الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

بين العالم والجاهل ، فإنّ مضمون بعضها أنّ من أخفت فيما لا ينبغي أن يخفت فيه إن كان عامدا نقض صلاته ، وإن كان جاهلا أو ناسيا أو غافلا صحّت صلاته (١).

وبالجملة روايات الباب لا تدلّ إلّا على الإجزاء (٢) ، وهي بنفسها شاهدة على أنّ من أخفت في الجهرية كان وظيفته الجهر ، وينبغي أن يجهر فيه وإن كان جاهلا به ، لكنّه لا يجب عليه إعادة الصلاة ويجزئ ما أتى به إخفاتا.

وأمّا وجه الإجزاء ـ مع أنّه غير مأمور به ـ فهو مطلب آخر يأتي في محلّه إن شاء الله.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ القطع لو كان طريقيّا محضا وتعلّق بالحكم الشرعي ، لا يمكن أخذه في موضوع نفسه ، ولا منع اتّباع بعض أفراده ، وليس لنا مورد يكون كذلك في الشريعة.

هذا كلّه في أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه ، وأمّا أخذه في موضوع حكم آخر ، فإن كان مماثلا له ، فقد اتّضح حاله أيضا من مطاوي

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٧ ـ ١٠٠٣ ، التهذيب ٢ : ١٦٢ ـ ٦٣٥ ، الاستبصار ١ : ٣١٣ ـ ١١٦٣ ، الوسائل ٦ : ٨٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ١.

(٢) أقول : الإجزاء خلاف ظواهر الأدلّة والروايات ، فإنّ الإجزاء معناه الاكتفاء بالناقص عن التامّ ، وعدم وجوب الإعادة ـ كما هو مفاد الروايات ـ ظاهر في أنّ العمل تامّ ليس فيه نقص ، وهذا يعني أنّ العلم بوجوب الجهر شرط وموضوع لفعليّة الوجوب. هذا أوّلا.

وثانيا : قوله عليه‌السلام : «تمّت صلاته» الموجود في بعض الروايات نصّ في أنّ المأتيّ به كامل وتامّ ، وإذا كانت الصلاة الجهريّة مكان الإخفاتيّة وبالعكس تامّة ، فلا مجال للإجزاء ، وهذا يعني شرطية العلم بوجوب الإخفات أو الجهر في فعليتهما.

وثالثا : أنّ سيّدنا الأستاذ استدلّ في مواضع على كون العمل ناقصا بوجوب الإعادة ، ولازمه أنّ عدم وجوب الإعادة دليل على كمال العمل ، وكمال العمل وتمامه لا يجتمع مع الإجزاء. (م).

٤١

ما ذكرنا من أنّ جعل حكمين على عنوانين : أحدهما عامّ ، والآخر خاصّ بمكان من الإمكان ، غايته أنّه يوجب تأكّد الحكم في الخاصّ ، فلا مانع من جعل الوجوب للصلاة بالنسبة إلى مطلق المكلّف ثم جعل وجوب مثله على العالم بالوجوب الأوّل ، كما لا مانع من جعل الحرمة لقتل المؤمن وجعل مثلها لقتل العالم المؤمن والإمام عليه‌السلام.

وإن كان مضادّا له ، كجعل الوجوب للصلاة ، وجعل الحرمة لها على تقدير العلم بوجوبها ، فهو غير معقول ، للزوم اجتماع الضدّين في نظر القاطع وإن لا يلزم في الواقع ، وما يكون محالا بنظر المكلّف جعله أيضا مستحيل في حقّ المولى الملتفت إلى أنّ بعثه غير قابل للانبعاث ، كما عرفت آنفا.

هذا كلّه في القطع الطريقيّ المحض وما يكون طريقا إلى الحكم الشرعيّ ، المأخوذ في موضوع نفس هذا الحكم أو مثله أو ضدّه.

أمّا الموضوعي بالمعنى المصطلح ـ أي : ما أخذ في موضوع حكم آخر مخالف للحكم المقطوع به ، كما إذا كان القطع بوجوب الصلاة موضوعا لوجوب التصدّق ، الّذي هو حكم مخالف لوجوب الصلاة لا يماثله ولا يضادّه ـ فالكلام فيه متمحّض في مقام الثبوت ، أي ما أخذ في الواقع وفي نفس الأمر في الموضوع ، لا ما أخذ في لسان الدليل في الموضوع بما أنّه طريق محض إلى الواقع من جهة أنّ المكلّف لا طريق له إلّا القطع ، كما يستعمل كثيرا ما في استعمالات العرف والشرع ، فيؤخذ القطع في الموضوع لا بما أنّه جزء للموضوع أو تمام الموضوع ، بل بما أنّه كاشف عن الواقع وطريق محض إليه ، كما في قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ

٤٢

الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) وقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(٢) فإنّ (شَهِدَ) ليس معناه هنا الحضور ، بل بمعنى المشاهدة والرؤية ، كما في قوله : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» (٣) فإنّ الغاية لجواز الأكل والشرب هو الفجر الواقعي لا المعلوم والمبيّن ، والموضوع لوجوب الصوم هو شهر رمضان واقعا لا شهوده ورؤية هلاله.

ثمّ إنّ شيخنا العلّامة الأنصاري ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ قد قسّم القطع الموضوعي إلى قسمين : أحدهما : ما يكون على نحو الصفتيّة ، والآخر : ما يكون مأخوذا على نحو الطريقيّة (٤).

وجعل صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ كلّ واحد منهما منقسما إلى قسمين : جزء الموضوع وتمام الموضوع (٥).

ولا ريب في تقسيمه إلى الطريقيّة والصفتيّة. وبيان ذلك أنّ الصفات الموجودة في الخارج على قسمين : قسم منها ما لا تعلّق له بغيره ، كقيام زيد ونومه ويقظته وأمثال ذلك ، وقسم له تعلّق بالغير وإضافة إلى الغير ، ويسمّى في اصطلاح الفلاسفة بالصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، كعلم زيد وإرادته وقدرته وعجزه وغير ذلك من صفاته ممّا يحتاج إلى أمر آخر تتعلّق الصفة به وتضاف إليه ، ويقال : علم بكذا ، وأراد كذا ، وقادر على كذا ، وعاجز عن كذا.

وتسميتها بالحقيقيّة من جهة أنّها أمور موجودة في النّفس حقيقة ،

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) التهذيب ٤ : ١٦٤ ـ ٤٦٤ ، الوسائل ١٠ : ٢٩١ ، الباب ١١ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٤.

(٤) فرائد الأصول : ٤.

(٥) كفاية الأصول : ٣٠٣.

٤٣

وبذات الإضافة ، لأنّها مضافة إلى الغير في مقابلة ما يكون من نفس مقولة الإضافة ، كالأبوّة والنبوّة والفوقيّة والتحتيّة ، فإنّها عين الإضافة ، لا أمور ذات إضافة. وبالجملة هذه الصفات ، لها جهتان : جهة قيامها بالنفس وجهة تعلّقها بالغير. والأولى : جهة صنفيّتها ، فإنّ النّفس يتّصف بها حقيقة. والثانية : جهة إضافيّتها ، فإنّها تضاف وتنسب إلى الخارج حقيقة ، والقطع من القسم الثاني ، وله جهتان :

جهة الصفتيّة ووجوده في النّفس المقابل للتحيّر والتردّد ، ويسمّى هذه الحالة بالقطع ، لانقطاع التحيّر والتردّد عن النّفس عند عروضها ، ولا يذهب النّفس عند ذلك يمينا وشمالا بحيث يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى ويكون في حيرة واضطراب كما في حالة التحيّر والتردّد ، وهو بهذا الاعتبار ليس إلّا صفة للقاطع لا المقطوع به ، فإنّه عين جهة الطريقيّة وانكشاف الواقع به ، وليس قسما آخر من الصفتيّة ، كما في الكفاية (١). ولا ريب أنّ نفس هذه الحالة ربما يتعلّق بها الغرض من دون نظر إلى شيء آخر ، كما ربما ينذر الوسواسي ـ الّذي لا يقطع بطلوع الفجر ـ أن يعطي درهما إن حصل له القطع وارتفع التحيّر عنه ، لا لأجل أن يصلّي في أوّل الوقت ودرك فضيلته ، بل لمجرّد رفع اضطرابه وتحيّره ، فعلى هذا يمكن أن يكون نفس هذه الصفة ووجودها في النّفس موضوعا لحكم شرعي ، ومن هذا القبيل القطع بالملكيّة ، المأخوذ في موضوع جواز الشهادة.

وجهة الإضافيّة التي هي جهة كاشفيّته عن الواقع وتعلّقه بأمر خارجيّ ، فالقطع يمكن أخذه في الموضوع بما أنّه صفة نفسانيّة ومعلوم بالذات وأمر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٠٣.

٤٤

موجود في النّفس على القول بالوجود الذهني ، ويمكن أخذه بما أنّه طريق إلى الواقع وكاشف عن الواقع.

وهكذا لا ريب أنّ المأخوذ بما أنّه صفة يمكن أن يكون جزء الموضوع بأن يكون الموضوع القطع المصادف للواقع ، كما في القطع بالنجاسة الخبثيّة على قول ، فإنّ الموضوع على هذا يكون مركّبا من وجود صفة القطع ومصادفته للواقع بحيث لو قطع وبعد ذلك انكشف عدم النجاسة فيستكشف عدم وجوب الاجتناب أيضا.

ويمكن أن يكون تمام الموضوع بأن لا يكون للواقع دخل في الموضوع ، وكان نفس صفة القطع تمام الموضوع ، صادف الواقع أم لا ، نظير خوف الضرر ، الموضوع لجواز التيمّم ، فإنّ نفس صفة الخوف موضوع لهذا الحكم ولو لم يكن ضرر في الواقع ، ولا تجب إعادة الصلاة لو انكشف عدم الضرر ، كما في القطع بالملكيّة ، فإنّه بنفسه موضوع لجواز الشهادة صادف الواقع أم لا.

لكنّ المأخوذ في الموضوع بما أنّه طريق إلى الواقع قسم واحد ، وهو كونه جزء الموضوع ، ويستحيل أن يكون (١) تمام الموضوع ، ضرورة أنّ معنى أنّه

__________________

(١) أقول : الصحيح هو أنّ أقسام القطع الموضوعي أربعة ، كما قال به صاحب الكفاية ، لا ثلاثة ، كما قال به الشيخ ومن تبعه ، وذلك لأنّ لنا روايات ظاهرها كون القطع الطريقي تمام الموضوع ، كما في موارد جواز القضاء والشهادة ، التكليفي ، فإنّ للقاضي أن يحكم ويقضي إذا علم سواء أصاب أو لم يصب ، فعلمه بالواقع موضوع تامّ لجواز القضاء تكليفا ، ولا دخل للواقع في الجواز التكليفي. نعم هو دخيل في الجواز الوضعي وترتّب الأثر.

وهكذا في مورد الشهادة ، فإنّ الشاهد له أن يشهد إذا قطع بالمشهود به سواء أصاب أم لا. وحملها على القطع على وجه الصفتية خلاف الظاهر منها ، فإنّ الظاهر منها أنّ القطع بما أنّه طريق إلى متعلّقه موضوع لحكم آخر ، وهو جواز القضاء والشهادة. (م).

٤٥

تمام الموضوع أنّه لا دخل للواقع أصلا ، بل الحكم مترتّب على القطع ، صادف الواقع أم لا ، ومع ذلك كيف يمكن أن يكون طريقا إلى الواقع مع أنّه في صورة المخالفة لا واقع في البين حتى يكون القطع طريقا إليه!؟ بل بتعبير صاحب الكفاية في بعض كلماته ـ قدس‌سره ـ هذا جهالة وضلالة لا دلالة (١) وإن كان بنظر القاطع كاشفا ولا تنفكّ الكاشفيّة عنه إلّا أنّه تخيّل الكشف لا واقعه.

والحاصل : أنّه لا يعقل في القطع الطريقي المأخوذ في الموضوع إلّا أن يكون جزء الموضوع ، فأقسام القطع الموضوعي ثلاثة لا أربعة ، كما أفاده في الكفاية (٢) ، وبضميمة القسم السابق ـ وهو الطريقي المحض ـ تصير الأقسام أربعة : الطريقيّ المحض ، والموضوعيّ الّذي أخذ على وجه الصفتيّة بنحو يكون تمام الموضوع أو جزء الموضوع ، وما أخذ في الموضوع بنحو الطريقيّة جزءا للموضوع.

ثمّ إنّه لا ريب في قيام الطرق والأمارات والأصول المحرزة ـ كالاستصحاب ـ بنفس أدلّة حجّيّتها مقام القطع الطريقي المحض ، ضرورة أنّه لولاه لانسدّ باب الاجتهاد والاستنباط.

أمّا قيامها مقام القطع الموضوعي : فالأقوال فيه ثلاثة : قيامها مقامه مطلقا حتى فيما إذا أخذ موضوعا على وجه الصفتيّة ، وعدم القيام مطلقا ولو كان أخذه فيه بنحو الطريقيّة ، والتفصيل بين ما أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة والكاشفيّة فتقوم ، وبين ما أخذ على وجه الصفتيّة فلا تقوم ، وهو الحقّ كما عليه شيخنا الأستاذ (٣).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢.

(٢) كفاية الأصول : ٣٠٣.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٩.

٤٦

أمّا عدم قيامها مقام القطع المأخوذ على وجه الصفتيّة : فلأنّ القطع كسائر الصفات النفسانيّة من الشجاعة والحلم والغضب وغير ذلك ، ومن المعلوم أنّ أدلّة حجّيّة الأمارات غير ناظرة إلى ذلك ، فإنّ مفادها ليس إلّا جعل الطريقيّة والكاشفيّة التامّة التعبّديّة لغير العالم لا جعل صفة القطع في نفس غير العالم تعبّدا ، كما لا يستفاد منها جعل سائر الصفات تعبّدا قطعا ، مضافا إلى أنّه لم نجد مثالا له في الشريعة ، وما أخذ في موضوع جواز الشهادة هو القطع الطريقي لا الصفتي ، فإنّ قول الإمام عليه‌السلام في الرواية الواردة في الباب مشيرا إلى الشمس : «بمثل هذا فاشهد أو دع» (١) أقوى شاهد على ما ذكرنا ، فإنّ ظاهره أنّك إن أحرزت ما تشهد عليه ورأيته كرؤيتك الشمس وإحرازك إيّاها فاشهد ، وإلّا فلا يجوز لك الشهادة ، وهكذا المأخوذ في موضوع وجوب الإعادة هو القطع الطريقي ، كما تشهد به الروايات الواردة في بابه ، فإنّ في بعضها جعل الإحراز واليقين غاية للحكم ، كما في قوله ـ أي : مضمونه ـ : «إذا سهوت أو إذا شككت في الأوّلتين فأعد صلاتك حتى تثبتهما» (٢) وفي رواية أخرى «حتى تستيقن بهما» (٣) فجعل عليه‌السلام اليقين والإحراز طريقا إلى الواقع. وهذا واضح لا سترة عليه.

وأمّا قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة : فعمدة ما قيل في وجه المنع ما أفاده في الكفاية من أنّ أدلّة حجّيّتها الدالّة على إلغاء

__________________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ١٢١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ ، الباب ٢٠ من أبواب الشهادات ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ٢ : ١٧٧ ـ ٧٠٦ ، الاستبصار ١ : ٣٦٤ ـ ١٣٨٣ ، الوسائل ٨ : ١٩١ ، الباب ١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ١٥.

(٣) الكافي ٣ : ٣٥١ ـ ٢ ، التهذيب ٢ : ١٧٩ ـ ٧١٥ ، الاستبصار ١ : ٣٦٥ ـ ١٣٩١ ، الوسائل ٨ : ١٨٩ ، الباب ١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٧.

٤٧

احتمال الخلاف لا تتصدّى إلّا لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع خاصّة بحيث يكون غير العلم ملحوظا آليّا ، أو لتنزيل غير العلم منزلة العلم خاصّة بحيث يكون ملحوظا استقلالا ، ولا يمكن أن تكون ناظرة إلى كلا التنزيلين ، ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد في آن واحد ملحوظا بلحاظين مطلقا ـ سواء كانا استقلاليّين أو آليّين أو مختلفين ـ إن لم يكن جامع في البين ، والمفروض أنّه ليس ، بداهة عدم وجود الجامع بين الآليّة والاستقلاليّة.

وبعبارة واضحة : ما دلّ على حجّيّة الأمارة لا يكفي إلّا لأحد التنزيلين : إمّا تنزيل ما أخبرت البيّنة بخمريّته منزلة الخمر الواقعي ، أو تنزيل نفس إخبار البيّنة بخمريّة شيء منزلة العلم بخمريّته ، والمفروض أنّه كان ناظرا إلى التنزيل الأوّل وأنّ نظره إلى غير العلم آليّ وأنّ نظره الاستقلالي إلى الواقع ، فكيف يمكن مع ذلك أن يكون ناظرا إليه استقلالا الّذي لا بدّ له في جعل غير العلم جزءا للموضوع ، كما في سائر ما له دخل فيه!؟

ثمّ أورد على نفسه سؤالا ، وهو : أنّ لازم ما ذكر عدم تعيّن أحد التنزيلين إلّا بالقرينة ، فمجرّد دليل الحجّيّة لا يفي بتنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع.

وأجاب : بأنّ ظهور دليل الحجّيّة في أنّه يلاحظ غير العلم آلة ممّا لا ينكر ، وإنّما اللحاظ الاستقلالي يحتاج إلى قرينة عليه (١). هذا خلاصة ما أفاده في المقام.

وهو مبنيّ على أنّ مفاد أدلّة حجّيّة الأمارات تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وهو ـ قدس‌سره ـ لا يلتزم به ويرى أنّ مفادها جعل المنجّزيّة في صورة الإصابة والمعذّريّة في فرض المخالفة (٢) ، بمعنى أنّ الشارع جعل آثار القطع الوجداني

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٢) كفاية الأصول : ٣١٩.

٤٨

من المنجّزية والمعذّريّة لغير العلم ، فكما أنّ المكلّف لو قطع بوجوب شيء مثلا ، كان منجّزا له وموجبا لاستحقاق العقوبة على مخالفته ، ولو قطع بإباحة شيء كان معذّرا له لو انكشف له حرمته بعد ذلك ، فكذلك لو قام ما أعطاه الشارع صفة المنجّزيّة والمعذّريّة ـ وإن لم تكن له في طبعه ـ على وجوب شيء أو حرمة شيء يكون منجّزا ومعذّرا ، وعلى هذا يكون غير العلم ـ الّذي له صفة المنجّزيّة والمعذّريّة تعبّدا ـ حاله حال العلم الّذي يكون له ذلك ذاتا ، فكما تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي المحض ويكون إخبار البيّنة بخمريّة مائع بحكم العلم بذلك في ترتّب الحرمة عليه وتنجّزها تعبّدا ، كذلك لو كان القطع جزءا للموضوع بنحو الطريقيّة وكان الحكم مترتّبا على مقطوع الخمريّة ، يكون إخبار البيّنة بخمرية شيء منجّزا للواقع وموجبا لاستحقاق العقاب على مخالفته ، إذ على هذا القول تكون الأمارة منزّلة منزلة القطع في المنجّزيّة والمعذّريّة دائما ، ولا يكون المؤدّى منزّلة منزلة الواقع قط ، فلا يكون في البين إلّا تنزيل واحد ، وهو تنزيل غير العلم منزلة العلم (١) ، فلا يلزم محذور اجتماع اللحاظين.

والحاصل : أنّ الإشكال ناشئ من القول بأنّ المجعول في الأمارات هو إثبات الحكم الواقعي للمؤدّى ، وهو بمراحل من الواقع ، إذ لازمه التصويب المجمع على بطلانه ، ضرورة أنّ ما قامت الأمارة على وجوبه فهو واجب واقعي تعبّدا على هذا القول.

__________________

(١) أقول : حديث التنزيل ـ سواء كان تنزيل غير العلم منزلة العلم أو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ـ يتوقّف على كون دليل الحجّيّة منحصرا في الدليل اللفظي ، وأمّا إذا قلنا بأنّ دليلها منحصر في السيرة العقلائيّة وأنّ الأدلّة اللفظيّة كلّها إرشادات إليها كما اعترفوا به ، فلا مجال للبحث عن التنزيل حتى يتبيّن أنّ المنزّل والمنزّل عليه ما هما. (م).

٤٩

وبعبارة أخرى : مؤدّى الأمارة إمّا موضوع من الموضوعات كخمريّة المائع أو حكم من الأحكام.

فإن كان الأوّل ، فدليل حجّيّة الأمارة يثبت الحكم الواقعي الثابت للخمر الواقعي لمشكوك الخمريّة حينئذ تعبّدا ، ويجعل ما ليس موضوعا للحكم الواقعي ـ وهو مشكوك الخمريّة ـ موضوعا له ، ويوسّع في دائرة موضوع الحكم الواقعي.

وإن كان الثاني ، فيثبت الوجوب الواقعي لما أدّى إليه الأمارة من الوجوب ، فيكون الوجوب المماثل مجعولا واقعا ، وهذا هو التصويب.

وأمّا لو قلنا بأنّ المجعول في الأمارات هو المنجّزيّة والمعذّريّة ـ كما يقول صاحب الكفاية (١) قدس‌سره ـ فلا يلزم محذور أصلا ، فإنّ الظنّ الحاصل من الأمارة على هذا يكون كالقطع في جميع الآثار تعبّدا ، غاية الأمر أنّ القطع حجّة منجعلة والظن حجّة مجعولة بالجعل الشرعيّ ، ومن آثار القطع أنّه لو كان مأخوذا في الموضوع ، يترتّب حكمه عليه ، ويكون منجّزا أو معذّرا ، فيكون الظنّ ـ الّذي هو بمنزلة القطع تعبّدا في جميع الآثار ـ أيضا كذلك.

وكذلك إذا قلنا بأنّ المجعول في الأمارات هو نفس الطريقيّة الكاشفيّة لا آثار الطريق والكاشف ، بمعنى أنّ الشارع جعل غير العلم علما تعبّدا ، فالمجعول هو الانكشاف التعبّدي ، فيكون حال الأمارة حال القطع بلا تفاوت ، غاية الأمر أنّ القطع انكشاف حقيقيّ في نظر القاطع ، والأمارة انكشاف جعليّ تعبّديّ ، ويترتّب عليه آثار القطع قهرا. وهذا هو الّذي اختاره شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٢ ـ ١٣.

٥٠

وهو الحقّ الحقيق بالتصديق ، فإنّ لازم كون المجعول المنجّزيّة والمعذّريّة هو التخصيص(١) في الأحكام العقليّة.

بيان الملازمة : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة غير قابلة للتخصيص ، موضوعها عدم البيان ، فالمكلّف الشاكّ لو كان داخلا في موضوع القاعدة بعد قيام الأمارة ـ بأن كان الحكم الواقعي لم يصل إليه بعد لا وصولا حقيقيّا ولا وصولا تعبّديّا ومع ذلك جعل الشارع التنجّز واستحقاق العقاب على فرض المخالفة ، والعذر على تقدير الموافقة وعدم الإصابة ـ فلازمه أن يخصّص القاعدة ويقال : إنّ العقاب بلا بيان من الشارع قبيح في جميع الموارد إلّا في مورد قيام الأمارة فهو غير قبيح ، كما يقال : اجتماع النقيضين في جميع الموارد مستحيل إلّا في مورد كان كذا ، وبطلان اللازم بديهيّ لا يحتاج إلى بيان.

وإن كان خارجا عن موضوع القاعدة ـ بأن كان قيام الأمارة رافعا لشكّه ، لجعل الأمارة بيانا وانكشافا تعبّديّا بإعطاء الشارع صفة الانكشاف التامّ لما ليس له ذلك في طبعه وكان له كشف ناقص ومع ذلك ـ أي مع جعل الانكشاف

__________________

(١) لمّا كانت حقيقة التخصيص والحكومة أمرا واحدا ـ والاختلاف بينهما في مقام الإثبات والبيان ، فإنّ التخصيص إخراج حكم الشيء بلسان نفي الحكم ، والحكومة إخراجه بلسان نفي الموضوع تعبّدا ـ فالحكومة والقول بالوسطيّة في الإثبات في الأمارة أيضا توجب التخصيص في الأحكام العقليّة. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ القول بالوسطيّة لا يوجب حكومة دليل الأمارة على قبح العقاب بلا بيان ، فإنّ شرط الحكومة أن يكون الحاكم والمحكوم من واحد ، وهنا ليس كذلك ، فإنّ الحاكم من الشارع والمحكوم من العقل. والصحيح هو الورود بجعل «البيان» في موضوع القاعدة هو الأعمّ من العلم الوجداني ، بل معناه الحجّة ، وبورود كلّ حجّة ينتفي «لا بيان» وجدانا بالتعبّد في قبال انتفاء الموضوع وجدانا بالتكوين وهو التخصّص. ولا فرق في تحقّق الورود بين المباني في المجعول في مورد الأمارة وإن كان الأنسب بلسان الأدلّة هو جعل الطريقيّة. (م).

٥١

للأمارة ـ جعل التنجيز والتعذير لها ـ فهو لغو لا يترتّب عليه إلّا ما استقلّ العقل به ، إذ بعد خروجه عن موضوع حكم العقل بقبح العقاب فالعقل يستقلّ بعدم قبحه ، فأيّ فائدة في جعل ما يستفاد من العقل ويترتّب على جعل الطريقيّة والانكشاف قهرا؟

والحاصل : أنّ القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو التنجيز والتعذير لا يمكن الالتزام به ، فالصحيح ما ذكرنا من أنّ المجعول هو نفس الطريقيّة والانكشاف ، فالقطع علم وجدانيّ ، والأمارة علم تعبّدي ، والعلم قابل للجعل ، إذ ليس المراد منه العلم الصفتي حتى لا يكون قابلا لذلك بل العلم الطريقي ، وهو نظير الزوجيّة والملكيّة ممّا هو قابل للاعتبار الشرعي ، فكما أنّ المولى له أن يعتبر الملكيّة ـ التي حقيقتها السلطنة على المال ـ لمن ليس له سلطة على المال أصلا ، والزوجيّة لمن لا يمكنه الوصول إلى زوجته ، كذلك له أن يعتبر الطريقيّة والانكشاف لما ليس له ذلك في طبعه ، وعلى هذا تكون الأمارة حاكمة على الواقع بحسب الظاهر بحيث لو انكشف الخلاف كان الواقع منجّزا ، فحال الأمارة حال القطع ، لما عرفت من أنّه قطع جعليّ وانكشاف تعبّديّ ، وإذا كان قيام الأمارة مقام القطع لمكان أنّه قطع تعبّديّ وانكشاف جعليّ ، ويترتّب الحكم الواقعي على ما قامت الأمارة عليه لذلك ، كان ترتّب وجوب التصدّق مثلا ـ الّذي هو من أحكام نفس الانكشاف ـ على الانكشاف التعبّدي أولى.

وبالجملة ، إذا كان المجعول في باب الأمارات هو العلم والانكشاف ـ وبتعبير شيخنا الأستاذ الوسطيّة في الإثبات (١) ـ فقيام الأمارات مقام القطع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٦.

٥٢

الطريقي المأخوذ في الموضوع من الوضوح بمكان.

وما ذكرنا هو الّذي يستفاد من بعض أدلّة حجّيّة الأمارات ، كقوله عليه‌السلام : «ما أدّياه عنّي فعنّي يؤدّيان (١)» إذ ليس المراد منه تنزيل المؤدّى منزلة قوله عليه‌السلام ، بل ظاهره تنزيل التأدية والإخبار من الراوي بمنزلة تأدية الإمام عليه‌السلام ، وإخباره ، بمعنى أنّ قول الإمام عليه‌السلام كما أنّه يفيد العلم ويحرز به الواقع كذلك قول العدل وإخباره يحرز به الواقع ويفيد العلم ، فالإمام عليه‌السلام جعل ما ليس له انكشاف ولا يكون فيه إحراز انكشافا ومحرزا للواقع.

والحاصل : أنّ الالتزام بما ذكرنا ـ من مجعوليّة العلم والانكشاف في باب الأمارات ـ لازم في مقام الثبوت والإثبات ، ومن هذه الجهة تقدّم الأمارات على الأصول ، فإنّ الأمارة بعد حكم الشارع بأنّها محرزة للواقع تعبّدا ترتفع موضوع الاستصحاب الّذي أخذ فيه الشكّ ولم يكن المكلّف بعد شاكّا بل كان محرزا للواقع إحرازا تعبّديّا ، وهكذا ترتفع موضوع الأصول غير المحرزة ، فإنّ موضوعها عدم البيان ، وقد تمّ البيان بواسطة الأمارة التي هي علم تعبّديّ ، ولولاه لأشكل الأمر في تقديم الأمارات على الأصول ، إذ لو كان المجعول هو المنجّزيّة والمعذّريّة فتشترك الأصول مع الأمارات في ذلك ، فلما ذا تقدّم الأمارة على الأصل مع أنّه أيضا منجّزا أو معذّر ، كالأمارة؟ ولما ذا لا يعكس الأمر؟ وتفصيل الكلام في محلّه.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ المجعول في باب الأمارات هو العلم والإحراز والانكشاف والوسطيّة في الإثبات والطريقيّة ، بأيّ اسم شئت عبّرت.

ويترتّب على ذلك أمران :

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٣٠ ـ ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٥٣

أحدهما : أنّ إخبار البيّنة بخمريّة مائع يكون رؤية الخمر الواقعي تعبّدا ، فيحكم بحكمه.

والآخر : [كون] قيام الأمارة بوجوب الصلاة هو القطع به تعبّدا ، بمعنى أنّ الشارع يرى من قام عنده الأمارة عالما ومحرزا للواقع ، فيترتّب عليه حكم العالم بالعلم الوجداني ، وهو وجوب التصدّق.

هذا تمام الكلام في قيام الأمارات مقام القطع ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه في القطع الصفتي لا تفي أدلّة حجّيّتها بذلك ، بخلاف القطع الطريقي المحض والمأخوذ في الموضوع من الطريقي.

وأمّا الكلام في قيام الأصول المحرزة ـ أي ما كان ناظرا في الجملة إلى الواقع ، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز على القول بأنّهما من الأصول لا الأمارات ـ مقامه ، فالحقّ فيه التفصيل.

وبيانه : أنّ القطع تارة يؤخذ في الموضوع على وجه الصفتيّة ، وعليه لا معنى لقيام الأصل المحرز مقامه ، كالأمارة.

وأخرى يؤخذ على نحو الطريقيّة ، وهذا القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة فيه جهتان :

جهة الانكشاف وإحراز الواقع ، والاستصحاب ـ مثلا ـ لا يقوم مقامه من هذه الجهة ، ضرورة أنّ ما يكون جزءا للموضوع هو إحراز الواقع ، والاستصحاب الّذي أخذ في موضوعه الشكّ في الواقع ، بمعنى أنّ الشارع لم يحكم بأنّ المكلّف ـ الّذي كان على يقين فشكّ ـ محرز للواقع ، بل جعل وظيفة له في ظرف الشكّ ، وهو الجري والعمل على طبق يقينه السابق ما لم ينتقض بيقين آخر ، فبعد تسليم الشارع كونه شاكّا كيف يمكن أن يقول : أنت محرز للواقع ومنكشف لديك ، حتى يتحقّق تعبّدا ما هو جزء للموضوع ، وهو

٥٤

إحراز الخمر الواقعي المترتّب عليه حكم الحرمة مثلا باستصحاب الخمريّة!؟

وجهة الجري العملي المترتّب على البناء والالتزام القلبي الّذي يسمّى بعقد القلب ، وهو من لوازم القطع وعوارضه لو لم يكن القاطع جاحدا ومشرّعا ، بمعنى أنّه من أفعال النّفس ومخترعاته ، فللنفس أن يبني بعد قطعه ويعتقد على طبق قطعه وعقد ما في قلبه بما في الخارج ويلتزم بما قطع به ، وله أن لا يعتقد ، كما قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١) فلو كان القطع أخذ في الموضوع من هذه الجهة ، فيقوم الاستصحاب مقامه ، فإنّ المكلّف بمقتضى التعبّد الشرعي كان وظيفته الجري على طبق الحالة السابقة ، بمعنى أنّه وإن كان شاكّا في الواقع ولم ينكشف الواقع لديه إلّا أنّه محرز لما يترتّب على الانكشاف ، وهو الجري والبناء ، ولم يكن متردّدا ومتحيّرا في أنّه هل يبني على هذا الطرف أو ذاك الطرف ، وإذا كان بانيا على أحد الطرفين ومعتقدا له تعبّدا ، فكان بناؤه التعبّدي واعتقاده الجعلي كبنائه الوجداني واعتقاده في ظرف القطع.

وبهذا البيان يظهر وجه تقديم الاستصحاب على الأصول غير المحرزة ، فإنّ موضوع تلك الأصول هو الشكّ والتحيّر من جميع الجهات من حيث الانكشاف ومن حيث الجري العملي ، بمعنى أنّ المكلّف إذا لم ينكشف لديه الواقع ولم يدر بأنّه أيّ شيء يعتقد ويبني على أيّ طرف؟ فهو وظيفته ـ في ظرف العمل ـ أن يعمل بما شاء ، وأنّه مطلق ومرفوع عنه ما لا يعلم به ، وموضوع الاستصحاب هو الشاكّ كذلك ، لكنّ الشارع رفع تحيّره من جهة الجري العملي ، وبعد تعبّد الشارع بالبناء على طبق الحالة السابقة فلا يبقى

__________________

(١) النمل : ١٤.

٥٥

مجال لأصل البراءة مثلا ولا موضوع له ، فإنّه لا يكون متحيّرا من حيث العمل والبناء. وتمام الكلام في محلّه إن شاء الله. هذا كلّه في قيام الأصول المحرزة مقام القطع.

أمّا الأصل غير المحرز ـ الّذي لا نظر له إلى الواقع أصلا ، وإنّما هو وظيفة عمليّة في ظرف الشكّ ، كأصالة البراءة والاحتياط ـ فلا وجه لقيامه مقام القطع مطلقا.

أمّا القطع الموضوعي : فواضح ، إذ المفروض أنّه أصل غير محرز ، فالواقع غير محرز لا وجدانا ولا تعبّدا ، فكيف يقوم ما لا يكون محرزا لا حقيقة ولا تعبّدا مقام المحرز الوجداني ، وهو القطع!؟

وأمّا عدم قيامه مقام القطع الطريقي : فلأنّ البراءة العقليّة عبارة عن حكم العقل بمعذوريّة المكلّف وعدم منجّزيّة الواقع في حقّه ، كما أنّ الاحتياط العقلي في موارد العلم الإجمالي والشبهات قبل الفحص عبارة عن حكم العقل بمنجّزيّة الواقع في حقّ المكلّف والمنجّزيّة والمعذّريّة من آثار القطع ، فكيف يقوم مقامه!؟

وبعبارة أخرى : الأثر المرغوب من القطع هو التنجيز والتعذير ، وأصل البراءة والاحتياط العقليّين ليسا إلّا إدراك العقل منجّزيّة الواقع وكون المكلّف مستحقّا للعقاب على تقدير المخالفة ، وإدراكه معذوريّته وعدم تنجّز الواقع في حقّه وقبح العقاب عليه ، اللذين هما أثران للقطع الطريقي ، وليس الاحتياط شيئا له أثر التنجّز شرعا ، كما أنّه ليس البراءة شيئا له أثر التعذير تعبّدا حتى يقوم مقام القطع الّذي يكون له هذان الأثران لا بالتعبّد بل ذاتا.

والبراءة الشرعيّة عبارة عن حكم الشارع بمعذوريّة المكلّف وعدم استحقاقه العقاب على تقدير الاقتحام في الحرام في ظرف الشكّ وعدم إحراز

٥٦

الواقع ولا يرفع الشارع شكّه كما في الأمارات والاستصحاب على وجه ، حيث إنّ من قام عنده الأمارة يرى الواقع ومحرز إيّاه تعبّدا ، ومن كان متيقّنا ثم شكّ كان محرزا للواقع من حيث الجري العملي بحكم الشارع «لا تنقض اليقين بالشكّ» بخلاف دليل أصل البراءة ، فإنّ لسانه لسان جعل الوظيفة في ظرف الشكّ لا إحراز الواقع ، وما لا يكون فيه جهة الإحراز بوجه من الوجوه كيف يقوم مقام المحرز الوجداني!؟

وهكذا الاحتياط الشرعي في الشبهات البدويّة ـ على مذهب الأخباريّين ـ وفيما ثبت أهمّيّته من الشارع ـ كالأعراض والنفوس ـ عبارة عن حكم الشرع حفظا للواقع ومراعاة لعدم فوات المصلحة الواقعيّة بالاحتياط وبعدم الاقتحام في الشبهة ، لا أنّه جعل المكلّف محرزا للواقع والواقع منجّزا عليه بحيث يعاقبه على ترك الواقع ، فإنّه مستحيل ، لأنّه عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، وقد عرفت أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان غير قابلة للتخصيص ، فلا يمكن للمولى أن يعاقب عبده على تكليف لم يصل إليه ولم يبيّن له.

نعم ، للمولى أن يعاقب عبده على مخالفته أمره بالاحتياط لو وقع ـ بمخالفته تكليف الاحتياط ـ في الحرام ، وإلّا فلا يترتّب عليه إلّا التجرّي.

بقي شيء وهو : أنّا لو أغمضنا عن لزوم التصويب من تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وثبوت حكم الواقع للمؤدّى هل يمكن قيام الأمارة على هذا القول ـ أي : القول بكون المجعول في باب الأمارات هو إثبات الحكم الواقعي للمؤدّى وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع ـ مقام القطع الطريقي المأخوذ في الموضوع ، أو لا يمكن ، كما أفاده صاحب الكفاية من أنّه مستلزم للجمع بين

٥٧

اللحاظين في آن واحد (١)؟ وهذا البحث وإن كان لا يترتّب عليه ثمرة ولا يفيد في المقام إلّا أنّه بحسب الكبرى الكلّيّة له فوائد مهمّة ، فالأولى التكلّم فيه كلّيّا.

فنقول : إنّ الدليل الدالّ على ثبوت شيء لشيء تارة يكون إحراز موضوعه كافيا في شمول الحكم له ، كما في «لا تشرب الخمر» فإنّ مجرّد إحراز كون المائع الخارجي خمرا كاف في ثبوت الحرمة وشمول دليلها له بلا احتياج إلى إحراز أمر آخر ، وفي هذا الفرض لا ريب في قيام الأمارة مقام القطع ، لشمول دليل اعتبار الأمارة لهذا المورد بواسطة أنّ نفس هذا الإحراز ، له أثر شرعي ، فلو أخبرت البيّنة بخمريّة مائع في الخارج ، فيشمل دليل اعتبار البيّنة وحجّيّتها له ، فيكون إخبار البيّنة إحرازا للخمر تعبّدا ، فيقوم مقام القطع.

وأخرى لا يكون كذلك ، بل يحتاج شمول الدليل له وترتّب الحكم عليه إلى عناية زائدة ، كما في دليل عدم انفعال الماء الكرّ ، فإنّ حكم عدم الانفعال مترتّب على المائع الّذي يكون ماء وكرّا معا ، وفي هذه الصورة حيث إنّ إحراز كون المائع كرّا بمجرّده لا يكفي في ثبوت حكم عدم الانفعال له ، بل لا بدّ من إحراز أمر آخر ، وهو كونه ماء ، فلو أخبرت البيّنة بكون المائع الخارجي كرّا ، لا يمكن شمول دليل اعتبار الأمارة وحجّيّة البيّنة لهذا المورد إلّا أن يحرز مائيّته أيضا بالبيّنة في عرض ذاك الإحراز ، أو بالوجدان ، إذ مورد دليل الاعتبار ما يكون للمؤدّى أثر شرعيّ عمليّ ، وما لا يترتّب عليه أثر كذلك أصلا لا معنى لتعبّد الشارع به ، والمفروض أنّ الأثر لا يترتّب إلّا على المائع الكرّ الّذي يكون ماء لا على المائع الكرّ ، فشمول دليل الأمارة للإخبار بالكرّيّة متوقّف على كون الماء ماء ، فلو كان مائيّة المائع أيضا متوقّفة عليه ـ أي : على الإخبار بالكرّيّة ـ ولم تثبت بالوجدان أو ببيّنة أخرى في عرض بيّنة الكرّيّة ، الدار.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٠٤.

٥٨

وملخّص الكلام : أنّ كلّ ما يكفي إحرازه في ثبوت الحكم له ، يشمله دليل الأمارة لو قامت عليه ، وما لا يكفي إحرازه في ذلك بل يحتاج إلى عناية أخرى ، لا يفيد قيام الأمارة عليه ، ولا يشمله دليل اعتبارها ، ومن هذه الجهة أنكرنا حجّيّة الأصول المثبتة ، فإنّ الأصل الّذي لا يترتّب عليه أثر شرعيّ عمليّ بل الأثر كان مترتّبا على لازمه العقليّ ، شمول دليل «لا تنقض اليقين بالشك» مثلا له يتوقّف على وجود الأثر له شرعا ، فلو كان وجود الأثر أيضا متوقّفا على شمول الدليل ، يلزم الدور.

نعم ، لو وردت رواية خاصّة على حجّيّة إخبار البيّنة بالكرّيّة أو استصحاب الحياة ، نحكم بعدم انفعال المائع ، وكونه ماء في الأوّل ، وإنبات اللحية ووجوب التصدّق في الثاني ، صونا لكلام الحكيم عن اللغويّة.

الأمر الثالث : قد مرّ أقسام القطع وأنّه امّا طريقي محض أو مأخوذ في الموضوع ، وإنّ الأوّل لا يمكن أخذه في موضوع متعلّق نفسه ولا في موضوع حكم آخر ضدّ ما تعلّق به القطع ، وأنّه يمكن أخذه في موضوع حكم آخر مثل ما تعلّق به ، خلافا لشيخنا الأستاذ. والثاني إمّا أخذ على وجه الطريقيّة أو الصفتيّة ، والثاني إمّا بنحو تمام الموضوع أو جزء الموضوع وقد عرفت الإشكال في أخذ الأوّل تمام الموضوع وأنّه قسم واحد وهو كونه جزء الموضوع.

وبقي من الأقسام قسم واحد ، وهو : أخذ القطع بمرتبة من الحكم في [موضوع] مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضدّه ، وصحّحه صاحب الكفاية (١).

وهو تامّ على مبناه من كون الحكم ذا مراتب ، حيث إنّه لا محذور في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٠٧.

٥٩

كون القطع بالوجوب الإنشائيّ المتعلّق بالحجّ مأخوذا في موضوع الوجوب الفعلي المتعلّق به الّذي هو مرتبة أخرى من عين ذاك الوجوب أو مثله ، وهكذا لا مانع من أخذ تلك المرتبة في موضوع مرتبة أخرى من ضدّه.

وأمّا على مسلكنا ـ من أنّه ليس للحكم إلّا مرتبتان (١) : مرتبة الجعل وإثباته للموضوع المقدّر وجوده ، ومرتبة المجعول ، وهي مرتبة تحقّق الموضوع وخروجه من مرحلة الفرض والتقدير إلى المرحلة الواقعيّة والتحقيق ، وأنّ كلّا من هاتين المرتبتين ذو أثر شرعي ، مثلا : إذا شكّ في وجوب الحجّ ، الثابت في الشريعة في زمان وأنّه هل نسخ بعد ذلك أو لا؟ يجوز استصحابه ، كما يجوز استصحاب وجوبه بعد تحقّق موضوعه الّذي هو استصحاب مرتبة المجعول منه ـ فلا يعقل ذلك ، ضرورة أنّ القطع بالوجوب الإنشائيّ بالمعنى الّذي ذكرنا ، وهو المرتبة الأولى من الحكم ، أي مرتبة الجعل ، والحاصل : قطع المكلّف بأنّ حكم وجوب الحجّ في حقّه جعل في الشريعة المقدّسة لا ينفكّ عن القطع بالوجوب الفعلي والمرتبة الثانية منه ، وهي مرتبة المجعول ، بل الأوّل عين الثاني ، فيكون أخذه في موضوع نفس الحكم بمرتبته الثانية دورا في نظر القاطع (٢) ، وأخذه في موضوع ضدّه اجتماع الضدّين في نظره.

__________________

(١) أقول : إطلاق الحكم على مرتبة الاقتضاء ليس بالحقيقة بل بالعناية ، وهو مراد الآخوند قدس‌سره ، خلافا لظاهر كلامه ، كما أنّ مرتبة الإنشاء والجعل أيضا ليست بالحكم حقيقة. هذا أوّلا.

وثانيا : مرتبة التنجّز أيضا من مراتب الحكم ، فللحكم ثلاث مراتب لا مرتبتان. (م).

(٢) أقول : لا إشكال في موضوعية العلم بمرتبة الإنشاء لمرتبة الفعلية ، كما أنّ العلم بمرتبة الفعلية موضوع لمرتبة التنجّز ، وهو ظاهر بعض روايات باب القصر والإتمام والجهر والإخفات. ولا بأس بخروج هذه الموارد من قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بها ، فعلم المستطيع بجعل الوجوب للمستطيع موضوع لصيرورة ذلك الوجوب فعليّا في ـ

٦٠