الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

«كان» التامّة وإن كان لا إشكال فيه من جهة اتّحاد القضيّتين ، إذ المشكوك ـ وهو الوجوب الاستقلالي ـ عين المتيقّن سابقا إلّا أنّ الوجوب لا بدّ له من متعلّق ، وإذا لاحظنا الوجوب مع متعلّقه نرى أنّ المتيقّن هو الوجوب المتعلّق بعشرة أجزاء ، وهو مقطوع الارتفاع ، والمشكوك وهو الوجوب المتعلّق بتسعة أجزاء ، فهو فرد آخر منه.

وهذا نظير ما إذا علمنا بوجوب إكرام زيد في زمان وارتفاعه في زمان آخر وشككنا في أنّه هل حدث وجوب آخر متعلّق بإكرام عمرو أو لا؟ فهل لنا أن نقول : وجوب الإكرام كان فعليّا سابقا يقينا والآن نشكّ في ارتفاعه فنستصحبه.

هذا ، مضافا إلى أنّ استصحاب فعليّة الوجوب المتيقّن سابقا لا يثبت الوجوب بالباقي غير المتعذّر ، كما أنّ استصحاب وجود الكرّ في الحوض لا يثبت كرّيّة الماء الموجود فيه.

وأمّا التقريب الثالث : فربّما يستشكل فيه بأنّ نظر العرف في بقاء الموضوع واتّحاد المشكوك والمتيقّن وإن كان متّبعا في الاستصحاب إلّا أنّه في المركّبات الخارجيّة التي يعرف العرف مقوّماتها تامّ ، كما إذا وجبت قراءة قصيدة إمرئ القيس بتمامها في زمان معيّن ، ثمّ عجزنا عن قراءة بيت واحد منها لنسيان أو غيره ، فحيث إنّ المركّب خارجيّ ويرى العرف الناقص منه بيت مع التامّ شيئا واحدا فلا إشكال في استصحاب الوجوب ، وهكذا في استصحاب كريّة الماء المأخوذ منه شيء يسير ، وأمّا في المركّبات الاعتباريّة المخترعة للشارع ـ كالصلاة والوضوء والغسل وأمثالها ـ فلا يمكن استصحاب الوجوب بعد تعذّر شيء يسير منها ، إذ من الممكن أن يكون هذا الشيء اليسير ممّا به قوام الواجب في نظر الشارع وقد خفي على العرف ، فلا يفيد اتّحاد المشكوك والمتيقّن بنظر العرف في أمثال هذه المركّبات.

٤٨١

ولكنّ الإنصاف أنّ الاتّحاد بنظر العرف كاف في الاستصحاب مطلقا بعد ما بيّن الشارع أجزاء المركّب ودلّ الدليل على أنّ الأمر لا يسقط بتعذّر بعض الأجزاء والشرائط ، كالقراءة والقيام والستر والركوع والسجود.

وذلك لأنّ العرف (١) يرى الوجوب المتعلّق بالصلاة قاعدا مع العجز عن القيام عين الوجوب المتعلّق بالصلاة قائما ، ولا يراه فردا آخر من الوجوب مباينا له ، وهذا يكفي في جريان استصحاب وجوب الأجزاء التسعة مثلا أو مقدار من الأجزاء يصدق عرفا بقاء وجوبه السابق ، فالمناط أن يكون الباقي وجوبه عين وجوب الباقي والمتعذّر بنظر العرف ، ومعه لا بأس بجريان الاستصحاب بناء على ما هو المعروف من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة.

وبالجملة ، العرف يرى وجوب الباقي على تقدير وجوبه بقاء لوجوب المجموع فيما إذا كان المتعذّر يسيرا بحيث لا يكون الباقي عند العرف أمرا مغايرا للمجموع ، فإذا رأى العرف الصلاة جالسا والصلاة قائما موضوعا واحدا ورأى الجلوس والقيام من الأحوال العارضة على الصلاة ، يحكم بمقتضى حكم الشارع ب «لا ينقض اليقين بالشكّ» ببقاء الوجوب المتعلّق بالصلاة قائما عند تعذّر القيام ، ولو كان القيام في نظر الشارع من قبيل الأركان وممّا به قوام الصلاة التي أوجبها ، كان عليه التنبيه والبيان ، فمع عدمه يستكشف الاتّحاد في نظر الشارع أيضا ، فيجري الاستصحاب ، لتحقّق موضوعه.

__________________

(١) أقول : إنّ رؤية العرف كلا الوجوبين واحدا متوقّفة على رؤيته الواجد والفاقد واحدا ، وهي تتوقّف على تشخيص الركن من غيره ، وإذا فرضنا أنّ المركّب شرعيّ وأنّ بيان الركن وغير الركن بيد الشارع ، فلا حظّ للعرف في فهم بقاء الموضوع وعدمه ما دام لم يفهم مثلا أنّ القيام ـ الّذي هو وضع واحد ـ ركن في مقام وغير ركن في مقام آخر. (م).

٤٨٢

هذا ، وبقي الكلام في الفرق المذكور ، وهو الفرق بين العذر الابتدائي فلا يجري الاستصحاب ، لعدم تيقّن الوجوب قبل الشكّ ، والعذر الطارئ فيجري ، والتزم به شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) ، ووافقه شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره هنا ، ولكنّه ـ قدس‌سره ـ بنى في بحث الاستصحاب على عدم الفرق ، نظرا إلى أنّ الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة الإلهيّة لا يحتاج جريانه إلى فعليّة الموضوع خارجا ، وكونه ذا حكم في زمان يقينا ومشكوك الحكم بعده ، بل يكفي في جريان الاستصحاب فيها فرض وجود الموضوع وكونه محكوما بحكم في زمان يقينا ومشكوك الزوال في الزمان اللاحق ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر الزائل تغيّره من قبل نفسه ، والماء النجس المتمّم كرّا ، واستصحاب حرمة وطء الحائض بعد النقاء وقبل الاغتسال وغير ذلك ممّا لا يتوقّف استصحاب حكم الكلّي فيه إلّا على فرض وجود موضوعه (٣).

وهذا الكلام ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ لاستصحاب الحكم أقساما ثلاثة :

أحدها : استصحاب الحكم الكلّي المشكوك الّذي لا منشأ للشكّ فيه الاحتمال النسخ بحيث لولاه لكان الحكم ثابتا على ما هو عليه من سعة دائرة موضوعه وضيقها بلا شكّ ، وهذا يسمّى باستصحاب عدم النسخ ، الّذي ادّعى المحدّث الأسترآبادي الضرورة على جريانه (٤).

الثاني : استصحاب الحكم الكلّي الّذي لم يكن الشكّ فيه من جهة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٩٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣١٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٥.

(٤) نسبه إليه في فرائد الأصول : ٣٢٣ و ٣٤٧.

٤٨٣

احتمال النسخ ، بل من جهة الشكّ في سعة دائرة موضوعه وضيقها ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر الزائل تغيّره من قبل نفسه ، والماء المتمّم كرّا ، وحرمة وطء الحائض بعد النقاء وقبل الاغتسال ، فإنّ الشكّ في جميع ذلك ليس من جهة احتمال النسخ ، بل من جهة سعة دائرة الموضوع وضيقها من أوّل الأمر ، فلا نعلم أنّ موضوع حرمة الوطء ـ مثلا ـ هل هو وسيع يشمل قبل النقاء وبعده وقبل الاغتسال ، أو ضيّق لا يشمل إلّا أفراد الوطء حال الحيض؟ فحينئذ يفرض المجتهد وجود امرأة في الخارج قد انقضت أيّام أقرائه ولم تغتسل بعد ، ويقول : تلك المرأة المفروضة كانت محرّمة الوطء قبل نقائها يقينا والآن يشكّ في بقاء الحرمة ، فيستصحبها ويفتي في رسالته بحرمة وطئها.

والثالث : استصحاب الحكم الجزئي الشخصي ، مثل : استصحاب نجاسة هذا الثوب وطهارة هذا الماء ، وهذا ليس من شأن المجتهد في شيء ولا أثر ليقينه وشكّه أصلا بالنسبة إلى مقلّده ، بل ليس للمجتهد إلّا الفتوى بجواز البناء على اليقين السابق فيما إذا علم طهارة شيء ثمّ شكّ في نجاسته مثلا ، فإذا تحقّقت أركان الاستصحاب للمقلّد من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، يجري الاستصحاب ولو كان مجتهده معتقدا خلاف ذلك ، والاستصحاب في المقام فيما إذا كان العذر ابتدائيّا ـ لا ينطبق على شيء من هذه الأقسام.

أمّا الأخير : فواضح ، إذ ليس الشكّ في المقام من جهة الأمور الخارجيّة ، وهكذا الأوّل ، ضرورة أنّ وجوب أصل الصلاة معلوم لنا لا نشكّ فيه ولا نحتمل نسخه ، ولو احتملنا لجرى الاستصحاب ، ولكن لا ربط له بما نحن بصدده.

وأمّا عدم كونه من القسم الثاني : فلأنّ الوجوب سعة دائرته وضيقها مجهولان لنا من أوّل الأمر ، إذ تعلّقه بأصل الصلاة وإن كان معلوما إلّا أنّ شموله لمثل هذا المكلّف غير المتمكّن من إتيان جميع الأجزاء من أوّل الوقت

٤٨٤

مشكوك ، وليس له حالة سابقة متيقّنة حتى نجري الاستصحاب ونحكم ببقاء تلك الحالة.

والحاصل : أنّ استصحاب الحكم الكلّي ـ الّذي كان منشأ الشكّ فيه سعة دائرة الموضوع وضيقها ـ وإن كان لا يحتاج إلى وجود الموضوع ويكفي فرض وجوده إلّا أنّه لا يكفي فرض الحالة السابقة ، بل لا بدّ من كون المجتهد بعد فرض وجود الموضوع ـ كفرض وجود ماء نجس أتمّ كرّا ـ متيقّنا بشيء في زمان وشاكّا فيه في زمان لا حق ، فيحكم ببقاء المتيقّن السابق بالاستصحاب ، وأنّ الماء في المثال نجس ، وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة متيقّنة ـ كما في المقام ـ ولو بعد فرض وجود الموضوع ، فلا يكفي فرض الحالة السابقة في جريان الاستصحاب ، فلا يمكن استصحاب وجوب الباقي بالنسبة إلى المتعذّر بالعذر الابتدائي ، ضرورة أنّه لم يكن متيقّنا في زمان ـ ولو فرض وجود مكلّف عجز عن القيام مثلا في أوّل الوقت ـ حتى نستصحبه ، وهل يمكن القول باستصحاب النجاسة في الماء المتمّم كرّا ، الّذي لم يعلم أنّ حالته السابقة قبل إتمامه كرّا هي النجاسة؟

ولعمري إنّ هذا لم يكن مترقّبا منه قدس‌سره.

هذا كلّه بحسب الأصل العملي ، وأمّا الكلام في ذلك بحسب الأصول اللفظيّة والأدلّة الخارجيّة : فبالنسبة إلى الصلاة لا ريب في التنزّل إلى المراتب النازلة ، لأنّها لا تسقط بحال ، كما هو المرويّ (١) ، وأفتى به المشهور ، مضافا إلى أنّه المنصوص بالخصوص في بعض المراتب.

نعم ، خصوص الطهور إذا تعذّر لا تجب الصلاة في الوقت بمقتضى

__________________

(١) لم نعثر عليه بنصّه في الكتب الحديثيّة.

٤٨٥

«لا صلاة إلّا بطهور» وإنّما يجب القضاء في خارجه ، وأمّا «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» فهو محكوم بحديث «لا تعاد» (١) المستفاد منه سقوط جزئيّة غير الخمس في غير حال العمد والالتفات.

وأمّا بالقياس إلى غير الصلاة من الواجبات : فقد استدلّ بروايات ثلاث على وجوب المقدار الممكن منه إذا عجز المكلّف عن جميع أجزائه وشرائطه.

إحداها : قوله عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (٢) بتقريب أنّ «من» في «منه» ظاهرة في التبعيض ، بل ادّعي عدم استعمالها إلّا في التبعيض حتى في مثل «خاتم من فضّة» غاية الأمر أنّها في مثله للتبعيض في أفراد الطبيعة بمعنى أنّ الخاتم بعض أفراد الفضّة ، وفي مثل «لي من هذه الدار كذا» للتبعيض في الأجزاء ، والبعضيّة تارة تلاحظ بالنسبة إلى الكلّ وأخرى تلاحظ بالقياس إلى الكلّي.

وبالجملة ، ظهور «من» في الرواية في التبعيض لا ينكر ، وكونها بيانيّة أي زائدة وكون «ما» في «ما استطعتم» زمانيّة حتى يكون المعنى : فأتوه ، أو بمعنى الباء حتى يكون المعنى فأتوا به ، خلاف الظاهر إن لم نقل بأنّه غير صحيح ، فيصير معنى الرواية على هذا أنّه يجب على المكلّف الإتيان بالبعض المستطاع من المركّب الّذي امر به ، وهذا كما يقال : «صلّى زيد بالمقدار الّذي استطاع من أجزاء الصلاة» فالرواية ظاهرة في وجوب التنزّل إلى المراتب النازلة من المركّب المأمور به ، لكنّها لا تنطبق على موردها ، فإنّ السؤال وقع في موردها عن تكرار الحجّ ، فلا يمكن حمله على الكلّ المأمور به.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٥ ـ ٩٩١ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ ـ ٥٩٧ ، الوسائل ٧ : ٢٣٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.

(٢) كنز العمّال ٥ : ٢١ ـ ١١٨٧٢.

٤٨٦

لا يقال : إنّ «الشيء» في قوله عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشيء» إلى آخره ، عامّ للكلّ والكلّي ، فينطبق على المورد وغيره ، ولا موجب لتخصيص «الشيء» بخصوص الكلّي مع كونه عامّا له وللكلّ.

فإنّه يقال : نعم ، إلّا أنّ الأمر بالكلّي ينحلّ إلى أفراده ويتعدّد حسب تعدّد أفراده ، ففي الحقيقة ليس الأمر بالكلّي أمرا واحدا وإن كان صورة كذلك بل هو أوامر متعدّدة.

ولمزيد التوضيح نقول : إنّ الإتيان تارة يتعدّى بنفسه ، كما في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ)(١) وأخرى يتعدّى بالباء ، كما يقال : «أتى بالصلاة» وعلى كلّ تقدير يكون الإتيان بمعنى الإيجاد في مثل «أتى بالصلاة» و «أتى الفاحشة» إمّا حقيقة أو يكون معناه في جميع الموارد هو المجيء ، كما يقال : «أتيت زيدا» أو «أتيت عنده» أي جئته أو جئت عنده ، ولكن يكون في مثل «أتى بالصلاة» و «أتى الفاحشة» كناية عن الإيجاد ، كما أنّه في «أتى أهله» كناية عن الوطء ، فهو متعدّ يحتاج إلى مفعول بنفسه أو بالواسطة ، ولا يمكن أن يكون مفعوله في الرواية هو الضمير المجرور ، وتكون «ما» زمانيّة كما عرفت ، بل لا بدّ أن يكون مفعوله هو «ما استطعتم» بجعل «ما» موصولة ، ولا مانع من تقديم متعلّقات الموصول ـ إذا كانت ظروفا ـ عليه ، كما يقال : «كل من الطعام ما تشتهيه» والظرف ـ وهو «منه» ـ متعلّق ب «ما استطعتم» وبيان له ، ولا ينافي كون «من» ـ مع كونها تبعيضيّة ـ بيانيّة ، كما في «خاتم من فضّة» فإنّها للتبعيض والتقطيع ولتبيين أنّ الخاتم بعض أفراد الفضّة وقطعة من هذه الطبيعة ومن مصاديقها.

__________________

(١) النساء : ١٥.

٤٨٧

ولا ريب في أنّ «من» ظاهرة في التبعيض ، وحيث إنّ التبعيض على قسمين : التبعيض بالنسبة إلى الأجزاء وبالنسبة إلى الأفراد ، والثاني لا يحتاج إلى عناية زائدة ، فإنّ الطبيعة تصدق على بعض أفرادها حقيقة ، والأوّل يحتاج إلى عناية ، وهو اعتبار أنّ الأجزاء على تغايرها وتباين كلّ منها مع الآخر شيء واحد ، لقيام المجموع بغرض واحد ، وكلمة «من» في الرواية في نفسها وإن كانت ظاهرة في هذا القسم من التبعيض إلّا أنّها حينئذ لا تنطبق على موردها ، فلا بدّ أن يقال : إنّها استعملت في التبعيض الأفرادي.

ولحاظ التبعيض الأجزائي أيضا في هذا الاستعمال بحيث يكون الاستعمال في الجامع بينهما يحتاج إلى مئونة لحاظ الأمور المتباينة والأجزاء المختلفة الحقيقة أمرا واحدا في هذا الاستعمال بخصوصه ، والأصل عدمه ، فإنّه مشكوك ، فلا يمكن الحكم باستعماله في الجامع بدون إحراز أنّه لوحظ ذلك. هذا ما يتراءى في بادئ النّظر.

لكنّ الّذي يقتضيه النّظر الدّقيق هو أنّ «من» زائدة ، والمعنى : «إذا أمرتكم بشيء فأتوه ما استطعتم» أو بمعنى الباء ، فيكون التقدير «فأتوا به ما استطعتم» ويحتمل أن يكون متن الرواية أيضا «فأتوا به» كما حكي ذلك عن المجلسي ـ قدس‌سره ـ في باب الصلاة من البحار (١).

وعلى كلّ تقدير تكون «ما» زمانيّة ، ويكون معنى الرواية على هذا مساوقا لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٢) فتصير أجنبيّة عن محلّ الكلام بالكلّيّة.

__________________

(١) ورد الحديث بلفظ «فأتوا منه» في البحار ٢٢ : ٣١ في تاريخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم نعثر عليه في باب الصلاة.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

٤٨٨

والوجه في ذلك : أنّ حمل «من» على التبعيض الأفرادي أيضا لا ينطبق على مورد الرواية ، الّذي هو السؤال عن تكرار الحجّ ، ومن المعلوم أنّ وجوبه بنحو صرف الوجود ، ولا يجب في العمر إلّا مرّة واحدة ، فلو لم نجعل «من» بمعنى الباء أو زائدة ، يلزم وجوب الإتيان بالحجّ أزيد من مرّة واحدة لمن كان قادرا على ذلك ، بل تكون هذه الرواية دليلا على أنّ الأمر يقتضي التكرار ، ضرورة أنّ مقتضاها حينئذ وجوب الإتيان بالمقدار الممكن من أفراد الطبيعة المأمور بها ، فلا مناص عن جعل «من» زائدة أو بمعنى الباء حتى تنطبق الرواية على موردها.

الثانية : قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (١) بتقريب أنّ «كلّه» في الفقرتين لا يمكن أن يراد منه مجموع الأفراد أو الأجزاء في كلتيهما بنحو سلب العموم بحيث يكون السلب في كلتيهما واردا على العموم ، نظير «كلّه لم أصنع» لأنّه إذا لم يكن مجموع الأجزاء أو الأفراد مدركا ، فلا محالة يكون مجموعها غير متروك ، فلا معنى لإيجاب عدم تركه.

وهكذا لا يمكن أن يراد من كلّ منهما العموم الاستغراقي بنحو عموم السّلب بحيث يكون السلب واردا على كلّ جزء أو فرد من الأفراد ، ضرورة أنّه لا معنى لإيجاب عدم ترك شيء من الأفراد أو الأجزاء ـ الّذي هو عبارة أخرى عن إيجاب جميع الأفراد أو الأجزاء ـ إذا لم يكن شيء منها مدركا وكان عدم الدرك كلّيّا ، فلا مناص عن أن يكون المراد أنّه إذا لم يكن الدرك كليّا بنحو سلب العموم ، لا يكون الترك كلّيّا بنحو عموم السلب ، فيكون حاصل المعنى على هذا أنّ المطلوب والمأمور به ـ كالصلاة أو صوم شهر رمضان ـ إذا لم يمكن درك

__________________

(١) غوالي اللئالي ٤ : ٥٨ ـ ٢٠٧.

٤٨٩

جميع أجزائه أو أفراده لا يجوز ترك جميع أجزائه أو أفراده ، بل يجب الإتيان بما يمكن إدراكه.

وأورد على الاستدلال بها صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بأنّ «ما» لها ظهور إطلاقي في العموم بالقياس إلى الواجبات والمستحبّات ، و «لا يترك» أيضا له ظهور إطلاقي في وجوب الإتيان بالمقدار الممكن الإدراك ، ولا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، فإمّا يكون ظهور «لا يترك» في الوجوب مقيّدا لإطلاق «ما» أو عموم «ما» رافعا لظهور «لا يترك» في الوجوب ، وكلّ منهما يصلح أن يكون قرينة للآخر ، فلا يبقى للرواية ظهور ، ويكون كلّ منهما من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة.

ويمكن الجواب عنه بما ذكرنا مرارا من أنّ الوجوب والاستحباب ليسا من المداليل اللفظيّة ، والأمر يستعمل في معنى واحد دائما ، وهما إنّما ينتزعان من ترخيص المولى في الترك وعدمه بمعنى أنّ المولى إذا أمر بشيء يحكم العقل بلزوم الإتيان به ما لم يرخّص المولى في تركه ، ويرى العقاب على مخالفته مع عدم الترخيص في الترك ، في محلّه ، ف «لا يترك» استعمل في معناه ، غاية الأمر أنّ الترخيص ثبت في المستحبّات ، فيجب الإتيان بالمقدار الممكن الإدراك في الواجبات بحكم العقل ، كما أنّ «اغتسل» في قوله عليه‌السلام : «اغتسل للجمعة والجنابة» (١) استعمل في معنى واحد ، وثبت الترخيص في ترك الجمعة بالخصوص.

ويمكن أن يجاب على مبناه أيضا ـ من أنّ الوجوب والاستحباب من المداليل اللفظيّة المستفادة من نفس الصيغة ـ بأنّ «لا يترك» استعمل في الجامع

__________________

(١) ورد ما بمعناه في الكافي ٣ : ٤١ ـ ١ ، والتهذيب ١ : ١٠٧ ـ ٢٧٩ ، والوسائل ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، الباب ٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

٤٩٠

بينهما ، وهو مطلق المطلوبيّة ، وإذا ثبتت مطلوبيّة ما يمكن إدراكه من الأجزاء ثبت وجوبه بعدم القول بالفصل.

وهذا نظير ما استدلّوا به من آية النفر لحجّيّة خبر الواحد من أنّه إذا ثبتت مطلوبيّة الحذر عند الإنذار ومحبوبيّة العمل بخبر الواحد يثبت وجوبه بعدم القول بالفصل.

فمن هذه الجهة لا إشكال في الرواية ، إنّما الإشكال في أنّ لفظ «ما» في الرواية هل هو كناية عن المركّب ذي الأجزاء أو الكلّي ذي الأفراد ، أو عن «الشيء» الجامع بينهما؟ فإن كان الأوّل أو الأخير ، يمكن التمسّك بالرواية في المقام ، وإن كان الثاني ، تصير أجنبيّة عمّا هو محلّ الكلام من وجوب ما عدا المتعذّر ، ولا يمكن (١) أن يكون المراد منه الجامع بين المركّب والكلّي ، إذ

__________________

(١) قوله : ولا يمكن إلى آخره.

أقول : لزوم كون الأمر الواحد مولويّا وإرشاديّا عند إرادة الجامع يتوقّف على كون الأمر إرشاديّا عند إرادة الكلّي وحده ، وهو غير صحيح. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ عدم وجود الجامع بين المولوي والإرشادي ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

توضيح ذلك أنّه إذا قال المولى : «أكرم العلماء» ثم قال ثانيا : «أكرم العلماء» يكون الثاني أيضا مولويّا وإن كان غير تأسيسي ، بخلاف الأوّل ، فإنّه مولويّ تأسيسي.

إذا عرفت هذا ، فنقول : قوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» بالنسبة إلى «صم أيّام شهر رمضان» مثلا تأكيد ، فكما أنّ قوله : «صم أيام ...» ليس إرشاديّا كذلك قوله : «ما لا يدرك ...» فإذا أريد من «ما» الكلّي ذو الأفراد وحده ليس أمره إرشاديّا حتى يلزم استعمال اللفظ الواحد في المولوية والإرشاديّة عند إرادة الجامع بين الكلّ والكلّي ، بل الأمر استعمل في المولوية وحدها ، ولا نحتاج إلى الجامع بين المولويّة والإرشادية حتى يقال : ليس لهما جامع. هذا أوّلا.

وثانيا : لو سلّمت الإرشاديّة عند إرادة الكلّي نقول : يمكن أن تكون المولوية والإرشادية من الدواعي غير داخلتين في المستعمل فيه ، فالمستعمل فيه اللفظ معنى واحد ، فلا إشكال في إرادة الجامع بين الكلّ والكلّي من «ما». (م).

٤٩١

لو كان المراد منه ذلك ، لزم أن يكون الوجوب المستفاد من «لا يترك كلّه» المتعلّق بما عدا المتعذّر من أجزاء المركّب وأفراد الكلّي حكما مولويّا وإرشاديّا معا ، ضرورة أنّ الواجب ذا الأفراد وجوبه استغراقي متعلّق بكلّ فرد ، فما عدا المتعذّر من الأفراد كان واجبا استقلّ العقل بلزوم إطاعته وامتثاله مع قطع النّظر عن الرواية ، ف «لا يترك» لا يمكن أن يكون حكما مولويّا بل لا يكون إلّا إرشادا إلى ما استقلّ به العقل ، فبهذا الاعتبار «لا يترك» حكم إرشادي ، وباعتبار أنّ المراد من لفظ «ما» هو المركّب ذو الأجزاء أيضا لا بدّ أن يكون «لا يترك» حكما مولويّا ، بداهة أنّ الوجوب المتعلّق بالمركّب قبل تعذّر بعض الأجزاء قد سقط قطعا بالتعذّر ، ولم يتعلّق بما عدا المتعذّر ، وإنّما يصير واجبا بالرواية ، ف «لا يترك» بالنسبة إلى المركّب ذي الأجزاء لا يمكن إلّا أن يكون مولويّا ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن الجمع بين الإرشاديّة والمولويّة في حكم واحد ، فاحتمال إرادة الجامع بين المركّب والكلّي من لفظ «ما» ساقط من أصله.

وبهذا ظهر أنّ لفظ «شيء» في الرواية السابقة أيضا لا يمكن أن يراد منه الجامع بينهما ، لعدم إمكان الجمع بين الإرشاديّة والمولويّة في أمر «فأتوا» فعلى تقدير التنزّل وتسليم أنّ «من» تبعيضيّة لا للتعدية لا يمكن التمسّك بالرواية من هذه الجهة.

يبقى احتمالان آخران : أحدهما : أن يكون «ما» كناية عن المركّب ذي الأجزاء ، والآخر : أن يكون كناية عن الكلّي ذي الأفراد ، وليس في الرواية ظهور في الأوّل حتى نتمسّك به في المقام ، فمن الممكن أن يكون المراد من «ما» هو الكلّي ذا الأفراد ، وأنّ الواجب ذا الأفراد ـ كصوم رمضان أو إزالة النجاسة عن المسجد ـ إذا لم يمكن إدراك جميع أفراده لا يجوز ترك جميع أفراده ، بل يجب صوم عشرين يوما مثلا إذا تعذّرت عشرة أيّام منه ، وهكذا إذا

٤٩٢

كانت عشرون موضعا من المسجد نجسة ولم يتمكّن المكلّف من إزالة النجاسة إلّا عن موضع منها ، يجب عليه ذلك ، ولا يجوز ترك هذا المقدار الممكن ، كما هو مقتضى طبع الجاهل ، فإنّه إذا رأى أنّه لا يتمكّن من إزالة النجاسة عن جميع مواضع المسجد ، النجسة العشرة مثلا ، لا يزيل النجاسة عن الموضع الواحد الّذي يمكنه أيضا ، ويلحقه بالباقي.

وبالجملة ، حيث يدور أمر «لا يترك» بين كونه إرشاديّا وكون «ما» كناية عن الكلّي ، وبين كونه مولويّا و «ما» كناية عن المركّب ، ولا ترجيح لأحد الاحتمالين ، تصير الرواية مجملة لا يمكن التمسّك بها.

إن قلت : إذا صدر أمر من المولى ودار أمره بين المولويّة والإرشاديّة ، فلا ريب في حمله على المولويّة ، فلا بدّ من حمل «لا يترك» على المولويّة ، وأنّ المراد من «ما» هو المركّب.

قلت : ظهور الأمر في المولويّة وإن كان لا ينكر إلّا أنّه فيما إذا كان المتعلّق معلوما ، كما في الأمر بأداء الدّين ، الّذي يحتمل أن يكون إرشادا إلى ما استقلّ به العقل من حسن الإحسان في جزاء الإحسان ، لا فيما لم يكن المتعلّق معلوما ، كما في المقام الّذي لا يعلم أنّ أيّ شيء هو نائب فاعل «لا يترك» وبما أنّ هذا الظهور ـ أي ظهور الأمر في المولويّة ـ ليس ظهورا وضعيّا ، لا يمكن أن يثبت متعلّقه ويعيّن أنّه المركّب لا الكلّي.

وممّا يؤيّد كون المراد من لفظ «ما» هو الكلّي دون المركّب : أنّ لازم الأوّل (١) وجوب جزء واحد من مائة جزء إذا كان للمركّب مائة جزء ولم يتمكّن المكلّف إلّا من إتيان جزء واحد منها ، فلا بدّ من تقييد الرواية بما إذا كان الباقي

__________________

(١) أي المركّب.

٤٩٣

بمقدار معظم الأجزاء مع أنّها مطلقة ، وهذا بخلاف حمله على الكلّي ، فإنّه لو كان له ألف فرد ولم يتمكّن المكلّف من إيجاد فرد واحد منها ، فهو واجب على القاعدة ، ولا نحتاج إلى تقييد الرواية. فظهر أنّه لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية أيضا على المطلوب.

الثالثة : قوله عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (١).

وتقريب الاستدلال به أنّ «لا يسقط» إمّا إنشاء ـ نهي أو نفي يراد به النهي ـ أو إخبار ، فعلى الأوّل يدلّ على أنّ الواجب ذا الأجزاء أو ذا الأفراد إذا كانت له مراتب وأفراد بعضها ميسور وبعضها معسور ، لا يسقط الميسور منه بالمعسور ، بل يبقى الميسور بنفسه أو بحكمه على حاله. وعلى الثاني يدلّ على أنّ الميسور أو حكمه ثابت ولم يسقط في الشريعة المقدّسة بالمعسور ، فالمرتبة العالية من الواجب إذا تعذّرت لا بدّ من التنزّل إلى المرتبة السافلة الميسورة ، لعدم سقوطها أو سقوط حكمها بواسطة التعذّر عن المرتبة العالية.

هذا ، ولكن يجري فيه على تقدير كون «لا يسقط» إنشاء جميع ما تقدّم إشكالا وجوابا.

مضافا إلى أنّ السقوط ـ سواء كان المراد سقوط نفس الواجب أو سقوط حكمه ـ لا يمكن أن يكون متعلّقا للتكليف ، ضرورة أنّه ليس تحت اختيار المكلّف ، بل أمر ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو سقوطه عن ذمّته ، وهكذا ثبوت الحكم وسقوطه بيد الشارع لا مساس له بالمكلّف أصلا.

وعلى تقدير كون «لا يسقط» إخبارا وإن كان لا يرد عليه ما أورد عليه على تقدير كونه إنشاء إلّا أنّ الّذي يرد عليه حينئذ أنّ السقوط فرع الثبوت ، وفي

__________________

(١) غوالي اللئالي ٤ : ٥٨ ـ ٢٠٦.

٤٩٤

الكلّي ذي الأفراد يصدق أنّ الحكم الثابت على الفرد الميسور لا يسقط بواسطة سقوطه عن الفرد المعسور ، بل هذا المعنى ارتكازي لكلّ عاقل ، وأمّا في المركّب ذي الأجزاء إذا تعذّر جزء منه لم يثبت وجوب لما عدا المتعذّر حتى يقال : إنّه ميسور ولا يسقط وجوبه الثابت له بسقوط الوجوب عن المجموع المعسور ، بل وجوبه أوّل الكلام ، ونحن نريد إثباته بالقاعدة ، ووجوبه الثابت له قبل التعذّر كان ضمنيّا وسقط بالتعذّر قطعا.

فالإنصاف أنّ هذه الرواية أيضا لا دلالة لها على وجوب ما عدا المتعذّر من أجزاء المركّب ، بل هو إرشاد إلى ما ارتكز في الأذهان من عدم سقوط حكم بعض أفراد الكلّي بسبب سقوطه عن بعضها الآخر.

فاتّضح أنّ شيئا من الروايات الثلاث لا يدلّ على المطلوب ، بل مقتضى القاعدة فيما إذا تعذّر جزء أو شرط من الواجب هو : البراءة عن التكليف بالباقي ، فإنّه مشكوك فيه إلّا في الصلاة ، لورود الدليل الخاصّ ، وإلّا إذا كان المتعذّر يسيرا بحيث يعدّ الوجوب المتعلّق به على تقدير ثبوته بقاء للوجوب السابق المتيقّن المتعلّق بالمركّب ، فإنّه يجري فيه الاستصحاب ، ويحكم بوجوب الباقي به بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة ، ولنا كلام في ذلك سيجيء إن شاء الله.

الأمر الثالث : إذا دار الأمر بين شرطيّة شيء أو جزئيّته ومانعيّته أو قاطعيّته ، وبعبارة أخرى : إذا علم إجمالا باعتبار شيء في الواجب وجودا أو عدما ، فإمّا أن يكون ذلك في واقعة واحدة ، كما إذا نذر صوم يوم معيّن وشكّ في قاطعيّة شيء للصوم وشرطيّته مثلا أو يكون في وقائع متعدّدة ، كما في صوم شهر رمضان ، أو يكون في مثل ما يكون له أفراد طوليّة وعرضيّة ، كالصلاة الواجبة فيما بين الحدّين : الزوال والغروب ، فهنا مسائل ثلاث :

٤٩٥

الأولى : ما إذا كان الدوران في واقعة واحدة لا يمكن فيها لا الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة ، كصوم يوم معيّن ، ولا ريب في التخيير بين الإتيان بالصوم مقترنا بهذا الشيء ومجرّدا عنه.

الثانية : ما إذا كان الدوران في وقائع متعدّدة ، كصوم كلّ يوم من شهر رمضان ، ولا إشكال في التخيير في هذا الفرض أيضا لكن ابتداء لا استمرارا ، كما مرّ في المباحث السابقة ، ومثّلنا له بما إذا دار الأمر بين وجوب وطء امرأتين ، لتعلّق الحلف عليه ، وبين حرمة ذلك ، لتعلّقه على تركه ، وقلنا : إنّه يجب إمّا وطء كلّ منهما أو ترك كلّ منهما تحصيلا للموافقة الاحتماليّة الممكنة وإن كان أمر كلّ بنفسه دائرا بين محذورين ، المقتضي للتخيير ، وذلك لأنّه إذا وطئ إحداهما وترك وطء الأخرى ، يقطع بالمخالفة ، وقد تقدّم فيما تقدّم أنّ العلم الإجمالي يقتضي أمرين : وجوب الموافقة القطعيّة ، وحرمة المخالفة القطعيّة ، فإذا أمكنت كلتاهما ، تجب الأولى وتحرم الثانية ، وإذا لم يمكن الموافقة القطعيّة فقط ، كما في المقام ، تحرم الثانية ، وإذا لم يمكن المخالفة القطعيّة فقط ـ كما إذا علم بوجوب أحد أشياء واضطرّ إلى فعل بعضها ـ وجبت الأولى.

وبالجملة ، العقل مستقلّ بوجوب الإطاعة أوّلا علما مع التمكّن ، وثانيا احتمالا إذا لم يتمكّن من تحصيل العلم بإطاعة التكليف المعلوم وامتثاله.

الثالثة : ما إذا كان الدوران فيما يكون له أفراد طوليّة وعرضيّة ، وهذا الفرض هو الّذي محلّ الكلام في المقام.

وظاهر شيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره ـ التخيير (١). وغاية توجيهه أنّ كلّا من

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٤٩٦

المانعيّة والجزئيّة حيث إنّه مشكوك يرفع بحديث الرفع وغيره من أدلّة البراءة ، ولا يلزم من جريان الأصل في كلتيهما إلّا المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، وهي غير مانعة عن جريان أصل البراءة في أطراف العلم الإجمالي ، وإنّما المانع منه على مبناه قدس‌سره ـ كما تكرّر في كلامه ـ هو لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة ، وهو في المقام مفقود ، ضرورة أنّ المكلّف لا يعقل أن يكون فاعلا وتاركا للمشكوك في صلاته.

وهذا ـ كما أفاده شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ـ لم يكن مترقّبا من مثله قدس‌سره ، فإنّ المأمور به ليس هذه الصلاة الشخصيّة الخارجيّة حتى يقال : إنّ الأمر دائر بين محذورين لا يمكن الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة ، بل المأمور به هو الطبيعة ، ولها أفراد طوليّة وعرضيّة ، ومن الواضح أنّه يمكن للمكلّف القطع بالموافقة بإيجاد فردين من طبيعة الصلاة فاعلا في أحدهما المشكوك وتاركا إيّاه في الآخر ، كما أنّه يمكنه أن يترك الصلاة أصلا ، فلا ريب في وجوب تكرار الصلاة والإتيان مع المشكوك تارة ومجرّدا عنه أخرى.

هذا ، مضافا إلى أنّه ـ قدس‌سره ـ التزم فيما دار أمر الصلاة بين القصر والتمام بوجوب الجمع (٢) ، مع أنّه صغرى من صغريات هذه الكبرى ، فإنّ أمر السلام في الركعة الثانية مردّد بين كونه جزءا للصلاة على تقدير كون الواجب في الواقع هو القصر ، وبين كونه قاطعا على فرض كون الواجب هو التمام.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٦.

(٢) فرائد الأصول : ٢٦٤.

٤٩٧
٤٩٨

خاتمة :

في شرائط الأصول

أمّا الاحتياط : فلا إشكال ولا كلام في عدم اعتبار شيء في حسنه بالقياس إلى المعاملات بالمعنى الأعمّ ، وهكذا العبادات فيما إذا لم يتمكّن المكلّف من تحصيل القطع أو ما في حكمه بالواقع ، ضرورة أنّ قصد الوجه ـ على فرض اعتباره ـ إنّما يعتبر في حال التمكّن لا مطلقا ، إذ الإتيان باحتمال الأمر ـ مع عدم التمكّن ـ غاية ما يتمكّن المكلّف من الانقياد والطاعة.

ولا فرق في ذلك بين أن يحتاج الاحتياط إلى التكرار وعدمه إلّا إذا كان بحيث يعدّ المحتاط مجنونا مثلا.

وهكذا لا إشكال في حسن الاحتياط في العبادات فيما إذا كان تحصيل القطع بالواقع أو ما في حكم القطع به ممكنا ولكن لم يجب ذلك بأن كانت الشبهة بدويّة يجري فيها البراءة بعد الفحص بالمقدار اللازم ، أو موضوعيّة لم يجب فيها الفحص ويجري فيها الأصل النافي للتكليف من استصحاب أو براءة أو نحوهما ، وذلك لأنّ الإتيان باحتمال المطلوبيّة وبرجاء إدراك الواقع مع ترخيص الشارع للترك من أعلى مراتب الطاعة والانقياد ، فإذا احتاط وأتى بالعبادة المحتمل وجوبها باحتمال المطلوبيّة وبعد ذلك انكشف أنّها كانت واجبة في حقّه ، فقد امتثلها وأتى بها على ما هي عليها. واحتمال الإخلال بقصد الوجه مدفوع بأنّه على فرض اعتباره ليس لدليله إطلاق لفظي يشمل هذا الفرض أيضا.

وإنّما الكلام والإشكال فيما إذا أمكن القطع أو ما في حكمه بوجوب

٤٩٩

العبادة اجتهادا أو تقليدا ولم يكن من موارد يجري فيها البراءة بأن كانت الشبهة حكميّة قبل الفحص مع إمكانه ـ أي الفحص ـ والاحتياط في هذا الفرض إمّا لا يحتاج إلى التكرار أو يحتاج ، وفي الثاني إمّا يكون أصل التكليف معلوما وكان الترديد في متعلّقه ، كما إذا علم أصل وجوب الصلاة يوم الجمعة ولكن تردّد أمره بين أن يكون متعلّقا بالظهر وكونه متعلّقا بالجمعة ، أو لا يكون إلّا احتمال التكليف الّذي تردّد متعلّقه بين أمرين على تقدير وجوده. فهنا مسائل ثلاث :

الأولى : فيما لا يحتاج إلى التكرار. والظاهر أنّ المعروف بينهم هو جواز الاحتياط وحسنه ، ولم يعرف خلاف إلّا من القائلين باعتبار قصد الوجه. وقد مرّ الجواب عنه بالقطع بعدم الاعتبار أوّلا من جهة أنّه ممّا يغفل عنه العامّة ، فلا بدّ من التنبيه عليه بالخصوص ، وبالرواية (١) المستفاد منها أنّ الوضوء لا بدّ أن يؤتى بنيّة صالحة يقصد بها ربّه ثانيا ، فإنّ الآتي بالعبادة باحتمال الأمر والمطلوبيّة لربّه لم يقصد إلّا ربّه ، وبأصل البراءة ثالثا لو شككنا في ذلك ، إذ اعتبار الجامع بين قصد الأمر العلمي والاحتمالي ـ وهو الإضافة إلى الله تبارك وتعالى ـ معلوم لنا وخصوصيّة قصد الأمر العلمي مشكوكة يجري فيها البراءة.

هذا ، وقد اختار شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ في بحث الاشتغال من الدورة الأخيرة وجوب الفحص والإتيان بقصد الأمر علما ، لا من جهة اعتبار قصد الوجه ، بل بدعوى القطع أوّلا بأنّ العقل يستقلّ بأنّ الامتثال الاحتمالي والانبعاث عن احتمال الأمر في طول الامتثال التفصيليّ والانبعاث عن شخص الأمر ، وأنّ العقل لا يرى حسنا للامتثال الاحتمالي والانبعاث عن احتمال البعث

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٦٨ ـ ٣ ، الوسائل ١ : ١٠٧ ، الباب ٢٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣.

٥٠٠