الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

صورة حدوث التكليف والعلم به بعد تحقّق الاضطرار.

والسرّ في ذلك أنّ الاضطرار لا يحتمل تعلّقه بالنجس فضلا عن أن يكون مقطوعا ، فالتكليف بوجوب الاجتناب عن النجس فعليّ منجّز ، وليس النجس الواقعي موردا للاضطرار حتى يسقط به ، بل مورد الاضطرار هو المائع الطاهر ، وهل يتوهّم أحد ـ في فرض تميّز النجس عن الطاهر ـ جواز شرب النجس بدعوى تعلّق الاضطرار بأحدهما؟ فإذا كان التكليف فعليّا ولا يحتمل سقوطه والمفروض أنّ المكلّف لا يميّز النجس عن الطاهر حتى يرفع اضطراره بشرب الطاهر ويجتنب عن النجس ولا بدّ له من شرب أحدهما المحتمل انطباقه على النجس ، فليس (١) للمولى أن يرخّص في شرب كلّ منهما ، فإنّه ترخيص في المعصية ، وهو قبيح ، كما ليس له أن لا يرخّص في شيء منهما ، وإلّا يموت المكلّف عطشا ، فلا بدّ له من الترخيص في شرب أحدهما فقط ، فإن صادف الطاهر ، فهو ، وإن صادف النجس ، فلا محذور في ترخيصه ، كما لا محذور في ترخيصه في الاقتحام في الشبهات البدويّة لو صادفت الحرام الواقعي ، وقد ذكرنا أنّ أدلّة الأصول في نفسها لا مانع من شمولها لبعض الأطراف ، ولا يلزم من شمولها له محذور عقلي ، وقلنا : إنّ المانع في مقام الإثبات هو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، فإذا فرض في مورد وجود المرجّح لبعض دون بعض ، فدليل الأصل يشمله لا محالة ، ودليل الاضطرار مرجّح في المقام.

وبالجملة ، لا فرق في المقام بين الصّور أصلا ، والتكليف في جميعها منجّز ، كما إذا لم يكن اضطرار في البين ، غاية الأمر أنّ العلم في المقام منجّز في بعض الأطراف ، وفي مورد عدم الاضطرار منجّز في جميع الأطراف.

__________________

(١) جواب لقوله : فإذا كان ...

٤٠١

وبذلك اتّضح أنّ الاضطرار إلى بعض غير المعيّن موجب للتوسّط في التنجيز لا التكليف.

وبعبارة أخرى : أنّ الاضطرار مقتض لكون المقام واسطة بين موارد الشبهات البدويّة وموارد العلم الإجمالي غير المقرونة بالاضطرار ، فإنّ التكليف غير منجّز في موارد الشبهات البدويّة مطلقا ، وفي موارد العلم الإجمالي غير المقرونة بالاضطرار منجّز مطلقا ، وفي جميع الأطراف وفي المقام منجّز في بعض الأطراف غير منجّز في الآخر ، نظير تنجّز التكليف بالأقلّ دون الأكثر ، بمعنى أنّ مخالفة التكليف لو كانت مستندة إلى ما رخّصه الشارع في ارتكابه ـ وهو جميع الأطراف ـ يستحقّ العقاب عليها ، كما أنّ ترك الصلاة لو كان مستندا إلى ترك السورة المشكوك وجوبها ، لا يعاقب عليه ، ولو كان مستندا إلى ترك الركوع والسجود وغير ذلك ممّا تيقّن وجوبه ، يستحقّ عليه العقاب ، لا أنّه مقتض لكون المقام واسطة بين الشبهات البدويّة وموارد الاضطرار إلى المعيّن بعد العلم الإجمالي ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره.

ولمزيد التوضيح نقدّم مقدّمة ، وهي أنّ الحكم الإلزاميّ ـ وجوبيّا كان أو تحريميّا ـ كما يثبت لمطلق الوجود تارة وصرف الوجود أخرى ـ ومثّلنا سابقا للحكم التحريمي ، الثابت لصرف الوجود بمعنى أوّل الوجودات وناقض العدم ـ كذلك الحكم الترخيصي أيضا ـ سواء كان الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب ـ يتصوّر ثبوته لمطلق الوجود ولصرف الوجود.

ومثال ثبوته لصرف الوجود : كما إذا أذن أحد لأحد دخول داره مرّة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧١.

٤٠٢

واحدة ، فصرف وجود الدخول مأذون فيه ومباح ، وأمّا الوجود الثاني والثالث فغصب وحرام ، ولا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري ، فكما أنّ الترخيص الواقعي يمكن تعلّقه بصرف الوجود ومطلق الوجود كذلك الترخيص الظاهري يمكن تعلّقه بمطلق الوجود وصرف الوجود.

وبعد ثبوت هذه المقدّمة نقول : ذكرنا سابقا أنّ تنجيز العلم الإجمالي متوقّف على تساقط الأصول في أطرافه وأنّها غير جارية في بعضها ، للزوم الترجيح بلا مرجّح ، وذكرنا آنفا أنّ دليل «رفع ما اضطرّوا إليه» مرجّح في المقام ، لأنّ المكلّف يضطرّ إلى شرب الماء الطاهر ، وحيث لا يميّزه عن النجس لا يمكنه القطع بالموافقة ، المسبّب عن الجمع في الترك ، لوقوعه في الضرر ، فيتنزّل العقل من الموافقة القطعيّة إلى الموافقة الاحتماليّة. ومنشأ التنزّل هو ترخيص المولى في ارتكاب بعض الأطراف لرفع الاضطرار ، ومن المعلوم أنّ الاضطرار يرتفع بصرف الوجود ، فلا محالة يكون الترخيص متعلّقا بصرف الوجود ، وبما أنّ المضطرّ إليه واقعا ليس إلّا خصوص الماء الطاهر كما عرفت ، وصرف الوجود ليس بمضطرّ إليه واقعا ، وإنّما يرفع به الاضطرار ، لا أنّه مصداق للمضطرّ إليه ، فالترخيص ظاهري لا واقعي ، ضرورة أنّ مجرّد الاختيار لا يوجب صيرورة ما يختاره المكلّف ـ وهو أوّل الوجودات ـ لرفع اضطراره مضطرّا إليه واقعا ، فإنّ رفع الاضطرار به غير تعلّق الاضطرار به بالخصوص حقيقة ، وما يسقط التكليف ويكون من حدوده وقيوده هو الثاني دون الأوّل ، وليس الاختيار أيضا من أحد مسقطات التكليف ـ كالاضطرار ـ حتى يكون ما اختاره مباحا واقعا.

فما أفاده صاحب الكفاية ـ من كون أحدهما مباحا واقعا ـ وهو ما يختاره

٤٠٣

المكلّف لرفع اضطراره ـ ينافي القول بأنّ التكليف معلوم (١) ـ غير تامّ.

وهكذا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من أنّ ما يختاره المكلّف مصداق للمضطرّ إليه ، فالترخيص واقعيّ ، والاضطرار مقتض للتوسّط في التكليف ، لعدم العلم بفعليّته على كلّ تقدير ، بل فعليّ على تقدير انطباقه على غير ما يختاره المكلّف ، وساقط على تقدير انطباقه على ما يختاره المكلّف (٢) ـ غير تامّ أيضا ، كما هو واضح لا يخفى.

فلا يقاس المقام بالاضطرار إلى البعض المعيّن الّذي كان الطرف المضطرّ إليه مباحا واقعا ، لكونه مصداقا للمضطرّ إليه واقعا ، لا أنّه يرفع به الاضطرار ولكنّه لا يعلم أنّه مصداق للمضطرّ إليه واقعا ، لعدم التمييز بين الطاهر والنجس ، كما في المقام ، ولذا يكون الترخيص فيه واقعيّا ، بخلاف المقام ، حيث إنّ الترخيص فيما يختاره المكلّف ـ كما عرفت ـ ظاهري لا واقعي.

وقاس شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ المقام بالاضطرار إلى المعيّن ، وبعد ما أفاد من أنّ التوسّط توسّط في التكليف لا التنجيز أورد على نفسه سؤالا ، وهو : أنّه ما الفارق بين المقامين مع إباحة بعض الأطراف واقعا؟ وما الموجب لجريان البراءة في الطرف غير المضطرّ إليه في الاضطرار إلى المعيّن ، وعدم جريانها في المقام مع أنّ ملاك جريان الأصل ـ وهو عدم العلم بالتكليف ، لاحتمال انطباق ما هو معلوم بالإجمال على الطرف الّذي هو مباح واقعا ، لتعلّق الاضطرار به ـ مشترك فيهما؟

ثمّ أجاب عنه : بأنّ الاضطرار في صورة تعلّقه بالمعيّن بنفسه مسقط للتكليف ، فيرجع الشكّ في الطرف الآخر إلى الشكّ في أصل ثبوت التكليف ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٤٠٤

لا إلى بقائه بعد حدوثه ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الاضطرار ليس مسقطا للتكليف ، لعدم تعلّقه بالنجس ، وإنّما المسقط للتكليف هو اختيار المكلّف ، فالتكليف قبل اختياره لأحد الفردين ثابت ، وبعد اختياره أحدهما يسقط واقعا على تقدير انطباقه على ما اختاره ، ويبقى على تقدير انطباقه على الآخر ، فالشكّ في التكليف في الطرف الآخر شكّ في السقوط بعد الثبوت ، نظير تحقّق الاضطرار بعد العلم ، لا أنّه شكّ في أصل الثبوت ، فلا يكون موردا للبراءة (١).

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّ الترخيص ظاهري لا واقعي.

وثانيا : لو سلّم كون الترخيص واقعيّا ، لا بدّ من الالتزام بالبراءة في الطرف الآخر كالاضطرار إلى المعيّن ، ولا مدفع عن الإشكال ، إذ لا يعقل أن تكون الحرمة الواقعيّة مغيا باختيار المكلّف ، وأيّ فائدة في النهي عن الشيء الّذي يصير مباحا باختياره وارتكابه؟ فلا يمكن القول بحرمة ما يختاره قبل اختياره ، بل لا بدّ من القول بإباحته من أوّل الأمر ، وإذا كان كذلك ، فليس الشكّ في الطرف الآخر شكّا في السقوط بعد الثبوت ، بل الشكّ يكون شكّا في أصل ثبوت التكليف ، لاحتمال انطباقه على ما يختاره الّذي يكون مباحا.

هذا تمام الكلام في الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريميّة ، ويجري في الشبهة الوجوبيّة ما جرى في الشبهة التحريميّة حرفا بحرف ، ولا فرق بينهما أصلا إلّا أنّ المرخّص فيه في الشبهة التحريميّة في صورة الاضطرار بأحدها لا بعينه ـ كما عرفت ـ أوّل الوجودات ، وفي الشبهة الوجوبيّة آخرها ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى إفطار يوم من شهر رمضان لا بعينه ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٤٠٥

فلا بدّ أن يختار آخر الشهر ، لعدم تحقّق الاضطرار قبل ذلك ، فلا مجوّز للإفطار في سوى اليوم الأخير.

الأمر السابع : ذكر شيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره ـ أنّ من شرائط تأثير العلم الإجمالي في الشبهات التحريميّة أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال قابلا للدعوة في كلّ طرف على تقدير ثبوته فيه بأن يكون جميع الأطراف موردا للابتلاء ، إذ لو كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء ولم يكن التكليف على تقدير ثبوته فيه قابلا للدعوة ، لم يتعلّق العلم بتكليف فعليّ على كلّ تقدير ، فإنّ من المحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف الّذي هو خارج عن محلّ الابتلاء وغير مقدور له عادة ، ولم يقبل النهي عنه ، لكونه متروكا بنفسه ولو لم ينه عنه المولى أصلا ، ومع هذا الاحتمال لم يعلم إلّا بتكليف فعليّ على تقدير انطباقه على مورد الابتلاء ، وغير فعليّ مشروط بحصول الابتلاء به على تقدير انطباقه على الخارج عن الابتلاء ، ومثل هذا العلم لا يكون منجّزا (١).

وأفاد صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ في هامشها ما حاصله : أنّ عدم الخروج عن الابتلاء كما هو شرط في تأثير العلم الإجمالي في الشبهات التحريميّة كذلك شرط في تأثير العلم الإجمالي في الشبهات الوجوبيّة أيضا ، فإذا فرضنا أنّ الفعل في بعض الأطراف في الشبهات الوجوبيّة حاصل بنفسه بمعنى أنّه يصدر من المكلّف ولو لم يتعلّق به إلزام من المولى أصلا ، فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزا ، وذلك لأنّ ملاك عدم التنجيز ـ وهو عدم قابليّة بعض الأطراف للتكليف ـ موجود في المقام ، ضرورة أنّ كلّ ما لم يكن مقدورا للمكلّف عادة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٥٠.

٤٠٦

فعلا أو تركا وكان بحيث يتحقّق في الخارج ولو لم يأمر أو ينه عنه المولى لم يكن قابلا للتكليف ، وكان توجيه الخطاب إليه لغوا (١).

واختار شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ ما اختاره شيخنا الأنصاري أعلى الله مقامه ، وأفاد في وجه ذلك : أنّه في التكاليف التحريميّة حيث إنّ المطلوب هو الترك وعدم وجود مفسدة ملزمة في الخارج ، فإذا كان الفعل غير مقدور للمكلّف كالنظر إلى الجارية المختصّة بالملك لمن كان بعيدا عنها بمراحل ولا يقدر عادة على الوصول إليها ، كان متروكا لا محالة ، وليس الترك مستندا إلى إرادته واختياره ، فلا يكون قابلا لتعلّق التكليف به ، فإنّه طلب لما هو حاصل.

وأمّا في التكاليف الإيجابيّة فحيث إنّ المطلوب هو الفعل الاختياري وهو لا يصدر إلّا عن إرادة واختيار ، يصحّ تعلّق التكليف به ولو لم يرغب المكلّف إلى تركه بحسب طبعه ولو لم يكن إيجاب من المولى ، كالإنفاق على الولد العاجز عن تحصيل معاشه مع التمكّن ، ففرق بين المقامين ، ولا يقاس الشبهات الوجوبيّة بالشبهات التحريميّة في ذلك.

ثمّ فرّع ـ قدس‌سره ـ على ذلك أنّ كلّ ما كان مستندا إلى اختيار المكلّف فعلا أو تركا قابل لتعلّق الإلزام به إذا كان له مصلحة أو مفسدة ملزمة ، إذ لا يشترط في صحّة التكليف بمثله إلّا إمكان الداعويّة والزاجريّة لا فعليّتهما (٢).

والتحقيق في المقام أنّ هذا الشرط ليس بشرط لتأثير العلم الإجمالي على الإطلاق ، فإنّ الخارج عن محلّ الابتلاء فعلا أو تركا لو كان خارجا عن تحت اختياره عقلا ـ بأن كان محالا ذاتيّا أو عاديّا ، كالطيران إلى السماء ، فإنّه وإن كان ممكنا بالذات إلّا أنّه محال عادة ، والمحال العادي محال عقلي بالقياس إلى غير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٠ (الهامش).

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

٤٠٧

القادر إلى تحصيل مقدماته ـ فلا ينبغي الشكّ في عدم تأثير العلم الإجمالي الّذي كان بعض أطرافه كذلك ، كما إذا كانت الجارية المختصّة بالملك طرفا للعلم الإجمالي بحرمة النّظر بالنسبة إلى من لا يقدر إلى الوصول إليها بوجه من الوجوه.

وأمّا لو كان تحت اختياره بحيث يمكنه الفعل والترك عقلا ولو بتحمّل المشاقّ وتهيئة مقدّمات كثيرة ، فلا وجه لعدم تنجيز العلم الإجمالي بمجرّد كون بعض أطرافه خارجا عن محلّ ابتلائه ، فإنّ كلّ ما كانت فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك من الفعل والترك وكان مقدورا للمكلّف عقلا لا مانع من تعلّق التكليف به.

وما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من أنّ ترك النّظر إلى الجارية المذكورة حاصل بنفسه ، غير مستند إلى إرادة المكلّف ـ ليس له معنى محصّل بعد فرض كونه مقدورا له عقلا وكان له أن يفعل ، بل الترك مستند إلى عدم إرادته واختياره.

وكيف كان لا وجه لاعتبار القدرة العاديّة في متعلّق التكليف بدعوى أنّ غير المقدور عادة متروك أو حاصل بنفسه ، فلا يحسن توجيه الخطاب إليه ، إذ لو تمّ ذلك لجرى في جميع ما هو متروك أو حاصل بنفسه من الواجبات والمحرّمات التي تكون كذلك ممّا لا يرغب إليه كثير من الناس ، فلا بدّ أن لا يحسن التكليف بحرمة أكل الابن (١) ، ضرورة أنّه متروك بنفسه ولا يرغب إليه كثير من الناس بل كلّهم إلّا أقلّ قليل منهم ، وأن لا يحسن التكليف بحرمة أكل العذرة وسائر ما لا يرغب إليه أحد وأن لا يحسن التكليف بوجوب الإنفاق ـ مع

__________________

(١) كذا ، والتأبين : أن يفصد العرق ويؤخذ دمه فيشوى ويؤكل. لسان العرب ١ : ٥٣ «أبن».

٤٠٨

التمكّن ـ إلى الابن غير القادر على تحصيل معاشه ، بداهة أنّ الأب يفعله ولو لم يأمر به المولى.

والدليل على ذلك أنّ الأوامر والنواهي مطلقة بالنسبة إلى القادر وغيره عقلا أو عادة ، خرج منهما غير القادر عقلا ، لقبح توجيه الخطاب إليه من المولى الحكيم قطعا ، وأمّا غير القادر عادة فلا قبح في توجيه الخطاب إليه.

توضيح ذلك : أنّ التكليف ليس إلّا اعتبار أنّ العبد محروم من الفعل أو أنّه على ذمّته وعهدته كالدّين ، ولذا أطلق على الصلاة الواجبة الدّين في بعض الروايات من «أنّ دين الله أحق أن يقضى» (١) في قبال سدّ الطريق أو إلجاء العبد إلى الفعل تكوينا ، كما أنّ الترخيص اعتبار أنّ العبد مطلق العنان بالقياس إلى الفعل والترك في قبال إطلاق العنان تكوينا ، فإذا كان الفعل غير مقدور للعبد عقلا ولم يكن أمره بيده بحيث إن شاء فعل ولو بتحمّل مشاقّ كثيرة وإن شاء ترك كذلك ، يلغو اعتبار كونه على ذمّته أو كونه محروما منه ، كما يلغو اعتبار أنّه مطلق العنان بالقياس إليه ، فليس للمولى الحكيم الأمر بالطيران إلى السماء أو النهي عنه أو الترخيص فيه ، وأمّا إذا كان مقدورا له وتحت اختياره عقلا ـ سواء كان فاعلا أو تاركا له ، لعدم رغبته إليه ، أو كونه شاقّا عليه ، أو منافيا لجاهه وشرفه ، أو غير ذلك من الدواعي ، أو لم يكن كذلك ـ فيحسن توجيه الخطاب إليه لغرض أنّه يتقرّب به إليه وتكمل نفسه به ويستعدّ لدخول الجنّة.

نعم ، لو كان الغرض من التكاليف هو وجود متعلّقاتها في الخارج ، لتمّ الإشكال ، ولكن ليس الأمر كذلك ، بل الغرض في جميع الأوامر والنواهي

__________________

(١) لم نعثر على نصّه أو ما بمعناه ـ فيما بين أيدينا من المصادر ـ في مورد الصلاة ، والموجود فيها إنّما هو في مورد الصيام والحجّ. انظر على سبيل المثال : صحيح البخاري ٢ : ٢٩٤ ـ ١٩٥٣ ، وصحيح مسلم ٢ : ٨٠٤ ـ ١٥٥ ، وسنن البيهقي ٤ : ٢٥٥ و ٥ : ١٧٩.

٤٠٩

الشرعيّة المولويّة هو إمكان التقرّب إلى الله تبارك وتعالى وتكميل النفوس بامتثالها ، لا مجرّد وجود متعلّقاتها أو عدمها في الخارج.

أمّا في التعبّديات : فواضح ، لأنّ الغرض فيها إنّما هو وجود الحصّة الخاصّة من الفعل أو الترك ، وهو المضاف إلى الله.

وأمّا في التوصّليّات : فلأنّ القربة وإن لم تكن دخيلة في ملاكاتها إلّا أنّها دخيلة في الأمر بها والنهي عنها ، والعبد المؤمن المطيع إذا نهاه المولى عن أكل لحم الإنسان أو أمره بإنفاق ولده ، يضيف تركه الأكل وإنفاقه إلى ولده إلى المولى ، ويقول : لو كنت راغبا إلى ذلك ـ أي أكل لحم الإنسان ـ أيضا ، لما فعلته ، لأنّك نهيت عنه ، ولو كنت مائلا إلى إيذاء ولدي وترك الإنفاق إليه أيضا ، لما تركته ، لأمرك به ، فيتقرّب بترك الحرام أو فعل الواجب ـ الّذي كان تاركا أو فاعلا له ولو لم يكن إلزام به من المولى ـ بإضافته إليه ، ويكفي في حسن التكليف إمكان المقرّبيّة ، ولا يقاس الأوامر والنواهي الشرعيّة على الأوامر والنواهي العرفيّة التي ليس الغرض منها إلّا وجود متعلّقاتها في الخارج أو عدمها ، كما هو واضح لا يخفى.

وتوهّم أنّ ميل النّفس إلى الفعل أو الترك إذا كان تامّ الداعويّة ـ كما هو الواقع في كثير من الأمور ـ لم يكن الفعل عن داع إلهي أصلا حتى يتقرّب به ، واضح الفساد ، ضرورة أنّ كون الميل تامّ الداعويّة على انفراده لا ينافي كون أمر المولى أو نهيه أيضا على انفراده تامّ الداعويّة ، ولا يعتبر في مقرّبيّة العبادة زيد من ذلك ، ولذا أفتى الفقهاء بصحّة العبادة مع الضميمة التبعيّة بل المستقلّة ، ولا وجه له إلّا حصول التقرّب والانقياد به.

مثلا : إذا كان المؤمن في مقام الانقياد بحيث لا يقطع صلاته بالطفرة ولو لم يكن عنده أحد فإذا لم يقطع صلاته بذلك في مرأى الناس ومنظرهم لجهتين

٤١٠

كلّ منهما مستقلّ في الداعويّة : أمر المولى ، وحفظ جاهه وشرفه عند الناس ، كان هذا العبد منقادا متقرّبا بترك القطع.

نعم ، لو كان الأمر الإلهي تبعا ، لم يكن متقرّبا به ، لعدم كونه بنيّة صالحة ، وهكذا لو كانت الضميمة خصوص الرياء ولو كانت تبعا ، وذلك بواسطة الروايات الخاصّة الدالّة عليه.

وبالجملة ، لا دليل على اعتبار القدرة العاديّة زائدة على القدرة العقليّة ، فما هو مقدور عقلا وغير مقدور عادة ، لخروجه عن محلّ الابتلاء إذا وقع طرفا للعلم الإجمالي بالتكليف ، لا يوجب عدم تنجيزه.

هذا كلّه في صورة العلم بمقدوريّة الخارج عن محلّ الابتلاء عقلا ، أمّا إذا شككنا في ذلك ـ كما هو الغالب ، ولذا تقلّ الثمرة بيننا فيما اخترناه من عدم تأثير الخروج عن محلّ الابتلاء في عدم تنجيز العلم الإجمالي إذا كان الخارج مقدورا عقلا وبين من ذهب إلى تأثير ذلك فيه إذا كان الخارج غير مقدور عادة ولو كان مقدورا عقلا ، وتنحصر في موارد العلم بمقدوريّة الخارج عن محلّ الابتلاء عقلا ـ فذهب شيخنا الأنصاري (١) ـ قدس‌سره ـ إلى التمسّك بالإطلاق ولزوم الاجتناب عن جميع الأطراف بمقتضى إطلاق دليل «لا تشرب الخمر» مثلا.

وأشكل عليه صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بأنّ المقام ليس من موارد التمسّك بالإطلاق ، إذ الشكّ في حسن الإطلاق وقبحه ، ولا بدّ في التمسّك بالإطلاق من مفروغيّة إمكانه وحسنه (٢).

وأورد عليه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّ الظواهر حجّة ما لم يقم دليل عقليّ أو نقليّ على خلافها ، ولا يعتنى بمجرّد احتمال كون إرادة الظاهر مستحيلة أو

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٥٢.

(٢) كفاية الأصول : ٤١٠.

٤١١

قبيحة ، فإذا قام دليل ظاهر في حجّيّة خبر الثقة ، لا يعتنى باحتمال الاستحالة الناشئ من دعوى ابن قبة والوجوه المذكورة لها ، وهكذا إذا ورد «أكرم كلّ عالم» واحتملنا قبح التكليف بإكرام الفاسق ، لوجود مفسدة ملزمة فيه ، لا يجوز التوقّف في إكرامه ، بل مقام الإثبات كاشف عن مقام الثبوت ، والأمر بإكرام كلّ عالم كاشف عن قيام مصلحة ملزمة في إكرام مطلق العالم ولو كان فاسقا (١). وهذا الّذي أفاده متين جدّاً.

والتحقيق أن يقال : إنّ اعتبار القدرة في متعلّق التكليف حيث إنّه ممّا لا ريب فيه وممّا يعرفه كلّ أحد ، ضرورة قبح التكليف بما لا يطاق وغير المقدور عند كلّ عاقل ، فلا محالة يخصّص العمومات بحكم العقل بما كان متعلّق التكليف مقدورا للمكلّف ، وفي الموارد المشكوك لا يمكن التمسّك بالعموم ، لما تقرّر في بحث العامّ والخاصّ من عدم جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة حتى إذا كان المخصّص لبّيّا ، وذكرنا أنّ حال المخصّص اللبّي في ذلك حال المخصّص اللفظي بعينه ، وكلاهما من واد واحد ، فكما لا يجوز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة مع كون المخصّص لفظيّا كذلك لا يجوز ذلك في المخصّص اللبّي ، سيّما إذا كان المخصّص العقلي من البديهيّات التي يعرفها كلّ أحد ، كما في المقام ، فإنّه يصير حينئذ بمنزلة القرائن اللفظيّة المحفوفة بالكلام ، ويكون المخصّص متّصلا لا منفصلا.

والحاصل : لا ريب في عدم جواز التمسّك بالعامّ المخصّص بالمخصّص اللفظي أو اللبّي في الشبهات المصداقيّة ، ولكن لا يجوز الرجوع إلى البراءة أيضا في خصوص موارد الشكّ في القدرة وعدمها ، لعدم شمول أدلّة البراءة لما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٤١٢

لا يكون مقدورا ، فالتمسّك بها في مورد الشكّ تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، ويجب الفحص للعلم بفوت الغرض ، المحتمل استناده إلى المكلّف ، فلا بدّ من إحراز أنّه قادر حتى يكون التكليف فعليّا في حقّه أو غير قادر حتى لا يكون كذلك ، فإذا فرض وجود ميّت غير مدفون والمكلّف يحتمل عدم قدرته على دفنه ، لكون الأرض صلبة وعدم وجود آلة الحفر له ويحتمل كونه قادرا ، لاحتمال كون الأرض رخوة ، فدليل وجوب الدفن وإن كان لا يصحّ التمسّك به لإثبات وجوبه على هذا المكلّف إلّا أنّه لا يجوز الرجوع إلى أصل البراءة أيضا ، لأنّه أيضا تمسّك بعموم أدلّة البراءة في الشبهة المصداقيّة ، ويجب الفحص ـ للعلم بفوت غرض المولى واحتمال استناده إليه ـ وإحراز أنّه قادر أو غير قادر ، فإذا انكشف عجزه ، لكون الأرض صلبة فلا يستند فوت الغرض إلى العبد ، ولا يكون مكلّفا.

هذا فيما علم بفوت الغرض ، أمّا فيما لا يعلم فوت الغرض ـ كما في المقام ، فإنّ التكليف المعلوم إجمالا يحتمل انطباقه على الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء المشكوك كونه مقدورا عقلا دون الطرف الآخر المقدور ـ فلا يجب الفحص ، ولا مانع للرجوع إلى البراءة في الطرف المقدور ، فإنّها بلا معارض ، لعدم جريانها في الطرف المشكوك ، ففي موارد خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء وإن كان العلم منجّزا إلّا أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء ـ حيث إنّه مساوق للشكّ في كون الخارج مقدورا عقلا غالبا لو لم يكن دائما ـ يجوّز الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر.

بقي أمران :

أحدهما : أنّ القدرة العقليّة كما أنّها معتبرة في تنجيز العلم الإجمالي كذلك تعتبر القدرة الشرعيّة في ذلك ، فإذا علم بنجاسة أحد ثوبين أحدهما ملك

٤١٣

له والآخر مغصوب أو أمانة غير مأذون التصرّف ، لا يكون مثل هذا العلم منجّزا ، لعدم تعارض الأصول ، الّذي هو مناط التنجيز ، فإنّ المغصوب لا يجري فيه الأصل ، إذ لا يجوز التصرّف فيه قطعا ، سواء كان في الواقع نجسا أو لم يكن ، فالأصل في الطرف الآخر بلا معارض.

الثاني : إذا كان أثر جريان الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي في طول أثر جريانه في الآخر ، كما إذا انحصر الطهور في ماء وتراب علم بنجاسة أحدهما إجمالا ، فهل يكون مثل هذا العلم منجّزا فلا بدّ من الاحتياط بالتيمّم بالتراب والوضوء بالماء بعد تساقط الأصول مخيّرا في تقديم أيّهما شاء ، أو مقدّما للتيمّم بالتراب ، للعلم التفصيليّ ببطلان التيمّم إذا قدّم الوضوء إمّا من جهة نجاسة محلّ التيمّم ـ أعنى الوجه واليدين ـ أو التراب ، أو ينجّز ، ومقتضى تنجيزه هو تساقط الأصول وعدم الحكم بطهارة شيء من الماء والتراب ، فيصير فاقد الطهورين ، فلا تجب عليه الصلاة في الوقت ، بل يجب القضاء في خارجه ، أو لا ينجّز أصلا ويجب الوضوء دون التيمّم ، أو لا ينجّز ويجب عليه التيمّم دون الوضوء؟ وجوه بل أقوال.

ذهب شيخنا الأستاذ إلى عدم التنجيز ووجوب الوضوء ، نظرا إلى أنّ النجاسة على تقدير وقوعها في التراب لا أثر لها أصلا ، إذ عدم جواز التيمّم من التراب ليس من جهة نجاسته ، بل من جهة كون المكلّف واجدا للماء ، فالأصل لا يجري في التراب ، فيكون جريانه في الماء بلا معارض فيجب الوضوء (١).

وما أفاده متين فيما إذا لم يكن لجريان الأصل في التراب أثر آخر في عرض أثر جريانه في الماء ، كجواز السجود عليه ، كما إذا كان التراب في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٦.

٤١٤

الحائط ، أمّا إذا كان له أثر كذلك ـ كما هو الغالب ـ فلا وجه لعدم التنجيز ، لتعارض الأصول في الأطراف ، فأصالة طهارة الماء معارضة بأصالة طهارة التراب من حيث أثر جواز السجود عليه ، فلا يجوز الوضوء ، فإنّه متوقّف على وجود الماء الطاهر بالوجدان أو الأصل والمفروض خلافه ، ويجب التيمّم ، لجريان أصالة الطهارة في التراب من حيث أثره الآخر الّذي هو جواز التيمّم به.

والحاصل : أنّ أصالة الطهارة وإن لا تجري في التراب من حيث جواز السجود عليه ، لأنّها معارضة إلّا أنّ جريانها فيه من حيث جواز التيمّم به بلا مانع ، فإنّه بلا معارض ، والتفكيك في الأصول بين الآثار غير عزيز في الفقه.

فالحقّ هو صحّة قول الأخير في مثل هذا الفرض الّذي يكون لبعض أطراف العلم أثران أو آثار بعضها طولي وبعضها عرضيّ وإن كان أصل الكبرى ـ وهي مانعيّة طوليّة الآثار عن تنجيز العلم الإجمالي ـ مسلّما. هذا ما يتراءى في بادئ النّظر.

والّذي يقتضيه النّظر الدّقيق هو : وجوب الوضوء والتيمّم معا ، وعدم جواز الاقتصار في مقام الامتثال على التيمّم ، وذلك لأنّ موضوع التيمّم فاقد الماء إمّا وجدانا ، أو بحكم العقل ، كما إذا انحصر الماء بإناءين أحدهما مغصوب ، أو بحكم الشارع ، كما إذا خاف على عطش نفسه أو غير ذلك ، أو انحصر الماء بإناءين أحدهما متنجّس ، وشيء من هذه الأمور لا يكون في المقام ، بل المكلّف يحتمل أن يكون واجدا للماء ، كما أنّه يحتمل أن يكون فاقدا له ، ولا بدّ في جواز الاقتصار على التيمّم من إحراز أنّه فاقد والمفروض عدمه ، وحيث يمكنه تحصيل الطهارة الواقعيّة بالتيمّم بالتراب أوّلا ثم الوضوء بالماء فيجب عليه ، وليس هذا مخالفا لمقتضى تنجيز العلم الإجمالي بعدم

٤١٥

جواز الوضوء بالماء أو عدم جواز التيمّم بالتراب ، لأنّ الوضوء ـ وكذلك التيمّم ـ بالنجس ليس من المحرّمات الذاتيّة ـ كشرب الخمر ـ حتى يجب الاجتناب عن كلا الطرفين في المقام ويكون المكلّف بمنزلة فاقد الطهورين ، كما قيل ، بل حرمته تشريعيّ ، والعلم الإجمالي لا يقتضي أزيد من عدم جواز الاقتصار بالوضوء فقط أو التيمّم فقط في مقام الامتثال ، ولا ينافي إتيان كلّ منهما برجاء إدراك الواقع لتنجيز العلم الإجمالي.

وإن شئت قلت : كما أنّ لنا علما إجماليّا بعدم جواز الوضوء بالماء أو عدم جواز التيمّم بالتراب ، كذلك لنا علم إجمالي بوجوب الوضوء بالماء أو التيمّم بالتراب ، ومقتضى تنجيز هذا العلم الثاني هو : تحصيل الموافقة القطعيّة بالتيمّم أوّلا والوضوء ثانيا ، كما لا يخفى.

* * *

٤١٦

فصل :

في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة ، والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : فيما إذا علم أوّلا بنجاسة أحد الإناءين أو خمريّته ثم بعد ذلك حصلت الملاقاة أو العلم بها.

الثاني : فيما حصلت الملاقاة ثم بعد ذلك علم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو إناء آخر.

أمّا المقام الأوّل : فالمشهور على عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي.

ولتوضيح المطلب نقدّم مقدّمة ، وهي أنّ العلم الإجمالي إذا تعلّق بالحكم ـ كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ـ أو بموضوع تامّ مستتبع للحكم ـ كما إذا علم بخمريّة أحد المائعين إجمالا ـ فلا محالة ينجّز ، لتساقط الأصول في الأطراف بواسطة المعارضة ، أمّا لو لم يكن كذلك بل تعلّق بموضوع غير مستتبع للحكم ، لعدم كونه تمام الموضوع له بل جزء الموضوع ، وله ضميمة ومتمّم بحيث لو لا هذه الضميمة لما يصير الحكم فعليّا أصلا ، فلا يكون مثل هذا العلم منجّزا ، فإنّه لم يتعلّق بتكليف على كلّ تقدير ، أو بما يلازم العلم بتكليف كذلك ، فيكون الشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به بعد العلم بالتكليف ، فيرجع إلى البراءة في جميع الأطراف.

ويتفرّع على ذلك أنّه لو علم إجمالا بأمر يكون تمام الموضوع لحكم وجزء الموضوع لحكم آخر ـ كالعلم بخمريّة أحد المائعين ، فإنّ وجود الخمر تمام الموضوع لحرمة شربه ، وجزء الموضوع لوجوب الحدّ ، والجزء الآخر شرب الخمر الموجود ـ يكون العلم منجّزا بالقياس إلى أحد الحكمين وغير

٤١٧

منجّز بالقياس إلى الآخر ، فيحرم شرب أيّ من الإناءين ، ولكن لا تجب إقامة الحدّ عليه ولو شرب أحدهما عامدا رجاء لتصادفه مع الخمر ، لأنّ وجود الخمر ليس تمام الموضوع لإقامة الحدّ ، بل له جزء آخر وهو الشرب ، وما هو المعلوم هو وجود الخمر ، أمّا أنّ هذا المكلّف شرب الخمر فمشكوك ، بل لعلّه شرب الماء ، فوجوب الحدّ مشكوك من أوّل الأمر ، للشكّ في تحقّق جزء موضوعه في الخارج ، فيرفع بالبراءة ، ولا نحتاج إلى قاعدة «إنّ الحدود تدرأ بالشبهات».

ومن هذا القبيل : العلم الإجمالي بحرمة قتل أحد الرجلين وجواز قتل الآخر ، فإنّه منجّز بالقياس إلى حرمة القتل وغير منجّز بالنّسبة إلى جواز القصاص من القاتل.

ومن هذا القبيل أيضا : العلم الإجمالي بأنّ أحد الحيوانين ميتة إنسان والآخر غنم مذبوح ، فإنّه منجّز بالقياس إلى حرمة أكل كلّ منهما وغير منجّز بالنسبة إلى وجوب الغسل إذا مسّ أحدهما. وبالجملة هذه كبرى كلّيّة كثيرة الفائدة في الفقه.

وقد عدّ بعض من صغريات هذه الكبرى العلم الإجمالي بغصبيّة إحدى الشجرتين إذا أثمرت إحداهما وبقيت الأخرى بلا ثمر نظرا إلى أنّ مغصوبيّة الثمرة مشكوكة من أوّل وجودها ، لعدم إحراز كونها ثمرة للشجرة المغصوبة ، الّذي هو تمام الموضوع للحكم بحرمتها وكونها في ضمان المتصرّف فيها.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّ ضمان المنافع تابع لضمان العين ، فمن وقعت يده على العين يضمن منافعها المستوفاة وغير المستوفاة إلى يوم القيامة ، هذا أوّلا.

وثانيا : لو سلّم كون غصب المنافع فردا آخر مستقلّا من الغصب ، يضمن المتصرّف في الثمرة في المقام أيضا ، للعلم بوجود ملاك الضمان بغصب العين

٤١٨

وإن لم يكن سبب الضمان ـ وهو غصب الثمرة ـ محرزا ، وهو يكفي في الحكم بالضمان ، كما يكفي العلم بوجود ملاك الحكم فقط في تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات (١).

وكلّ من الوجهين مخدوش.

أمّا الأوّل : فلعدم انطباق الكبرى ـ التي أفادها ـ على المقام وإن كانت تامّة في نفسها ، إذ من المحتمل أن تكون الشجرة غير المثمرة مغصوبة ، فلم يحرز وجود منفعة للعين المغصوبة لا المستوفاة ولا غيرها حتى تكون في ضمان المتصرّف في العين بتبعها.

وأمّا الثاني : فلأنّ وجود الملاك أيضا مشكوك من أوّل الأمر ، لاحتمال عدم مثمريّة الشجرة المغصوبة ، الملازم لاحتمال عدم وجود ملاك ضمان منافع العين المغصوبة ، لانتفاء موضوعها وهو المنافع.

والّذي ينبغي أن يقال : إنّ كلّا من الطرفين أو الأطراف إمّا أن يكون مسبوقا بملكيّة الغير ، فبمقتضى استصحاب كونه ملكا للغير تثبت غصبيّة العين وتتبعها غصبيّة المنافع ، فيحرم التصرّف في الثمرة في المثال ، أو المنفعة والنتاج في أيّ مورد فرض نتاج لبعض أطراف العلم الإجمالي ، لا من جهة العلم الإجمالي ، بل بمقتضى التعبّد الاستصحابي ، ويثبت الضمان أيضا ، فإنّه يكفي في ضمان المنافع وقوع اليد على ملك الغير وغصب العين ، ولذا يجوز رجوع المالك إلى الغاصب الأوّل في استرداد العين وجميع منافعها حتى المستوفاة في الأيادي المتأخّرة عن يد الغاصب الأوّل ، فإذا حكم الشارع ـ بمقتضى الاستصحاب ـ بغصبيّة ما في يده من الشجرة المثمرة مثلا وضمانه ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٤١٩

يتبعه ضمان منافعه أيضا.

وإمّا أن لا يكون كذلك بأن كان كلّ منهما من المباحات الأصليّة فاحتاز إحداهما شخص والأخرى آخر ثم غصب أحدهما ما احتازه الآخر واشتبه الأمر ، فمقتضى القاعدة هو عدم الضمان واندراجه في تلك الكبرى ، فإنّ استصحاب كون الشجرة المثمرة ملكا للغير لا يجري ، لعدم الحالة السابقة على الفرض ، واستصحاب عدم كونه مالكا لها وإن كان يجري إلّا أنّه لا يثبت أنّها ملك للغير وغلّتها غصب ، إذ لعلّها هي التي احتازها ، وإذا لم يجر أصل موضوعي يثبت غصب العين ، يجري فيه الكلام السابق من أنّ غصب العين ـ المردّدة بين كونها ذات منفعة وعدمه ـ ليس موضوعا تامّا لضمان المنافع المردّدة بينهما ، بل لا بدّ من غصب العين ووجود منفعة لها حتى يترتّب عليه ضمان المنافع ، والمفروض أنّ الثمرة لم يحرز أنّها من الشجرة المغصوبة حتى تضمن بضمانها.

وبالجملة ، لا معنى لضمان منافع العين التي لا منفعة لها ، فالشكّ في الضمان بالقياس إلى الثمرة شكّ في أصل التكليف ، ومورد للبراءة ، هذا بالنسبة إلى الضمان.

أمّا حرمة التصرّف فتبتني على الخلاف في أنّ الأصل في الأموال هو الحلّ بمقتضى «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (١) أو الحرمة بمقتضى «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله» (٢) الّذي استدلّ به الشيخ (٣) ـ قدس‌سره ـ على أصالة

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣٩ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٨ ، و ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٢) الكافي ١ : ٥٤٧ ـ ٥٤٨ ـ ٢٥ ، التهذيب ٤ : ٣٩ ـ ٣٩٥ ، الوسائل ٩ : ٥٣٨ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٢.

(٣) فرائد الأصول : ٢٢٢.

٤٢٠