الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

مع التمكّن من الانبعاث عن شخص البعث.

وادّعى ثانيا على فرض الشكّ عدم الجواز بمقتضى قاعدة الاشتغال ، نظرا إلى أنّ العبادة لا بدّ أن تقع على صفة الحسن بالقطع ، فإذا شكّ في وقوعها على صفة الحسن ، لا يجوز الاقتصار عليها ، بل يجب إيقاعها بنحو يحصل معه القطع بحسنها ، فلا بدّ في المقام من الفحص والعلم بشخص الأمر والانبعاث عنه حتى يحرز وقوعها على صفة الحسن (١).

وفيه أوّلا : أنّا نقطع بأنّ الامتثال الاحتمالي في عرض الامتثال التفصيليّ ، ضرورة أنّه أيضا انقياد للمولى ، والانقياد حسن بالذات ، وما يكون حسنا بالذات لا يعقل انفكاك الحسن عنه إلّا بعروض جهة مقبّحة عليه ، وليس في المقام جهة مقبّحة.

وثانيا : إطلاق الرواية الواردة في باب الوضوء شامل للمقام أيضا ، فإنّ زكاة التجارة باحتمال الأمر والمطلوبيّة لا تكون إلّا بنيّة صالحة يريد بها ربّه ، فيشمله قوله عليه‌السلام : «إذا كان بنيّة صالحة يريد ـ أو يقصد ـ بها ربّه».

والحاصل : أنّ المستفاد من الرواية أنّ ما يعتبر في العبادة هو أن يكون العمل بداع إلهي ويضاف إلى الربّ بنحو من أنحاء الإضافة ، فإذا فرضنا أنّه أتى بذات العبادة وقد أضافها إلى الله تعالى ، فأيّة حالة منتظرة لعدم تحقّق الامتثال بعد.

وثالثا : لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فالمرجع هو البراءة ، فإنّه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فإنّ الشكّ في أنّ المعتبر هو خصوص قصد شخص الأمر أو يكفي الانبعاث عن احتمال الأمر أيضا ، فبما أنّ الجامع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٩ ـ ٣٢١.

٥٠١

بين الأمرين متيقّن الاعتبار ، واعتبار خصوص قصد شخص الأمر مشكوك تدفع الخصوصيّة المشكوكة بالبراءة.

المسألة الثانية : ما علم أصل التكليف وتردّد متعلّقه بين أمرين.

ووجه عدم حسن الاحتياط في ذلك والفرق بينه وبين ما لم يعلم أصل التكليف أحد أمرين :

الأوّل : اعتبار قصد الوجه في خصوص ما علم أصل التكليف دون ما ليس فيه إلّا احتمال التكليف.

وفيه : أنّ هذا الفرق بلا وجه ، مضافا إلى أنّه غير فارق ، فإنّ الآتي بالظهر والجمعة إنّما يأتي بالواجب بقصد الوجه وينبعث عن نفس الأمر ، إذ المفروض أنّ داعيه إلى العمل ليس إلّا أمر المولى المعلوم له ، غاية الأمر أنّ التمييز ليس في البين ، فإنّه لا يدري أنّ أيّا منهما هو المأمور به.

الثاني : ما اختاره شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ في الدورة السابقة وفي مبحث القطع من هذه الدورة من أنّ الامتثال الاحتمالي يكون في طول الامتثال التفصيليّ مع العلم بالتكليف ، وأمّا مع مجرّد احتمال التكليف يرى العقل الامتثال الاحتمالي والانبعاث عن احتمال البعث في عرض الامتثال التفصيليّ والانبعاث عن شخص البعث مع التمكّن منه (١).

وهذا الوجه أيضا بلا وجه بعد ما عرفت من عدم تماميّة أصل المبنى.

المسألة الثالثة : ما يحتاج إلى التكرار ولم يكن أصل التكليف معلوما بأن احتمل تكليف على تقدير ثبوته تردّد متعلّقه بين أمرين.

وقد ذهب شيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره ـ إلى عدم حسن الاحتياط حينئذ من

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦.

٥٠٢

جهة أنّه يلزم منه اللغو واللعب والعبث بأمر المولى ، فإنّ من اشتبهت القبلة عليه واشتبه ثوبه الطاهر ومسجده الطاهر بين خمسة ثياب وخمسة مساجد مثلا إذا أراد الاحتياط ، يلزمه أن يأتي بمائة صلاة إلى أربع جوانب في كلّ جانب خمسا وعشرين صلاة حتى يعلم بإتيان صلاة واحدة في ثوب طاهر على مسجد طاهر إلى القبلة ، وهذا لا يعدّ امتثالا لأمر المولى عند العقلاء ، بل يعدّ لعبا وعبثا بأمره (١).

وأجاب عنه صاحب الكفاية بجوابين :

الأوّل : أنّ الاحتياط ربما لا يكون عبثا ، بل يكون بداع عقلائي.

الثاني : أنّ اللعب والعبث ليسا في نفس الامتثال ، بل في كيفيّته (٢).

وفي كلا الجوابين مسامحة واضحة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الامتثال لا بدّ وأن يكون بداع إلهي ولا يكفي الداعي العقلائي ، وإن كان المقصود أنّ كيفيّة الامتثال ليست عبثا بل بداع عقلائي ، فلا يكون جوابا مستقلّا ، بل لا بدّ من انضمام الثاني إليه.

وأمّا الثاني : فلأنّ كيفيّة الامتثال لا يعقل أن تكون عبثا دون الامتثال ، فإنّها ليست إلّا عبارة عن إتيان المأمور به على ما هو عليه ، وبإتيان العمل بهذه الكيفيّة ـ أي على ما هو عليه ـ يتحقّق الامتثال ، والمفروض أنّ المكلّف أتى به كذلك ، واللعب والعبث ليسا في شيء من الأفراد مع قطع النّظر عن انضمام الغير إليه ، فكلّ واحد منها إذا لوحظ لا بشرط ، لا لعب ولا عبث فيه ، وإنّما اللعب والعبث يلزمان ـ على فرض لزومهما ـ من انضمام غير المأمور به إلى المأمور به ، فنفس المأمور به لا لعب ولا عبث فيه ، لوقوعه على ما هو عليه ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٩٩.

(٢) كفاية الأصول : ٤٢٣.

٥٠٣

وإنّما اللعب والعبث في تحصيل القطع بتحقّقه والعلم بامتثال الأمر ، فإنّ له طريقين : أحدهما : السؤال عن العالم مثلا ، وهو طريق عقلائي ، والآخر : التكرار الّذي ليس طريقا عقلائيّا فرضا ، فلو فرضت اللغويّة والعبثيّة فإنّما هي في كيفيّة تحصيل القطع بالامتثال لا في نفس الامتثال ولا في كيفية الامتثال.

ومن جميع ما ذكر ظهر أنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء ، وظهر أيضا أنّ ما نسب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ إلى شيخنا الأنصاري ، وإلى أستاذه السيّد ـ وإن لم يذكره في حاشية نجاة العباد ـ من الفتوى بلزوم الإتيان أوّلا بما هو وظيفته الآن بحسب تقليده من القصر والإتمام ثمّ الاحتياط بالآخر (١) ، ليس على ما ينبغي ، بل يتحقّق الاحتياط ويحسن سواء قدّم ما أدّى إليه الطريق أو أخّره ، ضرورة أنّ معنى حجّيّة الطريق ليس إلّا جواز الاقتصار على ما أدّى إليه ، وعدم جواز الاكتفاء بخلافه ، وليس مقتضاه منع المكلّف عن العمل بخلافه حتى مع الإتيان بمؤدّاه بعد ذلك ، ولا يضرّ ذلك بقصد الوجوب أيضا ، فإنّ ما أدّى الطريق إلى وجوبه لا يخرج عن الوجوب بإتيان ما يحتمل وجوبه ولم يؤدّ إليه الطريق أوّلا ، بل بعد على وجوبه ، فيمكن للمكلّف إتيانه بقصد الوجوب كما هو ظاهر. هذا كلّه في شرائط الاحتياط.

وأمّا البراءة : فالعقليّة منها لا ينبغي الريب في عدم جريانها قبل الفحص ، ضرورة عدم تحقّق موضوعها الّذي هو عدم البيان ، وقد مرّ أنّ المراد من البيان جعل التكاليف في محلّ يمكن للمكلّف أن يصل إليه عادة ولو بالفحص ، فمع عدم الفحص لا يحرز موضوع حكم العقل بقبح العقاب.

وأمّا البراءة الشرعيّة : فأدلّتها وإن كانت مطلقة تشمل الشبهات قبل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٥٠٤

الفحص وبعد الفحص ، الموضوعيّة والحكميّة ، بل دلّ الدليل الخاصّ في بعض موارد الشبهات الموضوعيّة على عدم وجوب الفحص ، إلّا أنّه استدلّ لوجوب الفحص في الشبهات الحكميّة وعدم جريان البراءة الشرعيّة فيها بوجوه :

الأوّل : الإجماع.

ولا يخفى أنّه لا يفيد ، إذ يحتمل أن يكون مدركه هو الوجوه العقليّة والنقليّة المذكورة في المقام.

الثاني : العقل بتقريبين :

أحدهما : العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين موارد الشبهات بحيث لو فحص عنها لظفر بها.

وأجاب عن هذا التقريب صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بأنّه أخصّ من المدّعى ، فإنّ المدعى هو وجوب الفحص في جميع الشبهات الحكميّة سواء كانت بدويّة أو مقرونة بالعلم الإجمالي ، والدليل يختصّ بالثاني ، ولا يشمل ما إذا انحلّ العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال (١).

واستشكل عليه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّ هذا العلم الإجمالي لا ينحلّ بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، فإنّ معلومه معلّم بعلامة ، وهو وجود تكاليف في الكتب الأربعة مثلا ، وإذا كان المعلوم بالإجمال ذا علامة كما إذا علم إجمالا بأنّ ذمّته مشغولة بمقدار من الدّين ـ الّذي هو مكتوب في الدفتر ـ لزيد ، لا ينحلّ العلم بالعلم التفصيليّ بالأقلّ والشكّ في الأكثر.

والسرّ فيه : أنّ حقيقة هذا العلم ترجع إلى علمين : علم يكون معلومه هو

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٢٥.

٥٠٥

العدد والمقدار. وآخر يكون معلومه هو تعلّق التكليف بذي العلامة ، فإذا انحلّ العلم الأوّل بالظفر بمقدار وعدد ، يبقى العلم الثاني على تنجيزه ، فالعلم بالمقدار المعلوم بالإجمال من الدّين وإن كان يوجب انحلال هذا العلم إلّا أنّ العلم بأنّ جميع ديونه مكتوبة في دفتره منجّز وموجب للفحص وعدم جريان البراءة في الزائد عن المقدار المعلوم بالإجمال أيضا ، وهل يلتزم أحد بأنّ مثل هذا الرّجل يكتفي بمراجعة صفحة من دفتره ، فإذا ظفر بثبوت مقدار من الدّين ، أدّى هذا المقدار فقط ، ويجري البراءة عمّا زاد بدعوى انحلال العلم؟ ففي المقام أيضا الظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف لا يوجب انحلال العلم بثبوت تكاليف معلّمة بعلامة كونها في الكتب المعتبرة للشيعة (١).

وهذا الّذي أفاده ـ قدس‌سره ـ تامّ فيما إذا لم يكن ذو العلامة أيضا مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا تردّد إناء زيد ، النجس بين عشرة إناءات وعلم بنجاسة أحدها واحتملت نجاسة الأكثر أيضا حيث إنّ العلم بنجاسة إناء بالخصوص أو قيام البيّنة على ذلك لا يوجب انحلال العلم بنجاسة إناء زيد بخصوصه المردّد بين الإناءات العشر بل بعد هذا العلم الإجمالي باق على حاله.

وأمّا إذا كان نفس ذي العلامة أيضا مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بنجاسة إناء زيد في المثال ولم يعلم أنّ له إناء واحدا أو اثنين أو ثلاثا وهكذا إلى عشرة ، فالعلم التفصيليّ بالمقدار المعلوم بالإجمال من ذي العلامة يوجب انحلال كلا العلمين ، ضرورة أنّا إذا علمنا تفصيلا بنجاسة إناء واحد من زيد ، فبعد ذلك لا علم لنا بنجاسة شيء من الإناءات التسع الباقية ، ونحتمل وجدانا طهارة جميعها ، والمقام من هذا القبيل فإنّ نفس التكاليف الثابتة في الكتب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

٥٠٦

المعتمدة للشيعة بالعلم الإجمالي مردّدة بين الأقلّ والأكثر بهذا العنوان ، فإذا ظفرنا بالمقدار المعلوم بالإجمال منها ، فلا محالة ينحلّ كلا العلمين : العلم الإجمالي بثبوت تكاليف علينا ، والعلم بوجود تكاليف في هذه الكتب المعتمدة.

ومثال الدفتر أيضا كذلك ، ووجوب الفحص فيه ليس من جهة عدم انحلال العلم الإجمالي وإلّا للزم الاحتياط لو فقد الدفتر ولم يتمكّن من الفحص ، مع أنّه لا يجب قطعا ، بل يكون لدليل خارج ، نظير وجوب الفحص عن بلوغ المال إلى حدّ النصاب وعدمه ، وعن تحقّق الاستطاعة وعدمه ، وغير ذلك ممّا يجب الفحص فيه مع أنّه ليس علم إجمالي في البين.

وثانيهما : أنّ العقل مستقلّ بوجوب الفحص عمّا لا ينكشف غالبا للمكلّف من الأحكام إلّا بالفحص ، ولولاه لوقع في المخالفة كثيرا ، بداهة أنّ مبنى الشرع ليس على إيصال التكاليف إلى المكلّف قهرا ، بل على تبليغها على النحو المتعارف ، وهو جعلها في محلّ يمكنه أن يصل إليه. وهذا من صغريات وجوب النّظر إلى معجزة من يدّعي النبوّة ، وإلّا لزم إفحام الأنبياء ، فأدلّة البراءة مختصّة بخصوص الشبهات البدويّة بعد الفحص.

وبعبارة أخرى : هذه القرينة العقليّة موجبة لانصرافها عن الشبهات قبل الفحص وموجبة لعدم انعقاد ظهور لها في ذلك

الثالث : الأخبار المتظافرة المتكاثرة الدالّة على أنّ التعلّم واجب ، ولا يكون الجهل عذرا عند المخالفة مع التمكّن من العلم بالحكم بالفحص ، فهي مخصّصة لعمومات أدلّة البراءة ، وجملة من أدلّة البراءة والاحتياط أيضا لها قوّة ظهور في وجوب التوقّف والاحتياط في خصوص الشبهات قبل الفحص ، كما مرّ بيانه.

٥٠٧

وهذان الوجهان الأخيران ـ أي التقريب الثاني من تقريبي الدليل العقلي ، والوجه الأخير ـ هما العمدة في المقام.

ومن ذلك يظهر الكلام في الاستصحاب أيضا وأنّه ـ بناء على جريانه في الأحكام الكلّيّة ـ لا يجري إلّا بعد الفحص بمقتضى هذه الأخبار.

وأمّا التخيير العقلي فهو كالبراءة العقليّة في عدم استقلال العقل به قبل الفحص.

بقي في المقام أمران :

الأوّل : أنّ المقدّس الأردبيلي (١) ـ قدس‌سره ـ ذهب إلى أنّ التعلّم واجب نفسي تهيّئيّ ويستحقّ تاركه العقاب لو أدّى إلى المخالفة ، وتبعه على ذلك تلميذه صاحب المدارك (٢) ، ومال إليه بل اختاره أخيرا صاحب الكفاية (٣) قدس‌سرهما.

والمشهور على أنّ وجوبه مقدّمي. وهو الظاهر من ظواهر الأخبار ، فإنّ قوله عليه‌السلام أوّلا : «هلّا عملت» وبعد ذلك : «هلّا تعلّمت» (٤) له قوّة ظهور في أنّ العقاب على ترك الواقع ومخالفته لا على ترك التعلّم ، وأنّ التعلّم واجب مقدّمة للعمل.

وعلى كلّ حال لا إشكال في استحقاق العقاب على المخالفة عند ترك التعلّم في غير الواجبات المشروطة والموقّتة ، وأمّا فيها فلا إشكال أيضا إن لم يكن ترك التعلّم سببا للعجز عن الامتثال بعد الوقت وبعد حصول الشرط ، ولا سببا لإحراز الامتثال بعد ذلك ، بل يمكن المكلّف أن يتعلّم بعد دخول

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٩.

(٣) كفاية الأصول : ٤٢٦.

(٤) أمالي المفيد : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ـ ٦ ، وعنها في البحار ٢ : ٢٩ ـ ١٠.

٥٠٨

الوقت أو حصول الشرط ، ويأتي بالواجب على ما هو عليه ، كما في مسألة الحجّ. فإن ترك التعلّم بعد الوقت أيضا ولم يتمكّن من الامتثال أو إحراز الامتثال ، فقد عصى بواسطة ترك المأمور به عمدا مع قدرته عليه ، ولا ملزم في هذا الفرض لوجوب التعلّم قبل الشرط والوقت أصلا ، بل هو واجب موسّع يجوز للمكلّف اختيارا تركه قبل حصول الشرط والوقت.

وأمّا إن كان ترك التعلّم موجبا للعجز عن إحراز الامتثال ولكنّه يقدر على أصل الامتثال ، كما في مسائل الشكوك بعد الفراغ أو بعد التجاوز ، فإنّه إذا لم يتعلّم قبل الوقت ولم يتمكّن من تعلّم ذلك بعده ، فلا يمكنه القطع بالامتثال ، ولكن لم يصر بذلك عاجزا عن أصل الامتثال ، إذ يمكنه الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه ، غاية الأمر أنّه ـ لتردّده بين أفراد لا يسع الوقت بإتيان جميعها ـ لا يمتثل إلّا احتمالا ، فيبني في صورة الشكّ في إتيان الركوع بعد الدخول في السجود مثلا على أحد الطرفين ، ويأتي بالصلاة باحتمال كونها مأمورا بها ، فإن خالف الواقع ، فلا إشكال في استحقاقه العقاب من جهة أنّه لم يأت بالمأمور به مع قدرته عليه ، ولا إشكال أيضا في وجوب التعلّم عليه قبل الوقت من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ يحتمل أن يؤدّي تركه التعلّم إلى مخالفة المولى ، فيحتمل العقاب ، والعقل مستقلّ بوجوب دفع ذلك ، ففي الواجبات غير المشروطة وهاتين الصورتين من المشروطة لا إشكال في ترتّب العقاب على ترك المأمور به ، وإنّما الإشكال فيما إذا كان ترك التعلّم موجبا للعجز عن نفس الامتثال من جهة أنّه قبل الشرط لم يكن واجبا حتى تجب مقدّمته التي هو التعلّم ، وبعده أيضا لا يكون واجبا ، لمكان العجز عنه.

وتحقيق الكلام فيه : أنّ القدرة المأخوذة في الواجب تارة قدرة عقليّة بمعنى أنّها لا دخل لها في الملاك أصلا ، بل الملاك ملزم في ظرفه في حقّ

٥٠٩

العاجز أيضا ، غاية الأمر أنّه لا يقدر على تحصيله ، وأخرى شرعيّة لها دخل في الملاك ، وبدونها لا ملاك أصلا ، نظير الوجدان الّذي هو شرط في تحقّق الملاك للوضوء ، فإنّ الوضوء ليس له ملاك في حقّ الفاقد أصلا.

فإن كانت القدرة عقليّة ، فلا ريب في وجوب التعلّم واستحقاق التارك له العقاب ، فإنّ العقل مستقلّ بلزوم التعلّم قبل الشرط حفظا للملاك الملزم في ظرفه ، فوجوب التعلّم في هذه الصورة أيضا من جهة حكم العقل ، فإنّه من المقدّمات المفوّتة ، أي المقدّمات التي تركها مفوّت للملاك الملزم في ظرفه ، وقد سبق في بحث مقدّمة الواجب أنّ مثل هذه المقدّمات واجب عقلا ، ومثّلنا لذلك بما إذا علم العبد بأنّ مولاه يعطش غدا عطشا مهلكا وهو فعلا متمكّن واجد للماء ولكن إذا أهرقه لا يقدر بعد ذلك على تحصيل الماء ، وقلنا : إنّ العقل مستقلّ بأنّه ليس له ذلك ، ولا يصحّ له الاعتذار ـ عند مؤاخذة المولى بأنّك لم أهرقت الماء وأنت كنت عالما بأنّي أعطش هذا اليوم؟ ـ بأنّي في الأمس ما كنت مكلّفا بتحصيل الماء واليوم لم أقدر على ذلك.

وبالجملة ، العقل لا يفرّق في استحقاق العقاب بين مخالفة التكليف الإلزاميّ وبين تفويت الملاك الملزم ، ففي هذه الصورة وإن كان المكلّف غير مكلّف بالواجب بعد حصول الشرط ، لعجزه عنه إلّا أنّه من أوّل زمان تحقّق التفويت مستحقّ للعقاب بحيث لو أراد المولى تعجيل عقابه لصحّ عقابه في هذا الزمان.

وهذا نظير من رمى البندقة على أحد بحيث يقتله بعد خمس دقائق مثلا ، فإنّه لا شبهة في صحّة مؤاخذته وعقابه بمجرّد الرمي وإن كان لا يجوز قصاصه حينئذ ، وذلك لأنّ ما يكون تحت اختياره هو هذا الفعل وقد صدر عنه بسوء اختياره ، وبعد ذلك لا يقدر على حفظ البندقة.

٥١٠

وهذا بخلاف الصورة السابقة فإنّ ظرف استحقاق العقاب فيها هو بعينه ظرف العصيان وظرف ترك المأمور به لا قبل ذلك ، كما هو واضح.

وإن كانت القدرة شرعيّة وكان لها دخل في الملاك ، فيجوز له أن يجعل نفسه عاجزة اختيارا بترك التعلّم ، ولا يلزم عليه أن يوجد الملاك الملزم في حقّه ، كما لا يلزم أن يجعل الفقير نفسه غنيّة ليجب عليه الخمس ويصير في حقّه ذا ملاك.

وتوهّم كون التعلّم واجبا نفسا حينئذ ، فاسد ، لوجهين :

أحدهما : ما مرّ آنفا من عدم الدليل عليه ، بل الدليل على خلافه.

والثاني : أنّه لو سلّم وجوبه النفسيّ ، فهو فيما إذا كان الواجب موردا لابتلائه لا فيما هو خارج عن محلّ ابتلائه ، ولم يقل أحد بوجوب تعلّم أحكام الحيض على الرّجل أو أحكام الخمس على الفقير إلّا على المجتهد في مقام الفتوى.

وبالجملة ، التعلّم في هذا الفرض ليس له وجوب لا مقدّمة ولا نفسا ولو قلنا بوجوبه النفسيّ في غير هذا الفرض.

نعم ، لو كان ذلك ـ أي عدم صيرورة التكليف ذا ملاك ملزم بواسطة ترك التعلّم ـ غالبيّا ، يستكشف إنّا من نفس دليل التكليف وجوب التعلّم ، لأن لا يكون جعله لغوا ، ولا نحتاج لإثبات ذلك إلى دليل آخر غير دليل نفس التكليف.

ثمّ لا يخفى عدم الفرق بين القطع بسببيّة ترك التعلّم للعجز عن إحراز الامتثال أو نفس الامتثال وبين احتمال سببيّة ترك التعلّم لذلك في وجوب التعلّم واستحقاق العقوبة على المخالفة ، وذلك لوحدة الملاك ، وهو احتمال العقاب المسبّب عن القطع بمخالفة التكليف أو تفويت الملاك أو احتمال ذلك

٥١١

وعدم وجود المؤمّن ، فإنّ المفروض أنّه يحتمل مخالفة التكليف أو تفويت الملاك بالوجدان الملازم لاحتمال العقاب وأنّه لا تجري البراءة ، لمكان كون الشبهة قبل الفحص ، والعقل مستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل.

هذا كلّه ـ إلّا الفرض الأخير ـ فيما إذا قطع المكلّف بتوجّه التكليف إليه في ظرفه ، أو صيرورته ذا ملاك في حقّه. وبعبارة أخرى : إذا علم بأنّه يبتلى بمسألة لا يعلم حكمها.

وممّا ذكرنا في الفرض الأخير ـ وهو ما إذا علم بأنّ ترك التعلّم يخرج المسألة عن كونها مبتلى بها وعن كونها ذات ملاك ملزم ـ ظهر أنّه لا يجب التعلّم فيما يعلم بعدم ابتلائه به أصلا ، ولا يستحقّ العقاب إذا أدّى إلى الابتلاء والمخالفة ، فإنّه بلا مقتض ، وهكذا لا يجب التعلّم فيما يحتمل ابتلاؤه به لكن احتمالا ضعيفا لا يعتني به العقلاء.

وأمّا فيما يحتمل الابتلاء احتمالا عقلائيّا ، كمسائل الشكّ بين الثلاث والأربع والشكّ بين الاثنين والثلاث أو الأربع وأمثال ذلك ، فهل يجب التعلّم أو لا؟ فيه كلام.

والظاهر هو الأوّل ، وذلك لحكم العقل حيث إنّ احتمال مخالفة التكليف أو تفويت الملاك ـ الّذي هو روح التكليف ـ الملازم لاحتمال العقاب موجود بالوجدان ولا مؤمّن ولا دافع عنه ، لعدم جريان البراءة على الفرض من جهة أنّ الشبهة قبل الفحص ، والعقل يستقلّ بوجوب دفعه.

وتوهّم أنّ استصحاب عدم الابتلاء المتيقّن قبل الوقت إلى آخر الوقت أو زمان الإتيان بالواجب الّذي لا تعلم خصوصيّات مسائله مؤمّن ، فاسد ، لا من جهة عدم جريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة ، فإنّه سيجيء في محلّه المناسب له أنّه لا إشكال فيه ، بل من جهة أنّ هذا الاستصحاب ليس له أثر

٥١٢

شرعي يتعبّد به ، فإنّ عدم الابتلاء ـ الّذي نستصحبه ـ ليس له أثر إلّا عدم صحّة العقاب ، الّذي هو ممّا استقلّ به العقل عند إحراز وجود المؤمّن أو إحراز عدم الابتلاء بالوجدان ، فبعد احتمال الابتلاء وجدانا لا بدّ من وجود أثر شرعي لعدم الابتلاء ، الّذي هو المستصحب غير هذا الأثر العقلي حتى نحكم بعدم الابتلاء بمقتضى التعبّد الاستصحابي ، ويترتّب عليه ذلك الأثر العقلي الّذي هو عدم صحّة العقاب ، وأمّا وجوب التعلّم فهو أثر عقلي لاحتمال الابتلاء الموجود بالوجدان ، فهو أيضا لا يرفع إلّا بعد إحراز عدم الابتلاء وجدانا أو تعبّدا ، فكيف يمكن إجراء الاستصحاب بلحاظ هذا الأثر!؟

ثمّ إنّه ظهر من تضاعيف كلماتنا أنّ العقاب في موارد ثبوت استحقاق العقاب عند ترك التعلّم والفحص يكون على مخالفة الواقع لا على مخالفة الطريق ، فلو فرض عدم أداء ترك التعلّم إلى المخالفة ، لا عقاب أصلا لا على ترك التعلّم ، لما ذكرنا من أنّ وجوبه مقدّميّ ، ولا على الواقع ، ضرورة أنّه أتى به ، ولو فرض أداؤه إلى المخالفة ، فالعقاب ليس على ترك التعلّم ، بل على مخالفة الواقع.

نعم ، لا بأس بالالتزام باستحقاق العقاب على تجرّيه على المخالفة في الصورتين لو قلنا بوجوب التعلّم نفسا ، وفي الصورة الأولى فقط على القول بوجوبه المقدّمي. هذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال فيما إذا ترك التعلّم والفحص ولكن كان التكليف بحيث لو فحص عنه أيضا لا يصل إليه ولا يظفر بدليله ، فهل يستحقّ العقاب على المخالفة أو لا يستحقّ؟ وجهان.

ذهب إلى الأوّل شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ نظرا إلى أنّ المخالفة محقّقة ، والمفروض أنّه لم يكن معذورا ، لعدم جريان البراءة عن التكليف ، لكون

٥١٣

الشبهة قبل الفحص ، فخالف المولى من دون مؤمّن ، فالعقاب ليس بلا موجب وبلا مقتض (١).

هذا ، ولكن لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّا ذكرنا مرارا أنّ المراد من البيان ليس إيصال التكاليف إلى المكلّفين على سبيل القهر والجبر ، بل المراد جعلها في موضع يمكن للعبد أن يصل إليه عادة ، فإذا فرضنا أنّ هناك تكليفا لم يكن بهذه المثابة ، فالبيان غير تامّ بالقياس إليه واقعا ولو لم يفحص عنه المكلّف ، إذ المفروض أنّه لو فحص أيضا لا يصل إليه ، غاية الأمر أنّه لا يدري أنّ البيان غير تامّ ، ولا يحرز ذلك إلّا بعد الفحص ، لا أنّ البيان قبل الفحص تامّ ، فالعقاب على مثل هذا التكليف عقاب بلا مقتض وبلا بيان.

والحاصل : أنّه يعتبر في استحقاق العقاب أمور : مخالفة الواقع والطريق ووجود طريق إليه بحيث لو فحص عنه يظفر به ، فإن انتفى أحدها بأن عمل عملا وافق الواقع ولكن خالف الطريق الواصل إليه أو خالف الواقع ووافق الطريق أو خالف كليهما لكن لم يكن الطريق بحيث لو فحص عنه لظفر به ، لم يكن مستحقّا للعقاب.

نعم ، يستحقّ العقاب من حيث التجرّي في الأوّل والأخير.

الأمر الثاني : في وجوب الإعادة والقضاء وعدمه ، وأنّ الميزان في الحكم بصحّة العمل المأتيّ به حال ترك التعلّم وعدم وجوب القضاء والإعادة هل هو موافقته للواقع فقط ، أو الطريق ـ الّذي كان من حقّه الرجوع إليه ـ فقط ، أو لا يكفي ذلك بل لا بدّ في ذلك من موافقته لهما؟

لا ريب في كفاية الموافقة للواقع مطلقا إلّا في العبادة مع عدم تمشّي قصد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٩ ـ ٣٣١.

٥١٤

القربة ، وهذا واضح بعد ملاحظة ما قرّرناه في مقرّه من أنّ المجعول في باب الأمارات والطرق هو نفس الطريقيّة والكاشفية ، لكفاية متابعة الطريق وحجّيّته إذا كانت من باب الطريقيّة ولمحض كاشفيّته عن الواقع ، فلا وجه لاعتبار موافقة الطريق أصلا إلّا بهذه الملاحظة ، فأمر الصحّة والفساد يدور مدار موافقة الواقع وعدمها ، فالتارك للفحص ـ مجتهدا كان أو مقلّدا ـ لا يجوز له الاقتصار على ما أتى به إلّا إذا أحرز موافقته للواقع ، إذ مع عدمه يحتمل العقاب والعقل مستقلّ بوجوب دفعه. وهذا مراد من أفتى بأنّ عمل الجاهل المقصّر من دون تقليد ولا اجتهاد باطل ، وليس هنا موضع الحاشية بأنّه فيما إذا كان العمل عبادة ولم يتمشّ منه قصد القربة ، وإلّا فحكمه حكم الجاهل القاصر ، إذ ليس المراد بالبطلان الحكم بالفساد ولو في صورة إحراز موافقته للواقع ، بل المراد منه عدم جواز الاقتصار على ما أتى به ما لم يحرز الموافقة.

وليعلم أنّه لا طريق للمجتهد إلى إحراز الواقع إلّا ظنّه الفعلي ، وهكذا لا طريق للمقلّد إلى إحراز الواقع إلّا فتوى من يجب عليه تقليده فعلا ، فعلى هذا يصحّ أن يقال : إنّ الميزان في صحّة عمل الجاهل المقصّر وفساده هو موافقته لما يجب عليه فعلا اتّباعه من الطريق.

فإن كان ما أتى به موافقا لنظره الفعلي أو نظر من يجب عليه تقليده فعلا ، فلا يجب القضاء إذا كان الانكشاف بعد الوقت ، ولا الإعادة إذا كان قبل الوقت ، ولكنّه مستحقّ للعقاب في الفرض الأوّل من جهة التجرّي دون الثاني.

وإن كان مخالفا لذلك ، يجب القضاء في خارج الوقت ويكون عاصيا ، والإعادة في الوقت ، بل هذا هو مقتضى القاعدة في جميع موارد انكشاف الخلاف حتى من عمل بحسب نظره الاجتهادي أو بحسب فتوى مقلّده وبعد ذلك انكشف خطؤه في الاجتهاد أو تبدّل رأي مقلّده ، وذلك لما تبيّن في

٥١٥

مبحث الإجزاء من أنّ المأمور به بالأمر الظاهري لا يجزئ عن الواقع إذا انكشف الخلاف وأنّه غير مأمور به واقعا ، لأنّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل من إجماع وغيره ، وقد ادّعي الإجماع في باب العبادات بالنسبة إلى الجاهل القاصر ، وأمّا في المقام فلا إجماع فلا إجزاء أيضا ، لعدم وجود دليل آخر غير الإجماع أيضا.

نعم ، ورد الدليل بالخصوص على الصحّة والإجزاء مطلقا مع الجهل ولو كان عن تقصير في موارد بعضها متسالم عليه بين الأصحاب ، وهو الإتمام في موضع القصر ، والإجهار في موضع الإخفات ، والإخفات في موضع الإجهار ، وبعضها خلافيّ ، وهو القصر في موضع التمام للقاصد للإقامة عشرة أيّام ، فإنّه وردت رواية (١) صحيحة على ذلك ، وأفتى على طبقها بعض وعلى خلافها جمع من جهة إعراض المشهور عنها.

ومن هنا وقع إشكال علميّ في هذه الفروع وإن كان لا يترتّب عليه أثر عمليّ أصلا ، وهو : أنّه كيف يمكن الجمع بين الحكم بالصحّة التي ملاكها موافقة الواقع والحكم باستحقاق العقاب ، الّذي ملاكه عدم موافقة الواقع ، فإنّه من قبيل الجمع بين المتناقضين!؟

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

الأوّل : ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره. وحاصله : أنّ من الممكن أن يكون كلّ من الجهر والإخفات والقصر والإتمام في خصوص ظرف الجهل بوجوب الآخر مشتملا على مصلحة ملزمة كاملة في حدّ نفسها ، ويكون بين المصلحتين تضادّ في الاستيفاء بحيث لا يمكن استيفاؤهما معا ، فالصحة من جهة أنّ الجهر

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٢١ ـ ٥٥٢ ، الوسائل ٨ : ٥٠٦ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٣.

٥١٦

مثلا في صلاة الظهر له مصلحة كاملة لازمة الاستيفاء في ظرف الجهل بوجوب الإخفات ، واستحقاق العقاب من جهة تفويت مقدار من المصلحة الزائدة القائمة بالإخفات مع عدم إمكان تداركها (١).

وفيه ـ مضافا إلى ما ذكرنا في المباحث السابقة من أنّ التضادّ في الأفعال ممكن واقع كثيرا ، وأمّا التضادّ في المصالح فهو وإن كان ممكنا عقلا إلّا أنّه مجرّد فرض محض من قبيل أنياب الأغوال ـ أنّ لازمه تعدّد العقاب فيما إذا ترك الصلاة بالمرّة عند الجهل بوجوب الجهر مثلا ، أحدهما لأصل ترك الصلاة ، والآخر لترك الإجهار بها ، ووحدة العقاب فيما إذا ترك الصلاة أيضا بالمرّة لكن مع العلم بوجوب الجهر.

بيان ذلك : أنّ ذلك المقدار من المصلحة الزائدة الثابتة في الإجهار لا محالة يكون ملزما أيضا ، فإن كان ارتباطيّا مع المصلحة المترتّبة على أصل الصلاة ، فلازمه عدم صحّة الصلاة التي أخفت فيها ، وهو خلاف المفروض ، وإن كان استقلاليّا غير ارتباطيّ ، فلازمه أن يكون الإجهار واجبا مستقلّا ظرفه صلاة الصبح مثلا ، فكلّ من الصلاة والإجهار بها واجب مستقلّ له إطاعة وعصيان ، وهذا نظير ما إذا نذر أن يأتي بفريضة في المسجد ، فإن لم يأت بها أصلا لا في المسجد ولا في غيره ، يعاقب بعقابين ، لترك الصلاة وحنث النذر ، وإن أتى بها في البيت ، يعاقب بعقاب واحد ، لحنث النذر ، وتصحّ صلاته ، فالتارك لأصل الصلاة بالمرّة يستحقّ عقابين إذا كان جاهلا بوجوب الإجهار ، أحدهما لترك الصلاة ، والآخر لترك الإجهار بها ، ويستحقّ عقابا واحدا إذا كان عالما بذلك ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٢٨.

٥١٧

وبهذا ظهر الجواب عمّا أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (١) ـ قدس‌سره ـ من الالتزام بالترتّب ، فإنّ لازمه أيضا تعدّد العقاب مضافا إلى أنّه خلاف ظواهر الأدلّة الدالّة على أنّ الواجب على كلّ مكلّف في اليوم والليلة خمس صلوات ، فإنّ مقتضاه وجوب ستّ صلوات في اليوم والليلة ، بل خلاف الإجماع. هذا.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ عن هذا الوجه مع التزامه بالترتّب في غير المقام بوجوه أخر أيضا مضافة إلى ما ذكر :

أحدها : أنّ الالتزام بالترتّب لا يمكن في خصوص المقام لخصوصيّة فيه ، فإنّ الترتّب إنّما يعقل فيما إذا كان هناك تكليفان فعليّان لا يمكن للمكلّف امتثال كليهما في زمان واحد ، كالإزالة والصلاة ، فيصحّح بتقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ ، أمّا في المقام فلا يمكن أخذ عنوان العاصي للقصر في موضوع التكليف بالإتمام مثلا ، فإنّ العصيان في المقام كالنسيان في عدم إمكان أخذه في موضوع التكليف ، فكما أنّ الناسي لوجوب السورة بمجرّد التفاته إلى كونه ناسيا يخرج عن عنوان الناسي وينقلب الموضوع ، وبدون الالتفات لا يمكن تكليفه بشيء ، لعدم إمكان انبعاثه ، كذلك العاصي الجاهل لحكم القصر في المقام بمجرّد التفاته إلى كونه عاصيا لحكم القصر يخرج عن كونه جاهلا ، ويصير عالما ، وبدونه يستحيل تكليفه بوجوب التمام ، لعدم إمكان انبعاثه.

ثانيها : أنّ العصيان لا يتصوّر إلّا في الجزء الأخير من الوقت ، ففي غيره حيث لا يتصوّر العصيان لا يتصوّر الترتّب أيضا ، فهذا الوجه كسابقه مانع عن الالتزام بالترتب بحسب مقام الثبوت في خصوص المقام.

وثالثها : هو المانع في مقام الإثبات ، فإنّ الترتّب على تقدير إمكانه في

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٧.

٥١٨

المقام يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وفي باب الإزالة والصلاة نفس إطلاق دليل وجوب الإزالة والصلاة دليل في مقام الإثبات بعد تصحيح الترتّب في مقام الثبوت ، فإنّ بقاء إطلاق دليل وجوب الصلاة حتى حال امتثال أمر الإزالة والاشتغال بها لا يمكن ، ولكن لا مانع من بقاء إطلاق كلا الأمرين حال عصيان الأمر بالإزالة وعدم الاشتغال بها ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّه ليس هاهنا إلّا واجب واحد في مقام الإثبات (١).

والظاهر أنّ شيئا من هذه الوجوه لا يصلح للمانعيّة عن الالتزام بالترتّب في المقام لا ثبوتا ولا إثباتا.

أمّا الوجه الأوّل والثاني : فلما أشرنا إليه في بحث الترتّب من أنّ أحد الخطابين لا يلزم أن يكون مشروطا بعصيان الخطاب الآخر بمعنى أنّه أخذ في موضوع الخطاب مفهوم العصيان وعنوانه حتى يلزم المحذور المذكور ، بل يكفي أن يكون أحدهما مشروطا بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر ، فيمكن أن يكلّف المسافر مطلقا عالما أو جاهلا بصلاة القصر ويكلّف من لا يعلم بالحكم ولم يبلغ حكم المسافر إليه بصلاة التمام مشروطا بعدم إتيانه بالقصر ، فهذا الشخص يلتفت إلى أنّه مسافر ويلتفت أيضا إلى أنّه لم يأت بالقصر وأنّه لم يبلغ إليه أنّه موظّف بوظيفة خاصّة غير وظيفة الحاضر ، فيشمله الدليل.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ نفس أدلّة الصحّة كافية ، ولا نحتاج إلى دليل آخر ، إذ المقصود تعقّل وجه للصحّة الثابتة بحسب الأدلّة ، فإذا كان الترتّب ممكنا في مقام الثبوت ، فيمكن أن يكون هو وجه الصحّة ، ولا نحتاج إلى أزيد من ذلك.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

٥١٩

فظهر أنّه لا مانع من الالتزام بالترتّب غير ما ذكرنا من لزوم تعدّد العقاب وخلاف ظواهر الأدلّة بل الإجماع.

والصحيح أن يقال : إنّ من يكون جاهلا بوجوب القصر أو الجهر وصلّى قصرا أو جهرا نسيانا أو غفلة عن كونه مسافرا أو كون صلاته جهريّة بحيث تمشّى منه قصد القربة ، إن قلنا بأنّه أتى بوظيفته الواقعيّة فصلاته صحيحة ، كما هو الظاهر ، إذ لا وجه للبطلان بعد ما كانت مشمولة للإطلاقات ، فمقتضى الجمع بين هذه المطلقات الدالّة على كون القصر أو الجهر مأمورا به مطلقا حتى حال الجهل بالحكم ، والأدلّة الخاصّة في المقام ، الدالّة على تماميّة الإتمام في موضع القصر ، والإخفات في موضع الإجهار هو أنّ الإتمام أو الإخفات أيضا مأمور به في خصوص حال الجهل ، فينتج التخيير في هذا الحال كالتخيير في أماكن التخيير ، غاية الأمر أنّ المكلّف في المقام لجهله بالحكم واعتقاده بأنّ وظيفته التمام أو الإخفات لا يعلم بالتخيير وأنّ ما يأتي به أحد فردي التخيير ، فالصحّة من هذه الجهة ، وأمّا استحقاق العقاب فلا نلتزم به أصلا. ودعوى الإجماع موهونة جدّاً. مضافا (١) إلى أنّه ـ أي استحقاق العقاب ـ أمر عقلي لا يمكن إثباته بالإجماع.

وإن قلنا بأنّه تجب عليه الإعادة إتماما أو إخفاتا في هذا الحال ، فالصحّة من جهة أنّ المأمور به في حقّه هو الإتمام أو الإخفات ، ولا يستحقّ العقاب أصلا ، لما ذكرنا ، مع أنّ الرواية الواردة في باب الجهر والإخفات نطقت بأنّه

__________________

(١) قوله : مضافا ، إلى آخره.

أقول : ليس مراد القائل هو إثبات استحقاق العقاب بالشهرة والإجماع ، بل المراد منهما هو أنّ استحقاق العقاب من المسلّمات ، والاستحقاق إنّما هو على مخالفة الواقع. (م).

٥٢٠