الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

فتأمّل.

وأيضا ممّا ذكرنا يظهر الحال في المسألة الأولى ، وهو : ما علم وجوب كلّ من الأمرين وشكّ في كون أحدهما عدلا للآخر حتى يجوز الاقتصار على واحد منهما ، أو لا حتى لا يجوز؟ فإنّ المعلوم لنا هنا أيضا ليس إلّا وجوب أحدهما ، فنجري البراءة عمّا هو مشكوك لنا ، وهو : تعلّق الإلزام بكلّ واحدة من الخصوصيّتين. هذا في ظرف التمكّن من كلّ منهما ، أمّا مع عدم القدرة على ما يحتمل كونه واجبا تعيينيّا فلا مورد للبراءة هنا ، إذ هذا المقدور والمحتمل كونه عدلا للواجب الآخر متعيّن على كلّ حال ، بداهة أنّ أمره دائر بين التعيين والتخيير ، فإذا كان واجبا مستقلّا تعيينيّا ، يجب الإتيان به من هذه الجهة ، وإن كان في الواقع أحد فردي الواجب المخيّر ، فيجب الإتيان به من جهة أنّه صار واجبا تعيينيّا بالعجز عن إتيان عدله.

هذا كلّه فيما إذا دار أمر الواجب بين التعيين والتخيير في مقام الجعل ، أمّا إذا دار أمره بينهما في مقام التزاحم وكان كلّ منه وما يحتمل كونه عدلا له واجبا تعيينيّا في مقام الجعل ، ونشأ احتمال التخيير من جهة العجز عن امتثال كلّ

__________________

ـ «ضاد». هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ وجود الشين فيما يتحمّل الإمام ممّا لا ينكر ، فإنّ سورة الحمد وإن لم تكن مشتملة على الشين إلّا أنّ القراءة التي يتحمّلها الإمام مشتملة على السورة وكم من سورة تشتمل على الشين ، فلو اختار بلال سورة مشتملة على الشين لكانت صلاته صحيحة استنادا إلى هذه الرواية.

فتحصّل أنّ تمسّك المحقّق النائيني بإطلاق هذه الرواية صحيح لا بأس به.

نعم ، يرد عليه أمر آخر لم يذكره سيّدنا الأستاذ ، وهو : أنّ هذا الحكم مختصّ ببلال ، ولذا لم يقل : سين العاجز عن التلفظ بالشين شين ، بل أضاف الأمر إلى بلال ، ووجهه أنّ لبلال نورانية وعشقا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغير ذلك ، فالحكم مخصوص لبلال ، وشمول الرواية لكلّ عاجز مشكوك فيه. (م).

٤٦١

منهما ، فإنّ التكليف بإنقاذ كلّ من الغريقين مع عجز المكلّف عن ذلك تكليف بما لا يطاق والمحال ، لكونه طلبا للجمع بين الضدّين المحال ، فلا بدّ من سقوط كليهما أو أحدهما عن التعيينيّة ، فإنّ الفرد المحتملة أهمّيّته لاحتمال كونه نبيّا لو كان في الواقع أهمّ من الآخر ، فلا محالة يسقط الآخر عن التعيينيّة ، ولم يكن خطابه مطلقا ، بل هو مشروط بعدم الإتيان بالآخر وعصيان خطاب الأهمّ ، ولا مانع من مثل هذا التكليف كما تقرّر في مبحث الترتّب ، وإن كان في الواقع مساويا مع الآخر في الملاك ولم يكن ملاكه أهمّ من الآخر ، فالساقط هو كلاهما وكان كلّ منهما مشروطا بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر ، إذ سقوط أحد الإطلاقين ـ مع تساويهما في الملاك ـ دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فإنقاذ الغريق المحتملة أهمّيّته أمره دائر بين التعيين على تقدير كونه أهمّ في الواقع ، والتخيير على فرض كونه مساويا مع الآخر ، ومقتضى القاعدة في ذلك هو التعيين ، لعدم جريان البراءة عن خصوصيّة الأهمّ ، فإنّه لا شكّ لنا في كيفيّة جعل الأهمّ احتمالا ، بل نقطع بكونه بالخصوص تحت الإلزام في مقام الجعل ، وإنّما الشكّ حصل في مقام الامتثال ، وأنّه هل يجب على المكلّف صرف قدرته في الإتيان بالأهمّ احتمالا ، أو لا يجب صرف قدرته إلّا في أحدهما بلا تعيين؟ فإذا صرف قدرته في المحتملة أهمّيّته ، فقد امتثل قطعا ، لكونه إمّا هو المتعيّن عليه إذا كان في الواقع أهمّ ، أو رافعا لموضوع خطاب الآخر لكون خطاب الآخر مشروطا بعدم الإتيان به قطعا وقد أتى به ، ولكن إذا صرف قدرته في غيره ، فلا يقطع بالامتثال ، لاحتمال كون خطاب المحتملة أهمّيّته مطلقا غير مشروط بعدم إتيان الآخر.

وبعبارة أخرى : إطلاق خطاب ما لا تحتمل أهمّيّته ساقط قطعا ، فلا يجب الإتيان به بالخصوص يقينا ، وأمّا إطلاق خطاب المحتملة أهمّيّته

٤٦٢

فلا يعلم سقوطه ، فلا وجه للحكم بالسقوط مع عدم إحرازه.

وقد يقال : هذا يتمّ فيما لو كان هناك إطلاق لفظي يحتمل سقوطه وإطلاق لفظي آخر يقطع بسقوطه ، وهذا خلاف مفروض الكلام ، فإنّ محلّ الكلام هو أنّ الأصل العملي مع عدم وجود الأصل اللفظي ما ذا يقتضي؟ ومن المعلوم أنّ أمر محتمل الأهمّيّة مع عدم وجود إطلاق لفظي يدور بين كونه واجبا مطلقا أو مشروطا ، وكلّما دار أمر الواجب بين كونه مطلقا أو مشروطا فالأصل يقتضي كونه مشروطا ، لأنّ وجوبه مع وجود الشرط قطعيّ وبدونه مشكوك يرفع بالبراءة العقليّة والنقليّة.

والجواب : أنّ الشكّ في كون شيء مشروطا أو مطلقا ـ وإن كان المرجع فيه هو البراءة ـ رجوعه إلى الشكّ في فعليّة أصل التكليف عند عدم وجود الشرط إلّا أنّه تامّ في غير موارد يكون الشكّ فيها في التكليف من حيث الشكّ في العجز عن امتثال ما هو مكلّف به على تقدير التمكّن قطعا ، فإنّ العقل مستقلّ في أمثال هذه الموارد بالاشتغال ما لم يحرز العجز عن الامتثال.

والحاصل : أنّ الشكّ في التكليف إن كان من جهة الشكّ في القدرة وعدمها ، لا يكون موردا للبراءة ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الشكّ في التكليف بما تحتمل أهمّيّته بالخصوص وكون وجوبه مطلقا غير مشروط بعدم الإتيان بالآخر نشأ من التزاحم في مقام الامتثال ، وأنّ الإتيان بالآخر هل هو معجز عن الإتيان بهذا المحتملة أهمّيّته أم لا؟ وحيث إنّ الملاك في كلّ منهما معلوم أنّه وصل بحدّ الإلزام بحيث لو قدر على إنقاذهما معا لوجب قطعا ، فلا بدّ عند العجز عن إنقاذهما من مراعاة الملاك بقدر الإمكان ، فإذا استوفى ملاك ما هو محتمل الأهمّية ، يصحّ له الاعتذار ، وليس للمولى أن يؤاخذه على تفويت ملاك الآخر ، فإنّ المستوفى إمّا بقدر المفوّت أو أزيد بمقدار ، وأمّا لو

٤٦٣

استوفى ملاك ما لا يحتمل أهمّيّته فيحقّق تفويت مقدار من الملاك الّذي لا يعجز عن استيفائه ، فلا يجوّز العقل ذلك.

وبالجملة ، الفرق بين المقامين أنّ الملاك في الشكّ في حرمة شرب التتن مثلا وغيره من موارد لا يرجع الشك في أصل التكليف فيها إلى الشكّ في القدرة مشكوك أيضا ، كما أنّ التكليف مشكوك ، فيرجع إلى البراءة بالقياس إلى الملاك أيضا ، بخلاف المقام ، فإنّ الملاك الملزم معلوم وواصل ، فلا يجوز تفويته بحكم العقل إلّا مع إحراز العجز عن استيفائه.

وبهذا يظهر الكلام في القسم الثالث من أقسام دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وهو الدوران في مقام الحجّيّة ، وانقدح أنّ مقتضاه هو التعيين ، وذلك لأنّ الطريق المشكوكة حجّيّته لا يمكن الاحتجاج به في مخالفة التكليف الواصل من قبل المولى ، بل الشكّ في حجّيّة طريق ـ كما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ مساوق للقطع بعدم حجّيّته ، لعدم صحّة الاحتجاج به في مخالفة التكليف قطعا ، فإذا احتمل وجوب تقليد الأعلم بالخصوص وكون فتواه طريقا للمقلّد ، يتعيّن تقليده ، وهكذا إذا علم وجوب الرجوع إلى الأعلم واحتمل أعلميّة أحد دون غيره ، إذ يصحّ للمقلّد الاحتجاج به قطعا ، ضرورة أنّه لا يحتمل وجوب تقليد غير الأعلم بالخصوص ، ولا يصحّ له الاحتجاج بغيره يقينا ، بداهة أنّه مشكوك الحجّيّة ، وهو ليس بحجّة عقلا ونقلا.

وهكذا الكلام في موارد دوران الأمر بين التخيير والتعيين في الروايتين المتعارضتين.

بقيت أمور ينبغي التنبيه عليها :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٤٦٤

الأوّل : إذا دار أمر شيء بين كونه جزءا أو شرطا على نحو الإطلاق وفي جميع الأحوال حتى حال النسيان وبين كونه جزءا أو شرطا في خصوص حال الذّكر ، فهل الأصل يقتضي الأوّل حتى تكون العبادة الفاقدة للمنسيّ باطلة ، أو الثاني حتى تكون صحيحة؟ تحقيق المقام يقتضي البحث في جهات :

الأولى : أنّه إذا فرضنا صحّة العبادة الفاقدة للمنسيّ بدليل ، فهل الصحّة مستندة إلى الأمر أو الملاك؟ وجهان ـ ولا ثمرة عمليّة للبحث عن ذلك أصلا ، إذ المفروض صحّة العبادة على كلّ حال ـ نسب إلى المشهور الثاني ، واستدلّ له بأنّ الناسي بعنوانه لا يمكن أن يكلّف بشيء ويوجّه إليه الخطاب ، فإنّه إمّا أن يصل إليه أو لا ، فإن وصل ، يخرج عن كونه ناسيا بمجرّده ، ويدخل في عنوان الذاكر والملتفت ، وإن لم يصل ، يستحيل انبعاثه عنه ، وما يستحيل عنه الانبعاث يستحيل البعث إليه عن المولى الحكيم ، فالصحّة لا يمكن أن تكون مستندة إلى الأمر.

وذهب صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ إلى الأوّل ، وأجاب عن هذا الإشكال بجوابين :

الأوّل : أنّه يمكن أن يوجّه إلى الناسي الخطاب لا بعنوان الناسي حتى يلزم المحذور المذكور ، بل بعنوان ملازم له بحيث يكون المكلّف غافلا عن الملازمة ، وإلّا يعود المحذور(١).

وفيه : أنّه مجرّد فرض محض لا واقع له ، إذ ليس في البين عنوان ملازم للناسي سيّما أنّ النسيان قد يتعلّق بالسورة وقد يعرض على السجدة الواحدة وثالثة بغيرهما من الأجزاء غير الركنيّة ، وربّما ينسى شخص في بعض صلواته

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٧ ـ ٤١٨

٤٦٥

ولا ينسى في الآخر ، فأيّ عنوان يكون ملازما للناسي دائما حتى يوجّه إليه الخطاب بذاك العنوان الجامع لجميع أفراد الناسي بجميع أفراد النسيان؟

الثاني : أنّه يمكن أن يكلّف جميع المكلّفين بخصوص الأركان مثلا ثمّ يكلّف خصوص الذاكر بسائر الأجزاء ويوجّه إليه الخطاب بخصوصه (١).

وهذا الوجه وإن كان متينا لا إشكال فيه إلّا أنّه شعر بلا ضرورة والتزام بلا ملزم ، لأنّ الحكم حقيقته ـ كما مرّ غير مرّة ـ ليست إلّا الاعتبار كاعتبار كون الفعل على ذمّة المكلّف ـ مثلا ـ في الحكم الإيجابي ، ففي مقام الثبوت اعتبار الفاقدة للجزء أو الشرط المنسيّ ـ مثلا ـ على ذمّة الناسي بمكان من الإمكان إذا كان له ملاك ملزم في هذا الحال ، وتفهيم هذا الحكم في مقام الإثبات لا يحتاج إلى خطاب حتى يقال : إنّه غير معقول ، لما ذكر ، بل يمكن تفهيمه بالجملة الخبرية ، كما هو واقع ، فإنّ خبر «لا تعاد» جملة خبريّة يستفاد منها أنّ كلّ من نقّص في صلاته بنسيان أو غيره ولم يكن من الخمس لا تجب عليه إعادة الصلاة وصلاته صحيحة تامّة ، فيفهم كون الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط المنسيّ مأمورا بها ، وأنّ لها ملاكا ملزما لا يحتاج إلى الخطاب.

نعم ، يبقى شيء ، وهو : أنّ محرّكه حين العمل لا يكون مثل هذا الحكم الّذي لا يلتفت إليه حال العمل ، بل ربّما لا يعلم به إلّا بعد الصلاة ، فكيف تكون صحّة الصلاة مستندة إلى مثل هذا الحكم!؟

وهذا واضح الدفع ، فإنّه يأتي بالعمل بداعي أمره الواقعي ، والمفروض أنّ ما يأتي به مأمور به واقعا في حقّه ، فالصحّة مستندة إلى الأمر الواقعي المتعلّق بهذا الّذي يأتي به خارجا ، غاية الأمر أنّه مخطئ في تطبيقه ، فإنّه يتخيّل أنّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٨.

٤٦٦

المأمور به في حقّه هو المأمور به في حقّ سائر الأشخاص حيث لا يلتفت إلى أنّه ناس ، وهذا لا يضرّ بالمطلوب.

ولعلّ هذا هو المراد ممّا أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ الأمر بالناسي وتكليفه بالإتيان بما عدا المنسيّ ممكن إلّا أنّه من باب الخطأ في التطبيق ويعتقد أنّه مكلّف بما كلّف به غيره (١) ، فإنّ الظاهر أنّ مراده ـ قدس‌سره ـ من التكليف والأمر ليس التكليف بنحو المخاطبة بل بنحو الجملة الخبريّة ، كما ذكرنا.

الجهة الثانية : أنّه إذا لم يكن نصّ على الصحّة ، فهل القاعدة تقتضي صحّة العبادة المنسيّ فيها جزء أو شرط ، أو بطلانها؟

والكلام في هذه الجهة في مقامين :

الأوّل : فيما يقتضيه الأصل اللفظي وهو وإن كان خارجا عن المبحث إلّا أنّه نبحث عنه تطفّلا.

ومحلّ الكلام في هذا المقام ما إذا كان لكلّ من دليلي الواجب والجزء مثلا إطلاق لفظي شامل لحال النسيان ، كما في (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(٢) فإنّ له إطلاقا زمانيّا بالقياس إلى ما بين الحدّين من الزمان ، و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٣) فإنّه غير مقيّد بحال الذّكر ، أو كان لأحدهما إطلاق بأن كان وجوب أحدهما مستفادا من اللفظ والآخر مستفادا من دليل لبّيّ كما في الاستقرار ، فإنّ دليله الإجماع ، والقدر المتيقّن منه اعتباره حال الالتفات لا حال النسيان.

الثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي فيما إذا لم يكن إطلاق لفظي لكلّ من

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٨٧.

(٢) الإسراء : ٧٨.

(٣) مسند أبي عوانة ٢ : ١٢٥ ، حلية الأولياء ٧ : ١٢٤ ، الكامل ـ لابن عدي ـ ٤ : ١٤٣٧.

٤٦٧

دليلي الواجب والجزء أو لأحدهما.

أما المقام الأوّل : فالصورة الأولى منه ـ وهو ما إذا فرض أنّ كلّا من دليل الواجب ودليل الجزئيّة أو الشرطيّة له إطلاق ـ لا ريب في كون مقتضى القاعدة فيها هو الجزئيّة المطلقة غير مقيّدة بحال العمد والالتفات ، ولازمه عدم صحّة العمل الفاقد للمنسيّ ، لأنّ دليل الجزء ك «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ـ مثلا ـ له إطلاق ، فهو مثبت لجزئيّة فاتحة الكتاب حتى في حال النسيان ، وهذا الإطلاق يتقدّم على إطلاق دليل الواجب ، وهو (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(١) إلى آخره ، المثبت لكون الصلاة مأمورا بها مطلقا حتى في حال نسيان فاتحة الكتاب ، فيقيّد إطلاق دليل الجزء هذا الإطلاق بالصلاة ذات فاتحة الكتاب ، فما نسي فيه فاتحة الكتاب غير مأمور به بمقتضى إطلاق «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» فلا يكون صحيحا ، ولا مجال مع هذا الإطلاق اللفظي المثبت لعدم كونه مأمورا به ـ فإنّ معناه أنّه كلّما كانت الصلاة مأمورا بها كانت فاتحة الكتاب جزءا لها ـ للتمسّك ب «رفع ما لا يعلمون» إذ ليس لنا شكّ بعد وجود الإطلاق اللفظي.

إن قلت : الرفع وإن كان بالقياس إلى «ما لا يعلمون» رفع ظاهري أخذ في موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، وإطلاق دليل الجزء أصل لفظي رافع للشكّ في جزئيّة فاتحة الكتاب حال تعلّق النسيان به ومثبت للجزئيّة حتى في حال النسيان ومقيّد لإطلاق دليل الواجب ، ومقتضاه عدم صحّة الفاقد للجزء المنسيّ ، لعدم كونه مأمورا به لو لا دليل خاصّ في البين ، ك «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس» (٢) إلّا أنّه بالقياس إلى الخطأ والنسيان وما اضطرّوا إليه وما استكرهوا

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

(٢) الفقيه ١ : ٢٢٥ ـ ٩٩١ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ ـ ٥٩٧ ، الوسائل ١ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، الباب ٣ ـ

٤٦٨

عليه رفع واقعي ، وإذا كان الرفع واقعيّا ، فلا محالة يقيّد إطلاق دليل الجزء بغير مورد تعلّق به النسيان أو الاضطرار أو غير ذلك ، فكما أنّ شرب الخمر إذا صدر عن نسيان ليس بحرام واقعا ـ ويقيّد إطلاق دليل «لا تشرب الخمر» مع أنّه أصل لفظيّ ـ والشارب للخمر عن نسيان كأنّه لم يشرب الخمر في عالم التشريع بمقتضى رفع النسيان كذلك جزء الواجب أو شرطه إذا لم يؤت به عن نسيان ، فمقتضى رفع النسيان : رفع جزئية المنسيّ أو شرطيّته حال النسيان واقعا ، فيقيّد إطلاق دليل الجزء أو الشرط بغير مورد النسيان ، والمفروض أنّ دليل الواجب مطلق شامل لجميع الحالات والأزمان ، فيثبت كون الفاقد مأمورا به وصحيحا.

قلت : الأمر المتعلّق بالواجب لو كان انحلاليّا وبنحو مطلق الوجود ، ك «أكرم العالم» أو «أمسك عن الأكل في نهار رمضان» فالأمر كما أفيد ، فإذا نسي إكرام زيد العالم أو أكره على الأكل ، فمقتضى الرفع عدم وجوب إكرام زيد وعدم مانعيّة الأكل واقعا حال النسيان والإكراه ، لأنّ الواجب إكرام كلّ فرد من أفراد العالم والإمساك عن كلّ فرد من أفراد الأكل ، فإذا تعلّق الإكراه مثلا بفرد منه ، أو نسي ، فقد تعلّق بما هو مأمور به وبما هو مانع عن صحّة الصوم ، فحديث الرفع يقيّد إطلاق الواجب بغير حال النسيان ودليل المانعيّة بغير حال تعلّق الإكراه به.

وأمّا لو كان بنحو صرف الوجود بأن كان المطلوب طبيعيّ الصلاة مع فاتحة الكتاب ـ مثلا ـ فيما بين الحدّين ، فإذا نسي المكلّف هذا الجزء ، لا يمكن رفع الجزئيّة بحديث الرفع ، لأنّ المأمور به ـ وهو طبيعي الصلاة مع هذا الجزء ـ لم يتعلّق به النسيان ، لأنّ الوقت بعد باق ، والمكلّف قادر على

__________________

ـ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨ ، و ٧ : ٢٣٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.

٤٦٩

إيجاد المأمور به على وجهه ، وما تعلّق به النسيان ـ وهو هذا الفرد الخارجي الفاقد للجزء المنسي ـ ليس بمأمور به ، فإنّ الأمر لم يتعلّق بهذا الفرد بخصوصه ، بل تعلّق بالطبيعة.

نعم ، لو استوعب النسيان جميع الوقت أو كان في آخر الوقت ، الّذي تضيّق وقت الواجب ، يمكن القول بأنّ حديث الرفع يقيّد إطلاق دليل الجزء ، والمفروض أنّ دليل الواجب دالّ بإطلاقه على أنّ الصلاة واجبة سواء نسي فيها فاتحة الكتاب في جميع الوقت أو في آخره ، أو لا ، فينتج أنّ الفاقد للجزء المنسيّ في جميع الوقت أو آخره مأمور به ، فيكون صحيحا. هذا كلّه في الصورة الأولى.

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي ما إذا كان لدليل الجزء إطلاق ولم يكن لدليل الواجب إطلاق ـ فمقتضى إطلاق دليل الجزء هو الجزئية المطلقة حتى حال النسيان ، فالفاقد للجزء بمقتضى إطلاق دليل الجزء لا يكون صحيحا.

ولا يفيد حديث الرفع في هذه الصورة أصلا حتى فيما إذا كان الحكم انحلاليّا وبنحو مطلق الوجود ، وذلك لأنّ حديث الرفع على فرض شموله ليس مفاده إلّا رفع جزئيّة المنسيّ أو شرطيّته ، وأنّ الأمر لم يتعلّق بالمركّب من عشرة أجزاء مثلا ، أمّا إثبات أنّ الفاقد للجزء مأمور به ، وأنّ الواجب هو المركّب من تسعة أجزاء فلا ، فمع عدم وجود إطلاق لدليل الواجب ـ كما هو المفروض ـ فبما ذا نثبت كون الفاقد للجزء مأمورا به؟

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي ما إذا كان لدليل الواجب إطلاق ولم يكن لدليل الجزئيّة أو الشرطيّة إطلاق ، كشرطيّة الاستقرار ، فإنّ دليله الإجماع ، والقدر المتيقّن منه هو شرطيته حال الذّكر ـ فلا ينبغي الشكّ في كون الجزئيّة أو الشرطيّة مختصّة بحال الذّكر بمقتضى حديث الرفع ، فإنّ شرطيّة الاستقرار

٤٧٠

للصلاة ـ مثلا ـ حال الذّكر معلومة لنا وفي حال النسيان غير معلومة ، فترفع ب «رفع ما لا يعلمون» فإذا لم يكن المشكوك جزءا أو شرطا حال النسيان والمفروض أنّ الصلاة بمقتضى إطلاق دليل وجوبها واجبة سواء نسي جزء أو شرط منها أو لا ، فالواجب الحكم بأنّ ما نسي فيه الاستقرار هو مأمور به ولا تجب إعادته بعد ذلك واجدا للشرط.

هذا ، ولكن ربّما يقال بأنّ الجزئية إذا ثبتت بالأمر بشيء بأن يقول : «اقرأ فاتحة الكتاب في صلاتك» لا بمثل «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» أو الإجماع ، فلازمها اختصاصها بحال الذّكر دون النسيان ، فإنّ الأمر بالشيء نفسيّا أو غيريّا مشروط بالقدرة عليه عقلا ، والإتيان بالمنسيّ حال النسيان غير مقدور بالضرورة ، فجزئيّته تختصّ بغير حال النسيان.

وفيه : أنّ الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط في المركّبات الخارجيّة بمقتضى الفهم العرفي إرشاديّة لا يفهم منها إلّا جزئيّة المأمور به أو شرطيّته ، كما أنّ النهي عن شيء فيها إرشاد إلى مانعيّة المنهي عنه عن تحقّق المركّب في الخارج ، كما في «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» (١) و «لا تصلّ في الحرير» (٢) فلا فرق بين ثبوت جزئيّة شيء بالأمر بذلك الشيء أو بغيره.

وأمّا المقام الثاني : فلا ينبغي الشكّ في أنّ الجزئيّة كما أنّ أصلها يرفع بحديث الرفع إذا كانت مشكوكة ويحكم بأنّ أمر المولى من الأوّل لم يتعلّق بالصلاة مع السورة المشكوك كونها جزءا كذلك ترفع جزئيّة شيء إذا كانت

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٦٥ ـ ٨٢٤ ، الوسائل ٤ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ، الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٦.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٩ ـ ١٠ ، التهذيب ٢ : ٢٠٧ ـ ٨١٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٥ ـ ١٤٦٢ ، الوسائل ٤ : ٣٦٨ ، الباب ١١ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٢ نقلا بالمعنى.

٤٧١

مشكوكة في حال من الحالات ، كحال النسيان ، ويحكم بأنّ الصلاة متقيّدة بالسورة في حال الذّكر قطعا ، فالإخلال بها في هذا الحال إخلال بالواجب يقينا لكن تقيّدها بها حال النسيان غير معلوم ، فنرفعه بحديث الرفع وقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالبيان السابق.

وليعلم أنّ هذا الكلام جار فيما إذا كان الأمر بالواجب بنحو صرف الوجود وكان أصل الوجوب في حال النسيان معلوما ، وأمّا لو كان بنحو مطلق الوجود ، كالأمر بالصوم في شهر رمضان المنحلّ إلى كلّ يوم من أيّامه ، فلا يجري هذا الكلام قطعا ، إذ الشكّ في اعتبار شيء حال النسيان في الصوم يرجع إلى الشكّ في أصل وجوب الواجب في هذا الحال ، ضرورة أنّ الأمر بالمركّب من المنسيّ وغيره غير معقول ، فإذا كان أصل الوجوب مشكوكا ، فيرفع بأصل البراءة أصل الوجوب لا تقيّده بما يحتمل اعتباره في هذا الحال ، وهذا بخلاف ما إذا كان بنحو صرف الوجود ، كالأمر بطبيعة الصلاة فيما بين الحدّين ، فإنّه يمكن أن يكون المركّب من المنسيّ وغيره مأمورا به في حال الذّكر وفي جزء آخر من أجزاء الزمان المحدود بحدّين وإن لا يمكن أن يكون مأمورا به حال النسيان إلّا أنّ الطبيعيّ المأمور به لا ينحصر مصداقه في الفرد الواقع حال النسيان حتى يكون الأمر به مستحيلا ، بل له أفراد ومصاديق أخر مقدورة للمكلّف ، والجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور يمكن أن يتعلّق الأمر به.

هذا كلّه في النقصان ، وأمّا الزيادة : فمحلّ البحث فيها يعمّ العمديّة وغيرها ، بخلاف النقيصة ، فإنّ العمديّة منها لا ريب في كونها موجبة للبطلان ، ولا معنى للبحث عنها ، إذ معنى كون شيء جزءا أو شرطا للواجب لا واجبا في واجب أنّ الواجب لا يقع بدونه عمدا ، ضرورة أنّ وقوع المأمور به بدونه ينافي

٤٧٢

جزئيّته وكونه دخيلا في المركّب ومعتبرا في تحقّقه.

وقبل الورود في البحث ينبغي التكلّم في أمرين :

الأوّل : في معقولية الزيادة وعدمها.

الثاني : في مفهومها ، وأنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام : «من زاد في صلاته» (١) إلى آخره ـ مثلا ـ ما ذا؟

أمّا الأوّل : فربما استشكل فيه بأنّ السورة إن أخذت في الواجب لا بشرط من حيث انضمام سورة أخرى أو شيء آخر ممّا لا يكون مسانخا لها إليها ، فلا يعقل الزيادة ، إذ السورة الثانية أيضا على هذا تكون جزءا ، وإن أخذت بشرط لا من هذا الحيث ، كما في الركوع والسجود ، حيث إنّ الأوّل أخذ بشرط عدم انضمام الثاني إليه والثاني أخذ بشرط عدم انضمام الثالث إليه ، فإذا أتى المكلّف بسورتين ، فلم يأت بالجزء المأمور به أصلا ، كما أنّه لم يأت بالمأمور به إذا ركع ركوعين أو سجد أزيد من سجدتين ، ففي الحقيقة نقص في صلاته ولم يأت بأحد أجزائه على ما هو عليه.

وفيه أوّلا : أنّ للزيادة مفهوما عرفيّا يصدق على الإتيان بأكثر من سورة مثلا بعنوان الجزئيّة ، فيصدق على الآتي به عنوان «من زاد في صلاته» ولا تبتني الأحكام الشرعيّة على مثل هذه التدقيقات الفلسفيّة.

وثانيا : أنّ أخذ شيء لا بشرط في المأمور به إن كان بنحو مطلق الوجود بحيث يكون للطبيعي أينما سرى دخل في المأمور به ، فالأمر كما ذكر ، إذ جميع مصاديق الطبيعي تكون حينئذ أجزاء ، ولا تتصوّر الزيادة ، بل كلّ ما أتى به من أفراد هذا الطبيعي فقد أتى بالجزء الواجب.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥٥ ـ ٥ ، التهذيب ٢ : ١٩٤ ـ ٧٦٤ ، الاستبصار ١ : ٣٧٦ ـ ١٤٢٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣١ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل ، الحديث ٢.

٤٧٣

وأمّا إن كان بنحو صرف الوجود بحيث يكون أوّل الوجودات مصداقا للجزء ولكنّ الوجود الثاني أو الثالث أو غير ذلك لا يضرّ بتحقّق الجزء بالوجود الأوّل ، ولا يكون مصداقا للجزء أيضا ، فلا إشكال في صدق الزيادة على الوجود الثاني الّذي ليس بجزء حقيقة وبالدقّة أيضا ، نظير الواجبات الاستقلاليّة التي تكون بهذه المثابة ، فكما أنّ الأمر تعلّق بطبيعيّ أربع ركعات بعنوان الظهر لا بشرط وبنحو صرف الوجود بمعنى أنّ الواجب يتحقّق بأوّل الوجودات ، والوجودات الأخر أجنبيّة عن الواجب ، فالصلاة المعادة ليس لها دخل في الواجب لا وجودا ولا عدما ، ولا تتّصف بالوجوب أيضا كذلك السورة إذا أخذت في الصلاة لا بشرط بنحو صرف الوجود ، فالسورة الثانية لا تكون جزءا ، لتحقّق الجزء بالأولى ، ولا يكون لها دخل في تحقّق الجزء لا وجودا ولا عدما.

وبالجملة لا ريب في تعقّل الزيادة في المأمور به إذا أخذ لا بشرط لكن بنحو صرف الوجود.

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو أنّه ما المفهوم من الزيادة عرفا؟ بمعنى أنّه هل يعتبر في تحقّق هذا المفهوم قصد عنوان الجزئيّة ، أو لا يعتبر ذلك ، بل يتحقّق إذا ادخل في المأمور به غير ما اعتبر فيه ولو بدون قصد عنوان الجزئيّة؟ ـ فالتحقيق فيه أنّ المركّبات المخترعة في الشريعة ـ كالصلاة وأمثالها ـ ليست كالمركّبات الخارجيّة التي يكون لكلّ منها وجود واحد جامع لجميع أجزائه ، بل هي مركّبات اعتباريّة اعتبرها الشارع أمرا واحدا مع أنّ كلّ واحد من أجزائها مغاير للآخر وجودا وماهيّة ، فالركوع أمر مغاير للسجود ، وهما للتشهد كذلك ، وهكذا هي للتسليم ، وليس شيء من أجزائها متّحدا في الوجود مع الآخر فجزئيّتها ليست إلّا من جهة أنّ الشارع اعتبرها جزءا ، وإلّا ففي الحقيقة ليست

٤٧٤

جزءا للصلاة أصلا ، ولازم ذلك أن لا يقع شيء منها جزءا للصلاة إلّا إذا وقع بعنوان الجزئيّة ، فقصد الجزئيّة مقوّم لتحقّق عنوان الجزء ، فحينئذ إذا زاد جزءا كالسورة لا بعنوان الجزئيّة ، لا تصدق زيادة الجزء ، وأمّا لو رفع عمامته بعنوان الجزئيّة ، فيصدق أنّه زاد في صلاته جزءا.

نعم ، خصوص السجود زيادة في المكتوبة مطلقا بمقتضى النصّ ، إذ ورد أنّه «لا تقرأ شيئا من العزائم في صلاتك ، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» (١) والحق به الركوع أيضا ، فهو مطلقا ـ كالركوع الملحق به ولو لم يؤت به بقصد الجزئيّة ـ اعتبره الشارع زيادة.

ويتفرّع على ذلك : عدم جواز إقحام صلاة في صلاة أخرى في غير موارد ورد النصّ فيها على الجواز ، كما في الصلاة المكتوبة والآيات ، فإنّه ورد جواز إقحام كلّ منهما في الأخرى إذا اشتغل المكلّف بإحداهما وتضيّق وقت الأخرى (٢).

إذا عرفت هذين الأمرين ، فاعلم أنّ مرجع الشكّ في كون الزيادة مبطلة أو لا إلى أنّه هل اعتبر عدمها في الواجب شرطا أو شطرا؟ فما ذكر في الشكّ في شرطيّة شيء للمأمور به أو جزئيّته من جريان البراءة العقليّة والنقليّة جار هنا أيضا ، إذ هو من أحد مصاديق الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فكما تجري البراءة فيما شكّ في اعتبار عدم ذات شيء في الواجب ويحكم بكون وجوده غير مبطل كذلك إذا شكّ في اعتبار عدم عنوان من العناوين ـ كعنوان الزيادة في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣١٨ ـ ٦ ، التهذيب ٢ : ٩٦ ـ ٣٦١ ، الوسائل ٦ : ١٠٥ ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة ، الحديث ١.

(٢) الفقيه ١ : ٣٤٦ ـ ١٥٣٠ ، التهذيب ٣ : ١٥٥ ـ ٣٣٢ و ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ـ ٨٨٨ ، الوسائل ٧ : ٤٩٠ ـ ٤٩١ ، الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، الأحاديث ٢ ـ ٤.

٤٧٥

الصلاة مثلا ـ تجري البراءة ، ويحكم بأنّ وجوده غير مخلّ.

نعم ، في خصوص العبادات ربما يلازم الزيادة لعدم تحقّق قصد القربة وعدم تحقّق امتثال الأمر ، كما إذا قصد من أوّل الأمر أن يصلّي صلاة ذات خمس ركعات وبنى تشريعا على أنّ أمر المولى تعلّق بذلك ، وقصد عند الإتيان هذا الأمر التشريعي بنحو التقييد بحيث كان من قصده أن لا يأتي بالصلاة بغير هذا الوجه أصلا ، فحينئذ صلاته باطلة لكن لا من جهة الزيادة ، بل من جهة أنّ ما قصد لم يقع ولم يتحقّق به الامتثال ، إذ المفروض أنّه لم يتعلّق به أمر من المولى ، وإنّما قصده تشريعا ، وما وقع ـ وهو الأمر بالصلاة ذات أربع ركعات ـ لم يقصد ، فهو خارج عن محلّ الكلام ، إذ البحث في البطلان وعدمه من ناحية خصوص الزيادة ، ولذا لو لم يرجع التشريع إلى تشريع في نفس الأمر ، لا توجب الزيادة البطلان ، كما إذا قصد الأمر المتعلّق بالصلاة ولكن في مقام التطبيق وإيجاد المأمور به في الخارج يشرّع ويزيد جزءا في صلاته.

وبالجملة ، نفس الزيادة لا توجب البطلان مطلقا في العبادات وغيرها ، والبطلان في العبادات أحيانا بذلك من جهة أخرى ملازمة للزيادة لا من حيث نفس الزيادة التي هي محلّ كلامنا.

هذا كلّه في مقتضى الأصل العملي ، وأمّا الأصل اللفظي : فقد ورد الدليل على البطلان بالزيادة في موردين : أحدهما في أشواط الطواف ، والثاني في الصلاة.

والروايات الواردة في باب الزيادة في الصلاة طوائف ثلاث :

الأولى : ما كان مطلقا من جهتين : من حيث العمد والسهو ، ومن حيث

٤٧٦

الأركان وغيرها ، كقوله عليه‌السلام : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (١).

والثانية : ما كان مطلقا من حيث الأركان وغيرها أيضا ، ومختصّا بخصوص الزيادة السهويّة ، كقوله عليه‌السلام : «من استيقن أنّه زاد في المكتوبة فليستقبل الصلاة استقبالا» (٢) فإنّ ظاهره حصول اليقين بعد الصلاة وبعد الإتيان بالزائد ، لا أنّه زاد عمدا.

ولا تنافي بين هاتين الروايتين ، فإنّ الثانية موردها الزيادة السهويّة ، ولا تنفي وجوب الإعادة في الزيادة العمديّة ، بل تدلّ عليه بالأولويّة ، فلا تنافي بينهما أصلا.

والثالثة : ما كانت نسبته مع كلّ من السابقتين عموما من وجه ، كخبر «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس» (٣) فإنّه مطلق من حيث الزيادة والنقيصة فعامّ من هذه الجهة ، ومقيّد بغير الخمس فخاصّ من هذه الجهة ، والتعارض بينه وبينهما إنّما هو في خصوص الزيادة السهويّة في غير الخمس ، فإنّ مقتضى «لا تعاد» كونها غير مبطلة ، ومقتضى السابقتين أنّها مبطلة ، وأمّا الزيادة العمديّة فلا تعارض بالقياس إليها أصلا ، إذ حديث «لا تعاد» لا يعمّ الإخلال العمديّ قطعا ، فيبقى غيره بلا معارض.

وهكذا لا تعارض بالنسبة إلى النقيصة في غير الخمس ، ضرورة أنّ مورد الروايتين السابقتين هو الزيادة ، فحديث «لا تعاد» لا معارض له.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥٥ ـ ٥ ، التهذيب ٢ : ١٩٤ ـ ٧٦٤ ، الاستبصار ١ : ٣٧٦ ـ ١٤٢٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣١ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣٥٤ ـ ٢ ، التهذيب ٢ : ١٩٤ ـ ٧٦٣ ، الاستبصار ١ : ٣٧٦ ـ ١٤٢٨ ، الوسائل ٨ : ٢٣١ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٢٥ ـ ٩٩١ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ ـ ٥٩٧ ، الوسائل : ٣٧٠ ـ ٣٧٢ ، الباب ٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨ و ٧ : ٢٣٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.

٤٧٧

وأيضا لا تعارض بالقياس إلى الزيادة السهويّة في خصوص الخمس ، فإنّ مقتضى الجميع بطلان الصلاة بها.

ففي هذه الموارد الثلاثة ـ الزيادة العمديّة مطلقا ، الزيادة العمديّة في خصوص الخمس المذكورة في حديث «لا تعاد» ، النقيصة في غير الخمس ـ لا إشكال في بطلان الصلاة في الأوّلين منها ، وعدم بطلانها في الثالث ، وإنّما الإشكال في مورد التعارض ، وهو الزيادة السهويّة في غير الخمس ، والنسبة وإن كانت عموما من وجه إلّا أنّ «لا تعاد» ـ لكونه حاكما وناظرا إلى مطلق أدلّة الأجزاء والشرائط ، التي منها الروايتان السابقتان الدالّتان على اعتبار عدم الزيادة السهويّة في غير الخمس في الصلاة ـ مقدّم عليها ، إذ لا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ، فيخصّص «لا تعاد» ـ الدالّ بلسان عدم وجوب الإعادة على أنّ الشرائط والأجزاء المعتبرة في الصلاة ليست بشرائط وأجزاء حال السهو والنسيان ، بل هي شرائط وأجزاء لها في حال الذّكر ـ جميع أدلّة الشرائط والأجزاء بخصوص حال الذّكر والعمد والالتفات ، ومن جملتها أدلّة اعتبار عدم الزيادة في الصلاة ، فيخصّصها أيضا بخصوص حال الذّكر والعمد والالتفات.

الأمر الثاني : أنّه إذا تعذّر جزء أو شرط للواجب ، فهل الواجب يبقى على وجوبه ويجب الإتيان بالباقي أو لا؟ والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في مقتضى الأصل اللفظي.

والثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي مع عدم وجود الأصل اللفظي.

أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام في نسيان جزء أو شرط.

وحاصله : أنّه إذا كان لدليل الجزء أو الشرط إطلاق بالقياس إلى حال التمكّن منه وعدمه ، بمعنى أنّه كلّما كان الأمر بالمركّب ثابتا فهو متقيّد بهذا الجزء أو الشرط ، فلازمه عدم وجوب الفاقد للجزء حينئذ ، فلا تجب الصلاة

٤٧٨

من غير طهور عند عدم التمكّن منه ، وإن كان لدليل الواجب إطلاق فقط ولم يكن لدليل الجزء أو الشرط إطلاق ، فيجب الفاقد للجزء.

وأمّا المقام الثاني : فمقتضى القاعدة هو البراءة إذا لم يكن إطلاق أصلا لا لدليل الواجب ولا لدليل الجزء ، إذ المعلوم لنا ليس إلّا وجوب عشرة أجزاء إذا فرضنا مثلا أنّ الصلاة لها عشرة أجزاء ، فإذا تعذّر جزء منها فنحتمل عدم وجوب الباقي فنجري البراءة عنه. هذا.

وربّما يفرّق بين كون وجوب الواجب انحلاليّا وبنحو مطلق الوجود كالصوم ، وبين ما كان بنحو صرف الوجود كالواجب الموسّع أو غير الموقّت ، فيلتزم في الأوّل بجريان البراءة ، ويحكم بعدم وجوب الصوم عند الاضطرار إلى الارتماس مثلا ، وفي الثاني بالتفصيل بين ما كان المكلّف قادرا على الواجب بجميع أجزائه وشرائطه أوّل الوقت أو في زمان وبعد ذلك طرأ التعذّر ، وبين ما لم يكن كذلك ، بل كان من الأوّل عاجزا عن الواجد ، فيلتزم بالبراءة في الثاني وبجريان استصحاب الوجوب في الأوّل.

وقيل في تقريبه وجوه :

الأوّل : استصحاب الوجوب الكليّ الجامع بين الاستقلالي والضمني ببيان أنّ هذه التسعة قد كانت واجبة سابقا فالآن كما كانت ، غاية الأمر وجوبها في السابق كان وجوبا ضمنيّا ـ المعبّر في كلام شيخنا الأنصاري بالوجوب الغيري (١) ـ والآن وجوبها استقلاليّ ، وهذا لا يضرّ باستصحاب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي.

الثاني : استصحاب وجوب نفس الواجب بنحو مفاد «كان» التامّة ، نظير

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٩٧.

٤٧٩

استصحاب وجود الكرّ بأن يقال : إنّ الوجوب المتعلّق بالصلاة قبل ذلك كان ثابتا والآن نشكّ في زواله ، فالأصل بقاؤه كما كنّا نستصحب بقاء الكرّ في مكان إذا شككنا في زوال الكرّ الموجود فيه.

الثالث : استصحاب الوجوب بمفاد «كان» الناقصة ، نظير استصحاب كرّيّة الماء الموجود الّذي أخذ منه كأس أو كأسان بحيث كان بنظر العرف هو الموضوع السابق بأن يقال : إنّ الصلاة كانت واجبة قطعا والآن نشكّ في وجوبها بواسطة تعذّر جزء منه فنستصحب بقاءه.

والفرق بين التقريبات الثلاثة أنّ الاستصحاب على الأوّلين يجري حتى فيما إذا تعذّر جميع الأجزاء إلّا جزء واحد ، فيستصحب وجوب هذا الجزء ، وعلى الأخير لا بدّ من بقاء الأجزاء على حال التمكّن بمقدار لا يضرّ باتّحاد الموضوع في نظر العرف ، إذ الاعتبار في باب الاستصحاب بالموضوع العرفي لا الدليلي ولا الدقّي الفلسفي ، فلو فرض العجز عن النصف أو أزيد منه ، فلا يجري الاستصحاب ، لعدم بقاء ذلك الموضوع المحكوم بالوجوب حينئذ بنظر العرف.

والجواب عن الأوّل : أنّه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو ممنوع ، إذ لا بدّ في الاستصحاب من اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وهو غير موجود في هذا القسم ، فإنّ المتيقّن سابقا ـ وهو فرد من الكلّي ـ مقطوع الارتفاع ، والمشكوك فرد آخر منه ، فما يحتمل بقاؤه غير المتيقّن سابقا. وهكذا في المقام المتيقّن وجوده سابقا ـ وهو الوجوب الغيريّ المتعلّق بتسعة أجزاء ـ ارتفع وزال قطعا ، وما يحتمل بقاؤه ـ وهو الوجوب الاستقلالي ـ فرد آخر منه مشكوك الحدوث.

وعن الثاني : أنّ استصحاب فعليّة الوجوب المتيقّن سابقا بنحو مفاد

٤٨٠