الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

الحرمة في الأموال وأنّ مقتضاه هو إحراز سبب الحلّ وحيثيّته في الحكم بالحلّيّة ، فيجوز على الأوّل ويحرم على الثاني.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا اندراج هذه الصغرى في تلك الكبرى على تقدير عدم وجود الحالة السابقة على ملكيّة الغير ، وعدم اندراجها فيها على تقدير وجود الحالة السابقة على ذلك.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول : قد ذكر لوجوب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة وجهان :

أحدهما : أنّ الاجتناب عن ملاقي النجس عين الاجتناب عن النجس ، وليس ملاقي النجس فردا آخر من النجس محكوما بحكم آخر غير الحكم بوجوب الاجتناب عن النجس ، بل هناك حكم واحد ـ وهو وجوب الاجتناب ـ متعلّقه هو النجس فقط لو لم يلاقه شيء آخر ، وتتّسع دائرته ويسري إلى ملاقيه أيضا على تقدير الملاقاة ، كما إذا امتزج الملاقي بالملاقى ، وجرى الاصطلاح على تسمية ذلك بالسراية.

واستدلّ على ذلك برواية الشيخ عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه أتاه رجل فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «لا تأكله» فقال الرّجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (١) إلى آخره ، بتقريب أنّ المستفاد من جعل الإمام عليه‌السلام عدم الاجتناب عن ملاقي الميتة ـ وهو الطعام الواقع فيه الفأرة ـ استخفافا بحرمة الميتة : أنّ حرمة الطعام الملاقي من جهة حرمة الفأرة الملاقاة ، وسراية نجاستها

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٠ ـ ١٣٢٧ ، الاستبصار ١ : ٢٤ ـ ٦٠ ، الوسائل ١ : ٢٠٦ ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢.

٤٢١

إليه ، ولو لا ذلك لم يكن عدم الاجتناب عن الطعام استخفافا بحرمة الفأرة ونجاستها ، بل استخفافا بحرمة الطعام فقط.

وإذا ثبت أنّ نجاسة الملاقي بالسراية وأنّها من فروع نجاسة الملاقى وشئونها ، وليس وجوب الاجتناب عن الملاقي أمرا وراء وجوب الاجتناب عن الملاقي ، فمقتضى تنجيز العلم الإجمالي بوجود النجس في البين هو : وجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى والطرف الآخر ، إذ مع عدم الاجتناب عن الملاقي لم يحصل العلم بالموافقة القطعيّة ، ولم يحرز امتثال التكليف المعلوم في البين ، فإنّ من المحتمل انطباق النجس على الملاقى ، واجتنابه على الفرض لا يحصل إلّا بالاجتناب عنه وعن ملاقيه.

وهذا الوجه غير تامّ ضرورة عدم الفرق بين الأفراد العرضيّة من النجاسة ، كفرد من الدم وفرد آخر منه ، أو فرد من البول وفرد من الدم ، والأفراد الطوليّة منها ، كفرد من البول وملاقيه وملاقي ملاقيه على القول بمنجّسيّة المتنجّس في كون كل منها موضوعا مستقلّا لحكم مستقلّ له إطاعة وعصيان ، ومن البيّن أنّ عقاب من يأكل الميتة ويشرب ملاقيها أيضا ليس مساويا لعقاب من يأكل الميتة فقط أو يشرب الماء الّذي لاقاها فقط ، بل يعاقب الأوّل بعقابين والثاني بعقاب واحد ، وهذا أقوى شاهد على أنّ الملاقي محكوم بحكم غير ما هو محكوم به الملاقى ، فمن خالف حكم الملاقي وشرب الماء الملاقي للميتة لا يؤاخذ بأنّك لم أكلت الميتة؟ وهكذا العكس.

وبالجملة ، حال ملاقي النجس في كونه فردا مستقلّا للنجس حال الثوب النجس المغسول بالماء الطاهر ، فكما أنّ الثوب النجس بعد ملاقاته للماء الكرّ الطاهر ليس من فروع الماء الطاهر ومن شئونه ، بل هو فرد من الطاهر والماء فرد آخر من الطاهر ، غاية الأمر أنّ طهارته عرضية ناشئة من طهارة الماء ،

٤٢٢

الذاتيّة ، كذلك ملاقي النجس فرد آخر من النجس ، غاية الأمر أنّ نجاسته عرضيّة ناشئة من نجاسة البول ، الذاتيّة مثلا.

والرواية ـ التي استدلّ بها على السراية ـ أجنبيّة عن المقام ، فإنّ الإمام عليه‌السلام بيّن للسائل أنّ ملاقي أيّ ميتة ولو كانت صغيرة ـ مثل الفأرة ـ حرام من جهة نجاسته ، وجعل الملازمة بين حرمة الشيء من جهة نجاسته وحرمة ملاقيه كذلك بلا فرق بين قليل النجس وكثيره ، وهكذا جعل الملازمة بين الاستخفاف بمنجّسيّة الفأرة لصغرها والاستخفاف بمنجّسيّة الميتة الكبيرة ردعا لما تخيّل السائل من أنّ الفأرة الصغيرة لا تنجّس الطعام الكثير ، وعلى هذا لا ربط له بالمقام أصلا ، كما لا يخفى.

وبعد ما اتّضح أنّ ملاقي النجس فرد آخر من النجس يتّضح اندراج المقام في تلك الكبرى الكلّيّة المذكورة ، فإنّ الاجتناب عن الملاقى لازم بواسطة سقوط الأصل ـ الجاري فيه ـ بالمعارضة ، وأمّا الاجتناب عن الملاقي فغير لازم ، ضرورة أنّه فرد آخر من النجس مشكوك الحدوث ، وليس طرفا للعلم الإجمالي ، فيجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

الوجه الثاني : أنّه يحصل لنا علم إجمالي ثان بنجاسة الملاقي ـ لكونه محكوما بحكم الملاقي واقعا إن طاهرا فطاهر ، وإن نجسا فنجس ـ أو الطرف ، فمقتضى هذا العلم الإجمالي الثاني هو لزوم الاجتناب عن الملاقي أيضا.

وأجاب عنه الشيخ ـ قدس‌سره ـ بأنّ العلم الثاني لا أثر له في التنجيز ، إذ لا بدّ في منجّزيّة العلم الإجمالي من تساقط الأصول في أطرافه بواسطة المعارضة ، وأن لا يكون التساقط في جميع الأطراف أو السقوط في بعضها مستندا إلى شيء آخر من استصحاب أو قاعدة اشتغال أو علم إجمالي سابق.

فلو كان سقوط الأصل في بعض الأطراف مستندا إلى استصحاب مثبت

٤٢٣

للمعلوم بالإجمال في هذا الطرف ـ كاستصحاب خمرية مائع علم إجمالا بخمريّته أو خمريّة مائع آخر إذا كان مسبوقا بالخمريّة ـ أو كان مستندا إلى جريان قاعدة اشتغال ـ كما في العلم الإجمالي بترك إحدى الصلاتين إمّا صاحبة الوقت أو الفائت وقتها حيث يجب الإتيان بصاحبة الوقت بمقتضى قاعدة الاشتغال ، ومن أجلها تسقط أصالة البراءة في هذا الطرف ـ أو كان مستندا إلى علم إجمالي سابق ـ كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين : الأبيض أو الأحمر ، ثمّ علمنا بعد ذلك بساعة ـ مثلا ـ بوقوع قطرة أخرى منه إمّا في خصوص الإناء الأبيض الّذي كان طرفا للعلم الإجمالي الأوّل أو إناء ثالث أسود ، حيث إنّ سقوط أصالة الحلّيّة في الإناء الأبيض مستند إلى العلم الأوّل لأجل معارضته مع الأصل الجاري في طرفه ـ لا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزا أصلا ، ضرورة أنّ دليل الأصل النافي للتكليف بعد عدم شموله لطرف من جهة أحد هذه الأمور وبعد سقوطه لا يعود ثانيا حتى يجري الأصل فيه ويعارض بجريانه في الطرف الآخر ويوجب تنجيز العلم الإجمالي.

والمقام من هذا القبيل ، إذ طرف الملاقي في العلم الثاني هو الطرف للملاقى في العلم الأوّل ، فسقوط الأصل فيه مستند إلى العلم الأوّل لا الثاني ، فلا معارض للأصل الجاري في الملاقي (١). هذا خلاصة ما أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ بتوضيح منّا.

وتفصيل الكلام في المقام : أنّ الأصل الجاري في أطراف العلم الإجمالي إمّا أن يكون أصلا واحد ، بأن كان للمعلوم بالإجمال أثر واحد ، كنجاسة أحد الثوبين ، فإنّ لها أثرا واحدا ، وهو عدم جواز الصلاة فيه ، وليس الأصل في مثله

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٥٣.

٤٢٤

إلّا أصالة الطهارة ، ولا ريب في سقوط الأصل في كلا الطرفين ، وعدم جواز الصلاة في شيء من الثوبين ، وإمّا أن يكون أكثر ، بأن كان للمعلوم بالإجمال أثران أو آثار ، وهو على قسمين ، إذ الشكّ في ثبوت بعض الآثار إمّا أن يكون في عرض الشكّ في ثبوت بعض آخر ، وحينئذ تكون الأصول الجارية أيضا بأجمعها عرضيّة ، وهذا كما إذا كان المعلوم بالإجمال هو خمريّة أحد الماءين ، فإنّ لها أثرين : عدم جواز الشرب ، وعدم جواز الوضوء ، والشكّ في أحدهما في عرض الشكّ في الآخر ، وإمّا أن يكون في طوله ، بأن كان الشكّ في أحد الأثرين مسبّبا عن الشكّ في الآخر بحيث لو ارتفع الشكّ المسبّبي يرتفع الشكّ السببي أيضا ، وهذا كما في الشكّ في نجاسة الماء وطهارته ، فإنّه سبب للشكّ في جواز شربه وعدمه ، فأصالة الحلّ أصل في طول أصالة الطهارة.

فإن كان الأصل الطوليّ في أحد طرفي العلم الإجمالي كالأصل العرضيّ معارضا بأصل طوليّ آخر ، كالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين ، فإنّ الأصول بأجمعها عرضيّة ـ كأصالة الطهارة ـ وطوليّة ـ كأصالة الحلّ ـ معارضة ، فتتساقط.

وإن لم يكن الأصل الطوليّ في بعض الأطراف معارضا بأصل طوليّ آخر ، بل لم يكن في البين إلّا أصلان عرضيّان وأصل طوليّ واحد ـ كما إذا علم إجمالا بنجاسة الثوب أو الماء ، حيث إنّ الأصل في طرف الثوب منحصر بأصالة الطهارة ، وفي طرف الماء تجري أيضا أصالة الحلّ ، التي هي في طولها ـ فهل تقع المعارضة بين خصوص الأصلين العرضيّين ، ويبقى الأصل الطوليّ سليما عن المعارض ، فيجوز في المثال شرب الماء بمقتضى أصالة الحلّ مع أنّه مشكوك الطهارة ، لأنّ جواز الشرب لا يتوقّف على إحراز الطهارة ، بل حرمة الشرب تتوقّف على إحراز موضوعها ، وهو النجاسة أو الخمريّة مثلا ، ولكن لا يجوز الوضوء به ، إذ جواز الوضوء بمعنى الحكم بصحّته يتوقّف على إحراز

٤٢٥

طهارة الماء ولو بالأصل والمفروض خلافه ، أو تقع بين الأصول بأجمعها طوليّة وعرضيّة ، فلا يجوز شرب الماء في المثال كما لا يجوز الوضوء به؟ لم تنقّح هذه المسألة في كلامهم إلّا أنّ شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ تعرّض لها والتزم بتعارض الأصول وتساقطها بأجمعها طوليّة وعرضيّة ، ولم يأت بدليل واضح دالّ على المقصود.

والحقّ في المقام أن يفصّل بين ما كانت الأصول العرضيّة متماثلة ومن سنخ واحد بأن كان دليل الجميع دليلا واحدا ، كقاعدة الطهارة ، أو الاستصحاب ، أو أصالة الحلّ كما في المثال ، فإنّ الأصلين العرضيّين في الماء والثوب كلاهما أصالة الطهارة ولهما دليل واحد ، وهو قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر» (٢) فيجري الأصل الطولي بلا معارض ، لأنّ تخصيص قاعدة الطهارة بالنسبة إلى هذا المورد مسلّم لكن عموم قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (٣) شامل للماء في المقام ولم يعلم تخصيصه ، فلا مانع من التمسّك به.

وبعبارة واضحة : مجرّد العلم الإجمالي بتكليف لا يوجب التنجّز ، بل هو بضميمة عدم شمول دليل الأصل النافي للمعلوم بالإجمال جميع الأطراف ، لكونه ترخيصا في المعصية ، ولا بعضها ، لكونه ترجيحا بلا مرجّح ، موجب للتنجّز ، وشمول قاعدة الحلّ لهذا الماء حيث لا معارض لها بالمثل لم يكن ترجيحا بلا مرجّح.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٩ ـ ٢٦١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ـ ٨٣٢ ، الوسائل ٣ : ٤٦٧ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٣) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣٩ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٨ و ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٤٢٦

وهذا ليس بعادم النظير في كلمات القوم ، بل كم له من نظير يظهر لمن تتبّع كلماتهم.

فمنها : حكمهم بطهارة ما علم إجمالا بعروض حالتين له بأن ادخل في الشطّ ولاقى البول ولم يعلم السابقة منهما ، بقاعدة الطهارة بعد تعارض الاستصحابين.

ومنها : ما ذكره صاحب الكفاية من الرجوع إلى أصالة الحلّ فيما علم بحرمته في زمان وحليّته في زمان آخر وعلم بنسخ أحد الحكمين ، بعد تعارض الاستصحابين.

ومنها : حكمهم باستصحاب نجاسة ثوب نجس غسل بأحد المائعين اللذين علم إجمالا بنجاسة أحدهما مع أنّ كلّا من قاعدة الطهارة في الأوّل وقاعدة الحلّ في الثاني والاستصحاب في الثالث أصل في طول الأصول .. (١). بالتعارض.

وبين ما كانت الأصول العرضيّة متغايرة ولم تكن من سنخ واحد بأن كان أحدها أصالة الطهارة والآخر قاعدة الحلّ ، فلا يجري الأصل الطوليّ والمسبّبي ويسقط بسقوط الأصل السببي بالمعارضة.

وهذا كما إذا علم إجمالا بنجاسة ماء أو غصبيّة لبن ، فالأصل السببي هو أصالة الطهارة في الماء ، وهي معارضة بالأصل العرضيّ الجاري في الطرف الآخر ، وهو أصالة الحلّ ، وإذا سقط الأصل السببي بالمعارضة يسقط الأصل المسبّبي ـ وهو أصالة الحلّ في الماء ـ بتبعه.

والسرّ في ذلك أنّا نعلم إجمالا بتخصيص أحد الدليلين إمّا «كلّ شيء

__________________

(١) مكان النقاط مخروم في الأصل.

٤٢٧

نظيف» أو «كلّ شيء فيه حلال» إلى آخره ، فلا يمكن التمسّك بشيء منهما.

وبعبارة أخرى : العلم الإجمالي المذكور ملازم لعلم إجماليّ ثان ، وهو العلم بحرمة اللبن من جهة كونه غصبا ، أو حرمة شرب الماء من جهة كونه نجسا ، فلا يجوز للشارع الحكم بالإباحة في كلا الطرفين ، ضرورة أنّه ترخيص في المعصية ، ولا يمكن أيضا شمول دليل الإباحة لأحدهما دون الآخر ، بداهة لزوم الترجيح بلا مرجّح ، فكما يسقط الأصل العرضي المعارض بالمثل ـ وهو أصالة الطهارة ـ بمقتضى العلم الأوّل كذلك يسقط الأصل الطوليّ ـ وهو أصالة الحلّ ـ لمعارضته بالمثل في العلم الثاني.

وهذا هو الفارق في هذا القسم والقسم الأوّل ، فإنّ الثوب في القسم الأوّل ليس من آثار نجاسته حرمة شربه أو أكله ، فلا يلازم العلم بنجاسته أو مائع علما آخر ، كما في هذا القسم ، لأنّ أثر حرمة شرب المائع منحصر بأحد الطرفين ، فلا يعارض بالمثل لا في العلم الأوّل ولا في علم آخر ملازم له ، فلا مانع من شمول قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» (١) إلى آخره ، لخصوص الماء ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ حكم الشارع بحلّيّة أحد المائعين ـ وهو الماء دون الآخر ـ من دون مرجّح في البين قبيح بأيّ لسان كان : بلسان «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر» (٢) الّذي هو ملازم لحلّيّته أيضا ، أو بلسان «كلّ شيء فيه حلال» إلى آخره ، ولا يفرّق بين تعدّد الدليل ووحدته في ذلك.

ثمّ إنّ ما ذكرنا آنفا ـ من أنّ الأصل الطولي لو كان معارضا بأصل طولي آخر يسقط كلاهما ـ مختصّ بما إذا لم يكونا مختلفين في الأثر ، كما في العلم بنجاسة أحد المائعين ، أمّا إذا كانا مختلفين في الأثر بأن كان أحدهما مثبتا للتكليف

__________________

(١) تقدّم تخريجه آنفا.

(٢) تقدّم تخريجه آنفا.

٤٢٨

والآخر نافيا ، فلا إشكال في جريان كلا الأصلين الطوليّين ، وتساقط الأصلين العرضيّين فقط ، وهذا كما إذا علم إجمالا ببطلان صلاة المغرب أو العشاء من جهة العلم بزيادة ركوع في المغرب أو نقيصة ركوع في العشاء ، فالأصلان العرضيّان ـ وهما قاعدة الفراغ في المغرب والعشاء ـ ساقطان بالمعارضة ، وأمّا الطوليّان ـ وهما استصحاب عدم زيادة الركوع في المغرب واستصحاب عدم إتيان الركوع في العشاء ـ فجاريان بلا إشكال ، فيجب الإتيان بالعشاء فقط دون المغرب.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت تلك الكبرى الكلّيّة أعني عدم تساقط الأصول طوليّة وعرضيّة ، بل تساقط العرضيّة منها فقط فيما إذا كانت الأصول العرضيّة متماثلة ومن سنخ واحد ، وتساقطها بأجمعها فيما إذا لم تكن الأصول العرضيّة متماثلة ومن سنخ واحد ، نقول في تطبيقها على ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة : إنّ الأصلين العرضيّين الجاريين في الملاقى وعدله تارة (١) يكونان متماثلين ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة ثوب أو ماء ، فإن لاقى الماء ماء آخر ، فأصل الطهارة في الملاقي بلا معارض ، إذ ليس أصل طولي في الطرف الآخر ـ الّذي هو الثوب ـ حتى يعارضه. وإن لاقى الماء الآخر الثوب ، فأصالة الطهارة في الملاقي تعارض بأصالة الحلّ في الماء ، وبعد وقوع المعارضة بين هذين الأصلين الطوليّين يتساقطان ، فلا بدّ من الاجتناب عن الملاقي ، كما يجب الاجتناب عن الملاقى وعدله بواسطة تعارض الأصلين العرضيّين.

وأمّا المقام الثاني ـ وهو ما لم يحصل العلم بالنجاسة أوّلا ـ فإن حصل العلم بالملاقاة حال حصول العلم بالنجاسة ، فذهب صاحب الكفاية إلى لزوم

__________________

(١) كذا ، حيث لم يذكر عدلها فيما بعد.

٤٢٩

الاجتناب عن الملاقي ، لكونه والملاقى معا طرفا للعلم الإجمالي (١) ، فهو نظير ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة إمّا على الثوب أو في أحد الإناءين ، وما إذا علم بفوت صلاة الصبح أو المغرب والعشاء معا.

واختار شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ عدم لزوم الاجتناب ، نظرا إلى أنّ العبرة في تنجيز العلم الإجمالي بالمنكشف لا الكاشف ، ومن المعلوم أنّ نجاسة الملاقي في رتبة متأخّرة عن نجاسة الملاقى ، فهو فرد آخر من النجاسة مشكوك الحدوث ، ولا يتوقّف الاجتناب عن المعلوم بالإجمال على الاجتناب عن الملاقي (٢).

والحقّ أن يقال : إنّ من المعلوم أنّ الاعتبار بالمعلوم والمنكشف ، كما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، لا العلم والكاشف ، ومع ذلك يختلف الحكم ، فإن كان المعلوم بأحد العلمين متأخّرا أو متقدّما عن المعلوم بالعلم الآخر بأن كانت الملاقاة متأخّرة في الواقع عن النجاسة ، لا يجب الاجتناب عن الملاقي ، كما إذا علمنا يوم الأحد بنجاسة أحد الإناءين يوم الجمعة وعلمنا في ذلك اليوم أيضا بملاقاة ثوبنا لأحدهما يوم السبت ، فظرف العلم بالنجاسة والشكّ في نجاسة أحد الإناءين والملاقى وظرف العلم بالملاقاة واحد وهو يوم الأحد ، وظرف الملاقاة يوم السبت ، وظرف النجاسة يوم الجمعة ، والعلم بنجاسة أحدهما يوم الجمعة يوجب تنجّز المعلوم في ظرفه من الآن ، فالملاقي وعدله لا إشكال في وجوب الاجتناب عن كلّ منهما ، لأنّ احتمال نجاسة كلّ منهما احتمال لانطباق النجس المعلوم في البين عليه ، والمفروض عدم اقتران هذا الاحتمال في شيء منهما للمؤمّن ، لتساقط الأصول بواسطة المعارضة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٤٣٠

وأمّا الملاقي فهو ليس طرفا للعلم وليس احتمال نجاسته احتمال انطباق النجس المعلوم عليه حتى ينجّز ويجب الاجتناب عنه ، بل احتمال لحدوث نجاسة جديدة وصيرورة النجس في البين اثنين بعد ما كان واحدا.

وبعبارة أخرى : الشكّ في نجاسة الملاقى أو الطرف الآخر شكّ في تعيين النجس الحادث قطعا ، وفي الملاقي شكّ في الحدوث ، لاحتمال ملاقاته للنجس من الإناءين ، فتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

وإن لم يكن كذلك ، بل كان أحد المعلومين مقارنا زمانا للمعلوم الآخر ، فالحقّ مع صاحب الكفاية قدس‌سره ، وأنّ الملاقي والملاقى معا يقعان طرفا للعلم الإجمالي ، ولا أثر لاختلاف الرتبة في أمثال المقام.

وهذا نظير ما إذا علمنا إجمالا ببطلان وضوء صلاة الصبح من جهة عدم المسح فيه ، الّذي هو ملازم لبطلان صلاة الصبح ومتقدّم في الرتبة عليه ، أو صلاة الظهر من جهة عدم الركوع فيها ، فكما لا شكّ في كون الوضوء وصلاة الصبح كليهما ـ مع كونهما في مرتبتين ـ طرفا للعلم ، والطرف الآخر هو صلاة الظهر ، ونسبة قاعدة الفراغ إلى كلّ منها على السواء كذلك الملاقي والملاقى ـ مع أنّ نجاسة أحدهما مسبّبة عن نجاسة الآخر وفي رتبة متأخّرة عنها ـ يكونان معا طرفا والأصل في الطرف الآخر يعارض الأصل في كلّ منهما.

والسرّ في عدم الاعتبار باختلاف الرتبة ما ذكرنا مفصّلا في بحث الضدّ من أنّ اتّحاد الشيئين في الرتبة إنّما يكون فيما إذا تحقّق ملاك الاتّحاد ، وليس جزافا ، فإنّ تأخّر شيء عن أحد شيئين متّحدين في الرتبة لا يستلزم تأخّره عن الشيء الآخر المتّحد مع الأوّل في الرتبة.

نعم ، في التقدّم والتأخّر الزماني بالخصوص كذلك ، فإنّ ملاكه السبق بالزمان ، وهو موجود في المتأخّر عن أحد شيئين متقارنين في الزمان لا محالة.

٤٣١

ومثّلنا لذلك مثالا واضحا ، وهو : أنّ العلّة في مرتبة عدم العلّة بالضرورة ، وتقدّم العلّة على معلولها بالتقدّم العلّي لا يوجب تقدّم ما هو في رتبته ـ وهو عدم العلّة ـ على المعلول أيضا ، لعدم وجود ملاك التقدّم ، وهو توقّف المتأخّر على المتقدّم. وهكذا تأخّر الابن عن الأب المتّحد مع العمّ في الرتبة لا يستلزم تأخّره عن عمّه ، لعدم توقّف وجود الابن علي العمّ أصلا.

فالملاقي وإن كان متأخّرا رتبة عن الملاقى الّذي هو في عرض الطرف الآخر إلّا أنّ تأخّره عنه لا يستلزم تأخّره عمّا هو في عرضه ـ وهو الطرف الآخر ـ أيضا ، بل الطرف الآخر كما يكون في عرض الملاقي كذلك يكون في عرض الملاقي أيضا ، فالأصل في الطرف الآخر يعارض الأصل في الملاقى والملاقي معا.

بقي الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ من التفصيل ووجوب الاجتناب عن الملاقى والملاقي معا تارة وعن الملاقى دون الملاقي أخرى ، وقد تقدّم موردهما ، وعن الملاقي فقط دون الملاقى ثالثة ، وقد ذكر لذلك موردين :

أحدهما : ما إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد المائعين اللذين أحدهما خارج عن محلّ الابتلاء ثمّ علمنا بعد ذلك بملاقاة ثوبنا مع المائع الخارج عن محلّ الابتلاء ثمّ دخل الملاقى في محلّ الابتلاء ، فحيث إنّ الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ـ وهو الملاقى ـ لا أثر لجريان الأصل فيه ما دام خارجا عن محلّ الابتلاء ، فلا يعارض الأصل في الطرف الآخر مع الأصل في الملاقي ، بل يعارضه الأصل في الملاقي ، للعلم الإجمالي الثاني بنجاسة الملاقي أو الطرف

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١١ ـ ٤١٢.

٤٣٢

الآخر ، فإذا دخل الملاقى بعد ذلك في محلّ الابتلاء ، تجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

الثاني : ما إذا علمنا ابتداء بنجاسة الثوب أو المائع ثمّ بعد ذلك علمنا بنجاسة هذا المائع أو مائع آخر لاقاه الثوب ، فحيث إنّ الملاقي كان طرفا للعلم الأوّل والأصل فيه سقط بالتعارض تجري أصالة الطهارة في الملاقى بلا معارض ، فإنّه فرد آخر من النجس شكّ في وجوده ، فيشمله «كلّ شيء نظيف» ومفروض الكلام ما إذا لم يكن لاحتمال نجاسة الملاقى سبب إلّا جهة ملاقاته.

والظاهر عدم تماميّة ما أفاده في هذين المثالين ، ووجوب الاجتناب في كليهما عن الملاقى والطرف الآخر دون الملاقي.

أمّا في المثال الأوّل : فلأنّ الأصل في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه لو لا العلم لا محذور فيه.

ودعوى أنّه لا أثر له حال خروجه عن محلّ الابتلاء ، يدفعها أنّ أثره طهارة ملاقيه ، وهذا كما في أصالة الطهارة في الماء الّذي غسلنا به ثوبنا ثمّ انعدم ، فإنّ أثرها هو طهارة الثوب ، وهكذا استصحاب نجاسة الماء المنعدم الّذي علمنا بنجاسته قبل ساعة ثمّ احتملنا طهارته ، لإصابة المطر إيّاه ، فإنّ أثره نجاسة ملاقيه.

وبالجملة ، يكفي في جريان الأصل أن لا يكون التعبّد به لغوا ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك ، فإذا كانت أصالة الطهارة في الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه بلا مانع لوجود الأثر له وهو طهارة ملاقيه ، وهكذا الأصل جار في الطرف في نفسه والمانع ليس إلّا العلم الإجمالي ، فيتعارض الأصلان في الملاقى والطرف ويتساقطان ، ويبقى الأصل في الملاقي بلا معارض ، فلا يلزم

٤٣٣

الاجتناب عنه ، بل يجب الاجتناب عن الملاقى وطرفه.

نعم ، لو فرضنا في مورد عارض الأصل في الملاقي أصلا طوليّا آخر في الطرف من أصالة الإباحة أو غيرها ، يجب الاجتناب من هذه الجهة.

وأمّا في المثال الثاني : فإنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى مبنيّ على مبناه ـ قدس‌سره ـ من أنّ المناط في التنجيز على الكاشف والعلم لا المعلوم والمنكشف (١) ، وقد عرفت عدم تماميّته ، وأنّ العبرة بالمنكشف والمعلوم ، وذكرنا أنّ الميزان في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على المشكوك حدوثا وبقاء ، وأمّا إذا كان الشكّ في التكليف وفي كون شيء نجسا مثلا شكّا في انطباق النجس المعلوم في البين عليه حدوثا ولكنّه انقلب بقاء إلى الشك في أصل حدوث التكليف وتجدّد فرد آخر من النجس غير ما كان موجودا أو مردّدا بين شيئين ، فلا يكون مثل هذا الشكّ منجّزا ولو كان طرفا للعلم الإجمالي.

ومثّلنا له مثالا واضحا ، وهو : أنّا إذا علمنا بوقوع قطرة من البول في الساعة الأولى من النهار في أحد الإناءين : الأبيض أو الأسود ، ثمّ علمنا في الساعة الثانية بأنّ قطرة أخرى من البول وقعت في الإناء الأبيض أو إناء ثالث قبل وقوع القطرة الأولى ، فالإناء الأسود وإن كان طرفا للعلم الإجمالي الأوّل الّذي كان منجّزا حدوثا وكان الشكّ في نجاسته شكّا في الانطباق إلّا أنّه لا يجب الاجتناب عنه ، لانقلاب الشكّ في نجاسته من الشكّ في الانطباق إلى الشكّ في أصل حدوث التكليف ، لانحلال العلم الأوّل بواسطة العلم الثاني المتقدّم معلومه ومنكشفة عنه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٨.

٤٣٤

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ العلم الثاني ـ وهو العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف ـ وإن كان متأخّرا عن العلم الأوّل ـ وهو العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر ـ إلّا أنّ تقدّم معلومه عنه يوجب انحلال العلم الأوّل وانقلاب الشكّ في نجاسة الملاقي من الشكّ في الانطباق إلى الشكّ في أصل حدوث التكليف وتجدّد فرد آخر من النجس ، فلا يلزم الاجتناب عنه.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى بلا وجه ، بل إمّا يجب الاجتناب عن الملاقى والطرف والملاقي ، أو يجب الاجتناب عن الملاقى والطرف دون الملاقي.

المقام الثاني : في الأقل والأكثر الارتباطيّين ، ويقع البحث في مقامين :

الأوّل : في المركّب الخارجي وما يكون له أجزاء خارجيّة ، كالصلاة.

الثاني : في المركّب الانحلالي العقلي الّذي لا أجزاء خارجيّة له وإنّما العقل يحلّل ، فيقول : إنّ عتق مطلق الرقبة ـ الّذي هو بمنزلة الجنس ـ واجب قطعا ، والتقييد بخصوصية الإيمان ـ الّذي هو بمنزلة الفصل له ـ مشكوك الوجوب مثلا.

ثمّ إنّ البحث في المقام الأوّل أيضا يقع في جهتين :

الأولى : في جريان البراءة العقليّة وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعدمه.

الثانية : في جريان البراءة الشرعيّة من «رفع ما لا يعلمون» وغيره.

أمّا الجهة الأولى من المقام الأوّل : فقرّب شيخنا الأنصاري (١) ـ قدس‌سره ـ جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بأنّ الأقلّ وما عدا السورة ـ مثلا ـ متيقّن الوجوب ، فإنّ الواجب الواقعي لو كان هو الأقلّ ، فوجوبه نفسيّ ، وإن كان

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٦٢ و ٢٧٢ ـ ٢٧٥.

٤٣٥

الأكثر ، فوجوبه غيريّ ، فمن ناحية الأقلّ ـ وهو ما عدا السورة مثلا ـ نقطع باستحقاق العقاب على تركه ، ضرورة أنّ العقاب مع البيان ، وأمّا لو كان ترك الصلاة من ناحية السورة ، فحيث إنّ وجوبها غير معلوم وغير مبيّن ، فالعقاب على تركها من هذه الجهة عقاب بلا بيان.

وما أفاده غير تامّ ، فإنّه يتوقّف على كون الأجزاء الداخليّة معروضة للوجوب الغيري (١) ، وهو ـ مضافا إلى أنّه خلاف التحقيق ـ يخالف مبناه ـ قدس‌سره ـ أيضا ، فإنّ وجوب الجزء ليس إلّا حصّة من الوجوب النفسيّ المنبسط على الأجزاء ، بداهة أنّ كلّ جزء منضمّا إلى سائر الأجزاء عين الكلّ ، لا أنّه شيء مغاير له ومقدّمة لتحقّقه حتى يتّصف بالوجوب الغيري.

وبالجملة ، الفرق بين المركّب والأجزاء إنّما هو اعتباريّ محض ، وليس للأجزاء وجود منحاز عن وجود المركّب وممّا يتوقّف عليه وجود المركّب حتى يعرضه الوجوب الغيريّ ، فالأمر الواحد الشخصيّ المتعلّق بالمركّب بعينه متعلّق بكلّ جزء جزء من أجزاء المركّب ، وبتعبير بعض مشايخنا المحقّقين هو كالخيمة المضروبة على رأس جماعة.

فالأولى في التقريب أن يقال : إنّ تعلّق هذا الأمر الواحد البسيط بما عدا

__________________

(١) أقول : يمكن أن يقال : إنّ مراده ـ قدس‌سره ـ من الغيري هو الضمني ـ كما عبّر به بعضهم ـ أي النفسيّ الضمني في قبال النفسيّ الاستقلالي. وعليه لا يرد ما في المتن.

نعم ، يبقى إشكال آخر ، وهو : أنّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسيّ الاستقلالي ، وما انحلّ إليه العلم الإجمالي من الوجوب والشكّ البدوي هو الجامع بين الاستقلالي والضمني ، والاتّحاد بين المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصيل معتبر ، إلّا أن يقال : لا وجه لاعتبار هذا الاتّحاد ، وعليه لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ ـ الدائر بين كونه نفسيّا استقلاليّا ونفسيّا ضمنيّا ـ والشكّ البدوي. (م).

٤٣٦

السورة من الأجزاء متيقّن ، بمعنى أنّ كون ما عدا السورة معروضا للوجوب النفسيّ قطعيّ ، فترك الصلاة من جهة ترك ذلك حيث إنّ التكليف بالإضافة إليه ـ أي ما عدا السورة ـ منجّز ، لوصوله إلى العبد ، فالعقاب عليه عقاب مع البيان. وأمّا ترك الصلاة من جهة ترك السورة ومخالفة هذا الأمر الواحد على تقدير تعلّقه في الواقع بالأكثر حيث إنّه غير مستند إلى العبد ، فإنّه لم يقصّر في وظيفته من الفحص والبحث وإعمال الجهد ، وإنّما هو مستند إلى المولى ، ضرورة أنّ بيان أجزاء المركّب على الشارع ومن وظيفته ، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان وقبيح من المولى الحكيم.

وقد أورد على ذلك بوجوه :

منها : ما أفاده في الكفاية بتقريبين :

أحدهما : أنّ انحلال العلم الإجمالي بتعلّق التكليف إمّا بالأقلّ أو الأكثر إلى العلم التفصيليّ بتعلّقه بالأقلّ والشكّ البدويّ في تعلّقه بالأكثر مستلزم للخلف ، فإنّه يتوقّف على تنجّز التكليف على كلّ تقدير ، ومن التقادير تنجّز التكليف بالإضافة إلى الأكثر ، وله ـ أي الانحلال ـ لازم ، وهو : عدم تنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر من جهة جريان البراءة فيه ، ولا يعقل أن يكون لازم الشيء عدم علّته ، ضرورة أنّ فرض وجود الشيء ـ وهو الانحلال ـ فرض وجود علّته ـ وهو تنجّز التكليف على كلّ تقدير حتى بالإضافة إلى الأكثر ـ فإذا فرضنا أنّ لازمه ـ وهو عدم تنجّز التكليف على كلّ تقدير ـ هو عدم علّته ، فهو خلف محال.

الثاني : أنّه يلزم من وجود الانحلال عدمه ، حيث إنّه يتوقّف على تنجّز التكليف على الإطلاق ، والمفروض أنّ لازمه عدم التنجّز على الإطلاق ، الّذي

٤٣٧

هو مساوق لعدم الانحلال (١).

وهذا الإشكال بكلا تقريبيه واضح الدفع ، بداهة أنّ الانحلال لا يتوقّف على تنجّز التكليف على كلّ تقدير ، بل يتوقّف على فعليّة التكليف على كلا التقديرين : على تقدير تعلّقه بالأقلّ ، وعلى تقدير تعلّقه بالأكثر ، ولازم الانحلال إنّما هو تنجّز التكليف بالإضافة إلى الأقلّ دون الأكثر ، فلا خلف ولا لزوم عدم الانحلال من فرض وجوده.

ومنها : ما يظهر من كلام بعض في بحث مقدّمة الواجب من أنّ التفكيك في التنجّز بين أجزاء المركّب الارتباطيّ الّذي تعلّق به أمر واحد شخصي وكون التكليف منجّزا بالإضافة إلى الأقلّ وغير منجّز بالقياس إلى الأكثر غير معقول ، فإنّ بين الأجزاء ملازمة في الواقع من حيث ثبوت التكليف وسقوطه ، فإن ثبت يثبت للجميع ، وإن سقط يسقط عن الجميع ، فلا معنى لتنجّز التكليف بما عدا السورة وعدم تنجّزه بالسورة ، إذ ترك السورة ملازم في الواقع لترك ما عداها على تقدير تعلّق التكليف بالأكثر ، ونحتمل من تركها ترك الصلاة من رأس.

والجواب : أنّ التنجّز لو كان بحكم الشرع ، لكان الأمر كما ذكر ، لكنّه ليس كذلك ، بل هو بحكم العقل ، فإنّ العقل بعد ما اعتبر المولى الفعل على ذمّة العبد ووصل إليه يرى أنّ العقاب على مخالفته حسن لا قبح فيه ، وإذا لم يصل إليه بعد فحصه وإعمال جهده يرى قبح العقاب على مخالفته ، لكونه بلا بيان وبلا حجّة وبرهان. ففي المقام لو كانت مخالفة أمر «صلّ» من ناحية الركوع والسجود مثلا ، فحيث إنّ تعلّق الأمر النفسيّ به معلوم ولا عذر للعبد في تركه ، فالعقاب عليها عقاب مع البيان ولا قبح فيه ، وأمّا لو كانت من جهة ترك السورة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٣.

٤٣٨

التي لم يصل إليه وجوبها وتعلّق الأمر بها من المولى بعد فحصه وبحثه فالعقاب عليها عقاب بلا بيان.

وبعبارة أخرى : وحدة الإيجاب الّذي هو فعل المولى لا تلازم وحدة حكم العقل في مرحلة الامتثال ، فإنّه تابع لموضوعه ، وهو الوصول وعدم الوصول ، فكلّما تحقّق موضوع حكمه يحكم ، وحيث إنّ تعلّق التكليف الواحد بما عدا السورة معلوم وواصل إلى العبد ، فالعقل يحكم بعدم قبح العقاب على ترك الصلاة من ناحية ما عدا السورة وتعلّقه بالسورة مشكوك وغير واصل إليه ، فيحكم بقبح العقاب على الترك من ناحية السورة.

ومنها : ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من أنّ المتيقّن في المقام ليس هو الأقلّ بمعنى الطبيعة المطلقة من حيث وجود السورة وعدمه ، فإنّها أيضا مشكوكة لا يعلم تعلّق الأمر بها أو بالطبيعة المقيّدة بالسورة ـ واحتمال كون أحد طرفي العلم تعلّق التكليف بالطبيعة المقيّدة بعدم السورة بحيث يكون وجودها مخلا خارج عن محلّ الكلام ، وسيجيء الكلام فيه ـ بل المتيقّن هو الطبيعة المهملة التي هي في قوّة الجزئيّة الجامعة بين المطلقة والمقيّدة. وبعبارة أخرى : الجامع بين الخصوصيّتين : خصوصيّة اللّابشرطيّة والبشرطشيئيّة ، ولا معنى للانحلال إلى الطبيعة المهملة ، فإنّها عين العلم الإجمالي ، إذ لا معنى له إلّا أنّ المعلوم من التكليف أمر مهمل مردّد بين أمرين وخصوصيّتين كلّ منهما مشكوك ، فيلزم انحلال العلم الإجمالي إلى نفسه.

ثمّ أيّد ـ قدس‌سره ـ ذلك بأنّ الشكّ في المقام شكّ في السقوط الّذي هو مورد الاشتغال ، لا في الثبوت الّذي هو مورد للبراءة ، فإنّ المكلّف بعد إتيانه ما عدا السورة يشكّ في سقوط التكليف المعلوم ، لاحتمال كون المقيّد هو المأمور

٤٣٩

به (١). هذا ملخص ما أفاده في المقام.

أقول : ما أفاده من أنّ المتيقّن هو الجامع بين الطبيعة المأخوذة لا بشرط من السورة والمأخوذة بشرط شيء متين جدّاً إلّا أنّه لا مانع من انحلال العلم الإجمالي ، إذ الطبيعة المهملة قابلة للعصيان والإطاعة قطعا ، ضرورة أنّا نعلم باستحقاق العقاب على ترك الصلاة بترك ما عدا السورة من الأجزاء وبعدم الإتيان بالصلاة رأسا ، لا الأجزاء المقيّدة بالسورة ولا الخالية عنها ، لتماميّة البيان والحجّة بالقياس إلى هذا الجامع ، فلا عذر في تركه.

وأمّا الخصوصيّة البشرطشيئيّة فحيث لم تصل إلى العبد فترفعها قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والخصوصيّة اللابشرطيّة وإن كانت أيضا مشكوكة إلّا أنّها لا معنى للبراءة عنها ، إذ دليل البراءة يرفع الكلفة والضيق ، ويجعل المكلّف في سعة من المشكوك بحيث يكون أمر فعله وتركه بيده ، والإطلاق المشكوك في المقام لا ضيق فيه ولا كلفة ، بل هو ـ كما مرّ غير مرّة ـ رفض القيود ، فلو كان المأمور به في الواقع هو المأخوذ لا بشرط ومطلقا ، فيكون المكلّف في سعة وفسحة من ناحية السورة ، ويكون أمر فعلها وتركها بيده ، فأيّ معنى لجريان البراءة فيه؟

والحاصل : أنّ كلّا من الخصوصيّتين وإن كان مشكوكا كالنجس المعلوم في البين بين الإناءين المشكوكة خصوصيّة كلّ منهما في المردّد بين المتباينين إلّا أنّه فرق بين المقامين ، فإنّ كلّا من الخصوصيّتين هناك فيه كلفة وضيق قابل في نفسه للرفع بدليل البراءة ، بخلاف المقام ، بداهة أنّ إحدى الخصوصيّتين ـ وهي خصوصيّة اللابشرطيّة ـ لا ضيق فيها أصلا ، فلا معنى لجريان البراءة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٤٤٠