الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

المتكلّم.

ولكن ربّما يستشكل في ذلك بأنّهم تسالموا بحسب الظاهر على صحّة الوضوء والغسل والصوم الضرريّة عند اعتقاد عدم الضرر ، وهكذا أفتوا بلزوم البيع الغبني مع علم المغبون بالغبن ، وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ المنفيّ هو الضرر الواقعي.

ولكن لا يخفى خروج الأخير عن محلّ الكلام ، لما تقدّم من أنّ مدرك خيار الغبن ليس هو قاعدة لا ضرر ، بل هو تخلّف الشرط الضمني المبني عليه في كلّ معاملة ببناء العقلاء ، وهو التسوية بين العوضين في الماليّة ، ومع العلم بعدم المساواة والإقدام على أخذ ما لا يساوي ما يعطيه في الماليّة عن علم ليس هناك تخلّف شرط حتى يوجب الخيار ، فاللزوم على حسب القاعدة.

وأجيب عن الباقي بوجوه :

أحدها : ما هو المعروف من أنّ القاعدة واردة في مقام الامتنان ، والامتنان في أمثال ما ذكر يقتضي الحكم بالصحّة لا بالبطلان ، وقد تقدّم نظير ذلك في موردين :

أحدهما : في باب تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط من عدم جريان البراءة عن وجوب الجزء أو الشرط حال التعذّر ، لكونها خلاف الامتنان ، فإنّ لازمه ثبوت التكليف بما عدا المتعذّر ، بخلاف ما إذا لم تجر البراءة وكان شرطا مطلقا حتى حال التعذّر ، فإنّ لازمه سقوط التكليف بالمرّة.

والآخر : ما ذكرنا من عدم جريان حديث الرفع بالنسبة إلى من اضطرّ إلى بيع داره بحيث لو لم يبع داره يموت جوعا ، لكونه أيضا خلاف الامتنان ، بل الامتنان يقتضي الحكم بصحّته.

وفي المقام أيضا رفع مثل هذا الضرر يوقع المكلّف في كلفة التيمّم ، وهو

٥٦١

خلاف الامتنان ، بل الامتنان يقتضي أن يكون وضوؤه مأمورا به حتى لا يجب عليه شيء آخر.

وثانيها : ما ذكره شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ من أنّ مفاد «لا ضرر» لو كان نفي الموضوع الضرري ـ كما اختاره صاحب الكفاية (٢) ـ فللإشكال مجال على تقدير عدم تماميّة الجواب الأوّل.

أمّا إذا كان مفاده نفي الحكم الناشئ منه الضرر ـ كما هو المختار تبعا للشيخ (٣) قدس‌سره ـ فيرتفع الإشكال ، فإنّ الضرر في هذه الموارد لم ينشأ من حكم الشارع بالوجوب حتى يرتفع ، بل نشأ من اعتقاد المكلّف بالوجوب ، ولذا لو لم يكن في الواقع واجبا لوقع في الضرر أيضا.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ مفاد «لا ضرر» ليس نفي الضرر الخارجي ، بل مفاده ـ كما ذكرنا ـ نفي الضرر في عالم التشريع ، ومن المعلوم أنّ إيجاب الوضوء الضرري جعل للضرر في عالم التشريع سواء وصل ذلك إلى المكلّف وعلم به وامتثله أو لم يصل أو وصل وعصى ، ونفيه نفي للضرر في عالم التشريع.

والتحقيق أن يقال : لا بدّ في رفع الإشكال من الالتزام بأحد أمرين : إمّا إنكار حرمة الإضرار بالنفس في غير النّفس والطرف ودعوى أنّه لا دليل على عدم جواز أن يهب أحد جميع ما له لغيره ولو مع عدم قصد التقرّب ، وهكذا أمثال ذلك ممّا يوجب الضرر على النّفس ، أو عدم إنكار ذلك والبناء على الحرمة كما ادّعى الشيخ ـ قدس‌سره ـ دلالة الأدلّة السمعيّة والعقليّة عليها (٤) ، وإنكار

__________________

(١) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢١٥.

(٢) كفاية الأصول : ٤٣٢.

(٣) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٢.

(٤) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٣.

٥٦٢

عدم ترشّح الحرمة من العناوين التوليديّة المحرّمة إلى ما يتولّد منها.

وأمّا مع الالتزام بكلا الأمرين فلا يمكن الحكم بصحّة هذه العبادات أصلا ، بل لا مناص عن الحكم بالبطلان لا من جهة قاعدة لا ضرر ، لما ذكرنا من أنّ شمولها لأمثال ذلك خلاف الامتنان ، بل من جهة أنّ الوضوء الضرري ـ مع العلم بعدم كونه ضرريّا بعد تسليم أنّ الإضرار بالنفس كالإضرار بالغير محرّم من المحرّمات الذاتيّة وتسليم أنّ الحرمة تترشّح من عنوان الإضرار المحرّم إلى ما يتولّد منه وهو الوضوء ـ يقع مبغوضا وحراما (١) ، ولا ريب في أنّ الحرام والمبغوض لا يصلح لأنّ يتقرّب به.

فما نسب إلى المشهور من حرمة الإضرار بالنفس ومبغوضيّة الوضوء المضرّ لا يجتمع مع الحكم بصحّة الوضوء الضرري حال الجهل بالضرر واعتقاد عدمه ، ضرورة عدم مدخليّة العلم والجهل في الحرمة ، ومع كونه حراما كيف يكون مقرّبا!؟

ونظير ذلك ما ذكروا في باب الصلاة في المكان المغصوب من صحّة الصلاة مع الجهل بالغصبيّة.

ولا وجه له أيضا ، بل لا بدّ من الحكم بالبطلان ووجوب الإعادة أو القضاء بعد الانكشاف والعلم بالغصبيّة إلّا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، بل لا بدّ من الحكم ببطلان كلّ عبادة اتّحدت مع عنوان الحرام.

__________________

(١) أقول : إنّ المانع عن وقوع العمل محبوبا هو كونه مبغوضا ، والحرام عند الجهل بالحرمة ـ كما هو المفروض فيما نحن فيه ـ وإن كان حراما إلّا أنّه غير مبغوض للمولى ، ولا دليل على الملازمة بين الحرمة والمبغوضية لا عقلا ولا شرعا ، فبناء عليه لا إشكال في صحة الوضوء الضرري المحرّم عند الجهل بالضرر واعتقاد عدمه ، لأنّه غير مبغوض للمولى وإن كان حراما ، فيقع حراما غير مبغوض ، فلا مانع من شمول الأدلّة العامّة والمطلقة ، فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من صحة الوضوء المذكور. (م).

٥٦٣

هذا ، ولكن للإشكال في صحّة مثل الوضوء الضرري باعتقاد عدم الضرر مدفع ، وهو أنّ البطلان ـ كما ذكرنا ـ يبتني على أمرين : الالتزام بترشّح الحرمة عن العنوان التوليدي بما يتولّد منه ، والالتزام بحرمة إضرار النّفس. فالأولى تنقيح هذين الأمرين :

أمّا الأوّل : فقد مرّ تفصيله في مباحث الألفاظ ، وإجماله أنّ عنوان المحرّم مع ما يتولّد منه إن كانا في نظر العرف موجودين بوجود واحد وإن كان لهما وجودان متغايران بالدقّة الفلسفيّة ، يكون ما يتولّد منه أيضا محرّما ، وهذا كما في عنوان التعظيم المتولّد من القيام وعنوان الهتك المتولّد من الشتم مثلا ، فإنّ نفس القيام والشتم عند العرف تعظيم وهتك ، ولا يرون القيام موجودا والتعظيم موجودا آخر ، فإذا كان الوجود واحدا ، فالإيجاد أيضا واحد ، لتبعيّة الإيجاد للوجود وحدة وتعدّدا ، فإنّهما متّحدان بالذات متغايران بالاعتبار.

وإن كان لكلّ منهما وجود مغاير لوجود الآخر عرفا ، كعنوان إحراق الحطب المتولّد من إلقاء الحطب في النار ، لا تترشّح الحرمة منه إلى المتولّد منه ، فإنّ وجود المماسّة والملاقاة مع النار غير وجود الحرقة ، فإذا تعدّد الوجود ، تعدّد الإيجاد ، فالإحراق عبارة عن إيجاد الحرقة ، والإلقاء عبارة عن إيجاد الملاقاة بين الجسمين ، ومع تعدّد الإيجاد عرفا لا يسري الحكم من عنوان المحرّم إلى ما يتولّد منه.

وبالجملة ، في الفرض الأوّل يرى العرف ما يتولّد منه مصداقا للمحرّم ، بخلاف الثاني ، والمقام من قبيل الأوّل (١) ، فإنّ نفس أكل السمّ أو ما يوجب وجع

__________________

(١) أقول : الحقّ أنّ المقام من قبيل الثاني ، فإنّ الوضوء عبارة عن الغسلات والمسحات ، وهذا سبب وعلّة للضرر وهو الحمّى مثلا ، فإذا بنينا على عدم السراية في القسم الثاني ، فلا وجه لبطلان الوضوء بتعدّد عنوان الإضرار المحرّم والوضوء. (م).

٥٦٤

العين أو غير ذلك يكون مصداقا للإضرار عرفا ، فإن كان الإضرار حراما ، فالوضوء أو الصوم أو غير ذلك ممّا يوجب نقصا في النّفس يكون مصداقا للإضرار بالنفس حقيقة.

وأمّا الثاني : فادّعى الشيخ ـ قدس‌سره ـ دلالة الأدلّة السمعيّة والعقليّة عليه ، ولكن لم يظهر لنا دليل يدلّ على ذلك.

نعم ، خصوص الإلقاء في التهلكة حرام قطعا بمقتضى قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١) وهكذا قطع اليد والرّجل وأمثال ذلك ممّا يقطع بحرمته بالإجماع ، أمّا مثل فعل يوجب شدّة وجع العين ، أو الحمّى يوما أو يومين ، وأمثال ذلك فممّا لا يدلّ على حرمته عقل ولا نقل.

وقوله عليه‌السلام : «الجار كالنفس لا مضارّ ولا آثم» (٢) أجنبيّ عن المقام ، فإنّ الجار في هذه الرواية نزّل منزلة النّفس ، فكما أنّ الشخص لا يضرّ نفسه ولا يعدّ نفسه آثما أيّ لا يعدّ فعله إثما كذلك يجب عليه أن لا يضرّ جاره ولا يعدّ فعل جاره إثما.

وهكذا قاعدة لا ضرر أيضا أجنبيّة عن حكم الإضرار بالنفس ، وإنّما ما تنفيه القاعدة هو الإلزام المستلزم للإضرار بالنفس أو الغير لا جواز الإضرار بالنفس ، واعترف بذلك الشيخ (٣) قدس‌سره أيضا ، فلا دليل على حرمة الإضرار بالنفس مطلقا كما في الإضرار بالغير ، الّذي دلّت عليه روايات كثيرة ، منها : قوله عليه‌السلام ، المرويّ من طرق العامّة والخاصّة : «المسلم من سلم المسلمون من

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٢ ـ ١ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ ـ ٦٥٠ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٢.

(٣) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٣.

٥٦٥

يده ولسانه» (١) بل جواز الإضرار بالنفس في الجملة من بديهيّات الفقه ، وهل يلتزم أحد بحرمة الإضرار بالنفس بهبة جميع ماله لشخص ولو لم يتقرّب بذلك ، أو بسبب السفر للتجارة وتحمّل المشاقّ الكثيرة من العطش والجوع المفرطين؟ فعلى هذا ينتج ما ذكرنا التفصيل في الموارد المذكورة بين ما إذا كان الضرر ضررا يوجب الهلاك أو فقدان عضو من الأعضاء والقول بالبطلان وبين ما لا يصل إلى هذه المرتبة بل يوجب وجع العين أو شدّة الحمّى وبطء برء المرض وأمثال ذلك والقول بالصحّة ، لعدم الدليل على حرمة مثل هذه الأقسام من الضرر.

نعم ، في الفقه الرضوي (٢) ما يدلّ على ذلك ، وهكذا في رواية تحف العقول (٣) ، وهناك رواية أخرى رواها الشيخ في التهذيب (٤) وصاحب الوسائل في باب الأطعمة والأشربة من الوسائل (٥) ، ومضمونها قريبا «إنّ الله تعالى : حرّم الميتة والخمر ولحم الخنزير لعلمه بأنّ فيها ضررا» ولكن ذكرنا في بحث الفقه أنّ الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلا عن كونه معتبرا ، ورواية تحف العقول أيضا ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها ، والرواية الأخيرة وإن كانت معتبرة (٦)

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ١٠ ـ ١٠ ، صحيح مسلم ١ : ٦٥ ـ ٤١ ، سنن الترمذي ٥ : ١٧ ـ ٢٦٢٧ ، سنن النسائي ٨ : ١٠٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٣٨٨ ـ ٢٧١٦ ، مسند أحمد ٢ : ٣٤٧ ـ ٦٤٧٩ ، سنن البيهقي ١٠ : ١٨٧ ، الفقيه ٤ : ٢٦٢.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضاع : ٢٥٤.

(٣) انظر : تحف العقول : ٢٤٧.

(٤) التهذيب ٩ : ١٢٨ ـ ٥٥٣.

(٥) الوسائل ٢٤ : ٩٩ ـ ١٠٠ ، الباب ١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث ١ نقلا عن الكافي [٦ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣ (باب علل التحريم) الحديث ١] وغيره.

(٦) أقول : للرواية طرق أحسنها ما فيه مفضل بن عمر ، وهو لا يوجب اعتبار الرواية ، أمّا ـ

٥٦٦

إلّا أنّه لم تتعلّق الحرمة فيها بعنوان المضرّ ، ولحم الخنزير والخمر والميتة لا ضرر فيها بالنسبة إلى المتعوّدين ، وهكذا لا ضرر في قليل منها بالقياس إلى كلّ أحد ، فلا يمكن الالتزام بأنّ حرمتها من جهة كونها مضرّة بالبدن ، فإنّ لازمه الاقتصار على مورد الضرر والحكم بعدم حرمة القليل منها وعدم كونها حراما على من لا تضرّ بهم من المتعوّدين وغيرهم ، فلعلّ المراد بالضرر هو الضرر على النّفس وانحطاط رتبتها ، ويمكن أن يكون حكمة للتشريع أيضا ، بل لا يبعد ذلك.

هذا كلّه فيما إذا علم بعدم الضرر ، أمّا إذا توضّأ وصام مثلا مع العلم بالضرر ، فالمعروف بين المتأخّرين ، منهم : صاحب العروة (١) والحاج آقا رضا الهمداني (٢) في باب التيمّم ، هو : الحكم بالبطلان ، وفرّقوا بين الضرر والحرج بأنّ الحرج حيث إنّه لم يدلّ دليل على حرمته فمع تحمّله يحكم بصحّة ما تحمّله من العبادة ، لعدم اقتضاء نفي الحرج من جهة كونه واردا في مقام الامتنان إلّا نفي الإلزام بما فيه حرج لا أصل الجواز ، فإذا كان الوضوء الحرجيّ ـ مثلا ـ جائزا أو مأمورا به حيث لم يرفع إلّا الإلزام المتعلّق به يحكم بصحّته ، وهذا بخلاف الوضوء الضرري ، فإنّه حرام ، لكونه مصداقا للإضرار بالنفس ، المحرّم ، فلا يمكن أن يتقرّب به.

__________________

ـ المفضل نفسه فالروايات الواردة في شأنه وكذا أقوال الرجاليّين فيه متعارضة ، وعلى فرض كونه ثقة يقع الكلام في محمد بن مسلم فإنّ من هو من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام لا يمكن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي أن ينقل عنه ، فهو شخص آخر مجهول. ومحمد بن أسلم أيضا لم يثبت وثاقته. وأمّا عبد الرحمن بن سالم فهو ضعيف. وبالجملة لا يمكن إثبات اعتبار الرواية. (م).

(١) العروة الوثقى ، فصل في التيمّم : المسألة ١٩.

(٢) مصباح الفقيه ١ : ٤٦٣.

٥٦٧

واستشكل عليهم شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، وذهب إلى البطلان في كلا البابين بدعوى أنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء وصحّته مع جواز التيمّم يشبه الجمع بين المتناقضين ، فإنّ موضوع الوضوء هو واجد الماء ، وموضوع التيمّم فاقد الماء ، والحكم بالتخيير بين الوضوء والتيمّم لازمه أن يكون المكلّف داخلا في عنوان واجد الماء حال دخوله في عنوان الفاقد(١).

ولكن لا يخفى ما فيه ، ضرورة أنّ آية (فَلَمْ تَجِدُوا)(٢) لم تدلّ على انحصار حكم الوضوء في حقّ الواجد والتيمّم في حقّ الفاقد ، وليس لنا دليل آخر أيضا يثبت ذلك ، بل الآية أثبتت الوضوء على الواجد والتيمّم على الفاقد ، ولا ينافي ورود دليل آخر مثل «لا ضرر» و «لا حرج» يثبت حكم الفاقد على الواجد أيضا ، كما أنّه ورد الدليل على أنّ «من أوى إلى فراشه وذكر أنّه لم يتوضّأ يتيمّم على فراشه» (٣).

والتحقيق أن يقال : إن قلنا بأنّ المنفي في دليل «لا حرج» و «لا ضرر» هو الإلزام ، فلا بدّ من الحكم بالصحّة في كلا البابين ، وإن قلنا بأنّ المنفي هو الحكم الضرري أو الحرجي على ما هو عليه وأنّ إطلاقات أدلّة الأحكام تقيّد بغير موارد الضرر والحرج ، فلا مناص عن الحكم بالبطلان في كلا البابين.

والظاهر هو الثاني ، لما عرفت من أنّ دليل «لا ضرر» و «لا حرج» حاكمان على أدلّة الأحكام وناظران إليها ، ولسانهما نفي جعل الضرر والحرج في عالم التشريع ، فبعد ما لم يكن الحكم الضرري أو الحرجي مجعولا في

__________________

(١) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢١٦.

(٢) النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦.

(٣) الفقيه ١ : ٢٩٦ ـ ١٣٥٣ ، التهذيب ٢ : ١١٦ ـ ٤٣٤ ، الوسائل ١ : ٣٧٨ ، الباب ٩ أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٥٦٨

الشريعة ، فلا يمكن الحكم بصحّة ما فيه الضرر والحرج في صورة التحمّل ، لتقيّد إطلاق الدليل الأوّلي بصورة عدم الضرر ، ومرفوعيّة الحكم الضرري على ما هو عليه ، ولا وجه لمرفوعيّة إلزامه فقط ، كما أنّ دليل المخصّص ، مثل «لا بأس بترك إكرام العالم الفاسق» يرفع وجوب إكرام العالم الفاسق المستفاد من «أكرم العلماء» على ما هو عليه ، لا أنّه يرفع إلزامه ويبقى مستحبّا.

نعم ، إذا كان الفعل الضرري مستحبّا نفسيّا وواجبا غيريّا ، كالوضوء والغسل ، لا مثل الصوم والقيام في الصلاة الضرريّين أو الحرجيّين ، نحكم بصحّته ، لأنّ دليل «لا ضرر» و «لا حرج» يرفعان الأحكام الإلزاميّة ، وأمّا الأحكام الترخيصيّة فلا ، إذ ليس في جعل مثل الاستحباب ـ مثلا ـ ضرر على المكلّف يرفع امتنانا ، بل جعله عين الامتنان ، فكون الفعل ضرريّا وذا مشقّة لا ينافي محبوبيّته ومقرّبيّته ، ولذا جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه الزكيّة في مشقّة العبادة حتى نزل (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)(١) فإذا كان الوضوء استحبابه النفسيّ باقيا على حاله حال الضرر والحرج أيضا ، فهو صحيح ، والصلاة معه صلاة متقيّدة بالطهارة ، فإنّه أحد الطهورين ، ولا ينافي ذلك تقيّد الأمر بالصلاة بعدم الوضوء بالخصوص بعد ما كان الوضوء طهورا ومحصّلا للتقيّد المعتبر في الصلاة.

والحاصل : أنّ الحكم غير الإلزاميّ حيث لا امتنان في رفعه ، بل الامتنان يقتضي جعله وإن كان ضرريّا ، فإذا فرضنا أنّ الوضوء ـ مثلا ـ مستحبّ نفسيّ ، فلا يرفع استحبابه حال الضرر ، وهو طهور ، فتصحّ الصلاة معه ، وهذا بخلاف مثل صوم شهر رمضان ، الّذي لا يكون مستحبّا نفسيّا ، فإنّه إذا كان ضرريّا ،

__________________

(١) طه : ١ و ٢.

٥٦٩

لم يكن مأمورا به أصلا ، لتقيّد أمر الصوم بصورة عدم الضرر ، والمفروض عدم تعلّق أمر آخر به استحبابيّا ، فيقع الضرريّ منه باطلا.

ولا يرد على ما ذكرنا في الوضوء من صحّته وصحّة التيمّم أيضا ـ وبعبارة أخرى : التخيير بين الوضوء والتيمّم ـ ما أورده شيخنا الأستاذ من لزوم شبه التناقض (١) ، لما عرفت من أنّه لا مانع من إثبات الشارع حكم الفاقد على الواجد أيضا.

إن قلت : ما الفرق بين «لا ضرر» الّذي التزمتم بأنّه لا يشمل الأحكام غير الإلزاميّة وبين حديث الرفع الّذي اخترتم أنّه يشمل كلّ مجهول ، سواء كان حكما إلزاميّا أو غيره؟

قلت : حديث الرفع حيث جعل للترخيص الظاهري بلسان الرفع ، ومعه يمكن الاحتياط ودرك المحبوبيّة الواقعيّة أو التحفّظ عن الوقوع في المبغوض غير الإلزاميّ الواقعي ، فليس رفعه ـ أي الحكم غير الإلزاميّ ـ خلاف الامتنان ، وهذا بخلاف نفي الضرر ، فإنّه واقعي ولسانه نفي ما يوجب الضرر وعدم جعل ما يلقي المكلّف في الضرر ، ومن المعلوم أنّ الحكم غير الإلزاميّ حيث إنّ ترك متعلّقه بيد المكلّف لا يصحّ استناد الضرر إلى الشارع ، كما أنّ الحكومة إذا رخّصت في الإضرار بالنفس لا يمكن أن يقال : إنّ الحكومة ألقت رعيّته في الضرر إذا أضرّوا بأنفسهم ، فلا يكون جعله موجبا لإلقاء المكلّف في الضرر ، فلا يكون مرفوعا.

مضافا إلى أنّه لا امتنان في رفعه ، لما عرفت من أنّ الرفع واقعي لا يمكن معه درك محبوب المولى ، بل الامتنان في جعله ، وهكذا الكلام في الحكم غير

__________________

(١) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢١٦.

٥٧٠

الإلزاميّ الحرجي ، كيف لا!؟ وقد صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى تورّمت قدماه فنزل (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)(١) والمستحبّات الحرجيّة ولو شخصا مثل استحباب زيارة الحسين عليه‌السلام ، والحجّ ماشيا وأمثالهما كثيرة جدّاً لا يمكن إنكارها ، والحرج والضرر كلاهما من واد واحد.

بقي فرعان هما : ما إذا تيمّم باعتقاد عدم وجود الماء أو وجود الضرر ثمّ انكشف خلافه ، فذهب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بصحّة التيمّم فيهما (٢) ، نظرا إلى أنّ موضوع التيمّم ـ وهو فقدان الماء ـ محقّق حقيقة ، إذ الفاقد هو الّذي لا يتمكّن من استعمال الماء عقلا أو شرعا لا من ليس عنده الماء ، ومن المعلوم أنّ المعتقد بعدم وجود الماء لا يتمكّن من استعمال الماء الموجود عنده المجهول له ، ولذا لا يمكن تكليفه في هذا الحال بالوضوء ، فإنّه تكليف بما لا يطاق ، لعدم إمكان انبعاثه عنه.

وما أفاده ـ قدس‌سره ـ فيما إذا تيمّم باعتقاد عدم الماء من صدق عنوان الفاقد عليه حقيقة تامّ لا ريب فيه ، وأمّا في الفرع الثاني فلا ، بل يأتي فيه التفصيل المتقدّم من أنّ الضرر على النّفس إن قلنا بحرمته مطلقا ، فحيث إنّ الوضوء باعتقاده مصداق للعنوان المحرّم وهو غير متمكّن منه شرعا والممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، فيصدق عليه أنّه غير واجد للماء حقيقة ، فيصحّ تيمّمه ، فلا تجب إعادة الصلاة بعد انكشاف الخلاف مع الوضوء مطلقا أو في خصوص خارج الوقت على الخلاف.

وإن لم نقل بحرمته ، فالوضوء لا يكون ممنوعا شرعا لا واقعا ولا باعتقاده ، بل يعتقد شمول دليل «لا ضرر» له ، وأنّه مأمور بالتيمّم ، ولا يجب

__________________

(١) طه : ١ و ٢.

(٢) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢١٦.

٥٧١

عليه الوضوء ، فإذا انكشف فساد اعتقاده يعلم بأنّه أتى بخلاف وظيفته ، فلا وجه لصحّة تيمّمه ، فإنّ المفروض أنّه كان واجدا للماء ولم يكن ممنوعا من استعماله لا عقلا ولا شرعا ، ولم يكن مشمولا لدليل «لا ضرر» حتى يجوز له التيمّم تخييرا على التقرير السابق ، فتجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه. هذا بحسب القاعدة الأوّليّة.

أمّا بحسب الروايات الواردة في الباب : فيستفاد من الروايات ـ التي أخذ فيها عنوان الخوف على النّفس أو على قلّة الماء أو على العطش أو خوف البرد في موضوع وجوب التيمّم ـ أنّ الخوف له موضوعيّة ، وأنّه كلّما تحقّق أحد هذه العناوين الأربعة بل عنوان خوف ذهاب الرفقة في السفر أيضا ـ كما يستفاد من رواية أخرى (١) ـ ينتقل الأمر إلى التيمّم واقعا ، وأنّه هو الوظيفة الواقعيّة ، لا أنّه حكم ظاهري ، فإذا كان الخوف على ما ذكر حكمه كذا فالقطع بتحقّق ذلك أولى بذلك.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ (٢) ـ قدس‌سره ـ ذكر هنا فرعا استطرادا لا بأس بذكره ، وهو : أنّ الوضوء المحرّم من جهة الضرر أو وجوب صرف الماء في حفظ النّفس المحترمة هل يمكن تصحيحه بالترتّب ـ بأن يقال : إنّه يجب أن يصرف الماء في حفظ النّفس أوّلا ويحرم عليه صرفه في الوضوء ولكن على تقدير العصيان يصير الوضوء مأمورا به بالأمر الترتّبي ، كالصلاة المزاحمة مع الإزالة ـ أو لا؟ الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ الترتّب وإن كان ـ كما أفاده شيخنا الأستاذ (٣) ـ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٤ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ١٨٥ ـ ٥٣٦ ، الوسائل ٣ : ٣٤٢ ، الباب ٢ من أبواب التيمّم ، الحديث ١.

(٢) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢١٦.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٠٣.

٥٧٢

تصوّره مساوقا لتصديقه إلّا أنّ مجرّد الإمكان لا يكفي ما لم يكن الدليل على الوقوع ، ففي مثل الصلاة والإزالة ـ حيث إنّ الأمر المتعلّق بكلّ منهما مطلق بحيث لو قدر المكلّف على امتثالهما معا لوجب عليه وإنّما التزاحم في مقام الامتثال ـ لا بدّ من الالتزام بالترتّب ، فإنّه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليل الصلاة إلّا حال اشتغال المكلّف بالإزالة ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الأمر بالوضوء من الأوّل مقيّد بصورة التمكّن من استعمال الماء عقلا وشرعا ، فمع وجوب صرفه في غير الوضوء شرعا لا يكون واجدا للماء شرعا.

وهذا يجري في كلّ ما أخذت فيه القدرة الشرعيّة ، مثلا : الاستطاعة أخذت شرعا في موضوع وجوب الحجّ ، فلا يمكن الحكم بوجوب الحجّ ترتّبا على من هو غير متمكّن منه ، لكونه مديونا مع تمكّنه بعصيان أمر أداء الدّين ، ضرورة أنّه غير مستطيع شرعا وإن كان مستطيعا عقلا ولكنّ الموضوع هو الاستطاعة الشرعيّة دون العقليّة.

الأمر الخامس : أنّ دليل «لا ضرر» ناف للحكم الناشئ منه الضرر ، لا أنّه مثبت لحكم في مورد الضرر يرفع به الضرر ، فمن تسبّب إلى ضرر أحد بحيث لا يصدق عليه الإتلاف ـ كفكّ صيد الصائد أو فتح قفص طائر الغير حيث إنّه يصدق على ذلك الإتلاف حقيقة ، ضرورة أنّ الغزال الوحشي المربوط أو الطائر المحبوس في القفص لا يبقى بعد فكّه أو فتح القفص ، بل كان مجرّد فعل أو ترك يترتّب عليه الإضرار بلا صدق الإتلاف عليه ، كما في ترك إنفاق الزوج ، فإنّه ضرر على الزوجة ، وحبس أحد يترتّب على حبسه سرقة ماله ـ لا يمكن الحكم بضمانه من جهة قاعدة لا ضرر ، ولا الحكم بحكم آخر يرفع به الضرر ، كالحكم بولاية الحاكم أو الزوجة على الطلاق.

وقد تمسّك بعض بقاعدة لا ضرر ، وحكم بضمان الحابس ما تضرّر به

٥٧٣

المحبوس بسبب حبسه ، وحكم أيضا بولاية غير من أخذ بالساق من الزوجة أو الحاكم على الطلاق من جهة أنّ عدم حكم الشارع بضمان الحابس ضرريّ. وهكذا عدم جعل الولاية على طلاق زوجة الممتنع من الإنفاق للحاكم أو الزوجة ، فيرفع بدليل لا ضرر.

وقد تصدّى شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ لإبطال ذلك بوجهين :

أحدهما : أنّ دليل «لا ضرر» ناظر إلى الأحكام الثابتة في الشريعة وناف للضرريّ منهما ، فكلّ حكم نشأ منه الضرر فهو مرفوع ، وأمّا إذا ترتّب ضرر على عدم الحكم كما في المثالين ، فلا يشمل دليل «لا ضرر» مثل هذا الضرر المترتّب على عدم الحكم.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ عدم حكم الشارع بالضمان حكم بعدم الضمان ، فإنّ مقتضى قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٢) أنّ الضمان ـ الّذي لم يبيّن وحجب علمه عن العباد ـ مرفوع عن هذا الحابس ، فالشارع أبقى هذا العدم الأزلي على حاله ولم يقلبه إلى الوجود ، فإبقاؤه العدم الّذي هو فعل اختياريّ له حكم بالعدم ، فإذا كان حكم عدميّ ضرريّا ، يرفع بحديث «لا ضرر» ولا فرق بين الأحكام الوجوديّة الضرريّة أو العدميّة الضرريّة.

ثانيهما : أنّ مفاد «لا ضرر» ليس رفع الضرر غير المتدارك كما تقدّم ، ومن المعلوم أنّ الضرر في المثالين وقع خارجا على المحبوس والزوجة ، وحكم الشارع بالضمان وولاية غير الزوج يتدارك هذا الضرر الواقع ، ولا يدلّ

__________________

(١) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢٢١.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ ـ ٣ ، التوحيد : ٤١٣ ـ ٩ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

٥٧٤

دليل «لا ضرر» على أنّ الشارع حكم في كلّ مورد ضرريّ بحكم يتدارك به الضرر ، ضرورة أنّ لازمه تأسيس فقه جديد ، فإنّ مقتضاه أنّه إذا احترق مال أحد أو انهدم دار شخص بسبب سماوي ، يجب أن يتدارك هذا الضرر من بيت المال أو الزكاة ، وهكذا من مرض يجب أن يداوى من بيت المال أو الزكاة ، فلا يمكن القول بضمان الحابس ولا بولاية الحاكم أو الزوجة على الطلاق من هذه الجهة ، بل الحكم بطلاق الحاكم أو الزوجة لا بدّ له من مدرك آخر غير دليل «لا ضرر» فإنّه ينفي الحكم الضرري.

وهذا الجواب هو الجواب المتين.

ويمكن الجواب بجواب آخر ، وهو : أنّ الحكم بعدم الضمان أو عدم ولاية غير الزوج لو سلّم أنّه ضرر على المحبوس والزوجة ، فالحكم بضمان الحابس أو ولاية غير الزوج أيضا ضرر على الحابس والزوج.

لا يقال : إنّ الحابس بنفسه أقدم على ضرر نفسه ، وهكذا الزوج.

فإنّه يقال : لو كان حكم الضمان ثابتا بدليل آخر وكان الحابس عالما به ، لكان إقدامه على الحبس إقداما على ضرر نفسه ، فلم يكن دليل «لا ضرر» شاملا له ، لكنّ الكلام في ثبوت الضمان ، وإثباته بدليل «لا ضرر» دور محال ، فإنّ شموله للضرر الوارد على المحبوس ، المستلزم لضمان الحابس متوقّف على إقدام الحابس ، والإقدام متوقّف على ثبوت الضمان والعلم به.

هذا بحسب القاعدة ، أمّا بحسب الروايات : فالمستفاد من مجموعها أنّه يجب على الزوج إمّا الإنفاق أو الطلاق ، فإذا كان أحد الأمرين واجبا عليه ، فيمكن القول بولاية الحاكم على الطلاق بعد إجباره بأحد الأمرين وامتناعه من باب أنّه وليّ الممتنع.

وهذه الروايات ـ الدالّة على وجوب أحد الأمرين على الزوج ـ حسنة من

٥٧٥

حيث السند والدلالة ، ولا يعارضها ما ورد في المفقود من أنّه تصبر امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه (١) ، وفي زوجة لا يأتيها زوجها من أنّ هذه امرأة ابتليت فلتصبر (٢) ، فإنّ الحكم بالصبر في هاتين الروايتين من جهة غيبة الزوج والشكّ في موته في الأولى ، ومن جهة عدم إتيان الزوج ، لا من جهة ترك إنفاق الزوج حتى يعارض تلك الروايات.

الأمر السادس : في تعارض الضررين على شخص واحد أو شخصين.

أمّا الأوّل : فعلى ما اخترناه من عدم حرمة الإضرار بالنفس إلّا في بعض الموارد : فلا شبهة في جواز اختيار أي منهما ، وعلى القول بالحرمة لا ريب في وجوب اختيار أقلّهما ضررا ، فإنّ مقتضى الامتنان رفع الضرر الأعظم فيما إذا توجّه على شخص واحد ضرران.

وأمّا الثاني : فكما إذا كان المالك محتاجا إلى حفر بالوعة في داره بحيث لو لم يحفر يتضرّر وتخرب داره ، ولو حفر يوجب ضرر جاره. وهذه المسألة ـ كما اعترفت بها شيخنا الأنصاري وشيخنا الأستاذ قدس‌سرهما ـ غير منقّحة في كلماتهم (٣).

وتنقيح البحث فيه بمقدار يمكننا أنّه قد عرفت أنّ مفاد دليل «لا ضرر» هو عدم مجعوليّة الحكم الضرريّ في الشريعة لا عدم الضرر الخارجي ونفيه بحيث لو تضرّر أحد في تجارته مثلا يتدارك ضرره من بيت المال أو يدفع

__________________

(١) الكافي ٦ : ١٤٨ ـ ٤ ، التهذيب ٧ : ٤٧٨ ـ ١٩٢١ و ٤٧٩ ـ ١٩٢٣ ، الوسائل ٢٠ : ٥٠٦ ، الباب ٤٤ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ١ و ٢.

(٢) المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ ٢ : ٣٦٥ ، مستدرك الوسائل ١٥ : ٣٣٧ ، الباب ١٨ من أبواب أقسام الطلاق ، الحديث ٧.

(٣) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٤ ، قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢٢٣.

٥٧٦

عوضه من كيس شخص آخر ، وعلى ذلك فدليل «لا ضرر» أجنبيّ عن الضرر الواقع خارجا غير المستند إلى الشارع ، فلو أجبر ظالم أحدا على دفع مال ، لا يجب دفعه من بيت المال أو من كيس شخص آخر.

وبذلك ظهر أنّ البحث عن تعارض الضررين الخارجيّين على شخصين لا ربط له بدليل «لا ضرر» بل المربوط به هو البحث عن تعارض الضررين اللذين يعلم إجمالا بمجعوليّة أحدهما شرعا بحيث يكون كلّ منهما على تقدير وقوعه مستندا إلى الشارع ، فهنا مسألتان :

الأولى : في تعارض الضررين الخارجيّين.

الثانية : في تعارض حكمين ضرريّين يعلم بمجعوليّة أحدهما إجمالا.

أمّا الأولى فمثالها ما إذا دخل رأس دابّة أحد في قدر شخص آخر وتوقّف إخراجه على أحد أمرين : إمّا كسر القدر أو ذبح الدابّة ، فإنّ أحد الضررين لا بدّ من وقوعه في الخارج ولو لم يكن شرع في البين.

ثمّ إنّ هذا الفعل إمّا من المالك أو الأجنبي أو من قبل الله ، لا إشكال في الأوّل وأنّ الفاعل غاصب يجب ردّ مال صاحبه إليه ولو تضرّر بأيّ مقدار من الضرر ، فلو كان صاحب الدابّة ، يجب عليه ذبح دابّته وتقطيع رأسها وإخراجه عن القدر وردّه إلى صاحبه ولو كانت قيمة الدابّة أضعاف القدر ، وهكذا العكس.

نعم ، لو تضرّر الغاصب بضرر يعلم بعدم محبوبيّته للشارع ، كما إذا أدخل رأس عبده في القدر ، فلا إشكال في وجوب كسر القدر وردّ مثله أو قيمته إلى صاحبه.

وهكذا لا إشكال في ضمان الأجنبي ، فإنّه غاصب يجب ردّ مال كلّ أحد إلى صاحبه إمّا عينه أو قيمته ، وحيث لا يقدر على ردّ عين المالين فيردّ عين

٥٧٧

ما هو الأهمّ ، ويدفع مثل الآخر أو قيمته ، ويتخيّر في صورة التساوي ، فلو كسر القدر ، يجب عليه ردّ قيمته إلى صاحبه ، ولو ذبح الدابّة ، يجب عليه ردّ قيمتها.

والمشهور في الثالث ـ كما ادّعى الشيخ (١) قدس‌سره ـ أنّه يراعى أقلّ ضررا ، لأنّ المكلّفين والمسلمين بمنزلة شخص واحد عند الشارع ، فكما يراعى أقلّ ضررا في شخص واحد كذلك في شخصين ، فيكسر القدر مثلا إن كانت قيمته أقلّ ، كما هو الغالب ، ويدفع صاحب الدابّة قيمته إليه. ولعلّ بعضا قال بالقرعة ، وقيل بالتخيير.

ولا وجه لما نسب إلى المشهور ، الّذي مرجعه إلى تخسير صاحب الدابّة ، إذ أيّ مرجّح في توجيه الضرر والخسارة إليه دون صاحب القدرة؟

فالتحقيق أن يقال : إن كان أحد المالين المقيّد بالآخر ممّا لا يجوز إتلافه كالعبد المحترم دمه ، يتعيّن إتلاف مال الآخر للتخليص ، وإن لم يكن كذلك كالمثال المذكور ، فإن تراضى المالكان بشيء فهو ، وإن لم يتراضيا بشيء ورفع أمرهما إلى الحاكم ، فالظاهر أنّ قاعدة العدل والإنصاف ـ التي هي قاعدة عقلائيّة ، وموردها ما إذا توقّف حفظ مال أحد على إتلاف بعض ماله ، كما إذا توقّف حفظ مال مسلم عن الجائر على إعطاء درهم أو درهمين من ماله إليه ، أو توقّف حفظ أموال شخص عن الاحتراق على كسر باب داره ، فإنّ هذا الإتلاف إحسان محض على المالك ، و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)(٢) أو إذا توجّه إلى شخصين ضرر كانت نسبته إليهما على حدّ سواء ، كما في رواية الودعي ، الآمرة بإعطاء درهم ونصف إلى صاحب الدرهمين ونصف درهم إلى

__________________

(١) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٤.

(٢) التوبة : ٩١.

٥٧٨

صاحب الدرهم (١) ، فإنّه يمكن تطبيقها على هذه القاعدة ـ تقتضي إتلاف أقلّهما ضررا وتخسير مالك الآخر نصف هذا الضرر ، فإنّ حفظ مال كلّ منهما عن الإتلاف يتوقّف على إتلاف مقدار من ماله بماليّته لا شخصه ، فيجب على الحاكم حسبة ـ على تقدير كون المالكين حاضرين ـ أو ولاية ـ على تقدير كونهما غائبين ـ حفظ المالين عن الإتلاف بالكلّيّة ، ورفع النزاع من البين بإتلاف بعض مال من كلّ منهما ، المتحقّق من توزيع ما يتلفه من القدر ـ مثلا ـ في المثال إلى المالكين.

وإن شئت قلت : إنّ حفظ ماليّة كلّ من المالين يتوقّف على التخليص ، وبالتخليص يتحقّق ضرر في الخارج لا محالة ، ونسبة هذا الضرر إلى كلّ منهما على حدّ سواء ، فتوجيهه إلى أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيجب أن يوجّه إليهما معا بالسويّة.

وأمّا المسألة الثانية : فمثالها ما إذا أراد مالك الدار حفر بئر أو بالوعة يضرّ بالجار. وهو يتصوّر على صور أربع ، فإنّ المالك إمّا أن يتضرّر بترك الحفر أو أنّه يفوته نفع فقط أو أنّه لا يتضرّر بالترك ولا ينفع بالفعل ، وعليه إمّا أنّ يفعل عبثا أو يفعل إضرارا بالجار.

ثمّ إنّ المشهور ـ على ما نسب إليهم الشيخ (٢) قدس‌سره في رسالته الضرريّة ـ ذهبوا إلى جواز الحفر في الصورتين الأوّليين ، وعدم ضمان مالك الدار ما يخسره الجار ، وإلى عدم جوازه في الأخريين ، وضمانه له على تقدير فعله.

ووجه ذلك في الصورتين الأخيرتين واضح ، لشمول دليل «لا ضرر»

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٢ ـ ٥٩ ، التهذيب ٦ : ٢٠٨ ـ ٤٨١ و ٢٩٢ ـ ٨٠٩ ، الوسائل ١٨ : ٤٥٠ ، الباب ٩ من أبواب كتاب الصلح ، الحديث ١.

(٢) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٥.

٥٧٩

لهما ، بل ادّعى صاحب الرياض ـ كما حكي عنه ـ أنّ مورد دليل «لا ضرر» هو مورد قصد الإضرار بالغير (١).

وبالجملة ، وجهه ما عرفت من أنّ دليل «لا ضرر» يستفاد منه أمران :

أحدهما : عدم جعل الإلزام الضرري.

والآخر : عدم جعل ترخيص يترتّب عليه ضرر الغير ، فإنّ ترخيص هذا التصرّف في ماله ، الّذي يترتّب عليه ضرر الغير جعل للضرر في الشريعة ، فتخصّص الأدلّة الأوّليّة الدالّة على سلطنة المالك على التصرّف في ماله بغير هذا التصرّف المضرّ بالغير.

وأمّا وجه الجواز وعدم الضمان في الصورتين الأوليين : فقد ذكر أنّ ترك الإضرار بالجار مثلا حيث إنّه حرجيّ فيكون المورد موردا لدليل «لا ضرر» و «لا حرج» وحيث إنّ «لا حرج» حاكم على دليل «لا ضرر» يتقدّم ويحكم بالجواز ، وعلى تقدير عدم الحكومة يتساقط الدليلان بالتعارض ، ويرجع إلى عموم الفوق ، مثل : «الناس مسلّطون على أموالهم» (٢) أو إلى أصالة الإباحة.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ عدم حفر البالوعة ، الموجب لفوت النّفع أو الضرر لا يلازم حرجيّته ، بل بين الحرج والضرر وعدم النّفع عموم من وجه ربّما يجتمعان وربما يفترقان ، فإنّ المالك إذا كان موسرا ، أو صار ترك حفر البالوعة موجبا لخراب داره أو فوت منفعة منه لا يكون ذلك حرجا عليه.

نعم ، إن فسّر الحرج بالمشقّة الروحيّة لا المشقّة البدنيّة الخارجيّة التي لا تتحمّل عادة ، يكون الضرر أو فوت النّفع حرجا ومشقّة على النّفس ، لكن

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق النائيني ـ قدس‌سره ـ في رسالة قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢٢٤.

(٢) غوالي اللئالي ٢ : ١٣٨ ـ ٣٨٣.

٥٨٠