الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

مقطوع؟ فهل المراد أنّه لا يمكن الإتيان بداعي أنّه مقطوع به؟ فهو وإن كان كذلك لكنّه غير معتبر في انطباق عنوان قبيح عليه ، ضرورة أنّ ضرب اليتيم مع التفاوت أنّه ظلم ، قبيح ولو كان بداع آخر غير الظلم ، كما لو ضرب بداعي امتحان عصاه وأنّها هل تنكسر أم لا؟

وإن كان المراد أنّه لا يمكن ذلك مع التفات القاطع بأنّه مقطوع به وعلمه به ، فإنّه ممنوع ، بداهة أنّ معلوميّة كلّ شيء بالقطع ومعلوميّته بنفس ذاته ، مضافا إلى أنّه لا وجه للترقّي بقوله : «بل لا يكون بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه» فإنّه عين الأوّل وليس أمرا آخر غيره.

نعم ، يمكن أن لا يكون القاطع ملتفتا إلى قطعه تفصيلا بحيث يتصوّره حين القطع وكان عالما بقطعه بالعلم الإجمالي الارتكازي فقط إلّا أنّ الالتفات الإجمالي كاف في طروّ عنوان قبيح عليه لو كان القطع بالحرمة ممّا يوجب ذلك.

مضافا إلى أنّ هذا ـ لو سلّم إنّما يتمّ في القطع بالانطباق وفي الشبهات الموضوعيّة ، مثل القطع بكون المائع الخارجي خمرا ، لا في الشبهات الحكميّة ، مثل ما لو قطع بكون شرب التتن حراما فشربه ، فإنّ شرب التتن بعنوانه الأوّليّ بعينه هو بعنوانه الآلي ، والقاطع بحرمته ، المتجرّي دائما يتجرّى ويشربه بعنوان شرب التتن ، كما لا يخفى.

وأمّا ما ادّعاه شيخنا الأستاذ من القطع بعدم كون القطع بخمريّة مائع موجبا لطروّ عنوان قبيح عليه ، فإنّ القطع لا يزيد عن الواقع المنكشف به بنظر القاطع ، فهو خلاف التحقيق.

٢١

والتحقيق (١) أنّ التجرّي موجب لعروض عنوان قبيح على الفعل المتجرّى به ، وهو عنوان الهتك والتعدّي والظلم على المولى ، والخروج عن زيّ الرقّيّة ووظيفة العبوديّة.

وبيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدّمة ، وهي : أنّه اختلف في الحسن والقبح وهل أنّهما من الأمور الواقعيّة التي لا تختلف ولا تتغيّر بالعلم بها أو الجهل بها والإرادة والاختيار وعدمه ، نظير الخواصّ والآثار المترتّبة على الأشياء التي لا تتغيّر بذلك ، أو أنّهما ممّا يدركه العقل ويختلفان بالوجوه والاعتبارات ، فربّ فعل بعنوان واعتبار يكون حسنا ، كضرب اليتيم تأديبا ، وبعنوان واعتبار آخر يكون قبيحا ، كضربه ظلما ، أو أنّهما أمران تابعان للأوامر والنواهي ، فما أمر به المولى فهو حسن ، وما نهى عنه فهو قبيح ، ولا طريق للعقل إلى إدراكهما ولا أنّهما أمران ذاتيّان واقعيّان للأشياء؟ أقوال.

لا يمكن الالتزام بالأوّل منها ، فإنّه خلاف الوجدان ، ضرورة أنّا نرى بالوجدان أنّ الفعل الواجد ـ كالكذب ـ يختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات حسنا وقبحا.

وهكذا الثالث منها ، بل هو أشنع من الأوّل ، لاستلزامه سدّ باب تصديق الأنبياء وتشريع الأحكام ، إذ لو لم يكونا من مدركات العقل فأيّ دليل لنا لوجوب إطاعة النبيّ وتصديقه؟

فإن قال القائل بهذا القول السخيف : إنّ ما وعده الله ـ تبارك وتعالى ـ وأوعده من ثواب الجنان للمصدّقين والمطيعين ، وعقاب النيران للمكذّبين

__________________

(١) أقول : الحقّ مع المنكر للقبح الفعلي وأنّ تلك العناوين من الظلم والتمرّد والطغيان على المولى ممّا لا واقعيّة له ، ولا تنطبق تلك العناوين على التجرّي ، لأنّه لا أمر للمولى فيه. (م).

٢٢

والعاصين هو الدليل.

قلنا : ما الدليل على أنّه ـ تبارك وتعالى ـ لا يتخلّف عن وعده ووعيده؟ وأيّ مانع من أنّه يثيب العاصي ويعاقب المطيع؟ فهل إلّا بواسطة أنّ الكذب على الله قبيح عقلا والظلم عليه مستحيل وقبيح كذلك؟ تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

والقائلون بهذا القول هم الأشاعرة غير الشاعرة ، وألجأهم إلى ذلك رأيهم الكاسد ومذهبهم الفاسد ، الّذي هو الجبر ، وهم يلتزمون بأنّ لله تعالى أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي ، وبغيره من التوالي الفاسدة ممّا تضحك به الثكلى. فخير الأقوال أوسطها ، وهو : أنّهما من مدركات العقل. وهذا ممّا يشهد على الوجدان ، ولا يحتاج إلى بيان ولا برهان.

ثمّ إنّ المراد بالحسن والقبح اللذين يدركهما العقل ليس المصلحة والمفسدة ، ولا المحبوبيّة والمبغوضيّة ، بل ما يحقّ أن يمدح فاعله عليه أو يذمّ بحيث لو مدح أو ذمّ وقع المدح أو الذمّ في محلّه. وهذا المعنى لا يجري في الأفعال غير الاختيارية ، فإنّ النائم الّذي لا يفعل عن إرادة وشعور لا يستحقّ أن يمدح على فعله لو صدر عنه فعل حسن في ذاته.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفعل المتجرّى به من المتجرّي طغيان وظلم وعدوان وتعدّ على المولى ، وهتك لحرمته ، وإظهار للجرأة عليه بالضرورة والوجدان ، ولا فرق بينه والعاصي في ذلك أصلا ، وقد عرفت أنّ القبح ينطبق على الفعل الاختياري ، ومناط القبح في الفعل الاختياري أيضا جهة اختياريته ، لا ما لا يكون اختياريّا للفاعل ، ومن المعلوم أنّ مناط القبح في فعل العاصي ليس إلّا هذه العناوين المذكورة لا المصادفة للواقع ، فإنّها غير اختياريّة له ، وعين هذا المناط موجود في المتجرّي بلا قصور ولا نقصان ، ولا ريب أنّه أيضا

٢٣

ـ كالعاصي ـ ملتفت إلى أنّ فعله مصداق للهتك والظلم ، فقد هتك عن اختيار والتفات ، وهو كذلك ممّا يستقلّ العقل بقبحه ويدرك أنّه يحقّ أن يذمّ فاعله ، ولو ذمّ فاعله عليه لوقع الذمّ في محلّه. ومن هنا لو اعتقد أحد بأنّ المائع الخارجي ماء وشربه بهذا الاعتقاد ، لم يتّصف فعله وشربه بالقبح ولو كان في الواقع خمرا.

وأقوى شاهد على ما ذكرنا أنّه لم يستشكل أحد من العقلاء ولم يشكّ في اتّصاف الفعل المنقاد به بالحسن واستحقاق المنقاد المدح عليه ، وهل يرضى أحد أنّ من قطع بأنّ مولاه يطلبه في الليل فوافق قطعه ، وذهب إليه في الليلة الباردة المظلمة ، وتحمّل المشاقّ الكثيرة وبعد ذلك انكشف أنّ المولى لم يكن يطلبه ، أنّه لم يفعل فعلا حسنا ولا يستحقّ المدح عليه؟ كلّا بل يراه العقلاء عبدا مطيعا منقادا طالبا لرضا مولاه ، ويمدحونه على هذا الفعل ، ويمدحه مولاه عليه ، بل يثيبه لذلك ، ومن المعلوم أنّ التجرّي والانقياد يرتضعان من ثدي واحد واتّصافهما بالحسن والقبح بمناط فارد.

أمّا الحيثيّة الثانية ـ وهي أنّ هذا القبح العقلي المتّصف به التجرّي هل يستتبع حكما شرعيّا أم لا؟ ـ فالحقّ فيها هو عدم الاستتباع ، وذلك لأنّه لا وجه له إلّا دعوى الملازمة بين حكم العقل والشرع ، وقد حقّقنا في محلّه أنّه لا أساس لهذه القاعدة ، وإن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، والحسن والقبح العقليّين غير ملازمين مع المصلحة والمفسدة.

نعم ، لو أدرك العقل المصلحة الملزمة أو المفسدة كذلك وأحرز أنّه لا مزاحم لها ، فيترتّب عليه ـ لا محالة ـ حكم شرعيّ ، للعلم بوجود ملاكه على الفرض ، وأمّا نفس إدراك الحسن والقبح فلا يترتّب عليه شيء ، بل نقول : إنّ الخطاب الشرعي للمتجرّي ، المستتبع عن قبح المتجرّى به غير معقول ، فإنّه إمّا

٢٤

أن يكون نفس الخطاب الّذي متكفّل للحكم الأوّلي الثابت لنفس الخمر مثلا أو غيره.

والأوّل بديهي البطلان ، إذ مرتبة القبح الفعلي متأخّرة عن مرتبة الخطاب والتكليف ، فإنّه يتحقّق في مقام الإتيان والامتثال.

مثلا : يتّصف شرب مقطوع الخمريّة بالقبح بعد ثبوت الحرمة للخمر الواقعي ، فاتّصافه بالقبح متأخّر عن خطاب «لا تشرب الخمر» فكيف يمكن أن يكون هذا القبح مستتبعا للحكم المتكفّل له نفس هذا الخطاب المتقدّم عليه!؟ والثاني إمّا متوجّه إلى خصوص المتجرّي ، أو عنوان شامل له وللعاصي ، كعنوان المتمرّد على المولى والهاتك لحرمته.

أمّا الأوّل : فهو ـ مضافا إلى القطع بأنّ المتجرّي ليس أسوأ حالا من العاصي ، وليست خصوصيّة في قبح المتجرّى به لم تكن تلك الخصوصيّة في المعصية حتى يستتبع هذا القبح الحرمة الشرعيّة ، ويخاطب فاعله بخطاب شرعيّ دون قبح العصيان ـ مستحيل ، فإنّ المتجرّي في حال التفاته إلى كونه متجرّيا وأنّ قطعه مخالف للواقع يخرج عن كونه متجرّيا وينقلب الموضوع ، ومع عدم التفاته لا يعقل أن ينبعث ببعث المولى ، فلا يعقل البعث أيضا ، فهو نظير تكليف الناسي حال نسيانه.

وأمّا الثاني : فهو مستلزم للتسلسل ، وذلك لأنّ عنوان الهاتك لحرمة مولاه ـ مثلا ـ الشامل للعاصي والمتجرّي لو كان مخاطبا بخطاب من جهة استتباع الهتك له ، لكان التجرّي محكوما بحكم شرعيّ ، لكونه هتكا ، ونفس هذا الحكم الشرعي أيضا تكون موافقته انقيادا ومخالفته هتكا لحرمة المولى ، فلا بدّ من خطاب شرعي آخر متوجّه إليه أيضا ، وهذا الحكم الثابت بهذا الخطاب أيضا له إطاعة وعصيان آخر ، فعلى تقدير المخالفة يتحقّق الهتك

٢٥

المستتبع للحكم الشرعي ، فلا بدّ من ثبوت حكم آخر ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، ولازمه أن يكون هناك أحكام غير متناهية وإرادات غير متناهية ومعاص غير متناهية ، إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة.

والحاصل : أنّه لا يمكن القول باستتباع القبح الفعلي في المتجرّى به للحكم الشرعيّ بوجه من الوجوه.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة ـ وهي الجهة الكلاميّة ـ : فحاصله أنّ المتجرّي مستحقّ للعقاب (١) بعين الملاك الّذي يوجب استحقاق العاصي له ، وذلك لأنّ العقاب لا بدّ وأن يكون على أمر اختياريّ ، وما هو اختياريّ في العصيان والتجرّي هو التجرّي بالمعنى اللغوي ، أي الجرأة على المولى وهتك حرمته ، الّذي يتحقّق بمخالفة القطع سواء صادف الواقع أو لم يصادفه ، ضرورة أنّ المصادفة للواقع وعدم المصادفة له ، أمران خارجان عن تحت اختيار المكلّف ، ولا يترتّب عليهما أثر أصلا ، ولذا نفس مخالفة الحكم الواقعي في ظرف الجهل وعدم الوصول لا يعاقب عليها ، فالعقاب دائما يكون في مرتبة الوصول ، وقبلها قبيح لا يصدر من الحكيم ، ومن البيّن أنّ في هذه المرتبة ما يكون ملاكا لاستحقاق العاصي للعقاب ليس إلّا الجرأة على المولى وهتك حرمته ، وهذا بعينه موجود في المتجرّي ، والعقل حاكم باستحقاق العقاب في المقامين بمناط واحد.

وعلى ذلك لا يبقى مجال لما أفاده في الفصول من تداخل العقابين في فرض مصادفة القطع للواقع ، أحدهما عقاب الإتيان بمبغوض المولى ، والآخر

__________________

(١) أقول : إذا لم يكن المتجرّى به حراما ـ كما اعترف به سيّدنا الأستاذ رحمه‌الله فمن أين يستحقّ العقاب ويستكشف استحقاقه؟ وأيضا إذا كان المتجرّى به هتكا وتعدّيا على المولى فلما ذا لا يكون حراما؟ (م).

٢٦

عقاب هتكه والجرأة عليه (١).

وذلك لما عرفت من أنّ العقاب دائما ليس إلّا على هتك حرمة المولى ، ففي فرض المصادفة أيضا ليس إلّا سبب واحد للعقاب.

ولا لما أفاده في الكفاية (٢) من أنّ العقاب ليس على الفعل المتجرّى به ، بل على قصد العصيان وإرادة الطغيان ، الناشئة عن سوء سريرته وشقاوته الذاتيّة له ، والذاتيّ لا يعلّل ، والسؤال عنه مساوق للسؤال عن أنّه لم يكون الإنسان ناطقا والحمار ناهقا؟ ، لما عرفت من أنّ العقاب على أمر اختياريّ ملتفت إليه ، وهو الهتك ، وقد مرّ في بحث اتّحاد الطلب والإرادة أنّ السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين للإنسان ، وذكرنا وجهه مفصّلا ، فراجع.

بقيت أمور :

الأوّل : أنّ شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ ذكر وجها لاستحالة استتباع القبح الفعلي ـ على تقديره ـ للحكم الشرعي بعد ما أنكر اتّصاف الفعل المتجرّى به بالقبح ، وهو : أنّ جعل الحكمين على عنوانين بينهما عموم من وجه من الوضوح بمكان ، كما إذا ورد «لا تكرم الفاسق» ثم ورد «لا تكرم ولد الزنا» ولا مانع منه ، ففي مورد الاجتماع يتأكّد الحكم ، ويندكّ أحد الملاكين في الآخر ، وفي مورد الافتراق يصير كلّ من الحكمين فعليّا والمكلّف يتمكّن من امتثال كلا الحكمين ويمكنه الانبعاث عن كلا البعثين ، وهذا ممّا لا ينكر ولا شبهة فيه في الجملة وفي غير ما يكون أحد العنوانين هو القطع بشيء.

وأمّا فيه فيستحيل ذلك ، وذلك لأنّ عنوان مقطوع الخمريّة ، والخمر وإن كان بينهما عموم من وجه ـ لتصادقهما في فرض المصادفة للواقع ، وتفارقهما

__________________

(١) الفصول : ٨٧.

(٢) كفاية الأصول : ٣٠٠ و ٣٠١.

٢٧

في صورة المخالفة ، وفي صورة وجود الخمر وعدم تعلّق القطع به ـ إلّا أنّ القطع حيث إنّه ليس إلّا انكشاف الواقع للقاطع فلا يمكن جعل حكم آخر ـ غير ما جعل على الخمر الواقعي ـ لمقطوع الخمريّة ، إذ القاطع دائما لا يرى إلّا الواقع ، فهو دائما يوافق الحكم الواقعي أو يخالفه ، والحكم الثاني الثابت لعنوان المقطوع خمريّته لا يصير فعليّا في حقّه أصلا ، فأيّ فائدة في جعل مثل هذا الحكم؟ وهل هو إلّا لغو محض مستحيل في حقّ الشارع الحكيم؟

هذا ، مضافا إلى استلزامه اجتماع المثلين في نظر القاطع ـ وإن لم يكن في الواقع كذلك ـ فيكون محالا بنظره ، ومعه يستحيل له أن ينبعث وانزجاره عن كلا البعثين وينزجر عن كلا الزجرين ، وإذا استحال الانبعاث عنهما يستحيل البعث إليهما أيضا (١).

هذا ، وما أفاده ـ قدس‌سره ـ غير تامّ.

أمّا أوّلا : فلأنّه على فرض صحّته لا يجري إلّا في القطع بالحكم ، أمّا القطع بالموضوع فيمكن انبعاث المكلّف عن كلا البعثين وانزجاره عن كلا الزجرين.

مثلا : لو فرضنا أنّ المكلّف علم بحرمة الخمر الواقعي ولم يظفر بما دلّ على حرمة مقطوع الخمريّة ، فحينئذ يمكن أن ينزجر عن خصوص نهي «لا تشرب الخمر الواقعي» بعد تحقّق موضوعه ، كما أنّه لو علم بحرمة مقطوع الخمريّة ولم يظفر بدليل حرمة الخمر الواقعي ، يتنجّز عليه خطاب «لا تشرب ما قطعت بخمريّته» ويمكنه الانزجار عنه ، فحيث يمكن الانبعاث والانزجار عن كليهما يمكن البعث إليهما أيضا ، ولا مانع منه من هذه الجهة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦ ، وفيه القبح الفاعلي.

٢٨

وأمّا ثانيا : فلأنّ جعل حكم لعنوان عامّ ومثله لعنوان خاصّ ممكن بل واقع في الشريعة ، مثلا : عنوان لمس بدن الأجنبيّة محكوم بالحرمة ، وعنوان التقبيل ـ الّذي لا ينفكّ عن اللمس ـ أيضا محكوم بالحرمة ، وصلاة الظهر واجبة ، ولو تعلّق بها النذر أيضا محكومة بالوجوب مع أنّ الخاصّ دائما يجتمع فيه عنوانان ولا يلزم فيه اجتماع المثلين ، بل يتأكّد ، كما في مورد الاجتماع في العامّين من وجه ، ويندك أحد الملاكين في الآخر لا محالة ، فإذا كان هذا المعنى ممكنا ، فمن الممكن أن تكون حرمة مقطوع الخمريّة من قبيل حرمة اللمس ، الّذي لا ينفكّ عن الخمر بنظر القاطع ، وحرمة الخمر الواقعي من قبيل حرمة التقبيل ، فلو جعل حكم للخمر الواقعي والآخر لمقطوع الخمريّة ، فالقاطع إن صادف قطعه الواقع ، فلا محالة تتأكّد الحرمة ، كحرمة التقبيل الملازم مع اللمس ، ووجوب الصلاة عند تعلّق النذر بها ، وإن لم يصادف ، فليس فيه إلّا ملاك واحد ، كاللمس ، وليس من اجتماع المثلين في شيء ، فالوجه في الاستحالة ما ذكرنا. وهذا الوجه ليس بوجيه.

الأمر الثاني : أنّه ربما يستدلّ على حرمة التجرّي بالإجماع على حرمة تأخير الصلاة لمن ظنّ تضيّق الوقت ، وأنّه معصية ـ ولو انكشف خلافه بعد ذلك وظهر أنّ الوقت واسع ـ وبالاتّفاق على وجوب الإتمام لمن ظنّ بالخطر في السفر وسافر ، لكونه معصية ولو انكشف بعد ذلك كون الطريق مأمونا لا خطر فيه ، ولو لا حرمة الفعل المتجرّى به ، لما حكموا بالمعصية في صورة انكشاف الخلاف.

وهذا الإجماع المدّعى في هذين الموردين ـ على تقدير تسليمه ـ لا يفيد شيئا ، فإنّ حرمة تأخير الصلاة موضوعها ـ كما يستفاد من بعض الروايات ـ هو

٢٩

من خاف فوات الوقت (١) ، فنفس صفة الخوف لها موضوعيّة للحكم ، ولا يعقل انكشاف الخلاف فيه ، فإنّ الخوف أخذ في الموضوع ، ولا يعتبر الظنّ بالتضيّق ، فإنّه لا ملازمة بينهما ، بل ربما يخاف الإنسان بمجرّد احتمال متساوي الطرفين بل مرجوح ، فبمقتضى بعض الروايات مجرّد حصول الخوف بضيق الوقت ـ سواء حصل الظنّ أم لم يحصل ـ يترتّب عليه حكم ، وهو حرمة تأخير الصلاة ، وحينئذ تبيّن سعة الوقت أو لم تتبيّن يحرم التأخير لمن خاف الضيق ، ضرورة أنّ ظهور سعة الوقت لا يخرج هذا الشخص عن موضوع الحكم وعن كونه مصداقا لمن خاف فوات الوقت قبل ذلك ، فليس فيه انكشاف الخلاف حتى يكون تجرّيا محكوما بالحرمة بحكم الأصحاب.

وهكذا الظنّ بالخطر في السفر له موضوعيّة ليس طريقا له حتى يكون تجرّيا لو انكشف خلافه ، وذلك لأنّ سلوك الطريق المظنون خطره مصداق للإلقاء إلى التهلكة ، ولا يلزم في ذلك ترتّب الهلكة عليه ، كما يقال لمن دخل في معركة القتال : ألقى نفسه في الهلكة ولو سلم ولم تصبه مصيبة أصلا ، فحينئذ نفس حصول الظنّ بالخطر ـ ولو لم يكن خطر واقعا ـ موضوع للحكم بوجوب إتمام الصلاة من جهة كون السفر حينئذ حراما ومعصية.

الثالث : أنّه استدلّ لحرمة التجرّي بالأخبار الدالّة على ثبوت العقاب بنيّة السوء ، وأنّ الله يحاسب الناس على نيّاتهم ، بتقريب أنّ هذه الأخبار وإن كانت معارضة بأخبار أخر دالّة على العفو عن نيّة السوء ما لم يأت بالمنويّ إلّا أنّ طريق الجمع بينهما أن يحمل الطائفة الأولى على النيّة مع الجري على طبقها ، ويحمل الطائفة الثانية على النيّة المجرّدة ، فالجمع بينهما يقتضي حرمة نيّة

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ٢٠١ ، وعنه في البحار ٨٨ : ١٦٧.

٣٠

المعصية مع الحركة على طبقها ، والتجرّي صغرى من صغريات هذه الكبرى الكلّيّة.

هذا ، ويرد عليه أوّلا : أنّ هذا الجمع جمع تبرّعي لا شاهد له.

وثانيا : على تقدير التسليم أيضا لا تدلّ على حرمة التجرّي ، لأنّ المتجرّي لا يتحرّك نحو السوء ولا يجري على طبق نيّة السوء حقيقة بل تحرّك وجري خيالي نحو السوء ، والأخبار المذكورة دلّت ـ بمقتضى هذا الجمع ـ على حرمة نيّة السوء مع الحركة نحوه والجري على طبقها.

وثالثا : لو سلّمنا شمولها للتجرّي ، فلازمه ليس إلّا استحقاق العقاب عليه لا الحرمة ، فغايتها أنّها إرشاد إلى ما استقلّ العقل به من صحّة مؤاخذة المتجرّي ، لأنّه طاغ وهاتك لحرمة مولاه ، لا أنّه متعلّق للنهي المولويّ الشرعيّ ، كما هو المدّعى ، ضرورة أنّها لا تدلّ على أزيد من ثبوت العقاب على نيّة السوء.

ثمّ إنّ الصحيح في الجمع بينهما أن يقال : إنّ أخبار العفو تدلّ على عدم ترتّب العقاب على نيّة السوء مطلقا ، سواء كانت مجرّدة أو كانت مع الجري على طبقها والارتداع عنها بالاختيار ـ بأن نوى القمار فبدا له أنّ التجارة أنفع له فارتدع عن قصده ـ أو كانت مع الجري والارتداع بواسطة أمر خارج عن تحت اختياره ، وهناك رواية تدلّ على ترتّب العقاب على خصوص الأخير (١) من أنّه

__________________

(١) أقول : مورد الرواية وإن كان خاصّا ولكن فيه تعليل ، وهو عامّ يشمل صورة التمكّن وعدمه ، فنفس الإرادة كافية ، فليست بأخصّ ممّا دلّ على العفو. هذا أوّلا. وثانيا : وجه دخول النار في مورد الرواية هو إرادة قتل المؤمن وأنّ قتله من أكبر الكبائر ، فإذا كانت إرادة قتل المؤمن موجبة لاستحقاق العقاب فهي لا تكون دليلا على إيجاب إرادة كلّ عصيان بلا تمكّن منه استحقاقا للعقاب ، كما هو المدّعى.

٣١

«إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم : لأنّه أراد قتل صاحبه» (١) وهذه الرواية صريحة ـ بحسب موردها ـ في ترتّب دخول النار على إرادة القتل والجري على طبقها مع الارتداع بأمر خارج عن تحت اختيار المريد والناوي ، ونسبتها إلى أخبار العفو نسبة العموم والخصوص المطلقين ، فيخصّص تلك الأخبار بغير هذا القسم ، وبعد التخصيص يصير مفادها عدم ثبوت العقاب ، والعفو عن نيّة السوء مجرّدة ومع الجري والارتداع بالاختيار ، فتكون نسبتها ـ بعد ذلك ـ إلى الأخبار الدالّة على ثبوت العقاب مطلقا ـ سواء كانت النيّة على السوء مجرّدة أو مع الجري على طبقها والارتداع عنها بالاختيار أو بلا اختيار ـ نسبة العموم والخصوص المطلقين ، وتنقلب نسبة التباين ، فتخصّص أخبار العفو هذه الأخبار بغير ما إذا كانت نيّة السوء مجرّدة أو مع الجري على طبقها والارتداع عنها بالاختيار ، ويختصّ ثبوت العقاب بنيّة السوء ، التي جرى الناوي على طبقها وارتدع بواسطة أمر خارج عن تحت اختياره ، فإنّها تبقى تحت عمومات هذه الأخبار الدالّة على ثبوت العقاب بعد تخصيصها بتلك الأخبار.

وهذا مورد من موارد بحث انقلاب النسبة ، وهو بحث شريف تترتّب عليه فوائد مهمّة.

ومثاله المعروف : ما دلّ على أنّ الزوجة لا ترث من العقار مطلقا ، وما دلّ على أنّها ترث من العقار مطلقا ، فإنّ الدليلين متعارضان متباينان لكن ورد دليل

__________________

وبعبارة أخرى : ليست الرواية أخص ممّا دلّ على العفو للتعليل ، ولو سلّمت الأخصّيّة ، لا تنتج المدّعى ، لأنّ إرادة قتل المؤمن مع عدم التمكّن منه لا تقاس بإرادة عصيان آخر مع عدم التمكّن منه. (م).

(١) علل الشرائع : ٤٦٢ ـ ٤ ، التهذيب ٦ : ١٧٤ ـ ٣٤٧ ، الوسائل ١٥ : ١٤٨ ، الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ١.

٣٢

آخر دالّ على أنّ ذات الولد ترث ، وهو بالنسبة إلى ما دلّ على أنّها لا ترث مطلقا خاصّ ، فيخصّصه بغير الزوجة التي تكون ذات ولد ، وبعد ذلك تنقلب النسبة ، إذا يصير مفاده أنّها لا ترث إن كانت غير ذات الولد ، وهو بالنسبة إلى ما يدلّ على أنّها ترث مطلقا خاصّ يخصّصه بذات الولد ، فينتج أنّ الزوجة إذا كانت ذات ولد ترث ، وإلّا لا ترث.

وهذه قاعدة مطّردة جارية في كلّ ما كان هناك دليلان كلاهما عامّ أو مطلق بينهما تباين وكان في البين دليل آخر خاصّ أو مقيّد بالنسبة إلى أحدهما فيخصّصه أو يقيّده ، وبعد ذلك يلاحظ النسبة بينه وبين الآخر ، فيقيّده أو يخصّصه.

الرابع : أنّ صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ بعد ما التزم بقبح الفعل المتجرّى به في حدّ نفسه قسّم التجرّي إلى أقسام ، والتزم بأنّه يمكن أن يكون محكوما بكلّ واحد من الأحكام الخمسة ، فإنّه فيما إذا صادف الحرام الواقعي محكوم بالحرمة ، والقبح فيه أشدّ من القبح فيما إذا صادف المكروه الواقعي ، كما أنّ القبح فيه أشدّ ممّا صادف المباح الواقعي ، وهو أشدّ ممّا صادف الاستحباب وإن كان التجرّي في الجميع محكوما بالحرمة.

وفيما إذا صادف الواجب الواقعي تارة تكون محبوبيّة الواقع بنحو يوجب زوال القبح عن المتجرّى به واندكاكه فيما يترتّب على الفعل من المصلحة الملزمة بحيث لا يبقى له قبح أصلا بل صار حسنا بذلك ، فيكون واجبا أو مستحبّا ، وأخرى تكون بنحو لا يوجب ذلك ، بل يبقى مقدار من القبح ، فإن كان مساويا مع ما في المتجرّى به من المصلحة ، فيكون مباحا ، وإن كان القبح أشدّ بنحو لا يندكّ الحسن الواقعي فيه ، يكون مكروها ، أو بنحو يندكّ الحسن

٣٣

الواقعي فيه ، يكون حراما (١).

ثمّ إنّه ذكر في بعض كلماته أنّه لو صادف التجرّي الحرام الواقعي ، يستحقّ المتجرّي كذلك عقابين لكنّهما يتداخلان (٢).

وحاصل ما ذكره ـ كما أفاده شيخنا الأستاذ (٣) قدس‌سره ـ ينحلّ إلى دعا وثلاث :

الأولى : أنّ قبح التجرّي يمكن زواله في مقام الثبوت بعروض عنوان آخر حسن عليه.

الثانية : أنّ مصادفة التجرّي للمحبوب الواقعي تكون من هذا القبيل في مقام الإثبات ، فيرتفع به قبح التجرّي.

الثالثة : أنّه يتداخل العقابان في صورة المصادفة للحرام الواقعي.

وشيء من هذه الدعاوي ليس بتامّ :

أمّا الأولى : فلما عرفت من أنّ التجرّي ظلم على المولى ، وقبح الظلم من المستقلّات العقليّة ، الّذي يستحيل انفكاكه عنه مع بقائه ، فلا يمكن انفكاك القبح عن التجرّي (١) الّذي هو ظلم على المولى وهتك لحرمته ، كما لا ينفكّ القبح

__________________

(١) الفصول : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٢) الفصول : ٨٧.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٤.

(٤) أقول : إن كان التجرّي ظلما على المولى ، فعدم انفكاك القبح عنه مسلّم إلّا أنّ كونه ظلما ـ وكذا العصيان ـ في محلّ منع ، لأنّه ليس بوسع أحد أن يظلم على الله تعالى ، كما في قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا) [البقرة : ٥٧ ، الأعراف : ١٦٠] ولذا لا يقال له تعالى : يا مظلوم ، كما أنّه لا يقال : يا ظالم.

نعم ، للمولى على العبد المتجرّي حقّ لم يؤدّه إليه ، وهذا يوجب أن يدرك العقل قبحا ما ، وأنّ هذا الفعل المتجرّى به ممّا لا ينبغي أن يوجد ، وأمّا صدق الظلم عليه فلا ، فكون التجرّي قبيحا من حيث كونه ظلما ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

وبعبارة أخرى : يفهم من قوله أمران : أحدهما : كون التجرّي ظلما ، والآخر : دوران ـ

٣٤

عن المعصية بعين هذا الملاك.

وأمّا الثانية : فلأنّ الأمر غير الاختياري يمكن أن يكون موجبا لعدم صدور القبيح عن الشخص ولا محذور فيه. أمّا كونه موجبا (١) لحسن شيء وارتفاع قبحه فلا ، بل عرفت أنّ الأمور غير الاختيارية لا مدخليّة لها في الحسن والقبح أصلا ، ومصادفة التجرّي للمحبوب الواقعي أمر غير اختياريّ لا يمكن أن يوجب حسنا في الفعل.

وأمّا الثالثة : فلما مرّ من أنّ ملاك استحقاق العقاب في العاصي. والمتجرّي شيء واحد وهو الهتك ، فالعقاب على التجرّي واحد صادف الواقع أو لم يصادف.

الأمر الثاني : في أقسام القطع ـ والغرض من هذا التقسيم ردّ مقالة الأخباريّين من أنّه لا اعتبار بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ـ بأنّ القطع إمّا طريقيّ محض أو موضوعي.

والأوّل ـ حيث إنّ طريقيّته ذاتيّة غير قابلة للجعل لا نفيا ولا إثباتا ـ

__________________

ـ قبحه مدار صدق الظلم عليه بحيث لو لم يصدق عليه لما كان قبيحا ، وكلاهما ممنوع ، بل التجرّي قبيح مع أنّه ليس بظلم على المولى. (م).

(١) أقول : هذا صحيح في الجملة لا بالجملة.

بيان ذلك : أنّ ارتفاع القبح الفاعلي متوقّف على الالتفات إلى العنوان الحسن الواقعي ، وأمّا ارتفاع القبح الفعلي فلا يتوقّف عليه ، ولذا لو ضرب اليتيم لا للتأديب مع ترتّبه عليه ، فهذا الضرب ـ الّذي ترتّب عليه التأديب من دون إرادة الضارب إيّاه ـ قبيح من حيث الفاعل ، لعدم وجود الالتفات ، ولا يؤثّر ترتّب التأديب في ارتفاع القبح الفاعلي ، وأمّا كونه غير قبيح من حيث الفعل فهو بواسطة ترتّب التأديب عليه.

هذا في ارتفاع القبح الفعلي بالعنوان الحسن الواقعي ، وكذا الأمر في ارتفاع الحسن الفعلي بالعنوان القبيح الواقعي.

فتحصّل أنّ عدم تأثير العنوان الواقعي غير الملتفت إليه في ارتفاع القبح الفعلي مطلقا غير صحيح. (م).

٣٥

يستحيل أن ينهى عن بعض أفراده من حيث الشخص أو الزمان أو السبب ، كالحاصل من القياس أو الرمل أو الجعفر أو من غير الكتاب والسنّة مطلقا ، ضرورة أنّ القاطع لو قطع من طريق الجفر والرمل مثلا بوجوب شيء ، يرى الواقع وينكشف لديه ، فنهي الشارع عن اتّباع مثل هذا القطع الخاصّ يستلزم اجتماع الضدّين بنظر القاطع وإن لا يستلزم ذلك في الواقع ، لاحتمال عدم مصادفته للواقع ، والتكليف الّذي يكون محالا بنظر المكلّف ولا يمكن انبعاثه عنه محال في حقّ المولى الملتفت إلى ذلك.

وقد ادّعى شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره إمكانه بل وقوعه في بعض الموارد لا مطلقا (١).

والكلام تارة من حيث إنّ الأخباريّ ينفي حصول العلم من غير الكتاب والسنّة وأنّ غايته الظنّ ، وهو لا يغني من الحقّ شيئا ، كما يظهر من بعضهم في بعض الكلمات.

وأخرى من حيث إنّه ينفي حجّيّة فيما لم يكن مسبّبا عن الكتاب والسنّة ، كما ربما يستفاد ذلك من خبر أبان بن تغلب ، فإنّ أبان مع أنّه كان قاطعا بأنّ في قطع أربعة من أصابع المرأة ثبوت أربعين من الإبل ـ غاية الأمر أنّه كان قطعه من طريق القياس ـ نهى الإمام عليه‌السلام عن العمل على طبق قطعه (٢).

وهذا كلّه بالقياس إلى حكم نفس القاطع ، وأمّا لو كان مأخوذا في موضوع حكم الغير ، كما لو [أخذ] قطع المجتهد بالأحكام من الطرق الخاصّة موضوعا لجواز تقليده ، لا من الجفر والرمل والقياس ، فلا محذور فيه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٨.

(٢) الكافي ٧ : ٢٩٩ ـ ٦ ، الفقيه ٤ : ٨٨ ـ ٢٨٣ ، التهذيب ١٠ : ١٨٤ ـ ٧١٩ ، الوسائل ٢٩ : ٣٥٢ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث ١.

٣٦

وكيف كان ، فما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ في وجه الإمكان يتّضح بمقدّمتين :

الأولى : أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر مترتّب عليه ـ كأخذ العلم بوجوب الصلاة في موضوع وجوب التصدّق بأيّ نحو كان سواء كان تمام الموضوع أو جزءه على وجه الصفتيّة أو الطريقيّة ـ ممكن لا محذور فيه ، وأمّا أخذه في موضوع نفس الحكم الّذي تعلّق به فهو مستلزم للدور.

مثلا : لو كان العلم بوجوب الصلاة مأخوذا في موضوع نفس هذا الحكم ، فحيث إنّ مرتبة الحكم متأخّرة عن مرتبة موضوعه ، ففعليّة الحكم لا محالة متوقّفة على فعليّة موضوعه ، والمفروض أنّ العلم بالحكم مأخوذ في موضوعه ، ففعليّة الموضوع أيضا متوقّفة على فعليّة الحكم حتى يمكن أن يتعلّق العلم به.

وبعبارة واضحة : فعليّة وجوب الصلاة متوقّفة على العلم به ، حيث إنّه مأخوذ في موضوعه ، وفعليّة العلم به متوقّفة على وجوب الصلاة.

الثانية : أنّه إذا استحال تقييد الحكم بالعلم واختصاصه بالعالمين به ، يستحيل الإطلاق بالنسبة إلى العالمين به وغيرهم أيضا ، لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فإنّ الإطلاق عبارة عن عدم التقييد عمّا من شأنه التقييد ، فلا بدّ في الإطلاق من القابلية والشأنية للتقييد ، وقد عرفت عدمها ، فكما أنّ الجدار لا يتّصف بالبصر ، لعدم وجود الملكة فيه كذلك لا يتّصف بالعمى أيضا ، لذلك ، فحينئذ لا بدّ من الإهمال وجعل الحكم لا مطلقا بالنسبة إلى العالمين به والجاهلين ، ولا مقيّدا بخصوص العالمين ، وعلى المولى أن يبيّن غرضه من الإطلاق أو التقييد بخطاب آخر مسمّى بمتمّم الجعل بأن يجعل وجوب الصلاة ـ جعلا ثانيا ـ على العالم بالجعل الأوّل أو

٣٧

مطلقا ، وكلا القسمين واقع في الشريعة ، فإنّ عدم اختصاص الأحكام بالعالمين بها وكونها مطلقة بالإضافة إليهم وإلى غيرهم يستفاد من أدلّة اشتراك التكليف ، التي ادّعى شيخنا العلّامة الأنصاري في أوّل مبحث الظنّ تواترها (١) ، كما أنّ اختصاص بعض الأحكام بالعالمين به ـ كوجوب القصر والجهر والإخفات ـ ثبت بالأدلّة الأخر غير ما دلّ على وجوب القصر على المسافر ، ووجوب الجهر في بعض الصلوات والإخفات في بعض.

وعلى هذا إذا أمكن أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه بجعل آخر غير الأوّل ، فيمكن أخذ العلم بالحكم ، الحاصل من سبب خاصّ في موضوع نفسه بجعل آخر ، ويمكن أيضا تقييده ـ بأن لا يكون معلوما بالعلم القياسي كما يستفاد من خبر أبان بن تغلب (٢) ، أو الحاصل بالجفر والرمل ـ بجعل آخر الّذي هو متمّم الجعل ، كما هو كذلك في القياس ، وغير بعيد في الرمل والجفر ، وهذا ليس تصرّفا في ناحية القطع حتى يقال : إنّ طريقيّته ذاتيّة لا يمكن التصرّف فيها أصلا ولا تقبل الجعل لا نفيا ولا إثباتا ، بل تصرّف في ناحية الحكم المقطوع به ، فدعوى الأخباري من أنّه لا اعتبار بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة بحسب الإمكان في محلّها إلّا أنّه يطالب بالدليل ، وهو مفقود في غير القياس وما نفينا عنه البعد من الرمل والجفر.

وبالجملة ، أخذ القطع الطريقي بالحكم في موضوع نفسه وهكذا المنع من بعض أقسامه ـ كالحاصل من القياس أو غيره ـ بمكان من الإمكان ، خلافا لشيخنا العلّامة الأنصاري (٣) ـ قدس‌سره ـ وبعض من تأخّر عنه من المحقّقين. هذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٧.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٦.

(٣) فرائد الأصول : ٣.

٣٨

خلاصة ما أفاده في المقام (١).

وما بنى عليه مقصوده من المقدّمتين ، فالأولى منهما وإن كانت تامّة إلّا أنّ المقدّمة الثانية منهما ممنوعة ، لما مرّ في بحث التعبّدي والتوصّلي من أنّ استحالة التقييد بشيء وجودا وعدما توجب ضروريّة الإطلاق ـ كما أفاده العلّامة الأنصاري قدس‌سره ـ وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا يستلزم ما ذكره ، فإنّ القابليّة على أقسام : شخصيّة وصنفيّة ونوعيّة وجنسيّة ـ على ما قرّر في مقرّه ـ واستحالة أحد المتقابلين بهذا التقابل شخصا في مورد لا توجب استحالة الآخر لو كان قابلا له صنفا أو نوعا أو جنسا.

مثلا : يستحيل البصر على العقرب بحسب نوعه على ما هو المعروف من أنّه لا عين له ـ وإن كان خلاف الواقع ظاهرا ـ ولكنّه يتّصف بالعمى ويقال : إنّه أعمى ، من جهة أنّ الحيوان الّذي هو جنس له قابل لذلك ، وهكذا ذات الواجب تعالى يستحيل في حقّه الجهل والعجز مع أنّ العلم والقدرة ضروريّان له تعالى ، فإنّه تعالى بحسب نوعه ـ أي : الحيّ المدرك ـ قابل له ، والممكن يستحيل علمه بذات الواجب تعالى مع أنّ الجهل به ضروريّ في حقّه من جهة أنّ شخص هذا العلم وإن كان مستحيلا في حقّه إلّا أنّ نوع العلم لا يكون كذلك.

والحاصل : أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه إذا كان مستحيلا ، فلا محالة يكون الإطلاق ضروريّا والإهمال غير معقول ، إذ لا يعقل أن لا يدري الحاكم موضوع حكمه ، فإنّ القيد إن كان دخيلا في غرضه ، فالموضوع مقيّد ، وإن كان غير دخيل فيه ، فمطلق ، فما أفاده ـ من أنّ الموضوع في الجعل الأوّل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧ ـ ٨.

٣٩

مهمل لا مطلق ولا مقيّد ـ ممّا لا محصّل له ، بل الإطلاق ضروريّ ، فلا يمكن أن يمنع عن اتّباع بعض أفراد القطع ، فإنّ لازمه تقييد موضوع حكمه بأن لا يكون الحكم مقطوعا بقطع حاصل من سبب خاصّ ، وقد عرفت أنّه مستلزم لاجتماع الضدّين في نظر القاطع.

والحاصل : أنّ النهي عن اتّباع بعض أفراد القطع ـ كما أفاده شيخنا الأنصاري (١) ـ مستحيل.

وخبر أبان بن تغلب (٢) ـ بعد الإغماض عن ضعف سنده (٣) ـ لا يكون فيه إشعار بذلك فضلا عن الدلالة ، وذلك لأنّه ليس في الرواية ما يدلّ على أنّ أبان كان قاطعا بالحكم (٤) ، فمن المحتمل أن يكون مطمئنّا به ، مع أنّ الإمام عليه‌السلام أزال قطعه لو سلّم حصول القطع له بالقياس ـ لا أنّه عليه‌السلام منعه عن العمل على طبق قطعه وما اعتقده من ثبوت أربعين من الإبل لقطع أربعة أصابع المرأة ـ لأنّ الإمام نبّهه على خطئه وأنّ الدين لا يصاب بالعقول.

وأمّا ما دلّ على عدم وجوب القضاء للناسي للسفر لو صلّى تماما وعدم وجوب الإعادة للجاهل بالحكم فلا يدلّ على اختصاص الحكم بالعالم به ، بل غايته أن يدلّ على الإجزاء ، ولذا لا خلاف في أنّ الجهل بوجوب القصر لو كان عن تقصير يستحقّ العقاب ، وهكذا ليس لنا دليل على اختصاص وجوب الجهر والإخفات بالعامين به ، بل يستفاد من نفس ما دلّ على جواز الجهر في موضع الإخفات للجاهل بوجوب الإخفات وهكذا العكس : أنّ الحكم مشترك

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٦.

(٣) أقول : ليس في سنده ضعف. (م).

(٤) أقول : لا يمكن المساعدة عليه ، بل يستفاد منه كمال الاستفادة أنّ أبان كان قاطعا ، وتشهد عليه التعبيرات الصادرة عن أبان ، فإنّ هذه لا تصدر عمّن ليس له قطع. (م).

٤٠