الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

فيها ، فيبقى جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الخصوصيّة التي فيها ضيق بلا معارض.

وأمّا ما أفاده من أنّ الشكّ في المقام شكّ في السقوط ، فإن أراد الشكّ في السقوط الواقعي ، فصحيح ولا يضرّنا أصلا ، وإن أراد الشكّ في السقوط الظاهري ، فليس الأمر كذلك ، بل نحن جازمون بأنّ التكليف بالصلاة سقط في مقام الظاهر عنّا بعد إتياننا بما علمنا وجوبه ، ووصلنا إليه من الأجزاء ، ونقطع بقبح العقاب على عدم السقوط المستند إلى نفس المولى لا إلينا.

وبالجملة ، لم ترد آية ولا رواية في أنّ الشكّ في السقوط مورد للاشتغال حتى نتمسّك بإطلاقها ، بل هو من باب حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الواصل من المولى إلى العبد ، ولم يصل إلينا على الفرض أزيد من وجوب ذات الركوع والسجود وغير ذلك من الأجزاء ما عدا السورة ، فالتكليف بسائر الأجزاء ما عدا السورة وإن لم يسقط واقعا على تقدير وجوب الأكثر ، والشكّ فيه وإن كان في مرحلة امتثال التكليف الواقعي المتعلّق به وسقوطه إلّا أنّه غير ضائر بعد جريان البراءة عن الأكثر وتعيّن المأمور به في مقام الظاهر في الأقلّ ، كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى : حيث إنّ الإهمال في الواقعيّات غير معقول ، فالمأمور به في الواقع ونفس الأمر له تعيّن لا محالة إمّا التعيّن الإطلاقي أو التعيّن التقييدي ، والعلم الإجمالي بأحد أمرين لا يؤثّر في التنجّز ما لم يتعارض الأصل في أحد طرفيه بالأصل في الطرف الآخر ، كما ذكرنا مرارا ، ولا معارضة في البين ، فإنّ الإطلاق لا ضيق فيه ، فلا يحتاج إلى البيان حتى تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالإضافة إليه ، فالأصل في التقييد بلا معارض ، فلا أثر للعلم الإجمالي ، بل ينحلّ إلى العلم التفصيليّ بوجوب الطبيعة المهملة والشكّ البدوي في

٤٤١

خصوصيّة تحقّقها في ضمن الأكثر وانضمام السورة إلى ما عداها.

ومنها : ما ذكره الشيخ ـ قدس‌سره ـ بعنوان «إن قلت» وجعله صاحب الكفاية دليلا على المنع ، وهو : أنّ الأحكام حيث إنّها على مذهب العدليّة تابعة للمصالح والمفاسد والأغراض الواقعيّة ، وعلى العبد في مقام الامتثال أن يحصّل القطع بحصول غرض المولى من أمره مع الإمكان ، ومن الواضح أن لا يحصل الغرض من الواجب الارتباطي بفقدان جزء منه ، فإذا أتى بما عدا السورة ، لا يحصل له القطع بحصول الغرض ويحتمل بقاءه ، فلا بدّ من الاحتياط ، حذرا من عدم تحقّق الغرض الواجب تحصيله عليه (١).

وأجاب عنه الشيخ ـ قدس‌سره ـ أوّلا : بأنّ النزاع في هذه المسألة لا يبتني على مذهب العدليّة ، بل يجري على مذهب الأشعري أيضا (٢).

وفيه : أنّ هذا جواب جدلي (٣) لا يفيد لمن يرى تبعيّة الأحكام للأغراض والمصالح ، بل يجدي لمن يسلك مسلك الأشاعرة غير الشاعرة على سبيل الجدل.

وأجاب ثانيا : بأنّ احتمال عدم حصول الغرض موجود على كلّ تقدير : أتى بالأقلّ أو الأكثر ، إذ نحتمل بالوجدان أن يكون لإتيان كلّ جزء بعنوان الجزئيّة دخل في الغرض ، ومع احتمال وجوب الأقلّ لا يمكن إتيان الجزء المشكوك بعنوان الجزئيّة إلّا بنحو التشريع ، فمع الإتيان بالأكثر نحتمل عدم حصول الغرض من جهة احتمال دخل قصد الوجه في الجزء المشكوك ، كما

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٧٣ ، كفاية الأصول : ٤١٤.

(٢) فرائد الأصول : ٢٧٣.

(٣) أقول : ليس الجواب جدليّا ، فإنّ المستشكل يقول : إنّ الاحتياط هو مقتضى مسلك العدليّة. ويجيب الشيخ بأنّ هذا أخصّ من المدّعى ، فإنّ المدّعى هو الاحتياط مطلقا وهذا يقتضي الاحتياط على مسلك العدليّة. (م).

٤٤٢

أنّ هذا الاحتمال موجود مع الإتيان بالأقلّ وترك السورة من جهة احتمال جزئيّة السورة ، فالقطع بحصول الغرض لا يمكن ، والعقاب مأمون من ناحيته ، فيبقى احتمال العقاب على ترك السورة ، لاحتمال وجوبها ، وهو مرفوع أيضا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان (١).

وفيه أوّلا : أنّه أخصّ من المدّعى ، فإنّ لازمه الالتزام بوجوب الاحتياط في التوصّليّات التي لا سبيل إلى اعتبار قصد الوجه فيها.

وثانيا : أنّ قصد الوجه ـ مضافا إلى أنّا نقطع بعدم اعتباره ، لما ذكرنا سابقا من أنّه ممّا يغفل عنه عامّة المكلّفين ، فلو كان معتبرا ، لبيّن في الأخبار والآثار مع كثرة الاحتياج إليه ونقل بالتواتر ، مع أنّه ليس له أثر في خبر واحد فضلا عن المتواتر ـ لا يعتبر في الأجزاء حتى عند من يعتبره من المتكلّمين ، والوجوه الواهية التي ذكروها كلّها تختصّ بالواجب النفسيّ ، ومن المعلوم إمكان إتيان الصلاة بقصد الوجه.

وثالثا : أنّ لازمه عدم إمكان الاحتياط ، إذ الاحتياط لو كان بداعي تحصيل القطع بحصول الغرض ، فالمفروض أنّه غير ممكن ، وإن كان بداعي الفرار عن تبعة العقاب على مخالفة ترك السورة ، فالمفروض أنّه مرفوع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبالجملة ، مثل هذه الأجوبة لم يكن مترقّبا من مثله قدس‌سره.

وأجاب عن هذا الإشكال شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّ الأغراض المترتّبة على الأحكام تارة تكون بنحو ترتّب المعلول على علّته التامّة ، كترتّب القتل على الذبح ، فيصحّ الأمر بالعلّة بأنّ يقول : «اذبح زيدا» كما يصحّ الأمر بالمعلول

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٧٣.

٤٤٣

والغرض بأن يقول : «اقتله» ومن أمر الشارع الحكيم بالغرض ـ كما في (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(١) ـ نستكشف أنّه تحت اختيار العبد ، ويمكن له إيجاد علّته التامّة ، فكلّ ما كان من هذا القبيل يجب على العبد تحصيل القطع بحصول الغرض ، وأخرى تكون بنحو ترتّب المعلول على علّته المعدّة ، كترتّب وجود الثمر على غرس الشجر ووجود الحبّ على الزرع ، ولا يصحّ حينئذ الأمر بالغرض بأن يقول : «أوجد الثمر والحبّ» لخروجه عن تحت اختياره ، فإنّ له أسبابا أخر لا يكون شيء منها مقدورا له ـ من تأثير الشمس والهواء والأرض والملائكة العمّالة وإرادة الله تعالى وغيرها ـ ومن ذلك الإسهال المترتّب على شرب المسهل ، وما كان من هذا القبيل لا يجب تحصيل الغرض على العبد ، ويستكشف من أمر المولى بالعلّة دون الغرض أنّها من العلل المعدّة وأنّ الغرض خارج عن تحت اختيار العبد ، وإلّا لكان الأمر بالغرض أولى بأن يقول : «انه نفسك عن الفحشاء والمنكر» لا أن يقول : «أقم الصلاة».

والحاصل : أنّ الغرض على قسمين في مقام الثبوت :

قسم : يجب على المكلّف تحصيله ، وهو ما لا ينفكّ عن الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه.

وقسم ثان : لا يجب تحصيله ، وهو ما ينفكّ عنه ، وله وسائط أخر غير اختياريّة.

والكاشف عن القسم الأوّل في مقام الإثبات تعلّق الأمر بنفس الغرض ، وعن القسم الثاني تعلّقه بالفعل ، فكلّما شكّ في حصول الغرض من الأمر المتعلّق بنفس الفعل دون الغرض كان المرجع فيه البراءة العقليّة إذا رجع الشكّ

__________________

(١) المائدة : ٦.

٤٤٤

إلى الشكّ في أصل التكليف (١). هذا ملخّص ما أفاده.

وفيه : أنّ الأمر في القسم الثاني أيضا لم يتعلّق بذات الفعل المعدّ ولو كان أجنبيّا عن الأثر الإعدادي ، بل إنّما تعلّق بالفعل الإعدادي بما هو معدّ ، وبالحصّة الخاصّة من الفعل ، وهو ما يترتّب عليه الأثر الإعدادي.

وبعبارة أخرى : للمولى غرضان :

أحدهما : لازم في نفسه ، ولا يلزم على المكلّف تحصيله ، وهو الغرض الأصيل الّذي لم يكن تحت اختياره وقدرته.

والثاني : لازم في نفسه ، ولازم التحصيل أيضا على المكلّف ، وهو ما يترتّب على الفعل المعدّ من. الأثر الإعدادي ، نظير استعداد الأرض لخروج الحنطة منها ، المترتّب على الزرع ، فللخصم أن يقول : «هذا الغرض الإعدادي يجب تحصيله» فإذا شكّ في دخل شيء في حصوله ، لا بدّ من إتيانه بمقتضى قاعدة الاشتغال.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الغرض لا يزيد عن الأمر ، إذ على المولى أن يبيّن جميع ما يكون دخيلا في حصول غرضه ، فإذا كانت دائرة غرضه وسيعة يجعل دائرة أمره أيضا كذلك ، وإن كانت ضيقة يجعلها كذلك أيضا ، فتطبيق إحدى الدائرتين على الأخرى من وظيفة المولى ، فإن أدّى وظيفته وبيّن جميع ما يحصّل غرضه ، فالشكّ في حصول الغرض وعدمه مورد للاشتغال ، فلا بدّ من إتيان ما يحتمل دخله في الغرض الواصل ، وإن لم يؤدّ وظيفته وبيّن بعض ما له دخل في غرضه ، فالعقاب على ترك تحصيل الغرض غير الواصل عند ترك إتيان ما يحتمل دخله في الغرض عقاب بلا بيان.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٢ ـ ٢٩٤.

٤٤٥

وبالجملة ، الشكّ في حصول الغرض على قسمين : قسم يرجع إلى الشكّ في حصول الغرض الواصل ، وهو مورد للاشتغال ، وقسم ثان يرجع إلى الشكّ في أصل تعلّق الغرض بالمشكوك ، وهو كالشكّ في أصل التكليف مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وفي المقام تعلّق الغرض من أمر (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) بما عدا السورة متيقّن ، وتعلّقه بها مشكوك ، ففوت الغرض لو كان مستندا إلى العبد ـ بأن ترك ما يعلم دخله في الغرض كالركوع والسجود وأمثال ذلك ـ لا يقبح عليه العقاب في نظر العقل ، وإن كان مستندا إلى المولى ـ بأن ترك ما يحتمل دخله في الغرض كالسورة ـ فالعقاب عليه عقاب بلا بيان ، حيث إنّ المولى لم يبيّن دخلها في غرضه ولم يقصّر العبد فيما هو وظيفته من الفحص والبحث ، فله حجّة على المولى ، ويقول : «إنّي كنت عبدا مطيعا ، وكلّ ما بيّنت أنّه محبوب لك ومتعلّق لغرضك أتيت به ، لما ذا ما بيّنت أنّ السورة أيضا دخيلة في غرضك حتى آتي بها وأحصّل غرضك؟».

وبعبارة أخرى واضحة : الأغراض المترتّبة على الأحكام تارة تكون بحيث يفهمها عامّة الناس عند أمر المولى بالفعل .. (٢). له كحصول القتل المترتّب على ضرب العنق ، فإنّ كلّ أحد يفهم من «اضرب عنق زيد» أنّ الغرض من هذا الأمر هو حصول القتل في الخارج وخروج الروح عن الجسد ، فإن كانت بهذه المثابة فلا بدّ من الاحتياط عند الشكّ في حصولها ، فلو ضرب عنق زيد واحتمل عدم تأثيره في قتله ، لا يجوز له التمسّك بإطلاق أمر «اضرب عنقه» وأخرى تكون بحيث لا يفهمها إلّا أقلّ قليل من أهل العرف ، بل أكثرهم

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) مكان النقاط مخروم في الأصل ، ولعلّها : المحصّل.

٤٤٦

لا يلتفتون إلى أنّ للمولى غرضا في ذلك لازما حصوله ، كما في الانتهاء عن الفحشاء ، المترتّب على الصلاة مثلا أو شيء آخر.

وفي هذا القسم لو كان هذا الغرض اللازم من الأهمّيّة بمرتبة لا يرضى. المولى بفوته حتى في ظرف الجهل ، لكان عليه البيان بإيجاب الاحتياط في ظرف الجهل ، فإذا فرضنا لم يبيّن جميع ما له دخل في غرضه أو بيّن ولم يصل إلى العبد ولم يوجب الاحتياط وأتى العبد بجميع ما يعلم دخله في غرض المولى ، فالعقل يستقلّ بقبح العقاب على فوت مثل هذا الغرض قطعا.

فالحقّ ما أفاده شيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره ـ من جريان البراءة العقليّة عن الأكثر (١) وإن كان تعبيره بأنّ الأقلّ متيقّن الوجوب المردّد بين النفسيّ والغيري (٢) لا يكون حسنا كما ذكرنا آنفا.

الجهة الثانية من المقام الأوّل : في جريان البراءة النقليّة.

وعلى ما اخترناه ـ وفاقا للشيخ قدس‌سره ـ من جريان البراءة العقليّة في الأكثر فجريان البراءة الشرعيّة أيضا واضح ، ويأتي فيه البيان المتقدّم هناك بعينه.

فنقول : جزئيّة ما عدا السورة المنتزعة من الأمر النفسيّ المتعلّق به متيقّنة ، وجزئيّة السورة وتعلّق الأمر النفسيّ بها مشكوكة وغير معلومة ، فيشملها «رفع ما لا يعلمون» وغيره من أدلّة البراءة.

ولا مورد ل «إن قلت وقلت» كما في الكفاية من أنّ رفع وجوب الأكثر بحديث الرفع لا يثبت وجوب الأقلّ (٣) ، ضرورة أنّ وجوب الأقلّ معلوم لا نريد إثباته بالأصل ، فأيّ مناسبة لهذا السؤال؟

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٧٣.

(٢) فرائد الأصول : ٢٧٥.

(٣) كفاية الأصول : ٤١٦.

٤٤٧

وببالي أنّ في بعض نسخ الكفاية : «المنسيّة» بدل «الجزئيّة» وهو المناسب لكن لا في المقام ، بل في البحث الآتي من أنّه إذا نسي المكلّف بعض الأجزاء هل يشمله حديث الرفع أم لا؟ فمن يقول بالشمول يمكن أن يقال عليه : بأنّ رفع وجوب الأكثر بأصل البراءة لا يثبت وجوب الأقلّ ، إذ من المحتمل سقوط الأمر رأسا في ظرف نسيان بعض الأجزاء ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله. هذا على المختار.

ولو سلكنا مسلك صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سرهما ـ وقلنا بعدم جريان البراءة العقليّة ، فهل تجري البراءة النقليّة أو لا تجري وتكون ملازمة بينهما وجودا وعدما؟ الظاهر ذلك.

بيان ذلك : أنّ وجه عدم جريان البراءة العقليّة لو كان ما في الكفاية ـ من وجوب القطع بحصول الغرض ومع الإتيان بالأقل لا يحصل القطع به ، وأنّ جريان البراءة العقليّة عن السورة المشكوكة جزئيّتها لا يوجب القطع بحصول الغرض بإتيان الأقلّ ، بل بعد نحن في شكّ (٢) ـ فتجري البراءة النقليّة أيضا ، ضرورة أنّ غاية ما يترتّب على دليل البراءة النقليّة هو رفع جزئيّة السورة ، ولا يثبت حصول الغرض بإتيان الأقلّ ، بل بعد نحن في شكّ من ذلك.

نعم ، لو ورد دليل خاصّ على أنّ السورة ليست بجزء للصلاة ، أو ورد دليل خاصّ على رفع جزئيّة خصوص ما شكّ في جزئيّته ، لا بدّ من الالتزام بلازمه ، صونا لكلام الحكيم عن اللغويّة ، كما أنّه لو فرضنا في مورد خاصّ ورود التعبّد الاستصحابي ـ مثلا ـ ببقاء شيء لا أثر إلّا للازمه العقلي ، لا بدّ من الالتزام بلازمه العقلي ، لذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٣ ، أجود التقريرات ٢ : ٢٨٨.

(٢) كفاية الأصول : ٤١٣.

٤٤٨

ولو كان ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من أنّ الشكّ في سقوط الأمر المتعلّق بالأقلّ باق بعد رفع جزئيّة السورة ووجوب الأكثر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان (١) ، فهو جار في البراءة النقليّة أيضا.

وهكذا ما أفاده من أنّ المتيقّن هو الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيّدة لا خصوص المطلقة ، فإنّ خصوصيّة التقييد لو لم يمكن رفعها بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكونها معارضة بجريانها في خصوصيّة الإطلاق لا يمكن رفعها بحديث الرفع أيضا ، لذلك (٢).

ولعلّ نظره ـ قدس‌سره ـ إلى ما أفاده في بحث التعبّدي والتوصّلي من أنّ الإطلاق والتقييد متقابلان تقابل العدم والملكة (٣) ، فالمطلق ما يكون قابلا للتقييد وله شأنيّة أخذ القيود فيه مع كونه مرفوض القيود ، فإذا تعبّدنا الشارع بعدم وجوب المقيّد وعدم أخذه القيد في المأمور به ، فقد تعبّدنا بأنّ المأمور به مرفوض القيود ، الّذي هو عين المطلق ، فلا تعارض أصالة البراءة عن وجوب الأكثر الّذي هو المقيّد بأصالة البراءة عن الأقلّ لا بشرط ، الّذي هو المطلق ، بل أصالة البراءة عن المقيّد بعد جريانها تثبت وجوب المطلق لا محالة ، لما عرفت من أنّ المطلق ليس إلّا ما لم يؤخذ فيه قيد ، فإذا حكم الشارع ـ بمقتضى دليل البراءة ـ بأنّه لم يأخذ في متعلّق الأمر بالصلاة قيد انضمام التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وغيرها من الأجزاء المعلومة إلى السورة ، فلم يحكم إلّا بكون المأمور به لا بشرط من ناحية السورة ومطلق بالإضافة إليها.

وما أفاده في ذلك البحث وإن كان تامّا إلّا أنّه لا يفيد في المقام ، فإنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٠٣.

٤٤٩

متعلّق الأمر بالطبيعة لا بشرط ، الّذي هو المطلق وإن كان مقيّدا بأمر عدميّ ـ وهو الإطلاق ـ وكان متعلّق الأمر بالطبيعة بشرط شيء والمقيّد مقيّدا بأمر وجودي إلّا أنّ تعلّق الأمر بالمطلق نحو من التعلّق غير نحو التعلّق بالمقيّد ، وكلّ منهما أمر وجودي مضادّ للآخر ، ونفي أحد الضدّين لا يثبت وجود الضدّ الآخر ، فرفع تعلّق الوجوب بالأكثر لا يثبت تعلّقه بالأقلّ لا بشرط ، فإنّه من الأصول المثبتة التي لا نقول بحجّيّتها في الاستصحاب الّذي هو أقوى الأصول فضلا عن البراءة.

فالصحيح ما ذكرنا من أنّ أصالة البراءة عن الأكثر وعن تعلّق الوجوب بالمقيّد لا تعارض بأصالة البراءة عن تعلّقه بالمطلق ، إذ لا ضيق في الإطلاق ، فرفعه مخالف للامتنان.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّه إن أمكن جريان البراءة العقليّة عن الأكثر ، أمكن جريان النقليّة منها أيضا ، وإلّا فلا يجري شيء منها.

ثمّ إنّه ربما يتمسّك لإثبات الاشتغال بالاستصحاب ، بتقريب : أنّ أصل البراءة عن الأكثر يسقط بمعارضته للبراءة عن الأقلّ لا بشرط الّذي هو أحد طرفي العلم ، فبعد إتيان الأقلّ يشكّ في سقوط التكليف المعلوم المردّد بين مقطوع الزوال لو كان المأمور به في الواقع هو الأقلّ ، ومقطوع البقاء لو كان هو الأكثر ، فيستصحب الوجوب الجامع بينهما ، كاستصحاب كلّي الحدث المعلوم المردّد بين الأكبر والأصغر.

وفيه : أنّه يتمّ فيما إذا تعارضت الأصول في أطراف العلم كالمثال ، لا في المقام الّذي يجري الأصل في أحد الطرفين بلا معارض.

ثمّ إنّ الشيخ ـ قدس‌سره ـ تمسّك باستصحاب عدم وجوب الأكثر المتيقّن في

٤٥٠

الأزل (١).

وهو مبني على ما مرّ في أواخر بحث البراءة من أنّ استصحاب عدم الجعل للحكم بعدم الوجوب المجعول مثبت ، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره ، أو أنّه عين استصحاب عدم المجعول ، كما اخترناه وبيّنّاه تفصيلا ، وذكرنا أنّه كاستصحاب عدم النسخ الّذي هو متّفق على جريانه ، فراجع.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل والمركّب الخارجي.

المقام الثاني : في المركّب التحليلي العقلي ، أي ما لا تكون له أجزاء خارجيّة يشار إليها ، وهو على أقسام :

الأوّل : أن يكون ما يحتمل دخله في الواجب مغايرا في الوجود مع الواجب ، وكان له وجود منحاز عن وجود الواجب ، كالأغسال الليليّة بالقياس إلى صوم المستحاضة ، المتأخّر عنها أو المتقدّم عليها.

والكلام في جريان البراءة في هذا القسم من المركّب التحليلي هو الكلام في جريانها في الأجزاء المشكوكة من المركّب الخارجي ، والبيان هو البيان ، فكما نرفع هناك تعلّق الأمر بالصلاة مع السورة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان و «رفع ما لا يعلمون» كذلك نرفع تعلّق الأمر بالصوم المتقيّد بتقدّم الغسل عليه أو بتأخّره عنه بذلك.

الثاني : أن يكون ما يحتمل اعتباره في الواجب متّحدا في الوجود مع الواجب ، وتكون نسبته إليه بنظر العرف نسبة الوصف إلى موصوفه والعارض إلى معروضه ، لا كالفصل بالقياس إلى جنسه ، كالإيمان في الرقبة ، والبرودة في

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٧٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

٤٥١

الماء.

وصاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ قد أنكر البراءة العقليّة في المركّب الخارجي وما يكون للمشكوك وجود منحاز في الخارج فضلا عن المقام (١) ، والتزم بجريان البراءة النقليّة في القسم الأوّل ـ الّذي يعبّر بدوران الأمر بين شرطيّة شيء للواجب وعدمها ـ دون سائر الأقسام بدعوى أنّ الخصوصيّة المشكوك دخلها تنتزع في القسم الأوّل ـ أي في دوران الأمر بين المشروط وغيره ـ عن الشرط الّذي هو أمر مغاير مع المشروط في الوجود ، ولأجل ذلك يتصوّر القدر المتيقّن ، وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمشروطة ، فيرفع الاشتراط ـ الّذي هو تكليف زائد وضيق على المكلّف ـ ب «رفع ما لا يعلمون» وغيره من أدلّة البراءة النقليّة ، وأمّا في سائر الأقسام ـ أي في دوران الأمر بين الخاصّ وغيره ـ تنتزع عن نفس الخاصّ ، فيكون الدوران بينه وبين العامّ من قبيل الدوران بين المتباينين لا الأقلّ والأكثر ، إذ المأمور به لو كان هو الخاصّ ـ وهو الرقبة المؤمنة ـ فإذا أعتق المكلّف رقبة كافرة ، فقد أتى بفرد مباين له ، وإن كان هو العامّ ، فقد أوجد مصداقا حقيقيّا للمأمور به ، ولم يتحقّق في الخارج فرض أتى المكلّف ببعض المأمور به المتيقّن ولم يأت بالزائد المشكوك حتى يرفع الزائد بالبراءة (٢). هذا حاصل ما أفاده.

ولكنّ الحقّ جريان البراءة عقلا ونقلا ، وذلك لأنّا لا نجري البراءة في الخصوصيّة حتى يقال : إنّها منتزعة عن نفس الخاصّ ، بل نجري البراءة في الإلزام المتعلّق بها ، ونقول : إنّ طبيعيّ الماء ـ مثلا ـ تحت إلزام المولى قطعا ، فالعقاب على مخالفته عقاب مع البيان ، وأمّا خصوصيّة البارديّة لا يعلم تعلّق

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٣.

(٢) كفاية الأصول : ٤١٧.

٤٥٢

الإلزام بها ولم يصل إلينا تكليف وضيق بالقياس إليها ، فالعقاب على مخالفة المأمور به من ناحية الإخلال بالخصوصيّة المشكوك تعلّق الإلزام بها عقاب بلا بيان ، فيرفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان و «رفع ما لا يعلمون» بلا محذور أصلا.

الثالث : أن يكون ما يحتمل دخله في الواجب متّحدا في الوجود معه وتكون نسبته إليه نسبة الفصل إلى جنسه ، كالإنسان والحيوان.

وقد عرفت أنّ صاحب الكفاية أنكر جريان البراءة في هذا القسم كسابقه ، نظرا إلى أنّ الأمر فيه دائر بين متباينين ، فإنّ البقّ ـ مثلا ـ ليس قدرا متيقّنا بين الحيوان والإنسان.

وتبعه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بدعوى أنّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير (١) ، إذ الحيوان له أنواع ، وكلّ نوع مباين للنوع الآخر ، فمرجع العلم بتعلّق إلزام إمّا بحيوان أو بإنسان هو العلم بأنّ المأمور به إمّا مطلق الحيوان بأيّ فصل تفصّل أو خصوص الحيوان الّذي تفصّل بفصل الإنسانيّة.

وحيث انجرّ البحث إلى بحث دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ وهو بحث نفيس كثير الفائدة ـ فالأولى عطف عنان الكلام إليه وإن لم يتعرّض له صاحب الكفاية أصلا.

فنقول : لدوران الأمر بين التعيين والتخيير أقسام ثلاثة :

الأوّل : الدوران من جهة الشكّ في مرحلة الجعل بأن نعلم وجوب شيء ولكن نشكّ في أنّ الشارع هل جعل له عدلا أو لا؟ فأمر وجوبه مردّد بين كونه تخييريّا له عدل وتعيينيّا ليس له عدل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٧.

٤٥٣

الثاني : الدوران من جهة الشكّ في مرحلة المجعول ومقام الامتثال لأجل التزاحم وعدم قدرة المكلّف ، كما إذا لم يتمكّن المكلّف من إنقاذ كلا الغريقين الواجب إنقاذ كلّ منهما مع التمكّن ، واحتمل أهمّيّة أحدهما ، لكونه نبيّا مثلا ، إذ مع العلم بكونه نبيّا نقطع بوجوب إنقاذه تعيينيّا ، أمّا مع احتمال ذلك يردّد أمره بين كونه واجبا تعيينيّا أو تخييريّا ، وهذا الترديد لأجل التزاحم في مقام الامتثال وعدم قدرته من إنقاذ كلّ منهما.

الثالث : الدوران من جهة الشكّ في مقام الحجّيّة ، كما إذا شككنا في أنّ طريقيّة قول الأعلم وحجّيّته للمقلّد بنحو التعيين بحيث ليس له طريق آخر وحجّة أخرى غيره أو أنّها بنحو التخيير وله طريق آخر ، وهو فتوى غير الأعلم.

ثمّ الكلام في القسم الأوّل يقع في مسائل ثلاث :

الأولى : فيما علم وجوب شيء وشككنا في كون شيء آخر أيضا واجبا وعدلا له ومسقطا عنه أو لا ، فيرجع الشكّ في التعيين والتخيير إلى جواز الاقتصار على غير محتمل التعيينيّة مع العلم بوجوب كلّ منهما تخييرا أو تعيينا.

الثانية : فيما علم جواز الاقتصار على أحدهما ولكن نشكّ في كون جواز الاقتصار من باب أنّه مسقط للآخر ، لكونه عدلا له وأحد فردي التخيير ، أو لكونه رافعا لموضوعه ، وهذا يمكن فرضه في الواجبات الاستقلاليّة ، كما إذا علمنا بوجوب الإطعام فقط واحتملنا كون الصيام عدلا له ، وعلمنا أيضا بجواز الاقتصار على أحدهما ولم نعلم أنّه بأيّ وجه من الوجهين المذكورين ، وفي الواجبات الضمنيّة ، كما إذا علمنا بجواز الاقتصار على الائتمام وترك القراءة أو الاقتصار على الصلاة مع القراءة منفردا ولم يعلم أنّ الائتمام أحد فردي الواجب المخيّر أو أنّه من قبيل السفر ـ الرافع لموضوع وجوب التمام ـ رافع لموضوع وجوب القراءة في الصلاة.

٤٥٤

وتظهر الثمرة فيما إذا عجز المكلّف عن إتيان أحدهما ، فإن كان واجبا تخييريّا ، يتعيّن الآخر.

ففي المثال يجب مع العجز عن القراءة الائتمام ، ولا يجوز الاقتصار على الصلاة الفاقدة للقراءة ، وإن لم يكن كذلك ، يجوز له ذلك ، لعدم قدرته على القراءة وعدم وجوب ما هو مسقط لها ـ وهو الائتمام تخييرا ـ على الفرض.

وبالجملة ، مرجع الشكّ في هذه المسألة إلى الشكّ في كون شيء عدلا لما هو معلوم الوجوب مع العلم بمسقطيّته له ، ومرجع الشكّ في المسألة الأولى إلى مسقطيّة أحدهما عن الآخر مع العلم بوجوب كلّ منهما ، فالمسألتان متقابلتان.

الثالثة : فيما علم وجوب شيء وجواز الاقتصار عليه في مقام الامتثال قطعا ، كعتق العبد وشكّ في أنّ عتق الأمة عدل له ويجوز الاقتصار عليه أيضا في مقام الامتثال أم لا ، فعتق الأمة وجوبه مشكوك وجواز الاقتصار عليه أيضا مشكوك. ولنقدّم البحث عن هذه المسألة ثمّ نتبعها بالأوليين.

فنقول : وقع الخلاف في مقتضى القاعدة ، وأنّه هل هو الحكم بالتعيين أو التخيير؟ فذهب شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ وجماعة إلى الأوّل ، وجماعة أخرى إلى الثاني.

وقد استدلّ للأوّل بوجوه :

الأوّل : أنّ الإتيان بمحتمل التعيّنيّة وعتق العبد مبرئ للذمّة ، ويحصل العلم بالفراغ عن عهدة التكليف اليقيني ، بخلاف عتق الأمة ، فإنّ الامتثال وبراءة الذمّة وسقوط التكليف به غير معلوم ، فلا بدّ من الاحتياط وعتق العبد في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٥.

٤٥٥

المثال حتى نعلم بالفراغ عن عهدة التكليف المعلوم ، وليس الشكّ في أصل التكليف حتى يكون موردا للبراءة ، إذ المفروض أنّ وجوب عتق العبد معلوم لنا لا نشكّ فيه ، وإنّما الشكّ في مسقطيّة عتق الأمة لهذا الواجب اليقيني ، وكلّما كان الشكّ في مسقطيّة شيء للواجب في مقام الامتثال فالمرجع قاعدة الاشتغال.

وفيه : أنّ احتمال التخيير لو كان بين الأمرين اللذين بينهما جامع حقيقي ، كالمثال المزبور ، فإنّ الإنسان المملوك جامع حقيقي بين العبد والأمة ، فليس لنا إلّا العلم بتعلّق الوجوب بعتق الإنسان المملوك الجامع بين العبد والأمة ، ونقطع بأنّا لو تركنا العتق بالمرّة ولم نعتق لا العبد ولا الأمة ، خالفنا المولى قطعا ، أمّا لو أعتقنا الأمة فقد أتينا بما وصل إلينا من التكليف بالجامع وبيّن لنا من ناحية المولى ، فلو كانت في الواقع خصوصيّة العبديّة تحت إلزام المولى وكان المأمور به الواقعي هو عتق خصوص العبد دون الأمة ، فالعقاب على مخالفته عقاب بلا بيان ، فالإلزام بالخصوصيّة ، المجهول لنا مرفوع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان و «رفع ما لا يعلمون» ، لما عرفت من أنّه لا مانع من جريان البراءة في بعض أطراف العلم الإجمالي ، أي خصوص ما يوجب الضيق من أطراف العلم ، فالمقام وإن كان من قبيل الدوران بين المتباينين ـ فإنّ أحد طرفي العلم هو الإطلاق وعدم تقيّد الواجب بكونه عبدا ، والطرف الآخر هو التقييد وتقيّده بذلك ـ إلّا أنّا ذكرنا مرارا أنّ ملاك تنجيز العلم الإجمالي هو تساقط الأصول في الأطراف بالتعارض ، وإذا لم تكن الأصول متعارضة كما في المقام ـ إذ لا معنى لجريان البراءة عن الإطلاق ، فإنّ نتيجته هي التقييد والتضييق ، وهو خلاف الامتنان ـ فلا موجب للاحتياط ، لكون جريان أصل البراءة عن التقييد والإلزام بخصوصيّة الخاصّ بلا مانع ، فالواجب بضميمة الوجدان إلى الأصل

٤٥٦

ليس إلّا تحقّق طبيعيّ الإنسان المملوك ، وفي مقام الامتثال لا بدّ من القطع بسقوط ما هو معلوم الثبوت لا القطع بفراغ الذمّة عمّا هو مشكوك الثبوت ، وإلّا ففي جميع موارد الشكّ في الأقلّ والأكثر يكون الشكّ من قبيل الشكّ في مقام الامتثال ، فإنّ مسقطيّة الأكثر معلوم أمّا الأقلّ فلا.

وبالجملة ، الشكّ في مسقطيّة عتق الأمة للمأمور به الواقعي مسبّب عن الشكّ في ثبوت التكليف بخصوص عتق العبد ، فإذا رفعنا ثبوت التكليف به بالأصل ، فليس لنا شكّ بعد في الامتثال إن أعتقنا الأمة.

ومن هذا يظهر الكلام فيما لم يكن هناك جامع حقيقي عرفيّ بين الفرد المحتمل كونه عدلا والواجب في الجملة ، المردّد وجوبه بين التعيين والتخيير ، كالإطعام والصيام ، فإنّه وإن لم يكن جامع حقيقي بينهما إلّا أنّ عنوان «أحدهما» جامع انتزاعي بينهما ، وهو يمكن أن يتعلّق به التكليف ، بل حقّقنا في محلّه أنّ متعلّق التكليف في الواجب التخييري الشرعي ليس إلّا العنوان الانتزاعي ، وأنّه إذا كان هناك أمور كلّ واحد منها محصّل لغرض المولى ، فلا بدّ للمولى أن يأمر بأحد هذه الأمور لا بعينه ، لا بأحدها معيّنا ، إذ لا دخل لخصوصيّة المعيّن في ترتّب المصلحة وحصول الغرض ، فالأمر بخصوصه جزاف بلا ملاك.

ووجه الظهور : أنّ الإلزام المعلوم الثبوت حينئذ ليس إلّا لعنوان أحد الأمرين من الإطعام والصيام ، وأمّا وجوب خصوص الإطعام وتعلّق الإلزام به فغير معلوم لنا ، فنقطع باستحقاق العقاب على ترك الإطعام والصيام معا ، لكونه عقابا مع البيان ، وأمّا العقاب على ترك أحدهما بالخصوص فحيث إنّه بلا بيان ، لعدم وصول التكليف بالقياس إليه ، فمرفوع بالقاعدة ، كما أنّ الإلزام به مرفوع ب «رفع ما لا يعلمون» لكونه غير معلوم.

الثاني : أنّ مقتضى الأصل فيما احتمل كونه واجبا وعدلا هو : عدم

٤٥٧

الوجوب ، فينتج التعيين.

وفيه ـ مضافا إلى أنّ هذا الكلام لا موضوع له على ما حقّقناه في غير مقام من أنّ الواجب التخييري ليس إلّا عنوان أحدهما ـ أنّ المراد من الأصل إن كان هو البراءة عقلا أو نقلا ، فلا يجري في المقام قطعا ، إذ مقتضى البراءة عن وجوب الصيام في المثال هو التضييق على المكلّف وأنّه لا بدّ له من الإطعام ، ولا يجوز له الاقتصار على الصيام ، وهو خلاف الامتنان ، وإن كان المراد منه هو الاستصحاب ، فهو وإن كان لا يشترط كونه موافقا للامتنان فلا مانع من جريانه من هذه الجهة بأن يقال : إنّ الصيام قبل الشرع والشريعة أو في أوائل الشريعة لم يكن واجبا فالآن كما كان ، إلّا أنّه لا يثبت كون الإطعام بالخصوص تحت الإلزام ، وبدونه لا يثبت المطلوب ، إذ بعد جريان البراءة عن خصوص الإطعام ، الّذي نتيجته التخيير لا مقتضي لرفع اليد عنه إلّا مع وجود أصل حاكم عليه ، وليس إلّا الاستصحاب ، وقد عرفت أنّه مثبت غير جار.

الثالث : ما اعتمد عليه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من أنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى عناية زائدة في مقام الإثبات بأن يقول : «أطعم أو صم» وهكذا في مقام الثبوت يحتاج إلى لحاظ كون الصيام عدلا له ، وأمّا الوجوب التعييني فلا يحتاج في مقام الإثبات إلى أزيد من الأمر بنفس الواجب بأن يقول : «أطعم» وهكذا في مقام الثبوت لا يحتاج إلى أزيد من لحاظ نفس الواجب ، ومن المعلوم أنّ الإطعام في المثال ملحوظ قطعا ، وأمّا ملحوظيّة كون الصيام عدلا فمشكوكة ، والأصل عدمها ، فيستفاد من ضميمة الوجدان ـ وهو كون الإطعام ملحوظا قطعا ـ إلى الأصل ـ وهو عدم لحاظ كون الصيام عدلا له ـ أنّ الإطعام

٤٥٨

واجب تعييني (١).

وهذا الّذي أفاده تامّ متين كبرى ولكنّه لا ينطبق على المقام ، فإنّه جار فيما كان هناك أصل لفظي يستكشف من إطلاق اللفظ وعدم ذكر عدل له أنّه غير ملحوظ للواجب في مقام الثبوت أيضا بمقتضى تبعيّة مقام الثبوت لمقام الإثبات ، وأمّا في المقام ـ الّذي مفروض الكلام فيما لم يكن أصل الوجوب في الجملة مستفادا من إطلاق دليل بل كان مستفادا من دليل لفظي مجمل أو دليل لبّيّ ـ فهو غير تامّ ، إذ ـ مضافا إلى أنّ الواجب التعييني أيضا يحتاج إلى عناية زائدة ولحاظ الخصوصيّة وجعلها تحت الإلزام ـ لا أصل لهذا الأصل أصلا ، ضرورة أنّه لا يترتّب على أصالة عدم لحاظ المولى عدلا للواجب التعييني ، ولا يثبت كون الفرد الآخر بخصوصه تحت الإلزام ، فلم يكن أصل البراءة محكوما بمثل هذا الاستصحاب.

ثمّ لا يخفى أنّ الأمر ينعكس في ظرف عدم قدرة المكلّف إلّا على الإتيان بما يحتمل كونه عدلا بمعنى أنّ مورد الأصل حينئذ هو هذا الفرد المقدور المحتمل كونه عدلا لا الفرد الآخر ، إذ إجراء البراءة في الفرد الآخر يوجب الضيق ولا بدّيّة المكلّف من إتيان هذا المقدور ، وهو خلاف الامتنان ، وأمّا إجراؤها في هذا الفرد المقدور ينتج نتيجة التعيين ، فكما أنّ محتمل التعيّنيّة لو كان واجبا تعيينيّا قطعا في الواقع ، كان المكلّف في ظرف عدم التمكّن منه في سعة ولم يكن يجب عليه الإتيان بغيره كذلك أصل البراءة يقتضي حينئذ أن يكون المكلّف في سعة من ناحية هذا الفرد المحتمل كونه عدلا ، فالأصل في ظرف التمكّن من المحتمل كونه ذا عدل ينتج نتيجة التخيير ، فإنّه الّذي يوجب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٥.

٤٥٩

التوسعة في هذا الحال ، وفي ظرف عدم التمكّن منه ينتج نتيجة التعيين ، فإنّه الّذي يوجب التوسعة في هذا الحال ، كما لا يخفى. هذا كلّه في المسألة الأخيرة.

وأمّا المسألة الثانية ـ وهو ما علم جواز الاقتصار على ما يحتمل كونه عدلا ، وشكّ في أنّه من باب أنّه عدل له أو لأجل أنّه رافع لموضوعه ، كالسفر الرافع لموضوع وجوب الصوم ـ فحكمها ظهر ممّا مرّ ، إذ مع التمكّن من كلا الفردين لا تترتّب عليها ثمرة كما ذكرنا ، ومع عدم التمكّن ممّا هو واجب في الجملة كالقراءة تجري البراءة عن وجوب الائتمام المحتمل كونه أحد فردي الواجب المخيّر ، فيجوز له الاقتصار على الصلاة الفاقدة للقراءة ولا يجب عليه الائتمام.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ استفاد من إطلاق قوله عليه‌السلام : «سين بلال شين» (١) وعدم تقيّدها بكونها شينا في ظرف عدم التمكّن من الائتمام : أنّ الائتمام ليس عدلا لوجوب القراءة ، إذ لو كان عدلا له لتعيّن على بلال الائتمام ولم تكن سينه شينا مع التمكّن من الائتمام (٢).

وهذا غريب منه قدس‌سره ، فإنّ بلالا كان يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله ، في أذانه بالسين المهملة ، ومن الواضح (٣) أنّ الإمام لا يتحمّل عن المأموم التشهّد ،

__________________

(١) عدّة الداعي : ٢١ ، مستدرك الوسائل ٤ : ٢٧٨ ، الباب ٢٣ من أبواب قراءة القرآن ، الحديث ٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٣) أقول : إنّ كون سين بلال شينا كناية عن عدم صحّة مخرج الحرف ، وليس لخصوص السين والشين موضوعيّة ، وتخصيصهما بالذكر لخصوصيّة المورد ، فإنّ بلالا لم يكن له مخرج الشين ، ولذا لو لم يكن له مخرج «الضاد» أيضا لقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ «زاي» بلال ـ

٤٦٠