان متضادّين بالعرض إمّا باعتبار علّتيهما أو باعتبار معلوليهما.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّه لا تضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي ، ولا تنافي أصلا لا في ناحية العلّة ولا في ناحية المعلول ، وذلك لأنّ ما اتّفقت العدليّة عليه من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيّة إنّما يختصّ بالأحكام الواقعيّة ، وأمّا الأحكام (الظاهريّة) فلا دليل على أنّها كذلك ، بل نفس جعلها ، له مصلحة ، كأنّ لا يبقى المكلّف متحيّرا عند عدم وصول الواقع إليه أو تسهيل الأمر على المكلّفين وعدم إيقاعهم في كلفة الاحتياط ، فعلى هذا لا مضادّة بين العلّتين ، ولا مانع من كون الفعل ذا مصلحة ملزمة موجبة لإيجابه واقعا وكونه محرّما ظاهرا في ظرف الجهل بالإيجاب الواقعي لمصلحة أخرى تكون في نفس التحريم.

ومن ذلك يعلم عدم التضادّ في ناحية المعلول أيضا ، إذ الحكم الظاهري أخذ في موضوعه الجهل بالحكم الواقعي وعدم وصوله إليه ، فلو لم يكن عالما

٧٩

بالحكم الواقعي ولم يكن واصلا إليه ، فلا تحيّر له في مقام الامتثال ، ومع علمه به أو وصله إليه لا موضوع للحكم الظاهري ، فلا حكم ظاهري في البين حتى يكون منافيا ومضادّا للحكم الواقعي الواصل.

ومن هنا يعلم أنّه في الشبهات البدويّة ليس احتمال التضادّ ، وأنّ قياس موارد العلم الإجمالي بها قياس مع الفارق ، إذ الحكم الواقعي في الشبهات البدويّة غير واصل إلى المكلّف على الفرض ، بخلافه في موارد العلم الإجمالي ، فإنّه واصل إليه ، معلوم له ، غاية الأمر أنّ متعلّقه غير مميّز عنده ، وقد عرفت أنّ التمييز غير معتبر في حكم العقل بالتنجيز ، فالترخيص في جميع أطرافها موجب لتحيّر العبد في مقام الامتثال ومناف ومضادّ للحرمة المعلومة إجمالا مثلا.

وأمّا الشبهة غير المحصورة : فلو قلنا بأنّ مناط الحصر وعدمه كثرة الأطراف وقلّتها ، فالشبهة واردة لا مدفع عنها ، إذ لو جاز الترخيص مع كثرة الأطراف ، لجاز مع قلّتها أيضا. ودعوى الفرق مجازفة.

ولو قلنا بأنّ مناطه تمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة بارتكاب جميع الأطراف ، وعدمه ـ كما هو الصحيح المختار ـ فليس ترخيص في جميع الأطراف حتى يقاس عليه سائر موارد العلم الإجمالي ويقال : كما يجوز الترخيص في الشبهة غير المحصورة يجوز في غيرها من موارد العلم الإجمالي أيضا ، ضرورة عدم الفرق بين قلّة الأطراف وكثرتها في ذلك.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّه لا تضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري ، وإنّما التضادّ بين الحكمين الواقعيّين أو ظاهريين ، وأنّ مرتبة الحكم الظاهري في العلم الإجمالي غير محفوظة ، لوصول الحكم الواقعي ، ومناقضته للترخيص في جميع الأطراف باعتبار المعلول وفي مقام الامتثال.

٨٠