الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

«لا شيء عليه وقد تمّت صلاته» (١) فبعد ما لم ينقص من صلاته شيء وأتى بوظيفته لما ذا يستحقّ العقاب؟ هذا كلّه فيما يتعلّق بالفحص.

وقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّه يجب في الشبهات الحكمية ، ولا يجب في الشبهات الموضوعيّة ، لإطلاق أدلّة البراءة وعدم ورود مقيّد بالنسبة إليها.

هذا ، وقد استثنى شيخنا ـ قدس‌سره ـ موردين من موارد الشبهات الموضوعيّة ، والتزم بوجوب الفحص فيهما :

أحدهما : ما يتوقّف العلم بتحقّق الموضوع غالبا على الفحص بحيث لو لم يفحص يقع في مخالفة الواقع كثيرا ، وهذا كما في موارد الشكّ في حصول الاستطاعة أو بلوغ النصاب أو زيادة الربح عن مئونة السنة ، فإنّه في هذه الموارد لا يحصل العلم غالبا للمكلّف إلّا بالفحص ، والدليل على وجوب الفحص في هذه الموارد نفس أدلّة التكاليف ، فإنّها بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة ـ صونا لكلام الحكيم عن اللغويّة ـ تدلّ على وجوب الفحص ، إذ مع عدم الفحص يلزم أن يكون جعلها لغوا ، لعدم فعليّة انكشاف موضوعاتها غالبا.

ثانيهما : ما لا يحتاج انكشافه للمكلّف إلّا إلى مجرّد النّظر إليه ، كما في موارد احتمال طلوع الفجر لمن كان على السطح بحيث لا يتوقّف العلم بطلوع الفجر إلّا على مجرّد النّظر إلى الأفق ، فلا يجوز تغميض العين والاشتغال بالأكل والشرب ، تمسّكا بأصل البراءة واستصحاب عدم طلوع الفجر ، فإنّ الفحص لا يصدق عرفا على مجرّد النّظر حتى يقال : إنّ الشبهة موضوعية ولا يجب فيها الفحص (٢).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٧ ـ ١٠٠٣ ، التهذيب ٢ : ١٦٢ ـ ٦٣٥ ، الاستبصار ١ : ٣١٣ ـ ١١٦٣ ، الوسائل ٦ : ٨٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٠.

٥٢١

هذا ، وللنظر فيما أفاده من الفرق مجال واسع ، إذ الفرق بين موارد احتمال الاستطاعة وبلوغ النصاب وزيادة الربح عن مئونة السنة وأمثالها وبين غيرها من الموضوعات بعيد جدّاً ، فإنّ جميع الموضوعات لها أفراد واضحة جليّة لا يحتاج إلى الفحص ، ولها أيضا أفراد خفيّة لا يعلم بها إلّا بالفحص ، فكما أنّ هلال رمضان قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيّا كذلك الاستطاعة قد تكون ظاهرة ، كما إذا ورث من مورّثه مالا كثيرا يعلم أنّه بمقدار الاستطاعة ، أو اتّجر تجارة عظيمة يعلم بأنّ ربحها بمقدار الاستطاعة ، وقد تكون خفيّة ، كما إذا كانت تجارته قليلة تدريجيّة يربح شيئا فشيئا ، ويتوقّف العلم بحصول الاستطاعة وعدمه على مراجعة الدفتر والحساب ، فلا بدّ من ورود دليل على وجوب الفحص من إجماع وغيره ، وإلّا فإطلاقات أدلّة البراءة محكّمة.

نعم ، في خصوص احتمال زيادة الربح عن مئونة السنة يجب الفحص ، لكن لا لأجل ما ذكر ، بل من جهة أنّ الخمس عند المشهور يتعلّق بالمال بمجرّد ظهور الربح ، واستثناء مئونة السنة رخّص إرفاقا للمالك ، فمقتضى القاعدة فيه هو استصحاب وجوب الخمس المتعلّق بالربح حتى يعلم بأنّه صرف في مئونة السنة ، بل اللازم هو الاحتياط حتى بعد الفحص وعدم انكشاف صرفه في مئونة السنة.

وأمّا ما أفاده من أنّ النّظر لا يعدّ فحصا عرفا : فهو وإن كان متينا إلّا أنّه لم يرد لفظ «الفحص» في رواية دلّت على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة حتى نقول بأنّ الفحص لا يصدق على مجرّد النّظر ، فهو لازم ، بل أدلّة البراءة مطلقة شاملة لجميع الشبهات ، فتقييدها بوجوب الفحص أو النّظر يحتاج إلى دليل.

وبعبارة أخرى : لو كان مقتضى القاعدة الأوّلية في الشبهات وجوب

٥٢٢

الفحص وورد دليل خاصّ على عدم وجوبه في خصوص الشبهات الموضوعيّة ، لكان لما أفاده مجال ، ولكنّ الأمر بالعكس ، فإنّ القاعدة تقتضي عدم وجوب الفحص ، وإنّما خرجنا عنها في خصوص الشبهات الحكميّة لدليل ، فأيّ مانع لشمول «رفع ما لا يعلمون» لمثل هذا الشاكّ الّذي يرتفع شكّه بمجرّد النّظر؟ وقد دلّت صحيحة زرارة (١) على عدم وجوب النّظر إلى الثوب للعلم بإصابته النجس وعدمها.

فانقدح عدم ظهور الفرق بين الشبهات الموضوعيّة في عدم وجوب الفحص وجريان البراءة قبل الفحص.

هذا كلّه فيما يرجع إلى أصل الفحص ، وأمّا مقدار الفحص فيما يجب فيه الفحص من جريان البراءة في الشبهات الحكميّة والتمسّك بالعامّ أو المطلق أو الخبر ، فالاحتمالات فيه ثلاثة : لزوم الفحص بمقدار يعلم معه بعدم الدليل أو المخصّص أو المقيّد أو المعارض. ولزومه بمقدار يحصل معه الاطمئنان بعدم ذلك بواسطة الرجوع إلى الأبواب المناسبة الذكرة. ولزومه بمقدار يحصل معه الظنّ بعدم ذلك.

وخيرها أوسطها ، إذ لا وجه لاعتبار العلم بذلك أصلا ، مع أنّه موجب للعسر الأكيد والحرج الشديد ، بل موجب لاختلال أمر الاستنباط ، ضرورة أنّ أحدا لا يقدر على استنباط حكم واحد بحيث يعلم بعدم وجود معارض لدليله فضلا عن استنباط مجموع الفقه ، وهكذا لا وجه للاكتفاء بمطلق الظنّ مع أنّه لا يغني من الحقّ شيئا ، فالصحيح هو اعتبار الاطمئنان الّذي هو طريق عقلائي يسلكها العقلاء في جميع أمورهم ، وقرّرهم الشارع صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك ، وهو

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ ـ ١٣٣٥ ، الاستبصار ١ : ١٨٣ ـ ٦٤١ ، الوسائل ٣ : ٤٠٢ ، الباب ٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

٥٢٣

يحصل ـ كما ذكرنا ـ بالفحص والتتبّع في مظانّ وجوده من الأبواب المناسبة لذكره ، فإذا فعل ذلك المستنبط ، يحصل له اليأس عن الظفر به ، وهو ملازم لحصول الاطمئنان بالعدم عادة.

وأمّا احتمال وجود جملة في ذيل رواية مذكورة في باب الدّيات تكون قرينة على إرادة خلاف ظاهر رواية راجعة إلى باب الصلاة مذكورة في بابها فهو مجرّد احتمال عقليّ لا يعتني به العقلاء.

ثمّ إنّ الفاضل التوني ـ قدس‌سره ـ ذكر لجريان أصل البراءة شرطين آخرين :

أحدهما : أن لا يكون موجبا لتضرّر مسلم.

الثاني : أن لا يكون مثبتا لحكم آخر (١).

أمّا الشرط الأوّل : فالمراد منه ظاهرا ما ذكرنا سابقا من أنّ حديث الرفع وغيره من أدلّة البراءة النقليّة مسوق للامتنان على جميع الأمّة ، فإذا فرضنا أنّ جريان البراءة موجب للامتنان على شخص وسبب لتضرّر شخص مسلم آخر كما إذا شككنا في أنّ الإتلاف المأذون من قبل الشارع موجب للضمان ومشمول لأدلّة الضمان أو لا؟ لا يمكن إجراء البراءة عن الضمان ، فإنّه وإن كان امتنانا على المتلف إلّا أنّه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك ، ولذا قلنا بأنّ رفع الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطرّوا إليه ـ مع أنّه رفع واقعي ـ لا يوجب تقييد دليل «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» الّذي بإطلاقه شامل للإتلاف الصادر عن خطأ أو نسيان أو عن اضطرار أو عن إكراه ، ولكنّه يوجب تقييد دليل «من أتى أهله في شهر رمضان فعليه الكفّارة» بغير ما كان الإتيان معنونا بأحد العناوين المذكورة من الخطأ والنسيان وغيرهما ممّا يكون الرفع بالقياس إليه

__________________

(١) الوافية : ١٩٣.

٥٢٤

رفعا واقعيّا.

والفرق : أنّ عدم الضمان في الأوّل امتنان على بعض وضرر على بعض آخر ، بخلاف عدم الكفّارة في الثاني ، فإنّه امتنان على جميع الأمّة.

وبذلك يندفع ما أورد عليه من أنّ مورد البراءة إمّا مندرج تحت القاعدة فلا تجري ، لحكومة القاعدة عليها ، أو لا ، فلا وجه للاشتراط ، إذ ليس مراده قدس‌سره ـ بقرينة قوله : «لا يكون موجبا لتضرّر مسلم حيث جعل المناط في عدم الجريان تضرّر مسلم آخر ـ أن يكون مورد البراءة موردا لقاعدة الضرر حتى يرد عليه ما ذكر ، بل مراده ـ قدس‌سره ـ أن لا يكون موجبا للامتنان على بعض وتضرّر بعض. وبعبارة أخرى : يشترط في جريانها أن يكون الترخيص أو رفع الحكم امتنانا على جميع الأمّة ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا الشرط الثاني : فهو غير تامّ ، فإنّ نظره ـ قدس‌سره ـ إلى أنّ الترخيص حيث إنّه امتناني ، فإذا كان مثبتا لإلزام آخر فهو خلاف الامتنان ، كما هو الظاهر من كلامه ، فإن كان مراده ـ قدس‌سره ـ من الملازمة بين الترخيص المستفاد من دليل البراءة والإلزام الآخر الملازمة الناشئة من مجرّد العلم الإجمالي بوجود إلزام في أحد الطرفين ـ كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ـ لا ما يكون ناشئا من الترتّب بين الحكمين ، فعدم جريان البراءة في أحد الطرفين ـ كالجمعة في المثال ـ وإن كان حقّا إلّا أنّه لا من جهة أنّ من شرطه عدم إثبات حكم آخر ، إذ لو بنينا فرضا على حجّيّة الأصل المثبت وأنّ اللوازم والملزومات العقليّة تثبت بالأصول أيضا لا تجري البراءة في أطراف العلم الإجمالي من جهة تعارض الأصول في أطرافه.

وإن كان مراده من الملازمة ما يكون ناشئا من ترتّب الحكم الإلزاميّ على الحكم الترخيصي ، فإن كان الترتّب عقليّا في مقام التنجّز بمعنى أنّ إطلاق دليل

٥٢٥

الإلزام عقلا يتوقّف على الترخيص ، كما في الإزالة والصلاة ، فإنّ إطلاق دليل الصلاة عقلا يتوقّف على عدم الإباحة بالإزالة ، ومع وصول دليل الإزالة التي هي أهمّ لا يمكن أن يكون دليل الصلاة باقيا على إطلاقه ، للزوم التكليف بالمحال ، فلا وجه لعدم ترتّب وجوب الصلاة على الترخيص الظاهري ، فإذا رأى المكلّف في المسجد لونا أحمر يحتمل كونه دما فأجرى البراءة عن التكليف بالإزالة ، فأيّ مانع من بقاء إطلاق دليل وجوب الصلاة؟ إذ ليس المانع هو الترخيص الواقعي ، لما ذكرنا في بحث الترتّب من أنّ التزاحم في مقام الامتثال إنّما يكون بين التكليفين الواصلين ، فإنّهما اللذان يكون كلّ منهما معجزا عن الآخر ، وأمّا التكليف الواقعي غير الواصل لا يكون شاغلا للمكلّف ومعجزا عن تكليف آخر حتى يكون مزاحما له.

وإن كان الترتّب شرعيّا ، فإن أخذ الترخيص الواقعي في موضوع الحكم الإلزاميّ ، كما إلا فرضنا ورود دليل دلّ على أنّ من يباح له التصرّف في مائة دينار فليفعل كذا ، فلا محالة لا تثبت إباحة التصرّف ، الظاهريّة المستفادة من دليل البراءة ذلك الحكم.

نعم ، الاستصحاب ـ حيث إنّه مثبت للترخيص الواقعي ـ مفيد لذلك. وقد ادّعى شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ أنّ القدرة الواقعيّة مأخوذة في موضوع وجوب الحج (١). وإثباته مشكل جدّاً.

وإن أخذ الترخيص الظاهري في موضوع الحكم الآخر ، كما في التطوّع في غير وقت الفريضة على القول بالمنع في وقتها ، فإنّ جوازه إنّما هو مترتّب على عدم اشتغال الذمّة ظاهرا ، لا عدم ذلك في الواقع ، فإذا احتمل المكلّف أن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤١. وفيه : «كما إذا فرضنا ...».

٥٢٦

تكون ذمّته مشغولة بقضاء ورفع بالبراءة ، فلا مانع من اشتغاله بالتطوّع ، فظهر أنّ اشتراط هذا الشرط إمّا مستدرك لغو أو بلا وجه.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالبراءة والاشتغال.

وبعد ذلك يقع الكلام في قاعدة لا ضرر ، التي هي قاعدة مهمّة فقهيّة ، كما يظهر ذلك من تضاعيف كلماتنا. وتنقيح البحث فيها يتمّ بذكر أمور :

الأوّل : أنّ هذا المضمون قد نقل عن الفريقين بطرق مختلفة. وحكى الشيخ ـ قدس‌سره ـ في الرسائل عن فخر الدين في الإيضاح في باب الرهن تواتر الأخبار عليه (١). ولكنّه ـ قدس‌سره ـ في رسالته المستقلّة التي صنّفها في قاعدة «لا ضرر» لم يسند هذه الدعوى إليه ، بل قال : حكي عنه ذلك ولم أجده في كتاب الرهن من الإيضاح (٢).

فلعلّه ـ قدس‌سره ـ راجع ثانيا فوجده وأسند إليه في الرسائل.

وكيف كان ، متن الحديث الشريف ورد على وجوه :

الأوّل : «لا ضرر ولا ضرار» بلا تذييل بذيل «في الإسلام» أو «على مؤمن» كما هو المشهور عند الفريقين (٣).

الثاني : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» كما حكي عن ابن الأثير في نهايته (٤). وعن التذكرة (٥) أنّه أرسله كذلك. وفي الوسائل في باب الميراث :

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣١٣ ، وانظر : إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨.

(٢) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٢.

(٣) الكافي ٥ : ٢٩٢ ـ ٢ و ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ـ ٦ ، الفقيه ٣ : ١٤٧ ـ ٦٤٨ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ٦٥١ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٣ و ٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ ـ ٢٣٤٠ و ٢٣٤١ ، سنن الدار قطني ٤ : ٢٢٧ ـ ٨٣.

(٤) النهاية ٣ : ٨١.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٢ (الطبعة الحجريّة).

٥٢٧

وقال الصدوق : وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإسلام يزيد ولا ينقص» قال : وقال عليه‌السلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرّا» (١) إلى آخره.

الثالث : «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» كما في رواية ابن مسكان عن زرارة ، المذكورة في الكافي (٢).

ولا ثمرة مهمّة في تحقيق أنّ الحديث مذيّل أو لا ، وعلى تقدير كونه مذيّلا ذيله كلمة «في الإسلام» أو «على مؤمن» ، إذ لا يفرق في المعنى (١).

هذا ، مضافا إلى أنّ الحديث لم يصدر مرّة واحدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نحتاج إلى إثبات الصادر وأنّه بأيّ كيفيّة صدر ، بل تكرّر صدوره في روايات متعدّدة ، فمن الممكن صدوره عنه عليه‌السلام بوجوه ، بل هو الّذي يلزم الالتزام به ، فإنّه بلا تذييل منقول عن الفريقين.

وبتزييد كلمة «في الإسلام» مرويّ في مجمع البحرين (٣). ومنقول عن الصدوق (٤) قدس‌سره ، وروايته موثّقة.

__________________

(١) الوسائل ٢٦ : ١٤ ، الباب ١ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ٩ و ١٠ ، وانظر : الفقيه ٤ : ٢٤٣ ـ ٧٧٦ و ٧٧٧.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٤ ـ ٨ ، وراجع الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٤.

(٣) أقول : الحقّ هو تأثير وجود قيد «في الإسلام» وعدمه في مفاد «لا» فإن كان موجودا ، فالمراد من «لا» هو النفي ويوجب نفي الحكم الضرري في الدين ، ويكون «لا ضرر» ك «لا حرج» وإن لم يكن موجودا ، فالمراد من «لا» هو النهي ك «لا رفث» ويدلّ على حرمة الإضرار بالغير ، ولا ربط له بما نحن فيه. (م).

(٤) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٣ «ضرر».

(٥) تقدّم تخريجه في الهامش (١).

٥٢٨

واحتمال الإرسال ـ كما استظهره شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ـ مدفوع بما ذكرنا مرارا من أنّ نقل الرواية عن المعصوم عليه‌السلام إذا كان بلفظ «روي» ـ كما إذا قال : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كذا ـ فهو مرسل ، وإن كان بالإسناد إليه عليه‌السلام ـ بأن قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كذا ـ فهو مسند لا يمكن عدّه في المراسيل ، ضرورة أنّ الناقل المتديّن العادل لا يسند شيئا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون إثبات صدق الخبر بالعلم أو بطريق معتبر ، فإسناد الصدوق ـ قدس‌سره ـ الرواية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توثيق منه ـ قدس‌سره ـ لرواته ، وهو يكفي في حجّيّتها ، ويدخل في عداد الروايات الموثّقة ، فلا بدّ من الأخذ بها.

وبتزييد كلمة «على مؤمن» مذكور في الكافي (٢) الّذي هو أوثق من غيره.

ولا يدخل المقام في كبرى دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة حتى يقال بأنّ احتمال الزيادة أبعد بمراتب من احتمال النقيصة ، والأخذ بالزائد أمر ارتكازي عند العقلاء ، لما عرفت من أنّ مورده ما كان الصدور مرّة واحدة لا مرارا متعدّدة ، كما في المقام.

ثمّ على تقدير كون المقام صغرى من صغريات تلك الكبرى فلا بدّ من الأخذ بما في الكافي ، لأوثقيّته من غيره.

ولا وجه لما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من أنّه في خصوص المقام لا بدّ من تقديم الناقص على الزائد (٣) من جهة أنّ تقديم الزائد ـ الّذي هو ببناء العقلاء لأجل أبعديّة الغفلة بالنسبة إلى الزيادة من الغفلة بالنسبة إلى النقيصة ـ إنّما هو فيما إذا تساوى الرّواة في الطرفين ، أمّا مع وحدة الراوي

__________________

(١) قاعدة لا ضرر «المطبوعة مع منية الطالب) : ١٩٢.

(٢) تقدّم تخريجه في ٥٢٨ ، الهامش (٢).

(٣) أي تقديم أصالة عدم النقيصة على أصالة عدم الزيادة.

٥٢٩

في جانب وتعدّده في الآخر ـ كما في المقام ـ فلا ، ضرورة أبعديّة غفلة جماعة من غفلة واحد (١).

وذلك لأنّ الراوي الّذي ينقل عن الإمام عليه‌السلام في المقام واحد في الجانبين ، والتعدّد الّذي هو موجب لأبعديّة احتمال الغفلة إنّما هو تعدّد الراوي الأوّل لا من يروي عن الراوي الأوّل ، والمقام من هذا القبيل لا من قبيل الأوّل.

ثمّ إنّ هذا الحديث ورد على وجهين :

أحدهما : مستقلّا من دون أن يكون ذيلا لقضيّة ، كما نقل شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ كذلك عن دعائم الإسلام (٢) ، ونقل عن نهاية ابن الأثير ، والتذكرة (٣).

ثانيهما : في ذيل قضيّة سمرة بن جندب بلا زيادة كلمة «على مؤمن» على رواية غير الكافي ، ومعها على روايته. وذكر في الوسائل في ذيل رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار» وفي ذيل الرواية الناهية عن منع فضل ماء البئر (٤) ومنع فضل الماء ، الرويّة عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ١٩٣ ، وانظر : دعائم الإسلام ٢ : ٤٩٩ ـ ١٧٨١.

(٣) تقدّم تخريجهما.

(٤) هذا بناء على رواية الوافي عن الكافي في ج ١٨ ص ١٠١٥ ح ١٨٧٢١ حيث في الكافي «نفع الشيء» وفي الوافي «نقع البئر» ويؤيّده ما في مسند أحمد ٦ : ٤٤٧ ذيل حديث ٢٢٢٧٢ برواية عبادة بن الصامت.

(٥) الوسائل ٢٥ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ، الباب ٥ من أبواب كتاب الشفعة ، الحديث ١ ، و ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٢ ، وانظر : الكافي ٥ : ٢٨٠ ـ ٤ ، و ٢٩٣ ـ ٦ ، والتهذيب ٧ : ١٦٤ ـ ٧٢٧.

٥٣٠

ولكن نقل شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ عن شيخ الشريعة الأصبهاني (٢) أنّ أكثر أقضية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرويّ في مسند أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت (٣) ، وفي كتبنا عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وبذلك يظنّ أنّ ما روي عن عقبة من قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله ب «لا ضرر ولا ضرار» قضاء مستقلّ ، كما رواه كذلك عبادة بن الصامت (٤) ، لا أنّه في ذيل قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة وقضائه بين أهل المدينة بأنّه «لا يمنع نفع الشيء» وبين أهل البادية بأنّه «لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ» وذلك لأنّ الأقضية التي رواها عبادة مرويّة في مسند ابن حنبل مجتمعة ، وحيث إنّ نفس هذه الأقضية مرويّة في كتبنا عن عقبة متفرّقة ـ سوى ما روي عنه من القضاء ب «لا ضرر» فإنّه مرويّ عنه في ذيل القضاء بالشفعة وغيره ـ يظنّ أنّها في رواية عقبة أيضا كانت مجتمعة ، وإنّما فرّقها أصحاب الحديث ولم يفرّقوا هذا القضاء عن غيره ، بل رووه مجتمعا مع القضاء بالشفعة وغيره من باب الجمع في الرواية لا من باب الجمع في المرويّ.

وبعبارة أخرى : جمعوا في مقام النقل والرواية بين الروايتين والقضاءين أو الأقضية من أقضية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا أنّهم جمعوا جميع ما روي في رواية واحدة من الجملات والأقضية.

هذا ، مضافا إلى أنّه لا مناسبة بين «لا ضرر» والقضاء بالشفعة أو بعدم المنع عن فضل الماء.

أمّا الثاني : فواضح ، فإنّ المالك للماء مسلّط على ماله وله أن يمنع غيره

__________________

(١) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ١٩٤.

(٢) قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ٣٨ ـ ٤٠.

(٣) مسند أحمد ٦ : ٤٤٦ ـ ٤٤٧ ـ ٢٢٢٧٢.

(٤) مسند أحمد ٦ : ٤٤٧ ذيل الحديث ٢٢٢٧٢.

٥٣١

عن فضله ، غاية الأمر أنّه منهيّ بنهي تنزيهيّ ، وليس المنع موجبا لتضرّر الغير أصلا ، بل موجب لعدم انتفاع الغير به ، وعدم النّفع غير الضرر ، فلا يدخل تحت القاعدة ، ولا مناسبة بينهما أصلا.

وأمّا الأوّل : فلأنّ بين الضرر وثبوت الشفعة عموما من وجه يجتمعان فيما يترتّب على بيع الشريك ضرر على شريك آخر ، ويفترقان فيما إذا كان الشركاء ثلاثة وكان البيع من أحدهما موجبا للضرر على الشريكين الآخرين ، فإنّه مورد للضرر ، ولا تثبت الشفعة ، فإنّها ثابتة في مورد اتّحاد الشريك دون غيره ، وفيما إذا كان الشريك واحدا ولم يكن البيع موجبا لضرر الشريك ، بل كان المشتري بمراتب أحسن وأولى من شريكه. مع أنّ نفي الضرر عبارة عن نفي الحكم الناشئ منه الضرر ، كما يأتي ، وهو لا يثبت حقّ الشفعة ، فالظاهر عدم ارتباط حديث «لا ضرر» بحديث الشفعة ولا بحديث منع فضل الماء وعدم كونه ذيلا لهما.

الأمر الثاني : في معنى ألفاظ الحديث الشريف. والظاهر أنّ الضرر اسم مصدر ـ مصدره الضرّ ـ في مقابل المنفعة ـ كما أنّ الضرّ في مقابل النّفع ـ وليس مقابلا للنفع كما في الكفاية (١) فإنّه اسم مصدر والنّفع مصدر ، وليس تقابلهما تقابل العدم والملكة كما قال به صاحب الكفاية (٢) ، فإنّ معناه هو النقصان في المال أو العرض أو البدن أو الجهة من الجهات الاعتباريّة ، والجامع هو فقدان ما وجد كما أنّ المنفعة هو وجدان ما فقد ، فهو والمنفعة بمنزلة النقيصة والزيادة ، وليس معناه عدم النّفع في مورد شأنيّة حصول النّفع ، ضرورة أنّه لا يصدق على من تمكّن من تجارة مربحة في صورة الترك : أنّه تضرّر.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٣٢.

(٢) كفاية الأصول : ٤٣٢.

٥٣٢

ويقال : ضرّه وأضرّ به إذا أوقعه في الضرر ، يتعدّى ثلاثيّة بنفسه ومزيدة بالباء بعكس سائر الأفعال. ويقال : تضرّر إذا وقع في الضرر.

وأمّا الضرار فهو مصدر إمّا للثلاثي ك «كتاب» أو لباب المفاعلة ، وهو : ضارّ يضارّ ، ك «قتال» ل «قاتل» وبذلك ظهر أنّ الضرار ليس بمعنى الضرر ، فإنّه مصدر لوحظ فيه انتسابه إلى فاعل ما ، والضرر اسم مصدر لم يلحظ فيه ذلك.

والظاهر ـ كما يستفاد من موارد استعماله في القرآن وغيره ـ أنّ باب المفاعلة ليس لفعل الاثنين ، وإنّما يكون باب التفاعل كذلك ، بل غالب موارد استعماله ـ لو لم يكن جميعها ـ في مقام إرادة إيقاع المادّة على الغير والقيام مقامه سواء وقع أو لم يقع ، مثل : «قاتل معه» بمعنى أنّه قام في مقام قتله ، لا أنّه قتله وهو أيضا قتله. وأظهر موارد استعماله في هذا المعنى هو قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(١) فإنّ معناه بحسب الظاهر ـ والله العالم ـ أنّ المنافقين يقومون مع الله والمؤمنين مقام الخدعة ولكن لا تقع الخدعة على الله تعالى والمؤمنين ، بل تقع على أنفسهم ، فهم بأنفسهم ينخدعون ولا يشعرون. وهذا من تحقيقات شيخنا المحقّق الشيخ محمد حسين الأصبهاني الكمپاني (٢). فالمنفي في الحديث أمران : أحدهما : الضرر ، والآخر : القيام مقام إضرار الغير ، كما هو الظاهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة ـ الّذي كان من الأشقياء ـ بعد إبائه : «إنّك رجل مضارّ» (٣) إذ لا معنى لكونه فعلا للاثنين ، فإنّ الأنصاري لم يضرّ بسمرة ، فالمعنى على الظاهر : إنّك رجل قمت

__________________

(١) البقرة : ٩.

(٢) انظر : نهاية الدراية ٤ : ٤٣٧.

(٣) الكافي ٥ : ٢٩٤ ـ ٨ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٤.

٥٣٣

في مقام الإضرار ، وليس لك مقصود إلّا ذلك.

ثمّ إنّه بقي شيء ينبغي التنبيه عليه ، وهو : أنّ رواية سمرة بن جندب ، المعروفة المذيّلة بذيل «لا ضرر ولا ضرار» (١) لا تنطبق على موردها حيث إنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله الأنصاري بقلع العذق (٢) والرمي إلى وجهه لا ينطبق على القاعدة ، لأنّ وجود العذق في بستان الأنصاري أو داره لم يكن موجبا للضرر على الأنصاري حتى يرفع سلطنته على إبقاء عذقه في الدار أو البستان بقاعدة «لا ضرر» بل الموجب إنّما هو دخول سمرة في بستان الأنصاري بلا استئذان.

وهذا الإشكال إنّما تعرّض له شيخنا الأنصاري (٣) ـ قدس‌سره ـ ولم يذكر له مدفعا والتزم به وأفاد أنّ عدم معلوميّة كيفيّة تطبيق هذه الكبرى الكلّيّة على موردها لنا لا يضرّ بلزوم الأخذ بهذه الكبرى الكلّيّة.

ويمكن أن يقال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أمر سمرة بالاستئذان فلم يقبل ثمّ ساومه بعذق وأكثر إلى أن ساومه بعذق في الجنّة ، فلم يرض الشقيّ وصار بذلك معاندا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وظهر منه عدم اعتنائه بثواب الجنّة ، الّذي هو كاشف عن عدم اعتقاده بها ، أدّبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بذلك ، وهو أولى بالمؤمنين وغير المؤمنين من أنفسهم وأموالهم ، ولم يأمر بالقلع من جهة كون إبقاء العذق ضرريّا ، ولم يطبّق القاعدة على هذا الحكم أيضا ، بل طبّقها على أمر آخر مستفاد من الرواية ، وهو السلطنة الثابتة لسمرة على الدخول لأجل وجود عذقه في البستان ، فإنّها بلا استئذان كانت موجبة لهتك عرض الأنصاري والضرر عليه ، فرفعهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٩٢ ـ ٢ ، الفقيه ٣ : ١٤٧ ـ ٦٤٨ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ٦٥١ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٣.

(٢) العذق ـ بالفتح ـ : النخلة بحملها ، الصحاح ٤ : ١٥٢٢ «عذق».

(٣) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٢.

٥٣٤

فلزوم الاستئذان للدخول مع وجود حقّ الدخول له بلا استئذان من جهة كونه ضرريّا لا إبقاء عذقه.

والحاصل : أنّ المستفاد من الرواية أنّ سمرة كان في نفسه له حقّان : حقّ الدخول بلا استئذان ، وحقّ إبقاء عذقه في ملك الأنصاري بسبب من الأسباب ، وأحدهما كان ضرريّا ، فرفعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «لا ضرر ولا ضرار» وهو حقّ الدخول بلا استئذان ، والآخر لم يكن كذلك ولكن رفعه أيضا من جهة معارضته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعناده من باب التأديب رغما لأنفه ونقضا لغرضه حتى لا يعود بعد ذلك ، لا من باب الضرر (١).

وقد أجاب عنه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بجوابين :

أحدهما راجع إلى ما ذكرنا إلّا أنّه جعل وجه الأمر بالقلع حسم مادّة الفساد.

وثانيهما : أنّ حقّ إبقاء العذق في ملك الأنصاري وإن لم يكن ضرريّا إلّا أنّه كان له معلول ضرريّ ، وهو الدخول من غير استئذان ، ورفع المعلول الضرريّ إنّما يكون برفع علّته ، وهذا كما إذا توقّفت الصلاة على مقدّمة ضرريّة كالغسل ، فإنّ رفع وجوب الغسل الضرريّ إنّما يكون برفع علّته ، وهو وجوب

__________________

(١) أقول : ظاهر الحديث هو استناد رفع حقّ الدخول بلا استئذان ورفع حقّ إبقاء العذق كليهما إلى نفي الضرر بمعنى أنّ حقّ الدخول بلا استئذان وحقّ الإبقاء كليهما ضرريّ ، فرفعهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ظاهر الحديث هو أنّ نفي الضرر تعليل للحكم الثاني دون الأوّل ، خلافا للمستشكل ، فعلى هذا لا يرد هذا الإشكال أصلا ، لأنّ حقّ الإبقاء نفسه أيضا ضرر كحقّ الدخول ، فرفعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من باب نفي الضرر لا من باب الولاية.

وأمّا وجه كون حقّ الإبقاء أيضا ضرريا فهو أنّ ضرريّته معلّقة على عدم امتثال النهي عن الدخول ، وبما أنّ سمرة لم يمتثل النهي عن الدخول بلا استئذان فصار حقّ الإبقاء ضرريّا واستند الضرر إليه ، فرفعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نحتاج إلى ما قاله المحقّق النائيني من أنّ حقّ الإبقاء علّة لضرريّة الدخول بلا استئذان. (م).

٥٣٥

الصلاة مع الغسل (١).

وفيه : أنّ لازمه تأسيس فقه جديد ، ضرورة أنّ مقتضاه رفع حكم نجاسة مائع نجس ترك شربه ضرريّ لرفع حرمته ، فإنّ الحرمة للنجاسة ورفع زوجيّة من يضرّه التمكين لزوجها كرفع وجوب التمكين ، لكونه معلولا للزوجيّة وأمثال ذلك ممّا لا يلتزم به فقيه. فالصحيح هو الالتزام برفع حكم نفس ما هو ضرريّ لا معلوله.

وهذا مضافا إلى أنّ الدخول بقيد كونه بلا استئذان لا يكون معلولا لحقّ الإبقاء ، بل معلوله مطلق الدخول ، وهو غير ضرريّ ، وإنّما الضرريّ هو فرد خاصّ منه ، وهو المقيّد بعدم الاستئذان.

وقياس المقام بباب ضرريّة المقدّمة مع الفارق ، ضرورة أنّ ضرريّة القيد موجبة لضرريّة المقيّد به تكوينا ، ولذا يرفع وجوب الصلاة مع الغسل بضرريّته حتى على القول بعدم وجوب المقدّمة ، إذ الضرر لم ينشأ من وجوب المقدّمة ، بل نشأ من نفس التوقّف كما لا يخفى.

فالحقيق بالتصديق ما ذكرنا كما يظهر من رواية ابن مسكان عن زرارة حيث إنّ الأمر بالقلع فيها بعد قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ولا ضرار» ولتكن هذه الرواية قرينة على أنّ «لا ضرر» في رواية زرارة عن ابن بكير ، المذكور بعد الأمر بالقلع يكون متفرّعا على سابقه لا عليه ، كما لا يخفى.

الأمر الثالث : في فقه الحديث الشريف ومعنى هذه الهيئة التركيبيّة. والاحتمالات أربعة :

الأوّل : كون «لا ضرر ولا ضرار» نفيا في مقام النهي بأن كان المراد منه أنّه يحرم على المكلّفين الإضرار.

__________________

(١) قاعدة لا ضرر (المطبوعة مع منية الطالب) : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٥٣٦

وهذا استعمال شائع وارد في الآيات والروايات ، كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) و «لا رهبانيّة في الإسلام» (٢) و «لا نجش (٣) في الإسلام» (٤) و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (٥) و «لا سبق إلّا في حافر أو نصل» (٦).

فدعوى صاحب الكفاية (٧) عدم تعاهده في مثل هذا التركيب وإنّما المتعاهد هو الإخبار بوقوع شيء في مقام طلبه ، كما في «يعيد صلاته» و «يتوضّأ» أو الإخبار عن عدم شيء بجملة فعليّة في مقام النهي عنه ، كقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٨) من الغرائب.

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) معاني الأخبار : ١١٣ ـ ١١٤ (باب معنى ألزم) الحديث ١ ، الخصال : ١٣٧ ـ ١٣٨ ـ ١٥٤ ، الوسائل ١٠ : ٥٢٤ ، الباب ٥ من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، الحديث ٤ ، و ١١ : ٣٤٤ ، الباب ١ من أبواب آداب السفر ، الحديث ٤ ، وفيها : «ليس في أمّتي رهبانيّة».

(٣) النّجش : الزيادة في السلعة ليسمع بذلك فيزاد فيه. لسان العرب ١٤ : ٥٤ «نجش».

(٤) لم نعثر على نصّه فيما بين أيدينا من المصادر الحديثيّة ، والموجود فيها هو : «لا تناجشوا» انظر : معاني الأخبار : ٢٨٤ ، والوسائل ١٧ : ٤٥٩ ، الباب ٤٩ من أبواب آداب التجارة ، الحديث ٤ ، وسنن أبي داود ٣ : ٢٦٩ ـ ٣٤٣٨ ، وسنن الترمذي ٣ : ٥٩٧ ـ ١٣٠٤ ، وسنن النسائي ٦ : ٧٢ ، وسنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٤ ـ ٢١٧٤ ، وسنن الدار قطني ٣ : ٧٤ ـ ٢٨١ ، وسنن البيهقي ٥ : ٣٤٦.

(٥) الفقيه ٢ : ٣٧٧ ـ ١٦٢٦ ، و ٤ : ٢٧٣ ـ ٨٢٨ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٤ ، الخصال : ١٣٩ ـ ١٥٨ ، الوسائل ١٥ : ١٧٤ ، الباب ٣ من أبواب جهاد النّفس ، الحديث ١ ، و ١٦ : ١٥٤ ، ١٥٥ ، الباب ١١ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٧ و ١١ ، و ٢٧ : ١٢٩ ـ ١٣٠ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧.

(٦) قرب الإسناد : ٨٨ ـ ٢٩١ ، الوسائل ١٩ : ٢٥٣ ، الباب ٣ من أبواب كتاب السبق والرماية ، الحديث ٤.

(٧) كفاية الأصول : ٤٣٣.

(٨) الواقعة : ٧٩.

٥٣٧

الثاني : ما أفاده صاحب الكفاية من أنّه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع الضرريّ (١).

وهذا أيضا استعمال شائع وارد في الروايات وغيرها ، كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» (٢) و «لا سهو في سهو» (٣) و «لا ربا بين الوالد والولد» (٤) و «لا ربا بين الزوج والزوجة» (٥) و «لا غيبة للمتجاهر» (٦) وغيرها.

الثالث : ما أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّه نفي للحكم الموجب للضرر بمعنى أنّ الحكم الناشئ منه الضرر ـ كلزوم العقد الغبني ـ منفيّ في الشريعة وغير مجعول (٧).

والفرق بينه وبين ما أفاده صاحب الكفاية : أنّ الحكم إذا كان ضرريّا ولم يكن موضوعه ضرريّا ـ كاللزوم في المعاملة الغبنيّة ، فإنّ اللزوم حكم وضعي ضرري وليس متعلّقه فعلا من أفعال المكلّف موجبا للضرر ـ يرفع على مبناه قدس‌سره دون مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره ، وأمّا إذا كان الموضوع ضرريّا كالوضوء الضرري فيرفع حكمه على كلا المبنيين.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٣٢.

(٢) يستفاد هذا النصّ من أحاديث الباب ١٦ من أبواب الخلل ، من الوسائل ٨ : ٢٢٧.

(٣) الكافي ٣ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ـ ٥ ، الفقيه ١ : ٢٣١ ـ ١٠٢٨ ، التهذيب ٣ : ٥٤ ـ ١٨٧ ، الوسائل ٨ : ٢٤٣ ، الباب ٢٥ من أبواب الخلل ، الحديث ٢ و ٣.

(٤) الكافي ٥ : ١٤٧ ـ ١ و ٣ ، الفقيه ٣ : ١٧٦ ـ ٧٩١ ، التهذيب ٧ : ١٨ ـ ٧٦ ، الوسائل ١٨ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الرّبا ، الحديث ١ و ٣ بتفاوت.

(٥) الفقيه ٣ : ١٧٦ ـ ٧٩٢ ، الوسائل ١٨ : ١٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الرّبا ، الحديث ٥ بتفاوت.

(٦) ورد في أمالي الصدوق : ٤٢ ـ ٧ ، والوسائل ١٢ : ٢٨٩ ، الباب ١٥٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٤ : «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة».

(٧) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٢.

٥٣٨

الرابع : ما نسبه الشيخ (١) ـ قدس‌سره ـ إلى بعض الفحول ، وهو : أنّ المراد أنّ الضرر غير المتدارك منفيّ وغير مجعول في الشريعة ، نظرا إلى أنّ التدارك يوجب سلب عنوان الضرر حقيقة ، ضرورة أنّه لا يقال لمن أخرج من كيسه دينارا واشترى به شيئا يقابل هذا المقدار : إنّه تضرّر ، فإذا كان المراد نفي الضرر غير المتدارك وأنّه لا بدّ من تدارك الضرر في الشريعة ، يصحّ بلا عناية نفي الضرر ويكون «لا ضرر» نفيا لحقيقة الضرر حقيقة لا ادّعاء.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه أردأ الوجوه ، لعدم سلب عنوان الضرر بالتدارك أصلا ، والمعاملة أجنبية عن باب الضرر والتدارك بالمرّة ، ولا يقال لمن كسر كوزه مثلا ولو تدارك عاجلا : لم يتضرّر ، إلّا مسامحة وبالعناية والمجاز.

هذا ، مضافا إلى أن حكم الشارع بوجوب التدارك ما لم يقع التدارك خارجا لا يوجب سلب عنوان الضرر بالضرورة ، وإلّا يلزم أن لا يصدق عنوان المتضرّر على كلّ من سرق منه المال ، لأنّ الشارع حكم بوجوب التدارك على السارقين وضمانهم لهم ، وأن لا يصدق أيضا عنوان المضرّ على أحد من السارقين ، فهذا الوجه ساقط من أصله. مع أنّ لازمه تأسيس فقه جديد ، إذ أيّ فقيه أفتى بأنّ الإضرار بالغير مطلقا حتى في غير موارد الإتلاف موجب للضمان والتدارك؟ وهل أفتى فقيه بأنّ من باع متاعه الكثير كالقند والسكّر وغيرهما بثمن رخيص للإضرار بغيره الّذي يكون له متاع مثل ذلك واشتراه للاتّجار والاسترباح بحيث يوجب إفلاس هذا المسكين وعدم وفاء ما عنده من المتاع ـ لتنزّل السوق ـ لأداء ديونه ، ضامن لما تضرّر به هذا المسكين ، ويجب عليه تدارك ما فات منه؟

__________________

(١) رسالة في قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع المكاسب) : ٣٧٢.

٥٣٩

نعم ، وردت رواية (١) مضمونها أنّ من هدم حائطه إضرارا بجاره بحيث لم يكن له غرض إلّا ذلك يجبر على البناء ثانيا ، فإن كانت معمولا بها فلا مانع من الالتزام بها في موردها ولكن ليس لنا دليل آخر غير دليل الإتلاف يدلّ على وجوب تدارك الضرر ولو لم يكن مصداقا للإتلاف.

وبالجملة ، حكم الشارع بالتدارك تكليفا أو وضعا كالحكم بضمان الضارّ لا يجعل الضرر لا ضرر حقيقة ولا يسلب عنوان المتضرّر عمّن سرق ماله الكثير ، إذ لا ريب في كون الضرر موضوعا عرفيّا ، والعرف يحكم بتضرّر المسروق منه ولو مع حكم الشارع بوجوب التدارك على السارق أو بضمانه بالقطع واليقين.

وإن كان نظر هذا البعض إلى غير ما ذكر بل إلى أنّ المراد من الضرر هو الضرر غير المتدارك بنحو التقييد ، ففيه ـ مضافا إلى ما ذكرنا من أنّ لازمه تأسيس فقه جديد ـ أنّ التقييد بلا قرينة عليه غير سديد ، كما أفاده في الكفاية (٢).

وأمّا الوجوه الثلاثة الأخر فأحسنها ثالثها ، وهو نفي الحكم الناشئ منه الضرر في الشريعة المقدّسة. وهذا هو الصواب الّذي ليس فيه ارتياب. وتوضيح المرام وتحقيق المقام يستدعي البسط في الكلام.

فنقول : إنّ هذا التركيب لا ريب في صحّة استعماله في مقام النهي عن المنفيّ ب «لا» كما يمكن استعمال الجملة الخبريّة ك «يعيد صلاته» وغير ذلك في مقام الأمر بالإعادة ، وغيرها ، فإنّ المولى لشدّة محبوبيّة الشيء أو مبغوضيّته عنده يخبر عن وقوعه أو عن عدمه كناية عن النهي عن الإيجاد أو الأمر به ، وقد

__________________

(١) دعائم الإسلام ٢ : ٥٠٤ ـ ١٨٠٥ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٤٤٧ ، الباب ١٠ من أبواب كتاب الصلح ، الحديث ١.

(٢) كفاية الأصول : ٤٣٣.

٥٤٠