الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

كما أشرنا إليه سابقا ، وفي المقام الحكم الواقعي إمّا هو الحلّيّة المطلقة أو الحرمة المطلقة ، فجعل الإباحة المشروطة بترك الآخر ظاهرا لا يمكن ، إذ انقطع بخلافه ، فإنّ المفروض أنّ الحكم الواقعي مطلق غير مشروط بشيء قطعا.

وبالجملة ، لا يمكن شمول أدلّة البراءة لأحد الطرفين أو بعض الأطراف تخييرا ، كما لا يمكن شمولها لجميع الأطراف ، غاية الأمر أنّ المانع في جميع الأطراف ثبوتي بمعنى أنّه لا يعقل تعبّد الشارع بجواز مخالفة العلم الإجمالي قطعا ، ولو كان دليل الأصل ظاهرا في ذلك ، لا بدّ من رفع اليد عن ظهوره ، وليس في بعض الأطراف مانع في مقام الثبوت ، إذ لا مانع في اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي ، كما ذكرنا سابقا بل ، ليس ذلك مجرّد الفرض ، فإنّ له واقعا ، كما في مورد تحيّر المكلّف في أمر القبلة ، إذ ورد فيه رواية صحيحة ـ وأفتى على طبقها جماعة ـ على إجزاء الصلاة إلى أيّ طرف شاء المكلّف (١) ، بل المانع إثباتي ، إذ ليس لنا دليل عامّ أو خاصّ على إباحة أيّ فرد اختاره المكلّف.

وليعلم أنّ المعقول من التعبّد بجواز ارتكاب بعض الأطراف تخييرا إنّما هو التعبّد بإباحة أيّ فرد اختاره المكلّف في مقام الامتثال ، والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي فيما يختاره المكلّف ، وأمّا التعبّد بالحلّيّة والإباحة المشروطة بترك الآخر فهو غير معقول ، والمانع فيه ثبوتي.

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما نسب إلى المحقّق القمي ـ قدس‌سره ـ من عدم المانع من جريان الأصول في بعض الأطراف (٢).

بقي هناك أمور ينبغي التنبيه عليها :

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٩ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٤ : ٣١١ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، الحديث ٢.

(٢) قوانين الأصول ٢ : ٢٥.

٣٨١

الأوّل : أنّ وجوب الموافقة القطعيّة لا يدور مدار حرمة المخالفة القطعيّة ، فلو فرضنا عدم حرمة المخالفة القطعيّة في مورد لعدم القدرة أو غير ذلك ، لا يسقط وجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك لما ذكرنا من أنّ مدار منجّزيّة العلم الإجمالي على تساقط الأصول في الأطراف ، إذ بعد تساقط الأصول يكون احتمال التكليف الموجود في البين غير مقرون بالمؤمّن ، وكلّ احتمال التكليف الّذي لا يكون مقرونا بالمؤمّن من العقل أو النقل منجّز ولو كان احتمالا بدويّا ، ومقتضى منجّزيّة الاحتمال هو الاحتياط ، فالموافقة القطعيّة للتكليف المحتمل غير المقرون بالمؤمّن واجبة ولو لم يمكن مخالفته القطعيّة.

ومن هنا ظهر أنّ ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من أنّ وجوب الموافقة القطعيّة يدور مدار حرمة المخالفة القطعيّة ، ففي الشبهة غير المحصورة حيث لا تحرم المخالفة القطعيّة ، لعدم القدرة على ارتكاب جميع الأطراف لا تجب الموافقة القطعيّة أيضا (١) ـ لا يبتني على أساس صحيح.

الثاني : أنّ العلم الإجمالي مؤثّر فيما إذا لم يكن التكليف في بعض أطرافه منجّزا بواسطة القطع الوجداني أو قيام الأمارة عليه أو جريان أصل أو قاعدة بلا معارض ، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم في إناء معيّن ، وبعد ذلك علمنا إجمالا بوقوع قطرة أخرى من الدم إمّا في هذا الإناء أو إناء آخر ، أو قامت أمارة على نجاسة إناء معيّن ، وبعد ذلك علم إجمالا بوقوع قطرة إمّا في هذا الإناء أو إناء آخر ، أو كان إناء معيّن مستصحب النجاسة فوقعت قطرة إمّا فيه أو في إناء آخر بالعلم الإجمالي ، أو علم باشتغال ذمّته بصلاة أدائيّة بمقتضى قاعدة الاشتغال ، وبعد ذلك علم إجمالا باشتغال ذمّته إمّا بهذه الصلاة الأدائيّة أو صلاة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٦.

٣٨٢

أخرى قضائيّة.

والسرّ في جميع ذلك ما ذكرنا من أنّ مدار تأثير العلم الإجمالي ومنجّزيّته هو تساقط الأصول ، فإذا فرضنا وجود دليل في أحد الأطراف من علم أو أمارة أو أصل أو قاعدة بلا معارض ، فلا مانع من شمول دليل الأصل لباقي الأطراف ، إذ لا يلزم من شموله له ترجيح بلا مرجّح أو محذور آخر ، فيحكم بمقتضى أصل البراءة بإباحة شرب ما في الإناء الآخر الّذي لم يعلم بنجاسته ولم تقم أمارة على ذلك ولم تكن مستصحب النجاسة ، ويحكم بأصالة البراءة من وجوب القضاء في الفرض الأخير.

ومن هذا القبيل ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين وبعد ذلك علم إجمالا بوقوع قطرة من الدم إمّا في أحد هذين الإناءين أو إناء ثالث ، فإنّ العلم الإجمالي الثاني ـ حيث إنّ التكليف المحتمل في بعض أطرافه تنجّز بمقتضى العلم الإجمالي الأوّل ـ لا مانع من شمول دليل الأصل لطرفه الآخر ، ولا يلزم منه ترجيح بلا مرجّح ، كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما إذا طرأ العلم الإجمالي على هذه الأمور ، وهكذا فيما إذا كان الأمر على العكس بأن حصل العلم الإجمالي أوّلا ثم طرأت عليه هذه الأمور ، وذلك لوجود الملاك المتقدّم في هذا الفرض أيضا بعينه ، غاية الأمر أنّ الاصطلاح جرى في الفرض الأوّل بأنّ العلم الإجمالي لا يؤثّر ، وفي الثاني بأنّه منحلّ إلى العلم التفصيليّ أو ما بحكمه والشكّ البدويّ ، وهذا مجرّد اصطلاح ، وإلّا فالملاك واحد فيهما ، وهو عدم المعارض للأصل الجاري في الطرف الآخر ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي وإن كان منجّزا حين حدوثه إلّا أنّه يعتبر في بقاء التنجيز بقاء العلم ، وفي المقام بعد طروّ العلم التفصيليّ ـ مثلا ـ بنجاسة أحد الكأسين معيّنا حال حصول العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ينعدم العلم

٣٨٣

الإجمالي بقاء ، وينكشف أنّ الكأس الآخر لم يكن طرفا للعلم من أوّل الأمر.

نعم ، لو طرأ العلم التفصيليّ بنجاسة أحد الكأسين معيّنا فعلا لا حال حصول العلم الإجمالي ، فلا ريب في بقاء العلم الإجمالي الآن ، وأنّه منجّز بالقياس إلى الطرف المشكوك ، فإنّ التكليف المعلوم المردّد بين الطرفين حيث إنّه تنجّز بواسطة تساقط الأصول فمقتضى الاشتغال بقاؤه ولزوم الخروج عن عهدته.

لا يقال : إنّ الطرف المشكوك فعلا لا مانع من جريان الأصل فيه ، فإنّه بلا معارض.

فإنّه يقال : نعم ، لا مانع ثبوتا إلّا أنّ أدلّة الأصول قاصرة عن الشمول ، إذ ليس لها عموم أزماني حتى نتمسّك بها في مورد خرج عنها في زمان.

والحاصل : أنّ هذا الشك الموجود خرج عن أدلّة الأصول بواسطة التعارض في زمان ، وعوده ودخوله بعد ذلك تحت دليل الأصل يحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، وهذا نظير العلم التفصيليّ بوجوب صلاة الظهر مثلا ، وطروّ الشكّ بعد ذلك في امتثال هذا التكليف المعلوم ، والفرض السابق نظير العلم التفصيليّ بنجاسة شيء وطروّ الشكّ بعد ذلك في أصل النجاسة ، الّذي يسمّى بالشكّ الساري ، ومن المعلوم أنّ مثل هذا العلم التفصيليّ لا يكون منجّزا بعد انكشاف كونه في الواقع جهلا مركّبا ووهما وخيالا ، وظهور أنّ التكليف من الأوّل لم يكن معلوما ، فإذا كان الأمر في العلم التفصيليّ كذلك ، ففي العلم الإجمالي بطريق أولى ، وهذا بخلاف ما إذا لم يتعلّق الشكّ بأصل التكليف ، بل كان التكليف معلوما وكان الشكّ في امتثال التكليف المعلوم ، نظير العلم التفصيليّ بوجوب صلاة والشكّ في امتثالها.

والفرق بين الصورتين : أنّ ما تعلّق به الشكّ ثانيا عين ما تعلّق به العلم

٣٨٤

أوّلا في الصورة أولى ، وغيره في الصورة الثانية.

وبعبارة أخرى : في الصورة الأولى الشكّ الموجود فعلا شكّ في تكليف زائد ومغاير للشكّ الأوّل الّذي كان منشؤه العلم الإجمالي ، وفي الصورة الثانية الشكّ الموجود فعلا هو الشكّ الحاصل أوّلا بواسطة العلم الإجمالي بعينه.

وبالجملة ، كلّ ما كان الشكّ فيه من جهة الشكّ في انطباق ما هو المكلّف به يقينا عليه ، وعدمه فهو مورد للاشتغال ، كما إذا أتى بإحدى الصلاتين : الظهر والجمعة ، المعلوم وجوب إحداهما إجمالا ، فلا يمكن أن يقال : إنّ الأصل في الطرف الآخر بلا معارض ، إذ العلم بتوجّه التكليف قبل إتيان هذه الصلاة موجود والآن أيضا ، وبإتيان هذه الصلاة يشكّ في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم قبل ساعة ، وكما يحتمل انطباقه على الفرد المأتيّ به كذلك يحتمل انطباقه على غيره ، وكلّ ما رجع الشكّ فيه إلى الشكّ في أصل التكليف كان موردا للبراءة ، وفي جميع الموارد التي تنجّز التكليف في بعض أطراف العلم بمنجّز عقليّ أو شرعيّ يكون الشكّ في البعض الآخر شكّا في تكليف زائد ، فيرجع فيه إلى البراءة من دون فرق بين تنجّزه فيه حال العلم الإجمالي أو قبله ، فالإناء الأحمر مثلا ـ الّذي كان طرفا للعلم الإجمالي بالنجاسة يوم الجمعة ـ إذا علم بعد ذلك بنجاسته بالخصوص يوم الخميس ، أو قامت البيّنة على ذلك ، أو كان محكوما بذلك بحكم الاستصحاب ، كما إذا كان مسبوقا بالنجاسة ، أو الاشتغال الّذي هو أصل عقليّ ، كما إذا علمنا فعلا بنجاسته أو نجاسة إناء ثالث أصفر يوم الخميس ، كان الإناء الأبيض ـ الّذي كان أيضا طرفا للعلم الإجمالي بنجاسة إناء يوم الجمعة ـ موردا للبراءة ، إذ ليس لنا علم بالتكليف زائدا على ما ينطبق على الإناء الأحمر ، أو يحتمل انطباقه عليه وعلى الإناء الثالث الأصفر ،

٣٨٥

فالشكّ في نجاسة الإناء الأبيض شكّ بدويّ بقاء وإن كان مقرونا بالعلم الإجمالي حدوثا ، ولا يضرّ ذلك ، لما عرفت من أنّ المنجّزيّة دائرة مدار العلم حدوثا وبقاء من دون فرق بين العلم التفصيليّ والإجمالي.

والحاصل : أنّ كلّ ما كان بوجوده المقارن موجبا لعدم تأثير العلم الإجمالي كان بوجوده الواقعي السابق موجبا لانحلال العلم الإجمالي وإن كان بوجوده العلمي متأخّرا ، فإنّ العبرة بالمنكشف لا الانكشاف.

الأمر الثالث : أنّه إذا فرضنا أنّ الأصل الجاري في بعض أطراف العلم الإجمالي كان أكثر أثرا منه في البعض الآخر ولم يكن قدر مشترك في البين ، كما إذا علم إجمالا بنذر سورة وتردّد أمرها بين التوحيد يوم الخميس أو البقرة يوم السبت أو علم بكونه مديونا لأحد وتردّد أمره بين درهم لزيد أو درهمين لعمرو ، فلا ريب في تنجيز العلم من حيث جميع الآثار ، لتعارض الأصلين وتساقطهما ، فلا بدّ من الاحتياط ـ بحكم العقل ـ بقراءة كلتا السورتين ، وإعطاء دراهم ثلاث.

وأمّا إن كان أثر مشترك لكلّ من الأصلين وكان أحدهما مختصّا بأثر دون الآخر ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد المائعين اللذين أحدهما مضاف والآخر مطلق ، فإنّ لأصالة الطهارة أثرا مشتركا بينهما ، وهو : جواز الشرب ، وأثرا مختصّا بجريانها في الماء ، وهو : جواز التوضّؤ منه.

فذهب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ إلى تساقط الأصلين بالنسبة إلى الأثر المشترك ، وجريان أصالة الطهارة في الماء بالقياس إلى أثره المختصّ ، وهو : جواز التوضّؤ منه (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٠.

٣٨٦

والظاهر عدم تماميّة ذلك ، وذلك لأنّ أصالة الطهارة بعد أن سقطت بواسطة المعارضة ولم يحكم الشارع بطهارة الماء فلا يجوز التوضّؤ منه ، فإنّ من شرائط صحّة الوضوء إطلاق الماء ، اللازم إحرازه وجدانا أو تعبّدا ، وهو مفقود في المقام بكلا قسميه.

نعم ، لو لم يكن المعلوم بالإجمال نفس الحكم الشرعي بل كان سبب الحكم ، كما إذا علم إجمالا بأنّه استقرض من زيد درهما أو كسر إناءه الّذي يساوي درهمين ، فلا ريب في عدم تأثير العلم بالقياس إلى الدرهم الزائد ، وذلك لأنّ المكلّف لا يعلم اشتغال ذمّته بأزيد من الدرهم ، فالشكّ بالقياس إلى الزائد شكّ بدوي يرجع فيه إلى البراءة.

وليعلم أنّ العلم إجمالا بتنجّس شيء إمّا بالبول حتى يلزم غسله مرّتين أو بالدم حتى يكفي مرّة وإن كان من هذا الباب إلّا أنّه لا يجري فيه البراءة بالقياس إلى المرّة الثانية ، لوجود أصل حاكم عليه ، وهو استصحاب نجاسته بعد غسله مرّة.

الأمر الرابع : هل العلم الإجمالي في التدريجيّات منجّز أم لا؟

ومورد الكلام ما إذا كان احتمال التكليف منجّزا بواسطة العلم الإجمالي ، أمّا لو كان منجّزا مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي ، فهو خارج عن محلّ الكلام.

وهذا كما إذا علم إجمالا بابتلائه في إحدى معاملاته بالربا ، فإنّ احتمال حرمة كلّ معاملة من حيث الجهل بالحكم أو الموضوع منجّز ولو لم يكن مقرونا بالعلم الإجمالي ، ضرورة أنّ الشبهة حكميّة قبل الفحص في الجهل بالحكم ، ومصداقيّة لا يجوز التمسّك بها بعمومات (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) و (أَوْفُوا

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٣٨٧

بِالْعُقُودِ)(١) في الجهل بالموضوع.

وبعد ذلك نقول : إنّ أطراف العلم إذا كانت تدريجيّة تارة يكون كلّ واحد منها مقدورا للمكلّف فعلا وتحت اختياره ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد ثوبيه ، أو نذر أن يسكن في إحدى الدارين ، فإنّه قادر على إتيان الصلاة في هذا الثوب ، كما هو قادر على إتيانها في الآخر فعلا ، وهكذا قادر على أنّ يسكن في هذه الدار فعلا ، كما هو قادر على السكنى في الدار الأخرى فعلا وإن لا يقدر على الجمع بين السكنيين إلّا أنّه لا دخل له بما نحن بصدده ، وحينئذ لا ريب في تنجيز العلم الإجمالي من جهة أنّ التدريجيّة ناشئة من اختيار المكلّف ، وإلّا فالتكليف فعليّ واصل إلى المكلّف ، وهو قادر على امتثاله ، فلا بدّ من الخروج عن عهدته بعد تساقط الأصول في أطراف العلم.

وأخرى لا يكون مقدورا للمكلّف ، لتقيّد بعضها بزمان أو زمانيّ متأخّر يقطع بحصوله ، وهذا على قسمين :

قسم يعلم بفعليّة الخطاب ، كما إذا علم بنذر قراءة سورة إمّا اليوم أو غدا بناء على إمكان الواجب التعليقي ، كما اخترناه وقلنا بأنّه واقع في الشريعة المقدّسة أيضا.

وقسم آخر : لا يعلم بفعليّة الخطاب على كلّ تقدير ، وهذا بناء على إنكار الواجب التعليقي ، وهو أيضا على قسمين :

أحدهما : ما إذا كان الملاك تامّا فعلا بحيث لو أمكن المكلّف أن يجرّ الزمان أو الزمانيّ المتأخّر الّذي هو شرط في فعليّة الخطاب ، لأمره المولى بذلك ، كما في مثال النذر.

__________________

(١) المائدة : ١.

٣٨٨

والآخر : ما إذا لم يعلم بتماميّة الملاك فعلا ، كما في المستمرّة الدم ، التي تعلم بكونها حائضا في بعض أيّام الشهر ، المردّد بين جميع الشهر ، فإنّ تروك الحائض لا يتحقّق لها ملاك تامّ إلّا بعد تحقّق الحيض ، ففي أوّل الشهر حيث إنّها تحتمل كونها طاهرة لا تعلم بفعليّة حرمة دخول المسجدين واللبث في المساجد مثلا لا خطابا ولا ملاكا.

ولا ريب في تنجيز العلم الإجمالي في جميع الأقسام غير الأخير ، ضرورة أنّه يقبح للمولى الترخيص فيما حرّمه مع عدم رفع اليد عن حكمه بالتحريم حين الترخيص ، كما هو المفروض ، وكذلك يقبح له تفويت الملاك الملزم التامّ الفعلي الواصل إلى المكلّف.

أمّا الأخير : فقد احتمل جريان الأصول فيه ، بل بنى عليه ظاهرا الشيخ (١) قدس‌سره ، ووافقه صاحب الكفاية (٢) ، نظرا إلى أنّ الشكّ في مثل المقام شكّ بدويّ بالقياس إلى الطرف الأوّل ، إذ المفروض عدم العلم بتوجّه خطاب من المولى فعلا ولا بوجود ملاك تامّ فعلا ، وأنّه ليس في البين إلّا مجرّد احتمال التكليف والملاك ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل الموجود فيه ، وهكذا بالقياس إلى باقي الأطراف.

وخالفهما شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ في ذلك ، وبنى على تساقط الأصول وقبح الترخيص في جميع الأطراف في الأخير أيضا كسابقه من جهة أنّ العقل ـ الّذي هو حاكم في المقام ـ لا يفرّق بين ما إذا كان الغرض والملاك موجودا بالفعل وبين ما يعلم بوجوده بعد مدّة في قبح تفويته ، بداهة أنّه كما لا يشكّ أحد من العقلاء في أنّ العبد ـ الّذي يعلم بأنّ المولى عطشان فعلا ـ يستحقّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٥٥.

(٢) كفاية الأصول : ٤٠٨.

٣٨٩

العقاب على إهراق الماء الموجود كذلك لا يشكّ في استحقاقه العقاب على إهراق الماء إذا لم يكن المولى عطشان فعلا ولكنّه يعلم بأنّه بعد ساعة يعرض له العطش المهلك ، وكما يقبح للمولى تفويت الملاك الموجود في الأوّل كذلك يقبح في الثاني تفويت ما يوجد بعد ذلك من الملاك (١).

والأمر كما أفاده قدس‌سره ، فالحقّ تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات بتمام أقسامها.

الأمر الخامس : في الشبهة غير المحصورة.

والكلام يقع تارة في مفهومها ، وأخرى في حكمها.

أمّا مفهومها : فالظاهر أنّ ليس لها معنى محصّل ، فإنّ المراد من عدم الحصر إن كان ما تكون أطرافه بمرتبة من الكثرة يعسر عدّها ، ففيه أوّلا : أنّه إحالة إلى المجهول ، حيث إنّه تختلف الموارد باختلاف زمان العدّ ، فإن كان مقدار ثانية ، يعسر عدّ ما كان أطرافه عشرة ، وإن كان مقدار يوم ، لا يعسر عدّ ما كان أطرافه آلافا. وتقييد ذلك بالزمان القليل أيضا إحالة إلى المجهول ، إذ لا يعلم أنّه الثانية أو الدقيقة أو الساعة.

وثانيا : لازمه أن يكون ما إذا تنجّس حبّ من التمّن ، المردّد بين قدر من الطبيخ من الشبهة غير المحصورة مع أنّهم لا يلتزمون به. والقول بأنّ الاعتبار باللّقم لا بالحبوب لا وجه له ، فإنّ اللقمة ليست طرفا للعلم.

وإن كان المراد من عدم الحصر هو ما يعدّ في العرف غير محصور ، كما قال بعض (٢) ، ففيه ـ مضافا إلى أنّه ليس من موارد ما يؤخذ مفهومه من العرف ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

(٢) نسبة الشيخ في فرائد الأصول : ٢٦٠ إلى الشهيد والمحقّق الثانيين والميسي وصاحب المدارك.

٣٩٠

لعدم ورود هذا اللفظ في آية أو رواية موضوعا لحكم ـ أنّه تكون المسألة عقليّة لا ضابط لها أيضا كما لا يخفى.

وإن كان المراد أن تكون الأطراف بحدّ من الكثرة يوجب موهوميّة احتمال التكليف في كلّ طرف ، كما ذهب إليه الشيخ (١) قدس‌سره ، ففيه ـ مع أنّه أيضا لا ضابط له ، بداهة أنّ ما كان أطرافه عشرة أيضا يكون احتمال وجود النجس في كلّ طرف بالخصوص موهوما بالنسبة إلى وجوده في التسعة الباقية ، فأيّ مرتبة من الموهوميّة يكون ميزانا لعدم الحصر؟ ـ أنّه لا وجه لرفع اليد عن حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكليف المعلوم الواصل مع القدرة على امتثاله بمجرّد ضعف الاحتمال.

وإن كان المراد منه ما بلغت كثرة الأطراف بمرتبة لا يمكن للمكلّف ارتكاب جميعها عادة ، كما فسّره به شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره ، ففيه (٢) : أنّه إن كان مراده ـ قدس‌سره ـ من عدم الإمكان دفعة واحدة ، فهو يختلف باختلاف الموارد ، ولا ميزان له ، فربّ مورد لا يمكن للمكلّف ارتكاب جميع أطراف ما تكون أطرافه عشرة ، كما إذا اشتبهت دار مغصوبة بين عشرة دور والمكلّف قادر على ابتياع واحدة أو اثنتين من هذه الدور ، ولا يمكنه ابتياع جميع العشرة. وإن كان مراده ـ قدس‌سره ـ عدم الإمكان تدريجا ، فقلّما يتّفق مورد ـ ولو بلغ من الكثرة ما بلغ ـ لا يمكن للمكلّف ارتكاب جميع أطرافه تدريجا ولو في تمام عمره.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٦١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٥.

(٣) أقول : يرد عليه أوّلا أنّ عدم التمكّن من المخالفة القطعية لا بدّ وأن يكون مستندا إلى كثرة الأطراف ، وما نقض به في المتن ليس كذلك بل مستند إلى تضادّ الأطراف.

وثانيا : لا مجال لتقسيم عدم التمكّن إلى الدفعي والتدريجي ، فإنّه لو أمكنت المخالفة القطعيّة فهو خارج عن الشبهة غير المحصورة سواء أمكنت دفعة أو تدريجا. (م).

٣٩١

أمّا حكم الشبهة غير المحصورة : فبعد ما عرفت من عدم معنى محصّل لها لا يبقى مجال للبحث عن حكمها ، فالتحقيق أن يقال : إنّ موارد العلم الإجمالي بالتكليف سواء كانت الشبهة محصورة أو كانت غير محصورة ـ بأيّ معنى من الحصر وعدمه ـ لا يخلو عن أحد أقسام ثلاثة :

قسم : لا يمكن للمكلّف موافقته القطعيّة ولا مخالفته القطعيّة ، وهذا من موارد دوران الأمر بين المحذورين ، وقد تقدّم أنّه مورد البراءة عقلا ونقلا.

وقسم آخر : لا يمكن موافقته القطعيّة ولكن يمكن مخالفته القطعيّة ، كما إذا اشتبه أمر القبلة بين الجهات الأربع ، وتردّد الثوب الطاهر بين عشرة ثياب ، وتردّد المسجد الطاهر أيضا بين عشرة ، فحينئذ تحصل الموافقة القطعيّة بإتيان أربعمائة صلاة ، وهو غير مقدور للمكلّف ، لعدم سعة الزمان المحدود له لذلك ، ولكن يمكنه المخالفة القطعيّة بترك الصلاة رأسا ، ولا ريب في حرمة المخالفة القطعيّة في هذا القسم والاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة بالمقدار الممكن.

وقسم ثالث : عكس السابق ، وهو ما أمكنت موافقته القطعيّة دون المخالفة القطعيّة ، كما مثّلنا له سابقا بأن علم إجمالا بحلفه على ترك سكنى دار أوّل طلوع الشمس وتردّد أمر هذه الدار بين دارين ، فإنّ موافقته القطعيّة ممكنة بترك السكنى في كلتيهما في هذا الوقت ، ولكن مخالفته القطعيّة غير ممكنة ، لعدم القدرة على السكنى في دارين في زمان واحد ، وقد ذكرنا أنّ الموافقة القطعيّة واجبة ، ولا يدور وجوبها مدار حرمة المخالفة حتى ينتفي بانتفائها ، كما التزم به شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ، لأنّ الميزان في تنجيز العلم بل كلّ احتمال للتكليف عدم مقرونيّته للمؤمّن العقلي أو الشرعي ، وهو مفقود في المقام ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٦.

٣٩٢

لتساقط الأصول بواسطة التعارض ، وأمّا عدم حرمة المخالفة القطعيّة فليس لقصور في ناحية التكليف حتى يلازم عدم وجوب الموافقة ، بل لعدم قدرة المكلّف من جهة عدم تميّز المكلّف به.

والحاصل : أنّه يجب الاجتناب في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، سواء كثرت الأطراف أو قلّت ، لعدم وجود المؤمّن ، واحتمال التكليف ـ الّذي هو مساوق لاحتمال العقاب ولو كان موهوما بمرتبة من الوهم لا تتصوّر تحتها مرتبة ـ ما لم يكن مقرونا بالمؤمّن منجّز.

نعم ، كثرة الأطراف تلازم غالبا ما يوجب سقوط العلم عن التنجيز من الخروج عن محلّ الابتلاء أو العسر أو الحرج.

ودعوى الإجماع على عدم لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة من السقوط بمكان ، فإنّ هذه المسألة من المسائل المستحدثة ، مضافا إلى أنّ الإجماع لو سلّم فهو محتمل المدركيّة ، لاحتمال أن يكون مستند المجمعين أحد الوجوه المذكورة لعدم لزوم الاجتناب.

كما أنّ دعوى أنّ في الحكم بالاجتناب عن جميع أطراف الشبهة غير المحصورة حرجا نوعيّا منفيّا بأدلّة نفي الحرج ، أيضا ساقطة ، فإنّ أدلّة نفي الحرج والعسر ـ كسائر أدلّة الأحكام ـ سيقت بنحو القضايا الحقيقيّة ، فالمستفاد منها أنّ كلّ مكلّف في أيّ زمان إذا كان حكم من الأحكام حرجيّا عليه ، فهو منفيّ عنه ، فلو فرضنا أنّ الوضوء حرجيّ على عامّة المكلّفين ، لبرودة الهواء أو غير ذلك ، ولم يكن حرجيّا بالقياس إلى مكلّف خاصّ ، لحرارة مزاجه مثلا ، لا يمكن الحكم بأنّه يتيمّم ، لمرفوعيّة وجوب الوضوء بأدلّة الحرج ، بل اللازم عليه هو الوضوء ، لعدم تحقّق العنوان ـ المأخوذ في أدلّة نفي الحرج ـ في حقّه ، وهو حرجيّة الوضوء وإن كان متحقّقا في حقّ غيره.

٣٩٣

نعم ، لو كان الحرج حكمة للتشريع ـ كما في خيار الشفعة ، الّذي حكمة جعله هو ضرر الشريك نوعا ، أو غسل الجمعة ، أو العدّة ، أو غير ذلك ممّا يكون أمر نوعي حكمة لأصل الجعل والتشريع لا عنوانا مأخوذا في دليله ـ لتمّ ما ذكر ، إلّا أنّه ليس الأمر كذلك. ولتحقيق المطلب محلّ آخر.

وربّما يتمسّك لعدم لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة : بقوله عليه‌السلام في الرواية الواردة في الجبن : «أمن أجل مكان واحد تجعل فيه الميتة حرم ما في الأرض جميعا؟» (١).

والظاهر أنّ موردها بقرينة قوله عليه‌السلام : «حرم ما في الأرض جميعا» ما يكون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء ، فلا يكون دليلا للمطلوب.

بقي شيء ، وهو : أنّه لو فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال مائة وتردّد أمرها بين ألف ـ ويسمّى هذا الفرض في الاصطلاح بشبهة الكثير في الكثير ـ فعلى ما ذكرنا من عدم الفرق بين كثرة الأطراف وقلّتها في تنجيز العلم لا بدّ من الاجتناب عن جميع الأطراف ما لم يقترن بمانع آخر.

وهكذا على ما أفاده الشيخ من سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بواسطة موهوميّة احتمال التكليف في كلّ طرف فيما كثرت أطراف الشبهة ، فإنّ نسبة المائة إلى الألف نسبة الواحد إلى العشرة ، فحكمها حكم الواحد المردّد بين العشرة ، الّذي يحكم الشيخ ـ قدس‌سره ـ بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف.

وعلى مبنى شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ يلحق بالشبهة غير المحصورة ، فإنّ ضابطها عنده ـ قدس‌سره ـ عدم إمكان ارتكاب الجميع للمكلّف بحيث يعلم بالمخالفة القطعيّة ، ولا يمكن في المقام المخالفة القطعيّة للمكلّف ، لتوقّفها

__________________

(١) المحاسن : ٤٩٥ ـ ٥٩٧ ، الوسائل ٢٥ : ١١٩ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

٣٩٤

على ارتكاب تسعمائة وواحد ، وهو غير مقدور للمكلّف ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعيّة لم تجب الموافقة القطعيّة أيضا على مبناه.

تذييل : لو بنينا على عدم لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ، فهل حينئذ تكون الشبهة كلا شبهة ، أو يكون العلم كلا علم بحيث يكون حال الشبهة غير المحصورة ، المقرونة بالعلم الإجمالي حال الشبهة البدويّة؟

وتظهر ثمرة هذا النزاع فيما إذا كان مورد الاشتباه في نفسه مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي مقتضيا للاحتياط ، كما إذا تردّد مائع مضاف بين عدد غير محصور من الإناءات التي فيها ماء مطلق ، فإنّ المائع المشتبه كونه ماء مطلقا أو مضافا لا يجوز التوضّؤ منه ولو كانت الشبهة بدويّة.

فعلى القول بأنّ الشبهة كلا شبهة يجوز التوضّؤ من كلّ مائع من هذه المائعات الكثيرة التي واحد منها مضاف ، إذ المفروض أنّ احتمال وجود المضاف فيها ملغى ، والشبهة كلا شبهة ، فكأنّما نعلم بإطلاق كلّ منها.

وعلى القول بأنّ العلم الإجمالي كلا علم ، وكأنّه لم يحصل لنا العلم الإجمالي ، لا يجوز التوضّؤ من شيء منها بمعنى أنّه لا يجوز الاكتفاء بالتوضّؤ بواحد منها ، إذ المفروض أنّ نفس الشبهة ـ ولو كانت بدويّة ـ تقتضي الاحتياط.

والظاهر أنّه يختلف الحكم باختلاف المدارك في عدم لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة.

فعلى مبنى الشيخ قدس‌سره ـ من ضعف احتمال التكليف عند كثرة الأطراف وعدم اعتناء العقلاء به بحيث يعدّ المعتني به من الوسواسين ـ لا بدّ من الالتزام بأنّ الشبهة كلا شبهة ، وأنّه يجوز التوضّؤ في المثال ، لضعف احتمال الإضافة في كلّ مائع ، وعدم اعتناء العقلاء به ، فكأنّه لم يكن.

وعلى مبنى شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من أنّ الملاك عدم حرمة المخالفة

٣٩٥

القطعيّة ، لعدم القدرة عليها ، وأنّه من جهتها لا تجب الموافقة أيضا ـ لا بدّ من الالتزام بأنّ العلم كلا علم ، وأنّه لا يجوز التوضّؤ في المثال ، فإنّ العلم الإجمالي الّذي لا تجب موافقته ، لعدم حرمة مخالفته يكون حاله حال الشبهة البدويّة ، فإذا فرضنا في مورد أنّ الشبهة البدويّة اقتضت الاحتياط ، فما هو بمنزلته أيضا من العلم الإجمالي مقتض للاحتياط في مثل هذا المورد.

ومن هنا ظهر أنّ ما أفاده قدس‌سره ـ من جواز التوضّؤ لصيرورة المضاف في البين كالتالف (١) ـ لا يوافق مبناه ، فإنّ ما ذكره من كونه كالتالف جار فيما أمكن فيه المخالفة القطعيّة أيضا من الشبهة التي كثرت أطرافها بحيث صار المعلوم بالإجمال كالتالف مع أنّه ـ قدس‌سره ـ لا يلتزم به.

مع أنّه لا معنى لصيرورته كالتالف ، وهل يلتزم ـ قدس‌سره ـ بصيرورة الدرهم المأخوذ من الغير المختلط مع ألفين درهم من نفس الآخذ كالتالف فلا يضمن لصاحبه؟

الأمر السادس : في الاضطرار إلى بعض الأطراف. والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في الاضطرار إلى البعض المعيّن. وله صور ، أولاها : ما إذا تحقّق الاضطرار بعد حدوث التكليف وتنجّزه.

صريح كلام الشيخ ـ قدس‌سره ـ أنّ العلم الإجمالي منجّز ـ في هذه الصورة ـ في باقي الأطراف ، نظرا إلى أنّ الشكّ بعد الاضطرار إلى طرف معيّن عين الشكّ قبل حدوث الاضطرار ، وبعد ما لم يقترن بالمؤمّن ـ لتساقط الأصول في أطراف العلم في زمان ـ لا دليل على جواز ارتكابه ، فيبقى العلم بالقياس إلى غير

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٨.

٣٩٦

المضطرّ إليه من الأطراف على تنجيزه (١).

وخالفه صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ في متن الكفاية بدعوى أنّ العلم يزول بمجرّد حدوث الاضطرار ، فإنّ عدم الاضطرار من حدود التكليف وقيوده ، حيث إنّ من شرائط التكليف بشيء أن لا يكون مضطرّا إليه ، فالشكّ بعد ذلك بدويّ تجري البراءة فيه.

ثمّ أشكل على نفسه بأنّ لازمه القول به في مورد فقدان بعض الأطراف.

وأجاب : بأنّ فقدان بعض الأطراف ليس من قيود التكليف ، بخلاف عدم الاضطرار (٢).

ورجع عن هذا المبنى في هامش الكفاية (٣) ، ووافق الشيخ قدس‌سره. والرجوع في محلّه.

وما أفاده في جواب الإشكال الّذي أورده على نفسه ـ من أنّ فقدان بعض الأطراف ليس من حدود التكليف وقيوده ـ ليس في محلّه ، حيث إنّ وجود الموضوع أيضا من شرائط فعليّة التكليف ، فلا بدّ من إحرازه ، وبفقدان بعض الأطراف يحتمل فقدان موضوع التكليف ، الّذي هو مساوق لانتفاء نفس التكليف ، وهذا واضح لا يخفى.

وبالجملة ، لا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في هذه الصورة بقاء كما كان منجّزا حدوثا.

وهكذا لا إشكال في عدم تنجيزه في الصورة الثانية ، وهي ما إذا تحقّق سبب التكليف بعد تحقّق الاضطرار ، ضرورة أنّه ليس في البين حينئذ إلّا

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٥٤.

(٢) كفاية الأصول : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٣) هامش كفاية الأصول : ٤٠٩.

٣٩٧

احتمال حدوث التكليف.

مثلا : لو اضطرّ المكلّف إلى شرب أحد المائعين ، الّذي هو الماء ، ثمّ بعد ذلك علم إجمالا بوقوع قطرة من الدم إمّا فيما اضطرّ إلى شربه لرفع عطشه المهلك أو في المائع الآخر الّذي هو الخلّ ولم يضطرّ إليه ، لم يكن للمكلّف علم بحدوث التكليف أصلا ، إذ على تقدير وقوع الدم في الماء فهو غير مكلّف بالاجتناب قطعا ، لمكان الاضطرار إلى شربه ، فيبقى مجرّد احتمال بدويّ للتكليف ناشئ عن احتمال وقوع الدم في الخلّ ، ولا مانع من جريان أصل البراءة فيه ، لعدم أصل معارض له.

وإنّما الإشكال في الصورة الثالثة ، وهي ما إذا اضطرّ المكلّف إلى شرب الماء في المثال ثمّ بعد ذلك علم إجمالا بوقوع النجاسة قبل الاضطرار إلى شرب الماء إمّا فيه أو في الخلّ.

وهذه الصورة متوسّطة بين الصورة الأولى والثانية ، وقد اتّفقت كلمات شيخنا الأنصاري (١) وشيخنا الأستاذ (٢) وصاحب الكفاية (٣) ـ قدس‌سره ـ على عدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الصورة كسابقتها ، وألحقوا بتلك صورة حصول العلم بوقوع النجاسة في أحدهما حال تحقّق الاضطرار إلى شرب الماء. والحقّ معهم قدس‌سره.

والبحث لا يختصّ بصورة الاضطرار ، بل يعمّ الخروج من مورد الابتلاء ، والفقدان ، ففي كلّ مورد جاز للمكلّف ارتكاب شيء للاضطرار ، أو خروج طرفه عن محلّ الابتلاء ، أو فقدانه ، وبعد ذلك صار طرفا للعلم الإجمالي بالتكليف قبل عروض هذه الأمور ، لم يكن العلم الإجمالي منجّزا ،

__________________

(١ ـ ٣) فرائد الأصول : ٢٥٤ ، أجود التقريرات ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، كفاية الأصول : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

٣٩٨

فيجوز شرب المائع غير المضطرّ إليه مثلا ، كما يجوز شرب ما يضطرّ إلى شربه ما دام الاضطرار باقيا ، أمّا بعد رفع الاضطرار بشرب بعض الماء مثلا ، فيكون العلم منجّزا ، لوجود ملاك التنجيز الّذي هو تساقط الأصول.

والوجه في عدم التنجيز في جميع ذلك : أنّ قبل تحقّق الاضطرار لو كان المكلّف غافلا عن حدوث التكليف ، لم يكن الأصل جاريا في الطرفين حتى يقع التعارض بين الأصلين ويتساقطا ، ولو كان ملتفتا إلى التكليف ، فالمفروض أنّه لم يكن عالما به ـ وإنّما حصل له العلم بعد الاضطرار ـ حتى تتساقط الأصول في أطراف علمه بالتكليف ، فكان جميع الأطراف موردا لأصل البراءة في ذلك الزمان.

وبعد تحقّق الاضطرار أيضا ـ كما عرفت ـ ليس في البين إلّا احتمال التكليف ، فلم يمض زمان على المكلّف كان التكليف منجّزا عليه بواسطة تعارض الأصول وتساقطها حتى يقال : لا دليل على البراءة في الطرف غير المضطرّ إليه بعد عدم شمول دليل الأصل في زمان ، وإنّ عوده بعد سقوطه في زمان يحتاج إلى دليل خاصّ مفقود في المقام.

وبالجملة ، لا مانع من شمول دليل الأصل للطرف غير المضطرّ إليه إلّا ما يتوهّم من أنّ قاعدة الاشتغال واستصحاب بقاء كلي التكليف محكّم في المقام.

وحاصل الشبهة : أنّ وجوب الاجتناب المحتمل انطباقه على كلّ من الطرفين كان قبل الاضطرار تكليفا فعليّا ثابتا على الفرض ، غاية الأمر أنّه لم يكن منجّزا حال ثبوته ، لعدم العلم به حينئذ ، وبعد تحقّق الاضطرار دار أمره بين مقطوع الزوال على تقدير انطباقه على الطرف المضطرّ إليه ، ومقطوع البقاء على تقدير انطباقه على الطرف الآخر ، فحاله حال العلم بثبوت جامع الحدث المردّد

٣٩٩

بين الأكبر والأصغر المقطوع بقاؤه بعد التوضّؤ على الأوّل ، والمقطوع زواله بعد ذلك على الثاني ، فتحقّق في محلّه جريان مثل هذا الاستصحاب المسمّى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، فلا مانع من استصحاب كلّي وجوب الاجتناب في المقام ، كما لا مانع من استصحاب كلّي الحدث وإن لا تترتّب على هذا الاستصحاب آثار الفرد من حرمة دخول المسجد والمسّ وغير ذلك ، وإنما تترتب عليه آثار نفس الكلّي من عدم جواز الدخول في الصلاة إلّا بعد الغسل.

وحاصل الجواب : أنّه فرق بيّن بين العلم بثبوت أصل التكليف والشكّ في بقائه من أيّ سبب كان ، كما في مثال الحدث ، وبين الشكّ في أصل حدوث التكليف ، ولا ريب أنّ الأوّل مورد للاشتغال واستصحاب التكليف الثابت ، والثاني مورد للبراءة ، والمقام من قبيل الثاني لا الأوّل ، وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال في المقام إنّما هو التكليف الفعليّ على كلّ تقدير ، وهو مقطوع الزوال بعد تحقّق الاضطرار ، وما يحتمل بقاؤه هو وجوب الاجتناب المردّد تعلّقه بالماء المضطرّ إلى شربه حتى يكون ساقطا أو بالخلّ غير المضطرّ إلى شربه حتى يكون باقيا ، فالاستصحاب في المقام من قبيل استصحاب الفرد المردّد الّذي لا نقول به ، لا القسم الثاني من استصحاب الكلّي.

وبالجملة ، ليس الشكّ في المقام شكّا في بقاء التكليف بعد العلم بثبوته ، بل الشكّ في المقام شكّ في أصل حدوث التكليف ، فإنّ وجوب الاجتناب عن الخلّ غير المضطرّ إلى شربه لم يكن معلوما في زمان حتى نستصحبه أو نحكم بلزوم الخروج عن عهدته بحكم العقل ، بل من أوّل الأمر كان مشكوكا ، لاحتمال وقوع النجس في الطرف المضطرّ إليه.

المقام الثاني : في الاضطرار إلى بعض الأطراف لا على التعيين.

والظاهر أنّه لا يوجب سقوط العلم عن التنجيز في جميع الصور حتى

٤٠٠