الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

ذكرنا أنّ أمثاله كثيرة في الآيات والروايات ، كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) و «لا عمل في الصلاة» والنفي في أمثال ذلك يتعلّق بأمر خارجي ، وليس له ضابط كلّي.

وهكذا لا شبهة في صحّة استعماله في مقام نفي فرديّة ما هو فرد لطبيعة واقعا ، تشريعا ، وبيان أنّه ليس مصداقا له ، لخصوصيّة فيه ، ولعلّ ذلك أغلب موارد استعماله ، وأمثلته في الروايات وغيرها كثيرة ، كقوله عليه‌السلام : «لا ربا بين الوالد والولد» وقوله عليه‌السلام : «لا غيبة لمن ألقى جلباب الحياء» (٢) وقوله عليه‌السلام : «لا صدقة وذو رحم محتاج» (٣) و «لا شكّ لكثير الشكّ» وغير ذلك ممّا نفى فرديّة فرد لطبيعة في الخارج ، لمكان خصوصيّة موجودة فيه ، كخصوصيّة كون الرّبا بين الوالد والولد ، وخصوصيّة كون المغتاب ـ اسم مفعول ـ ملقيا لجلباب الحياء ، وخصوصيّة كون المتصدّق على الغير وله ذو رحم محتاج ، وخصوصيّة كون الشاكّ كثير الشكّ ، الموجبة لسلب الشارع صدق الرّبا والغيبة والصدقة والشكّ عن الفرد المتخصّص بها ، المستلزم لسلب حكمه من الحرمة كما في الأوّلين ، والمحبوبيّة في الثالث ، والبطلان أو لزوم البقاء على الأكثر في الأخير ، والوجوب أو الاستحباب ، كما في «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وهذا القسم أيضا لا ضابطة له ، ويتعلّق النفي بأمر خارجي.

وهنا معنى آخر ربّما تستعمل أمثال هذه التراكيب فيه ، وهو نفي الشيء في الشريعة والدين إمّا من جهة كونه مشروعا في الشرائع السابقة فينتفي في مقام

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) الاختصاص : ٢٤٢ ، وعنه في البحار ٧٢ : ٢٦٠ ـ ٥٩.

(٣) الفقيه ٢ : ٣٨ ـ ١٦٦ ، و ٤ : ٢٦٧ ـ ٨٢٤ و ٢٧٣ ـ ٨٢٨ ، الوسائل ٩ : ٣٨٠ و ٣٨٤ و ٤١٢ ، الأبواب ٧ و ٨ و ٢٠ من أبواب الصدقة ، الأحاديث ٢ و ٤ و ٤.

٥٤١

النسخ له ، كما في «لا رهبانية في الإسلام» أو من جهة كونه أمرا متداولا بين العقلاء فينفى في مقام الردع عن سيرتهم وعدم إمضاء رويّتهم كما في «لا نجش في الإسلام» بناء على أنّ المراد من النجش هو الزيادة في الثمن بلا قصد الاشتراء لترغيب المشتري ، فإنّه أمر متداول بين العقلاء وشيء جائز عندهم ، فنفي الشارع إيّاه ، ورفع جوازه العقلائي وحكم بأنّه غير ثابت في دين الإسلام ، وهكذا حكم بأنّ الرهبانيّة ـ التي كانت في شريعة عيسى عليه السلم جائزة ـ غير ثابتة في هذه الشريعة ، ولا تكون محكومة بالجواز. والنفي في هذا القسم يتعلّق بالدين لا بالخارج لا وجود كما في القسم الأوّل ولا انطباقا كما في القسم الثاني.

ومعنى سادس ، وهو أن يكون النفي أيضا ناظرا إلى الدين كالسابق لكن متعلّقه نفس جعل المولى لا فعل من أفعال المكلّف كما في السابق ، كما في قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) فإنّ الحرج عنوان ينطبق على فعل المولى كما ينطبق على فعل العبد ، فكما يصدق أنّ المكلّف أوقع نفسه في الحرج إذا ارتكب أمرا شاقّا كذلك يصدق أنّ الشارع أوقع المكلّفين في الحرج إذا كلّفهم بتكليف شاقّ حرجيّ ، فإلزام بني إسرائيل بأن يقرضوا ما أصابه البول من بدنهم ـ وهذا في غير المخرج ، لعدم صدق الإصابة فيه ـ بالمقاريض ـ كما دلّت عليه رواية (٢) ـ تكليف شاقّ حرجيّ كان مجعولا في شريعتهم ، فالمنفي على هذا نفس الحكم الحرجيّ ، وظرف المنفي الدين الّذي هو عبارة عن مجموعة من الأحكام المجعولة ، والنفي على هذا حقيقيّ ليس فيه

__________________

(١) الحجّ : ٧٨.

(٢) الفقيه ١ : ٩ ـ ١٣ ، التهذيب ١ : ٣٥٦ ـ ١٠٦٤ ، الوسائل ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤.

٥٤٢

ادّعاء ولا تنزيل ، فالحرج منفي في عالم التشريع حقيقة وغير مجعول بلا عناية.

وقد تلخّص أنّ هنا محتملات في الحديث الشريف :

الأوّل : أن يكون المراد نفي الضرر غير المتدارك. وقد عرفت ما فيه.

الثاني : أنّ يكون إخبارا عن العدم الخارجي بادّعاء وجود المقتضي له ، وهو إلزام المولى بالترك ، وفقد المانع ، وهو عصيان العبد ، فإنّ إلزام المولى بشيء بمنزلة العلّة التامّة له بعد كون العبد في مقام الإطاعة والانقياد.

والحاصل : أن يكون إخبارا عن العدم الخارجي كناية عن كون الإضرار منهيّا عنه ، نظير الإخبار بوجود شيء خارجا كناية عن كونه مأمورا به ، كما في «يعيد صلاته».

وهذا الاحتمال وإن كان ممكنا معهودا كما ذكرنا إلّا أنّه خلاف الظاهر من وجهين :

أحدهما : من جهة وجود كلمة «في الإسلام» في بعض رواياته ، فإنّ ظاهره أنّ الضرر منفي في عالم التشريع.

ثانيهما : لزوم ارتكاب الادّعاء والتنزيل الّذي ليس عليه دليل.

الثالث : أن يكون إخبارا عن عدم الانطباق الخارجي وأنّ الغيبة مثلا لا تنطبق على غيبة من ألقى جلباب الحياء ، في مقام رفع الحكم عن المنفي ونفي الحرمة عن هذا الفرد من الغيبة.

الرابع : أن يكون إخبارا عن عدم ما كان ثابتا في الشرائع السابقة أو ما جرى عليه سيرة العقلاء في عالم التشريع نسخا أو ردعا.

وهذا أيضا خلاف ظاهر الحديث ، فإنّ الإضرار بالغير لم يكن ثابتا في الشرائع السابقة حتى يكون نسخا له ، ولا أمرا جاريا بين العقلاء حتى يكون ردعا لهم ، فإنّ كلّ عاقل لا يجوّز الإضرار بالنفس أو الغير ، بل يعدّه قبيحا.

٥٤٣

الخامس : أن يكون نفيا للحكم الضرري وإخبارا عن عدم جعل الضرر في عالم التشريع ، كما أفاده الشيخ (١).

وهل يكون الحديث من هذا القبيل ، كما في (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أو هو ظاهر في الاحتمال الثالث الّذي استظهره صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره؟ الظاهر هو الأوّل ، لما ذكرنا من أنّ النفي إذا تعلّق بعنوان ينطبق على فعل المكلّف وفعل المولى ، كالحرج ، ففي مثل هذا العنوان ظاهر في عدم جعله في عالم التشريع ، فإنّه نفي حقيقي لا يرتكب فيه تكلّف مجاز وخلاف ظاهر أصلا ، وعنوان الضرر من هذا القبيل ، فإنّه كما يصدق أنّ المكلّف أوقع نفسه في الضرر بارتكابه ما يوجب الضرر عليه كذلك يصدق أنّ المولى ألقى عبده في الضرر إذا كلّفه بتكليف ضرريّ ، وكما أنّ جعل الحكم الناشئ منه الضرر جعل للضرر على المكلّف حقيقة كذلك نفي الحكم الضرري نفي للضرر عن المكلّفين حقيقة بلا عناية أصلا ، فمفاد «لا ضرر» بعينه مفاد (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) واستعمال أمثال هذه التراكيب في نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، ونفي فرديّة المنفي للطبيعة المحكومة به وإن كان ممكنا شائعا كما في «لا ربا بين الوالد والولد» ونظائره إلّا أنّه في خصوص المقام لا يمكن الالتزام به ، لأنّ الحكم المنفي في مثل «لا ربا بين الوالد والولد» هو الحكم الثابت على نفس الموضوع ، وهي الحرمة ، وفي المقام لا يمكن نفي الحكم الثابت على نفس عنوان الضرر بلسان نفيه ، فإنّه أوّلا : يفيد ضدّ المقصود ، إذ لا نعقل حكما لنفس عنوان الضّرر إلّا الحرمة ، فنفيها يفيد جواز الضرر وينافي مورد الرواية أيضا في قوله عليه‌السلام : «إنّك رجل مضارّ ولا ضرر

__________________

(١) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٢.

(٢) كفاية الأصول : ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

٥٤٤

ولا ضرار» (١).

وثانيا : لا يعقل ذلك حيث إنّ الضرر ـ سواء كان تمام الموضوع للحرمة أو جزءه أو قيده ـ يكون من جهة المفسدة المترتّبة عليه مقتضيا للحرمة أو ممّا له دخل في ثبوت الحرمة ، وما يكون كذلك كيف يعقل أن يكون مانعا عن الحرمة!؟

وثالثا : لا معنى لنفي الضرر فيما يكون جزءا للموضوع أو قيدا له ، فإنّ الموضوع حينئذ ضرريّ لا أنّه ضرر ، وفرق بيّن بين الضرر والضرريّ والحرج والحرجيّ ، ف «لا ضرر في الإسلام» مفاده غير مفاد «لا ضرريّ في الإسلام» والموضوع ـ الّذي يكون الضرر قيدا له أو جزءا ـ ضرري فلا يصحّ نفيه إلّا ب «لا ضرريّ» فنفي الحكم الثابت على نفس عنوان الضرر ـ سواء كان تمام الموضوع أو جزءه أو قيده ـ ليس مرادا من هذه القضيّة قطعا.

وأمّا احتمال كونها متكفّلة لنفي الحكم الثابت على الموضوع في حال الضرر وزمان الضرر بأن يكون المنفي هو الحكم الطبعيّ الثابت على الوضوء مثلا في حال الضرر بلسان نفي الضرر ، فهو ليس نفيا لوجوب الوضوء بلسان نفي موضوعه (٢) ، بل نفي له بلسان نفي ظرف موضوعه ، ومثل هذا خارج عن طريق المحاورات العرفيّة ، وهل يصحّ في مقام نفي حكم الصوم في حال السفر قولنا : «لا سفر» أو لا بدّ من القول ب «لا صوم في السفر»؟

وقياس المقام برفع الخطأ والنسيان حيث إنّ المرفوع ليس هو الحكم

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٩٤ ـ ٨ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٤.

(٢) المراد من الموضوع ما يعمّ المتعلّق. (م).

٥٤٥

الثابت على نفس العنوانين قطعا كالدية مثلا ، بل هو الحكم الثابت على الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان ، فهو رفع للحكم بلسان رفع ظرف الفعل ، قياس مع الفارق.

أمّا أوّلا : فلأنّ الخطأ والنسيان حيث إنّهما يوجبان وقوع المكلّف في خلاف الواقع ، فالمكلّف من جهة خطئه يكذب ومن جهة نسيانه يترك السورة ، فرفع الخطأ رفع لحكم المعلول وهو الكذب بلسان رفع علّته ، وهو موافق للذوق العرفي ، بخلاف المقام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الخطأ لا يعقل معنى لرفعه إلّا رفع حكم الفعل الخطئي ، وهكذا النسيان ، وليس ممّا ينطبق على فعل المولى حتى يرفع في عالم التشريع ، ولا يكون هو بنفسه قابلا للجعل حتى يصحّ إسناد الرفع وعدم الجعل في الشريعة إليه حقيقة ، وهذا بخلاف عنوان الضرر ، كما عرفت.

وبالجملة ، لا مناص عن الالتزام بأنّ القضيّة متكفّلة لبيان عدم جعل الضرر في الدين ، وعلى ذلك لا يفرّق بين كونه ناشئا من نفس الحكم أو الموضوع ، بل الضرر مطلقا ـ سواء كان في الحكم أو في الموضوع ـ لم يجعل في الشريعة المقدّسة بمقتضى ظاهر الحديث الشريف.

وهكذا لا يفرّق بين الأحكام التكليفيّة الضرريّة والأحكام الوضعيّة الضرريّة ، بل الكلّ منفيّ بجامع واحد ، وهو ما يستتبع جعله جعله الضرر في الدين ، ومنه جعل ترخيص الإضرار بالغير ، فإنّه أيضا مستلزم لذلك ، فهو أيضا منفي ، ونتيجته حرمة الإضرار بالغير ، وعلى ذلك يصحّ تطبيق القاعدة على مورد رواية سمرة ، ويحسن ذكر «لا ضرر ولا ضرار» بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّك

٥٤٦

رجل مضارّ» (١) كما لا يخفى.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ الضرر كسائر العناوين ـ التي أخذت موضوعة للأحكام الإيجابيّة أو السلبيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ في عدم فعليّة حكم في مورد إلّا مع تحقّق هذا العنوان فيه ، فكما أنّ فعليّة وجوب إكرام كلّ أحد تابعة لصدق عنوان «العالم» عليه في قضيّة «أكرم العلماء» كذلك نفي كلّ حكم بالقياس إلى أيّ شخص تابع لضرريّته بالنسبة إليه ، فإذا فرضنا أنّ الوضوء مثلا لبرد الهواء ضرريّ لجميع المكلّفين إلّا واحدا منهم ، لا يمكن القول بعدم وجوبه على هذا الشخص ـ الّذي لا يكون في حقّه ضرريّا ـ أيضا ، وهل تكفي عالميّة نوع أهل البلد في وجوب إكرام من كان جاهلا منهم؟

وعلى هذا فلا معنى للبحث عن أنّ المنفي هو الضرر الشخصي أو النوعيّ ، فالضرر المنفي كسائر العناوين المرفوعة مثل الخطأ والنسيان وما اضطرّوا إليه وغير ذلك.

نعم ، يمكن أن يكون الضرر النوعيّ حكمة لجعل حكم أو نفي حكم ، كما في نظائره من اختلاط المياه ، الّذي هو حكم لجعل العدّة في جميع الموارد ، إلّا أنّه لا يكون في المقام كذلك ، ضرورة أنّه أخذ موضوعا للنفي كما أخذ الخطأ موضوعا للرفع وهكذا النسيان وغيره ، لا حكمة له حتى يقال : إنّ الضرر النوعيّ موجب لرفع الحكم الضرري بالضرر النوعيّ عن جميع المكلّفين.

لا يقال : أفتى الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ بثبوت خيار الشفعة

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٩٤ ـ ٨ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٤.

٥٤٧

للشريك ، وتمسّكوا لذلك بقاعدة لا ضرر مع أنّ بين الشفعة والضرر ـ كما مرّ ـ عموما من وجه. وهكذا أفتوا بثبوت خيار الغبن للمغبون. وتمسّكوا له بهذه القاعدة مع أنّه ربّما لا يكون اللزوم ضرريّا للمغبون بل الفسخ يكون ضرريّا ، كما إذا تنزّل ما باعه بثمانين ـ وكانت قيمته مائة ـ وصار حين الفسخ خمسين ، فإنّ الفسخ موجب لتضرّره وإعطائه ثمانين وأخذه ما يساوي بخمسين ، حيث نقص من ماليّته ثلاثون.

ولا معنى للتمسّك بالقاعدة في أمثال هذه الموارد إلّا أن يكون الضرر المنفي نوعيّا لا شخصيّا.

فإنّه يقال : أمّا خيار الشفعة : فليس مدركه «لا ضرر» بل له دليل خاصّ ، وذكر قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ب «لا ضرر ولا ضرار» في ذيل قضائه بالشفعة (١) إمّا لكون الضرر حكمة أو لكون الجمع بين القضاءين من باب الجمع في الرواية لا الجمع في المرويّ كما ذكرنا.

وأمّا خيار الغبن : فهو أيضا ليس مدركه قاعدة لا ضرر ، فإنّ مقتضاها بطلان العقد الغبني لا خياريته ، إذ مع خياريته أيضا الضرر وارد على البائع مثلا ، غاية الأمر أنّه يمكنه أن يتداركه بالفسخ ، فضرريّة من جهة صحّته لا لزومه ، بل المدرك هو تخلّف الشرط الضمني الثابت ببناء العقلاء في جميع معاملاتهم ، وهو التسوية بين المالين ، ضرورة أنّ كلّ عاقل في مقام المعاملة يعامل على أن يساوي ما يأخذه من صاحبه ما يعطيه ، وتخلّفه يوجب الخيار بالسيرة القطعية العقلائية.

الأمر الثاني : استشكل على القاعدة بأنّها مخصّصة بأكثر الأحكام ، ضرورة

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٨٠ ـ ٤ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ ـ ٧٢٧ ، الوسائل ٢٥ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ، الباب ٥ من أبواب كتاب الشفعة ، الحديث ١.

٥٤٨

أنّ باب الخمس والزكاة والحجّ والجهاد والضمانات والجنايات بأجمعها ضرريّة ، وهكذا بعض المحرّمات ، كحرمة شرب المائعات من جهة نجاستها ونجاسة مثل الدهن وغيره بالملاقاة ، فيلزم تخصيص الأكثر المستهجن.

وأجاب عنه الشيخ ـ قدس‌سره ـ بأنّ ذلك إن كان بإخراج الأفراد عن تحت العامّ ، فهو مستهجن قبيح ، أمّا لو كان بعنوان يستوعب أكثر أفراد العامّ فلا (١).

وأشكل عليه صاحب الكفاية قدس‌سره ـ ونعم الإشكال ـ بأنّ الأحكام المنفيّة أحكام خارجيّة ثابتة في الدين ، فالقضيّة خارجيّة ، ولا فرق في القضيّة بين إخراج أكثر الأفراد بعنوان مستوعب لأكثر أفراد العامّ وبين إخراجه بالتخصيص الأفرادي في كونه مستهجنا ، فكما يستهجن قولنا : «قتل من في العسكر» وإخراج جميع الأفراد من زيد وعمرو وبكر إلى أن يبقى واحد أو اثنان كذلك يستهجن ذلك إذا أخرج هذا المقدار بعنوان يستوعبه (٢).

والصواب في الجواب أن يقال : أمّا باب الخمس والزكاة : فخروجه من باب التخصّص لا التخصيص ، فإنّ الشارع من الأوّل جعل الفقراء شركاء للزارعين والمالكين الذين تصل أموالهم الزكويّة إلى حدّ النصاب ويربحون في تجاراتهم ، واعتبر تسعة أعشار للمالك وعشرا للفقير مثلا ، وهذا كما اعتبر للذكر مثل حظّ الأنثيين ، ومن المعلوم أنّ إعطاء ذي حقّ حقّه وأداء ما عنده أمانة إلى صاحبه ومالكه لا يكون ضررا على المعطي ، فالخمس أو الزكاة بحسب اعتبار الشارع أمانة لصاحبيه ومستحقّيه عند من تعلّق عليه يجب ردّها إليهم.

وأمّا باب الضمانات بالإتلاف واليد العادية ـ وكذا باب الجنايات ـ فهو أيضا كذلك ، فإنّ القاعدة قاعدة امتنانيّة شرّعت امتنانا على جميع الأمّة ، ومن

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣١٦.

(٢) حاشية فرائد الأصول : ١٦٩.

٥٤٩

الواضح أنّ الحكم بعدم ضمان المتلف لا يكون امتنانا على جميع الأمّة ، فإنّه وإن كان امتنانا على المتلف إلّا أنّه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المتلف منه بل موجب لتضرّره. وهكذا الكلام في الجنايات ، فهي مع الضمانات بأجمعها خارجة عن القاعدة موضوعا لا من باب التخصيص.

وأمّا باب الحجّ والجهاد : فحيث إنّ كلّا منهما كان مجعولا معروفا عند كلّ مسلم في زمان صدور الرواية ، فإنّها صدرت في المدينة ، وكان ضرريّا بالطبع يمكن دعوى انصراف الرواية عنهما ، ولذا لم يكن لسمرة حقّ الاعتراض بأنّ الحجّ ضرري والجهاد كذلك فكيف تقول : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»؟

بل بمقتضى كون القضيّة خارجيّة ناظرة إلى الأحكام المجعولة في الشريعة حاكمة عليها لا بدّ من الالتزام بأنّ الضرر المنفي هو الضرر الطارئ بعد جعل الحكم لا الطبعي المقوّم للحكم ، فمفادها ـ سيّما بقرينة موردها ـ أنّ الأحكام الخارجيّة المجعولة التي لم تكن في طبعها ضرريّة إذا استتبعت للضرر وطرأ عليها ذلك ، فهي منفيّة غير مجعولة ، فكلّ حكم كان ضرريّا من أوّل جعله بمعنى أنّه كان حكما من الشارع بالضرر ـ لا أنّه لم يكن كذلك بل طرأه ذلك مثل الوضوء الضرري ـ كالحجّ والجهاد والخمس والزكاة لم يكن مشمولا للقاعدة.

والحاصل : أنّ الرواية لا تدلّ على نفي الأحكام الثابتة للموضوعات التي مقوّمها ومحقّقها الضرر ، فهذا الوجه سار في الجميع.

هذا ، مضافا إلى أنّ نفس تلك الأحكام أيضا إذا طرأ عليها الضرر واستتبعت الضرر أزيد ممّا أخذ في متعلّقاتها وأكثر ممّا هو مقوّم لموضوعاتها ، تكون مرتفعة ب «لا ضرر» كما إذا كان الخمس أو الزكاة أو الحجّ مثلا موجبا لضرر آخر عليه كالضرب في طريق الحجّ وغيره.

وأمّا باب المحرّمات والنجاسات : فإن قلنا : إنّ الضرر عبارة عن النقص

٥٥٠

في المال ، فهو أيضا خارج موضوعا ، فإنّ نجاسة الدهن مثلا لا تستلزم خروجه عن كونه مالا ولا ينقص بذلك عنه شيء ، بل توجب قلّة الانتفاع به ونقص ماليّته ، وقلّة الانتفاع لا تكون ضررا. وهكذا غير الدهن من المائعات المتنجّسة ، فإنّ الانتفاع بها ـ ولو بمثل الاستصباح وجعلها في الصابون ، والبيع من الكفّار ـ وصرفها في الصبيان والبهائم ممكن.

وإن قلنا : إنّه عبارة عمّا هو أعمّ من النقص في المال والماليّة ، فهو من باب التخصيص ، ولا ضير فيه بعد ما كان جميع ما سواه من باب التخصّص.

نعم ، ورد الدليل على أنّ «ماء الوضوء يشترى بأغلى ثمن» (١) فهو أيضا من باب التخصيص ولكن يقتصر على مورده ، ولا نتعدّى إلى غيره. وهكذا وردت روايات على أنّ «من أجنب متعمّدا يجب عليه الغسل ولا ينتقل فرضه إلى التيمّم ولو ترتّب على غسله ضرر» (٢) لكن لم يعمل بها الأصحاب. فاتّضح عدم لزوم تخصيص الأكثر.

بل لو فرضنا أنّ خروج جميع هذه الموارد من باب التخصيص أيضا لا يلزم ذلك ، لما عرفت من أنّ هذه الموارد أيضا إذا ترتّب عليها ضرر زائدا على الضرر الطبعيّ الموجود في متعلّقه تكون مشمولة للقاعدة ، فإذا ضممنا إليها جميع الواجبات والمحرّمات الضرريّة التي تكون مشمولة للقاعدة ، تكون الأفراد الداخلة أكثر بمراتب من الأفراد الخارجة ، بل هي بالقياس إليها أقلّ قليل.

وبذلك ظهر أنّ القول بأنّ القاعدة لا يجوز التمسّك بها إلّا في خصوص

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٤ ـ ١٧ ، الفقيه ١ : ٢٣ ـ ٧١ ، التهذيب ١ : ٤٠٦ ـ ١٢٧٦ ، الوسائل ٣ : ٣٨٩ ، الباب ٢٦ من أبواب التيمّم ، الحديث ١.

(٢) انظر الوسائل ٣ : ٣٧٣ ، أحاديث الباب ١٧ من أبواب التيمّم.

٥٥١

الموارد التي تمسّك بها المشهور ـ كقاعدة الميسور ـ لأجل ذلك لا وجه له.

الأمر الثالث : في بيان النسبة بين دليل «لا ضرر» وأدلّة الأحكام.

ذكروا أنّ النسبة بينه وبين كلّ واحد من أدلّة الأحكام عموم من وجه ، فإنّ دليل الوضوء مثلا شامل لمورد الضرر وغيره ، وهكذا دليل «لا ضرر» يشمل الوضوء الضرري وغيره.

فذهب بعض إلى تقديم قاعدة «لا ضرر» وترجيح دليلها ، لعمل المشهور على طبقها ، فيعمل بها في الموارد التي عمل بها المشهور.

وآخر إلى تساقطهما والرجوع إلى ما ينتج نتيجة العمل بالقاعدة ، وهو أصل البراءة عن وجوب الوضوء في المثال.

وثالث إلى تقديم دليل «لا ضرر» نظرا إلى أنّ النسبة تلاحظ بين مجموع الأحكام ودليل «لا ضرر» فإنّه ناظر إلى نفي الضرر في الإسلام ، وليس الإسلام إلّا مجموع هذه الأحكام ، ومن المعلوم أنّ النسبة بينهما عموم مطلق ، فيقدّم دليل الخاصّ ـ وهو «لا ضرر» ـ على مجموع أدلّة الأحكام الشاملة لحال الضرر وغيره.

ورابع إلى تقديم دليل «لا ضرر» وإن كان أعمّ من وجه من كلّ واحد من أدلّة الأحكام كلّا من جهة أنّ تقديم أدلّة الأحكام على دليل «لا ضرر» موجب لصيرورته بلا مورد ، وترجيح بعضها عليه دون بعض ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن ترجيح دليل «لا ضرر» لئلا يلزم هذان المحذوران.

وهناك مرجّح خامس ، وهو ما أفاده صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ من تقديم ما يتكفّل لحكم العنوان الثانوي على ما يتكفّل لحكم العنوان الأوّلي عرفا ، وأنّ العرف يحملون الثاني على إرادة الحكم الاقتضائي ، والأوّل على الفعلي ، فمقتضى الجمع العرفي حمل دليل وجوب الوضوء على بيان الحكم

٥٥٢

الاقتضائي ، ودليل «لا ضرر» على النفي الفعلي للوضوء الضرري (١).

وجميع هذه الوجوه مبنيّة على أساس التعارض ، ويأتي إن شاء الله في بحث التعادل والتراجيح أنّه لا تعارض أصلا ، وأنّ دليل «لا ضرر» حاكم على أدلّة الأحكام وناظر إليها ، ولا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم أبدا.

ولو سلّم التعارض ، فليس شيء من هذه الوجوه بتامّ.

أمّا عمل المشهور : فلا يصلح للترجيح إلّا في صورة الاستناد ، وأمّا مجرّد الإفتاء على طبق رواية من دون استناد إليها ـ كما في المقام ـ فلا يفيد شيئا ، مع أنّه لا يجري في العامّين من وجه.

وأمّا التساقط والرجوع إلى الأصل : فهو وإن كان تامّا في المطلقين اللذين بينهما عموم إطلاقي من وجه إلّا أنّ أصل البراءة عن وجوب الوضوء الضرري لا يثبت انتقال فرضه إلى التيمّم.

وأمّا ملاحظة النسبة بين مجموع الأحكام ودليل لا ضرر : فهي ساقطة من أصلها ، إذ مجموع أدلّة الأحكام ليس دليلا واحدا أو حكما فاردا حتى تلاحظ النسبة بينه وبين دليل «لا ضرر» بل «لا ضرر» قضيّة انحلاليّة ناظرة إلى كلّ واحد من الأحكام ، فدليل كلّ يعارض دليل «لا ضرر».

وأمّا تقديم دليل «لا ضرر» من جهة أنّه لولاه لما يبقى له مورد أصلا : فهو أيضا غير وجيه ، وهذا الوجه ذكر في تقديم أدلّة الأمارات على الأصول أيضا لتوهّم التعارض وكون كلّ من دليل الأمارة والأصل عامّا من وجه وخاصّا من وجه ، ولا أساس له في كلا المقامين ، وله تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله.

ومجمله أنّه إذا فرضنا ورود دليل على استحباب إكرام العالم ، وآخر على

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

٥٥٣

كراهة إكرام الجاهل ، وثالث على حرمة إكرام الفاسق ، فنسبة الثالث إلى كلّ من الأوّلين على انفراده عموم من وجه ، وإلى مجموعهما تباين ، إذ الفاسق إمّا عالم أو جاهل ، وعلى كلّ لا يحرم إكرامه بمقتضى الأوّلين ، وحيث إنّ كلّا من الثلاثة نصّ بالقياس إلى بعض مدلوله وظاهر في جميع مدلوله لا يمكن الجمع بينها بالأخذ بالأوّلين ورفض الثالث لنصوصيّته أيضا في الجملة ، ولذلك يقع التعارض بينه وبين الأوّلين ، ولا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات ، فإن كان المرجّح للثالث ، يقدّم عليهما ، وإن كان المرجّح لهما ، يقدّمان عليه ، ويبقى الثالث بلا مورد ، ولا مانع منه ، وإن كان المرجّح لأحد الأوّلين يقدّم الراجح فقط.

ويجري هذا الكلام في العموم والخصوص مطلقا أيضا ، كما إذا ورد دليل على وجوب إكرام العالم ، وآخر على استحباب إكرام الجاهل ، وثالث على حرمة إكرام الفاسق.

وبالجملة ، ففي المقام لا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات ، فإن كان في دليل «لا ضرر» يقدّم ، وإن كان في كلّ واحد من أدلّة الأحكام ، يقدّم الجميع عليه ، وإن كان في بعضها دون بعض ، يقدّم ما فيه المرجّح فقط.

وأمّا حمل دليل الحكم الأوّلي على إرادة بيان الحكم الاقتضائي : فلا نعقل له معنى محصّلا ، لأنّ مراده ـ قدس‌سره ـ من الحكم الاقتضائي إن كان أنّه ليس حكما مولويّا بل يكون حكما إرشاديّا يرشد إلى وجود المصلحة في متعلّقه ، فهو ـ مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر الأدلّة ـ لازمه عدم وجود الدليل على وجوب الوضوء غير الضرري ، إذ المفروض أنّ الحكم حمل على الإرشاد إلى وجود المقتضي له وثبوت المصلحة ، فبأيّ دليل نتمسّك لإثبات وجوب الوضوء؟ وصرف وجود المصلحة في شيء ما لم يأمر المولى مولويّا بذي المصلحة

٥٥٤

لا يفيد في الحكم بالوجوب.

وإن كان حكما مولويّا ، فما معنى كونه حكما مولويّا ومع ذلك ليس بفعليّ؟ إذ الحكم بأيّ معنى كان ـ سواء كانت حقيقته الإرادة أو الاعتبار أو جعل الداعي ـ إذا تحقّق في الخارج ، فبمجرّد فعليّة موضوعه يصير فعليّا ، وإذا لم يتحقّق ، فلا حكم في البين.

هذا ، مضافا إلى ما ذكرنا من لزوم عدم الدليل على وجوب الوضوء غير الضرري مثلا ، فإنّ الحكم الاقتضائي لا امتثال له ، فإذا حمل دليل وجوب الوضوء على الحكم الاقتضائي المولوي بمقتضى دليل «لا ضرر» فليس لنا دليل يدلّ على وجوب الوضوء فعلا ، لاحتمال وجود مانع آخر غير الضرر ، ولا أثر لوجوبه الاقتضائي.

فظهر أنّ الصحيح ما ذكر من عدم المعارضة بين دليل «لا ضرر» وكلّ واحد من أدلّة الأحكام لأجل حكومته عليه ، فيقدّم من غير ملاحظة النسبة.

ثمّ إنّه لا بدّ من تحقيق أمور ثلاثة : معنى الحكومة ، وأنّها ثابتة في المقام ، والوجه في تقديم دليل الحاكم على دليل المحكوم.

أمّا الأوّل : فالحكومة الواقعيّة ـ التي هي مربوطة بالمقام ـ هي أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر ومبيّنا وشارحا للمراد الجدّي من الدليل الآخر.

وبعبارة أخرى : يكون مفاد أحد الدليلين هو النتيجة المترتّبة على تقديم أحد الدليلين المتعارضين لأقوائيّته في الدلالة من الحكم بكون المراد الجدّي من «أكرم العلماء» مثلا غير عنوان الخاصّ الّذي هو «لا تكرم الفسّاق منهم» وأنّ العالم الفاسق غير مراد من العامّ في «أكرم العلماء» فالدليل الحاكم ما يتكفّل هو بنفسه لذلك ، وهو على أقسام :

٥٥٥

قسم يكون بلسان «عنيت» و «أردت» وما يرادف ذلك ، وهذا قليل في الغاية ، بل لم نظفر عليه في الروايات إلّا في مورد أو موردين ، والّذي أذكر قوله عليه‌السلام مضمونا : «أردت به الشكّ بين الثلاث والأربع» بعد ما اتّفق للسائل السؤال عن قوله عليه‌السلام : «الفقيه لا يعيد الصلاة» (١).

وقسم آخر يكون دليل الحاكم ناظرا إلى عقد الوضع ومبيّنا لسعة دائرة موضوع دليل المحكوم أو ضيقها ، وهذا كثير شائع بل أغلب موارد الحكومة من هذا القبيل.

فمن أمثلة ما يكون دليل الحاكم مضيّقا لموضوع دليل المحكوم : «لا شكّ لكثير الشكّ» ووجه كونه ناظرا إلى أدلّة الشكوك : أنّ سلب الشكّ عن كثير الشكّ لا يمكن أن يكون سلبا حقيقيّا ، ضرورة أنّ لازمه سلب الشيء عن نفسه ، فلا محالة يكون ناظرا إلى الأحكام الثابتة على عنوان الشكّ ورافعا لموضوعيّة شكّ كثير الشكّ لهذه الأحكام واقعا ، ومبيّنا لأنّ المراد الجدّي من الشكّ المأخوذ في موضوعها هو غير هذا الفرد من الشكّ.

ومن أمثلة ما يكون دليل الحاكم ناظرا إلى موضوع دليل المحكوم ومبيّنا لسعته : «الطواف بالبيت صلاة» فإنّه ناظر إلى إدخال الطواف في موضوع أحكام الصلاة وتوسعته ومبيّن لترتّب أحكام الصلاة عليه واعتبار ما يعتبر في الصلاة من الطهارة والستر وغير ذلك من الشرائط فيه. وهكذا «الفقاع خمر استصغره الناس» (٢) وقوله عليه‌السلام : «تلك الخمرة المنتنة» (٣) مشيرا إلى العصير العنبي بعد

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٩٣ ـ ٧٦٠ ، الاستبصار ١ : ٣٧٥ ـ ١٤٢٤ ، الوسائل ٨ : ٢١٥ ، الباب ٩ من أبواب الخلل ، الحديث ٣ ، وليس فيها في الموضع الثاني قوله : عليه‌السلام.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٣ ـ ٩ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ ـ ٥٤٠ ، الاستبصار ٤ : ٩٥ ـ ٣٦٩ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦٥ ، الباب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث ١.

(٣) الكافي ١ : ٣٥٠ ـ ٦ و ٦ : ٤١٦ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ٢٢٠ ـ ٦٢٩ ، الاستبصار ١ : ١٦ ـ ٢٩ ، ـ

٥٥٦

الغليان.

وقسم ثالث يكون دليل الحاكم ناظرا إلى عقد الحمل وشارحا لسعة دائرة حكم دليل المحكوم وضيقها. وهذا القسم أيضا ـ كالقسم الأوّل ـ قليل ، وينحصر ظاهرا في موردين : «لا حرج في الدين» و «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

بيانه : أنّ نفي الحرج والضرر ليس نفيا لهما في الخارج بل النفي يتعلّق بالأحكام الحرجيّة والضرريّة على التقريب السابق ، فلا محالة لا بدّ أن يكون هناك أحكام مجعولة مطلقة من حيث الضرر والحرج وعدمهما حتى يكون «لا حرج» و «لا ضرر» ناظرين إلى تلك الأحكام ومضيّقين لدائرتها وشارحين لأنّ المراد الجدّي منهما هو ما لا يستلزم الحرج والضرر.

والجامع بين جميع الأقسام أن يكون أحد الدليلين بحيث يكون لغوا لو لم يكن الدليل الآخر ، فإنّ دليل «لا ربا بين الوالد والولد» لو لم يكن دليل (حَرَّمَ الرِّبا) يكون لغوا محضا ، إذ المفروض أنّه لا يستفاد منه حكم ، ولم يثبت حكم على الرّبا حتى يكون نافيا له ، وليس المراد منه تضييق دائرة معنى الرّبا لغة وأنّ الزيادة بين الوالد والولد ليس من الرّبا لغة بالضرورة ، وهكذا في سائر موارد الحكومة ، وهذا بخلاف ما إذا كان نفي الحرمة بلسان التخصيص ، مثل ما إذا ورد «الرّبا بين الوالد والولد ليس بحرام» فإنّه كلام مفيد للحكم الترخيصي ولو لم يكن (حَرَّمَ الرِّبا) أصلا.

وممّا ذكرنا ظهر ثبوت الأمر الثاني وأنّ دليل «لا ضرر» حاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة وناظر إليها.

__________________

ـ الوسائل ١ : ٢٣٠ ، الباب ٢ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢.

٥٥٧

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ على ما نسب إليه الشيخ موسى (١) رحمه‌الله ـ ذهب إلى أنّ دليل المحكوم لا بدّ من تقدّمه على دليل الحاكم زمانا بخلاف دليل المخصّص ، فإنّه يمكن أن يتقدّم على دليل العامّ ويمكن أن يتأخّر عنه.

ولا يخفى ما فيه ، إذ التقدّم رتبة ـ من حيث كون الشارح رتبته متأخّرة عمّا يشرحه ـ فنعم ، أمّا التقدّم زمانا فلا يعتبر أصلا ، ضرورة أنّه من الممكن أن يقول الشارع : أيّها الناس اعلموا أنّ الأحكام التي أجعلها بعد ذلك إذا كانت ضرريّة أو حرجيّة ، غير مجعولة ، واعلموا أنّ أحكام الشكّ التي أجعلها بعد ذلك لا تترتّب على شكّ كثير الشكّ.

فعلى هذا لو فرضنا أنّ دليل «لا ضرر» ورد في أواسط البعثة ، يرفع الأحكام الضرريّة المتأخّرة عن زمان الورود كما يرفع الأحكام المتقدّمة عليه ، ولا يلزم في نفي جميع الأحكام الضرريّة ورود «لا ضرر» آخر زمان البعثة بحيث يكون هذا الحكم آخر حكم صدر في الشريعة وهذه القضيّة أخرى قضيّة من قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو واضح.

أمّا الثالث من الأمور : فوجه تقديم دليل الحاكم ـ الّذي يكون ناظرا إلى عقد الوضع ـ على دليل المحكوم مع كون النسبة بينهما عموما من وجه ـ كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» الناظر إلى دليل «من شكّ بين الثلاث والأربع» ـ أنّ دليل المحكوم يثبت الحكم لعنوان الشكّ على تقدير وجوده بنحو القضيّة الحقيقيّة ، ولا يتكفّل لإثبات وجود الموضوع ونفيه ، ودليل «لا شكّ لكثير الشكّ» ينفي الشكّ عن كثير الشكّ ، ويخرجه عن موضوع ذاك الدليل ، فكلّ من الحاكم والمحكوم في هذا القسم يتكفّل لإثبات شيء أو نفي شيء أجنبيّ عمّا يثبته أو

__________________

(١) انظر قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢٢٥.

٥٥٨

ينفيه الآخر ، ولا يرد النفي والإثبات على شيء واحد ، بل يتكفّل أحدهما لما لا يتكفّل له الآخر ، فلا تمانع بينهما ولا تعارض ، وهذا بخلاف باب التخصيص ، فإنّ كلّ واحد من الدليلين في «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» يثبت ضدّ ما يثبته الآخر ، فإنّ الأوّل يثبت وجوب إكرام العالم الفاسق ، والثاني يثبت حرمة إكرام العالم الفاسق ، وفي «يجب إكرام العلماء» و «لا يجب إكرام الفسّاق» يثبت الأوّل ما ينفيه الثاني ، فالتعارض من جهة أنّ مركز النفي والإثبات أمر واحد في هذا الباب.

وعدم التعارض في هذا القسم من الحكومة من جهة أنّ محطّ الإثبات شيء ومحطّ النفي شيء آخر ، فدليل وجوب الحجّ يثبت الحجّ على من فرض استطاعته ، ولا يتكفّل لشيء آخر ، فإذا فرض ورود دليل على أنّ «من رجع عن الحجّ غير مالك لمئونة سنته ليس بمستطيع» فلا تنافي بينه وبين الأوّل أصلا ، لأنّه ينفي ما لا يكون الأوّل مثبتا له وهو استطاعة هذا الشخص.

وأمّا وجه التقديم في القسمين الآخرين ـ يعني ما تكون الحكومة فيه بلسان «عنيت» و «أردت» أو ناظرة إلى عقد الحمل ـ فهو الوجه في تقديم الأمارات على الأصول بملاك واحد. والوجه المشترك بين المقامين هو : أنّ أحد الدليلين إذا أثبت حكما لعنوان والدليل الآخر بيّن المراد من ذلك العنوان ، لا يعدّ الثاني معارضا للدليل الأوّل ، فإذا سأل زرارة عن الصادق عليه‌السلام عن حكم العالم ، فقال : «أكرم العلماء» وقال محمد بن مسلم مثلا لزرارة : إنّه عليه‌السلام قال : «إنّ مرادي بالعلماء هو العدول منهم» لا يكون تناف وتمانع بينهما أصلا.

نعم ، يكون منافيا لأصل ثابت ببناء العقلاء ، وهو أصالة الظهور عند الشكّ في المراد ، فتكون المعارضة بين الأصل والدليل لا بين الدليلين ، ومن المعلوم أنّ الدليل يتقدّم على الأصل.

٥٥٩

والحاصل : أنّ أصالة الظهور وإن كانت تقتضي حمل لفظ «الأسد» على الحيوان المفترس إلّا أنّه إذا دلّ دليل على إرادة الرّجل الشجاع منه ، فلا يبقى مجال لأصالة الظهور. وهكذا أصالة الحلّ وإن كانت مقتضية لحلّيّة ما شكّ في خمريّته إلّا أنّه إذا قامت البيّنة على أنّه خمر لا مجال لها ، ضرورة أنّ موضوع أصالة الظهور هو الشكّ في المراد ، وموضوع أصالة الحلّ الشكّ في الحلّيّة والدليل بيّن المراد وبيّن خمريّته ورفع الشكّ تعبّدا ، فلا يبقى للأصل موضوع أصلا.

وهذا البيان يجري في كلّ قرينة بالقياس إلى ذيها ، فكلّ ما ورد قرينة لشيء ولو كان ظهوره أضعف الظهورات يتقدّم عليه ولو كان ظهوره أقوى الظهورات.

والسرّ ما ذكرنا من أنّ ظهور ذي القرينة ـ أيّا ما كان عامّا أو مطلقا أو غيرهما ـ وحجّيّته من جهة أصالة الظهور عند الشكّ في المراد ، والقرينة ظهورها يرفع موضوع هذا الأصل.

ففي المقام الدليل الناظر إلى عقد الحمل والشارح لأنّ الأحكام الضرريّة والحرجيّة غير مجعولة لا ينافي أدلّة الأحكام المطلقة من حيث الضرر وعدمه ، بل المنافاة بينه وبين أصالة الإطلاق ، الثابتة عند الشكّ في المراد ، ومن الواضح أنّه لا مورد لها بعد معلوميّة المراد بسبب دليل «لا حرج» و «لا ضرر» وبذلك يصحّ أن يقال : إنّ دليل الحاكم في جميع أقسام الحكومة رافع للموضوع إمّا موضوع نفس دليل المحكوم كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» أو موضوع الأصل العقلائي الجاري فيه ، وهو الشكّ في المراد.

الأمر الرابع : أنّ الضرر المنفيّ هو الضرر الواقعي لا الضرر المعلوم عند المكلّف ، ضرورة أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة لا المعلومة عند

٥٦٠