الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

وهي وجوب الإتمام وحرمة القطع ، فمن هذه الجهة يحكم بالتخيير بين السلام بعد التشهّد الأوّل والإتمام بالركعتين الباقيتين ، فاسد ، لعدم حرمة قطع مثل هذه الصلاة التي لا يجوز الاجتزاء بها في مقام الامتثال ، لانحصار دليل حرمة القطع بالإجماع ، والقدر المتيقّن منه غيره ، أوّلا ، وعدم استلزام التخيير من هذه الجهة التخيير بين جعل المأمور به هو القصر وجعله هو التمام ، ثانيا ، ضرورة أنّه لا ملازمة بين التخييرين ، بل المكلّف من حيث التكليف بحرمة إبطال الصلاة على فرض تسليمه في مثل المقام ـ حيث لا يتمكّن من موافقته ولا مخالفته قطعا ، يكتفي بالموافقة الاحتماليّة ، وأمّا من حيث التكليف بإتيان طبيعة الصلاة المأمور بها واقعا قصرا أو إتماما فحيث يمكنه الموافقة القطعيّة بتكرار الصلاة يجب ، ولا يجوز الاقتصار بأحدهما.

وبذلك ظهر الكلام في ضيق الوقت ، وأنّه يجب الاحتياط أيضا للقطع بموافقة الأمر بالإتيان بما وسع الوقت له في الوقت وبالآخر في خارج الوقت ، وظهر أيضا أمر ما تردّد أمره بين ضدّين لا ثالث لهما ، كتردّد القراءة في ظهر يوم الجمعة بين وجوب الجهر والإخفات ، وأنّه لا وجه للتخيير ، لإمكان الاحتياط بتكرار القراءة وإتيانها تارة جهرا وأخرى إخفاتا بداعي احتساب ما يكون جزءا واقعا جزءا ، والأخرى قراءة للقرآن ، ولا يحتاج إلى تكرار العبادة في مثل الفرض ، لعدم استلزام التكرار ـ أي تكرار القراءة ـ زيادة عمديّة.

هذا كلّه في دوران الأمر بين محذورين في واقعة واحدة ، وأمّا هو في وقائع متعدّدة ، كما إذا حلف أحد على وطء إحدى امرأتيه وترك وطء أخرى في زمان معيّن ، واشتبه المحلوف وطؤها بالمحلوف ترك وطئها.

فربما يقال بجواز وطء كلّ منهما ، وهكذا ترك وطء كلّ منهما ، نظرا إلى أنّ أمر وطء كلّ منهما بنفسه مردّد بين محذورين في واقعة واحدة ، فمقتضى

٣٦١

القاعدة هو التخيير بين الفعل والترك في كلّ من الواقعتين ، غاية الأمر أنّه بعد وطء كلّ منهما أو ترك وطء كلّ منهما يعلم تفصيلا بوقوع المحرّم في الخارج ، وهو لا يضرّ ، إذ المانع هو العلم بالمخالفة حين ارتكاب كلّ واقعة ، وهو مفقود على الفرض.

والظاهر أنّه لا تجري أدلّة البراءة في الفرض ، ولا يحكم بالتخيير ، فإنّ لنا علمين إجماليّين : أحدهما متعلّق بوجوب وطء إحداهما ، والآخر بوجوب ترك وطء إحداهما ، ولكل من هذين العلمين أثران : وجوب الموافقة القطعيّة ، وحرمة المخالفة القطعيّة ، وحيث لا يمكن الموافقة القطعيّة لدوران أمر كلّ منهما ـ أي امرأتين ـ بين محذورين ، فيسقط كلا العلمين عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الأثر الأوّل ، وأمّا بالقياس إلى الأثر الآخر ـ وهو حرمة المخالفة القطعيّة ـ فيبقى كلّ من العلمين على حالهما من المنجّزيّة ، فتجب الموافقة الاحتماليّة لكلا التكليفين بوطء إحداهما وترك وطء الأخرى.

هذا كلّه فيما إذا كانت الوقائع دفعيّة غير تدريجيّة ، أمّا إذا كانت تدريجيّة ، كما إذا حلف على وطء زوجته في ليلة وحلف أيضا على ترك وطء هذه الزوجة بعينها في ليلة أخرى ، فهل تجري البراءة في كلا الطرفين وفي كلّ من الليلتين ، أو يحكم بالتخيير بين الفعل والترك في كلّ زمان من باب اللاحرجيّة العقليّة ، أو لا؟

التزم شيخنا الأستاذ بالتخيير في كلّ واقعة ، نظرا إلى أنّ التكليف في التدريجيّات ليس بفعليّ ، ضرورة أنّ وجود الموضوع من شرائط فعليّة التكليف خطابا وملاكا ، والمفروض أنّ زمان أحد التكليفين متأخّر ، ولكلّ منهما موضوع مستقلّ ، ففي زمان الابتلاء بالواقعة الأولى لا علم بخطاب فعليّ قابل للتحريك ، بل المعلوم ليس إلّا جنس الإلزام المردّد بين الوجوب

٣٦٢

والحرمة ، وهكذا عند الواقعة الثانية ، وحيث لا فعليّة للتكليف في كلّ واقعة بنفسها لا خطابا ولا ملاكا ، فلا مانع من الحكم بالتخيير في كلّ واقعة من باب اللاحرجيّة العقليّة ، غاية الأمر أنّه يحصل العلم بالمخالفة إذا وطئ في كلّ من الليلتين أو ترك الوطء كذلك ، وهذا لا أثر له بعد ما لم يكن منجّز على المخالفة حين الارتكاب (١). هذا.

والحقّ أنّ هذه المسألة داخلة في كبرى منجّزيّة العلم الإجمالي في التدريجيّات ، وعدمها ، فمن التزم بالتنجيز في تلك المسألة ـ كشيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ لا بدّ له من الالتزام بلزوم الموافقة الاحتماليّة في المقام أيضا ، ومن لا يلتزم ويجري البراءة في أطراف العلم فلا مناص له من الالتزام به في المقام أيضا ، وذلك لأنّ لنا علمين إجماليّين : علما بوجوب الوطء إمّا في الليلة الأولى أو الثانية ، وهذا من مصاديق العلم الإجمالي في التدريجيّات ، ومقتضاه عند من يرى منجّزيّته في التدريجيّات أيضا : وجوب الموافقة القطعيّة ، وحرمة المخالفة القطعيّة ، وعلما آخر بوجوب ترك الوطء كذلك ، وهذا أيضا مثل الأوّل في الأثرين ، وحيث لا يتمكّن المكلّف من امتثال كلا التكليفين المعلومين بالإجمال ومن موافقتهما قطعا فتصل النوبة إلى وجوب الموافقة الاحتماليّة ، وتبقى حرمة المخالفة القطعيّة على حالها.

بقي شيء ينبغي التنبيه عليه ، وهو هل أنّ احتمال الأهمّيّة كما لا يوجب التعيين في الواقعة الواحدة المردّد أمرها بين محذورين كذلك لا يوجب ذلك في الوقائع المتعدّدة أيضا ، أم لا؟

اختلف كلام شيخنا الأستاذ في ذلك ، فالتزم هنا بعدم الاعتناء باحتمال

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٥.

٣٦٣

الأهمّيّة ، نظرا إلى أنّ الوجه الجاري في تقديم محتمل الأهمّيّة في باب التزاحم ـ وهو سقوط إطلاق الأمر بالمهمّ مطلقا ، أو على تقدير امتثال الأمر بالأهمّ بنحو الترتّب من جهة عدم قدرة المكلّف على امتثال كلا الأمرين ـ غير جار في المقام ، لأنّ المكلّف قادر على امتثال كلا التكليفين ، فلا تزاحم في مقام الامتثال ، وإنّما التزاحم في مقام إحراز الامتثال حيث لا يقدر على إحراز امتثال كلا التكليفين ، فكلّ من التكليفين فعليّ باق على إطلاقه ، وبما أنّه لا يمكن موافقتهما قطعا تنتهي النوبة إلى موافقتهما احتمالا (١).

والتزم في ذيل بحث الأقلّ والأكثر بتقديم محتمل الأهمّيّة في الوقائع المتعدّدة ، وقرّره بأنّ كلّ تكليف يقتضي أمرين :

أحدهما : حصول متعلّقه خارجا ولزوم امتثاله.

والآخر : إحراز امتثاله خارجا.

وفي المقام وإن لم يكن تزاحم في مقام الامتثال إلّا أنّ التزاحم موجود في مقام إحراز الامتثال ، الّذي هو أيضا أحد مقتضى التكليف ، وبهذا الاعتبار يندرج المقام في باب التزاحم ، ويأتي فيه ما جرى هناك من تقديم محتمل الأهمّيّة (٢).

ويرد عليه أوّلا : أنّه منقوض بمورد تساوي التكليفين ، إذ لازم اندراجه في باب التزاحم هو تخيير المكلّف بين امتثاله التكليف الوجوبيّ ومخالفته التكليف التحريمي قطعا وبين العكس ، وهو ـ قدس‌سره ـ لا يلتزم به.

وثانيا : أنّه لم يرد في آية أو رواية أنّه في باب التزاحم يقدّم الأهمّ أو محتمل الأهمّيّة حتى نلتزم به في جميع موارد التزاحم ، بل لا بدّ من الحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣١٧.

٣٦٤

بالتقديم في مورد وجود ملاك التقديم ، سواء في ذلك موارد التزاحم وغيرها ، وحيث لا يجري الوجه المعتمد في باب التزاحم في مقام الامتثال ـ وهو سقوط إطلاق الأمر بالمهمّ ، لعدم القدرة على امتثال كلا التكليفين في المقام ، إذ المفروض أنّ القدرة على امتثال كلا التكليفين حاصلة ـ فلا مانع من بقاء إطلاق كلّ من التكليفين ، غاية الأمر أنّه لا يقدر على إحراز امتثالهما ، ولزوم الإحراز حكم عقليّ ، وعند العقل لا يتفاوت في ذلك التكاليف المهمّة وغيرها ، بل كما يحكم بلزوم إحراز امتثال الأمر بالصلاة إلى القبلة ـ التي هي من أهمّ الفروع ـ بإتيان الصلاة إلى أربع جهات إذا اشتبه أمر القبلة كذلك يحكم بلزوم إحراز امتثال الأمر بردّ السلام ـ الّذي هو من أقلّ الواجبات الإلهيّة ـ بردّ جوابين إذا اشتبه المسلّم بين شخصين بلا تفاوت في نظر العقل أصلا ، وإذا لم يمكن إحراز امتثال كلا التكليفين ولا أحدهما ، لاستلزامه المخالفة القطعيّة ، فلا محالة تصل النوبة إلى احتمال الموافقة ، ومعه يتخيّر بين الأخذ بجانب الوجوب أو الحرمة مع القطع بأهمّيّة أحدهما فضلا عن احتمالها ، لعدم الفرق في نظر العقل.

نعم ، لو استكشفنا أهمّيّة أحد التكليفين بمرتبة لا يرضى الشارع بإهماله حتى في ظرف الجهل ، نقدّم ما هو كذلك ، أي المقطوعة أهمّيّته بهذه المرتبة لا المحتملة.

بقي قسم آخر ، وهو أن يعلم إجمالا بتكليف واحد مردّد بين الوجوب والتحريم متعلّق بفعل شيء في كلّ ـ يوم من أيّام الشهر ـ مثلا ـ بحيث يعلم إجمالا بأنّ هذا الفعل إمّا حرام في جميع أيّام الشهر ، أو واجب كذلك ، وأنّ جميع الأيّام متساوية في الحكم ، إن كان في أحد الأيّام واجبا كان في الباقي أيضا كذلك ، وإن كان في أحدها حراما ففي الباقي أيضا حرام.

٣٦٥

وربما يقال بالتخيير بين الفعل والترك في جميع الأيّام بدعوى أنّ التكليف حيث إنّه في هذا القسم واحد ، بخلاف المسألة السابقة ، فإنّ المعلوم فيها إجمالا هو تكليفان : وجوبي وتحريمي ، غاية الأمر اشتبه متعلّق أحدهما بالآخر ، فلا يعلم بتكليف فعليّ على كلّ تقدير يمكن موافقته قطعا أو مخالفته قطعا حتى ينجّز العلم الإجمالي من جهته ، فلا محالة يحكم بالتخيير في كلّ يوم ، فله أن يفعل اليوم ويترك الغد ، وله العكس ، كما يجوز له الفعل في جميع الأيّام والترك كذلك. وبعبارة أخرى : التخيير استمراريّ لا بدويّ ، ولا يضرّ العلم بالمخالفة بعد ذلك ، فإنّ مخالفة التكليف غير الفعلي لا محذور فيها.

وفيه : أنّه يتولّد من هذا العلم علمان إجماليّان آخران به بنحو المنفصلة الحقيقيّة : أحدهما : حرمة الفعل اليوم أو وجوبه غدا ، والآخر : وجوب الفعل في اليوم أو حرمته غدا ، ومقتضى العلم الأخير ، وجوب الفعل في اليوم ووجوب الترك غدا وحرمة العكس ، ومقتضى الأوّل : وجوب الترك اليوم والفعل غدا وحرمة العكس ، فإنّه مخالفة قطعيّة ، وحيث لا يمكن المكلّف موافقة كلا العلمين ـ فإنّ موافقة أحدهما قطعا مستلزمة لمخالفة الآخر قطعا ـ فلا بدّ له من الموافقة الاحتماليّة بأن يفعل في جميع الأيّام ، أو يترك كذلك ، حذرا من المخالفة القطعيّة.

هذا تمام الكلام في الشكّ في التكليف.

* * *

٣٦٦

فصل

في الشكّ في المكلّف به.

وهو إمّا لكونه مردّدا بين المتباينين ، أو لكونه مردّدا بين الأقلّ والأكثر. والبحث عن الثاني متأخّر طبعا عن الأوّل ، لأنّ فيه جهتين باعتبار إحداهما يكون الشكّ في أصل التكليف ، فيكون موردا لأدلّة البراءة ، وباعتبار الأخرى يكون الشكّ في المكلّف به ، فيكون موردا للاشتغال ، فهو نظير البحث عن أحكام الخنثى ، المتأخّر طبعا عن البحث عن الأحكام المختصّة بالرجل والأحكام المختصّة بالمرأة.

وكيف كان يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في المتباينين.

ذكر في الكفاية أنّه لا فرق بين العلم التفصيليّ والإجمالي في ناحية التنجيز وعدمه ، وإنّما الفرق بينهما من ناحية المعلوم ، فإنّ المعلوم لو كان تكليفا فعليّا من جميع الجهات ، لا يعقل جعل الحكم الظاهري ، سواء في ذلك العلم الإجمالي والتفصيليّ ، ولا يجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف فضلا عن جميعها. ولو لم يكن فعليّا من جميع الجهات ، ففي العلم التفصيليّ لو تمّ سائر الجهات الفعليّة ، لا مجال للحكم الظاهري ، وأمّا في العلم الإجمالي فلا مانع من الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف فضلا عن بعضها (١).

وفيه أوّلا : أنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علّته التامّة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

٣٦٧

لا يمكن تخلّفه بعد تحقّق الموضوع ، كما مرّ مرارا ، فلا يعقل بعد ذلك دخل شيء آخر في فعليّة الحكم ، فالعلم التفصيليّ حيث لا دخل له في موضوع الحكم ـ فإنّه بمنزلة قيام زيد ، الّذي لا ربط له بالحكم ـ فلا دخل له في فعليّة الحكم أيضا.

وثانيا : لو سلّمنا دخله في الموضوع وأغمضنا عن أنّه خارج عن محلّ الكلام ـ فإنّ الكلام في العلم الطريقي لا الصفتي ـ وعن أنّه خلاف ما التزم به ـ من استحالة كون العلم بالحكم دخيلا في موضوع الحكم ـ فلا فرق في العلم التفصيليّ والإجمالي في ذلك ، بل كما يمكن أخذ العلم التفصيليّ في موضوع الحكم كذلك يمكن أخذ العلم الإجمالي في الموضوع ، كما أنّه يمكن أخذهما معا بأن يقول : «إذا علمت بحرمة الخمر تفصيلا أو إجمالا فهو حرام».

وبالجملة ، محلّ الكلام في المقام هو جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وعدمه بعد الفراغ عن أنّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل بها ، فالفرق بين المعلوم بالعلم التفصيليّ والإجمالي في جريان الأصول وعدمه ، تعسّف.

ثمّ إنّ ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من اختصاص النزاع بالأصول الجارية في مرحلة ثبوت التكليف ومرحلة الاشتغال ، وعدم جريان النزاع في الأصول الجارية في مقام الامتثال وفي مرتبة خروج المكلّف عن عهدة التكليف (١) ـ لا وجه له ، بل النزاع جار في كلا المقامين ، وذلك لأنّ مركز البحث وما يدور حوله القول بتنجيز العلم الإجمالي وعدمه هو البحث عن شمول أدلّة الأصول لجميع الأطراف بحيث يجوز للمكلّف أن يرتكب جميع الأطراف ، أو شمولها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٨.

٣٦٨

لبعضها لا جميعها بحيث يجوز ارتكاب بعض الأطراف مخيّرا في ذلك ، أو عدم شمولها أصلا ، فلا تجوز المخالفة القطعيّة ، وتجب الموافقة القطعيّة ، وهذا كما يجري في الأصول الثابتة في مقام ثبوت التكليف ومرحلة الاشتغال ـ فيقال : إذا علم بوجوب صلاة يوم الجمعة وتردّد أمرها بين الظهر والجمعة ، كما في الشبهة الحكميّة ، أو إذا علم بنجاسة أحد إناءين ، كما في الشبهة الموضوعيّة ، فهل تشمل أدلّة الأصول جميع أطراف العلم الإجمالي ، فتجري ويحكم بعدم وجوب الظهر والجمعة وعدم لزوم الاجتناب عن شيء من الإناءين ، أو تشمل بعضها ، فيحكم بوجوب الظهر أو الجمعة على التخيير ، ولزوم الاجتناب عن أحد الإناءين كذلك ، أو لا تشمل أصلا ، فيجب الإتيان بالظهر والجمعة معا ، والاجتناب عن كلّ من الإناءين؟ ـ كذلك يجري في الأصول الجارية في مرحلة الامتثال ، كقاعدة الفراغ ، فيقال فيما إذا علم إجمالا ببطلان إحدى الصلاتين الواجبتين ، لكونها بلا ركوع : هل تجري قاعدة الفراغ في كلّ من الصلاتين ، ويحكم بعدم لزوم إعادة شيء منهما ، أو تجري في إحداهما فقط ، فتجب إعادة واحدة منهما ، أو لا تجري أصلا ، فلا يجوز الاكتفاء بشيء منهما في مقام الامتثال ، بل تجب إعادة كلّ منهما لمنجّزيّة العلم الإجمالي؟

والسرّ في ذلك : أنّ كلّ احتمال للتكليف ملازم لاحتمال العقاب ومنجّز. سواء كان في الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة ، وسواء كان في مرحلة الاشتغال أو مرحلة الامتثال ، وإذا وجد مؤمّن من العقل أو النقل دفع هذا الاحتمال فهو ، وإلّا فلا بدّ من الاحتياط ، وفي الشبهات الحكميّة البدويّة بعد الفحص ، وهكذا في الشبهات الموضوعيّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان وأدلّة البراءة الشرعيّة تدفعان هذا الاحتمال ، فيصير المكلّف مأمونا من العقاب ، وفي موارد العلم

٣٦٩

الإجمالي أيضا إن شملت أدلّة البراءة جميع الأطراف فيدفع احتمال العقاب ، ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة من حيث وجوب الموافقة وحرمة المخالفة معا ، وإن شملت بعضها ، يحصل الأمن بالقياس إليه خاصّة ، ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة من حيث وجوب الموافقة القطعيّة فقط ، لا من حيث حرمت المخالفة القطعيّة ، وإن لم تشمل شيئا من الأطراف ، فلا مدفع لاحتمال العقاب فلا أمن ، فيكون العلم الإجمالي منجّزا من حيث وجوب الموافقة وحرمة المخالفة معا.

فالعمدة هو البحث عن شمول أدلّة الأمارات والأصول لأطراف العلم كلّا أو بعضا ، وعدمه ، فنقول : أدلّة الأمارات والأصول لا يمكن شمولها لجميع الأطراف.

أمّا الأمارات : فمن جهة أنّ لوازمها حجّة ، فإخبار البيّنة بطهارة أحد الإناءين ، المعلومة نجاسة أحدهما بالإجمال إخبار بنجاسة الإناء الآخر بالالتزام وإن لم يكن المخبر ملتفتا إلى الملازمة فضلا عن قصده الإخبار باللازم ، وهكذا إخبار بيّنة أخرى بطهارة الإناء الآخر إخبار بنجاسة هذا الإناء بالالتزام ، فكلّ من الإناءين منفردا وفي نفسه وإن كان مشمولا لدليل حجّيّة البيّنة إلّا أنّ البيّنتين متعارضتان فتتساقطان.

وأمّا الأصول تنزيليّة كانت أو غيرها : فهي وإن لم تكن مثبتة للوازمها ـ فلا يكون استصحاب الطهارة في أحد الإناءين مثبتا لنجاسة الإناء الآخر ، وهكذا أصالة الطهارة ، فلا تعارض بين الأصلين ـ إلّا أنّ حكم الشارع بطهارة كلّ من الإناءين مناقض (١) لحكمه بنجاسة أحدهما ، المعلوم إجمالا.

__________________

(١) أقول : ليس في موارد الأصول مطلقا ـ تنزيليّة وغير تنزيليّة ـ مناقضة ، فإنّ المعلوم ـ

٣٧٠

وبعبارة أخرى : بعد ما بيّن الشارع لزوم الاجتناب عن النجس وعلم المكلّف بوجود النجس في البين ، المردّد بين إناءين ـ غاية الأمر لا يميّز النجس منهما عن الطاهر ، والمفروض أنّه لا دخل للتمييز في موضوع الحكم ، فإنّ الكلام في العلم الطريقي ـ فحكمه بعدم لزوم الاجتناب عن هذا الإناء حال حكمه بعدم لزوم الاجتناب عن الآخر ، وتعبّده بطهارة هذا الإناء في عرض تعبّده بطهارة الإناء الآخر مناقضة في الكلام ، ولو صرّح بذلك يعدّ نسخا للحكم المعلوم بالإجمال.

وبذلك ظهر أنّه لا حاجة لنا في الحكم بعدم جواز المخالفة القطعيّة لموارد العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين المتباينين إلى ما ادّعاه الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ الشكّ المأخوذ في روايات الاستصحاب ـ مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١) ـ وإن كان عامّا للشبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي إلّا أنّ اليقين المذكور في ذيل بعض الروايات ـ مثل قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» (٢) ـ أيضا عامّ ، فيقع التعارض بين الصدر والذيل ، وتصير الروايات مجملة من هذه الجهة ، فلا يمكن التمسّك بها لجريان الاستصحاب في موارد

__________________

ـ بالإجمال حكم واقعي ومؤدّى الأصلين حكم ظاهري ولا تناقض بين الحكم الظاهري والواقعي ولا مناقضة بين حكمي الشارع.

نعم ، يلزم التناقض في حكم العقل ، وهو أمر آخر ، كما أنّ لزوم الترخيص في المعصية أيضا أمر آخر.

وبعبارة أخرى : ما قيل بلزومه من جريان الأصول في جميع الأطراف ثلاثة أمور : أحدها : لزوم الترخيص في المعصية ـ وثانيها : لزوم التناقض في حكم العقل. وثالثها : لزوم التناقض في حكم الشارع. والأوّلان لا كلام فيهما ، وأمّا الثالث فهو حقّ في مورد الأمارات دون الأصول. (م).

(١ و ٢) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٣٧١

العلم الإجمالي (١).

وذلك لما عرفت من أنّ أدلّة الأصول في نفسها غير قابلة للشمول ، للزوم المناقضة ، فلو لم يكن هذا الذيل موجودا في روايات الاستصحاب ـ كما أنّ بعضها كذلك ـ لم تكن تشمل موارد العلم الإجمالي أيضا.

وبالجملة ، المانع ليس في مقام الإثبات ـ كما ذكره قدس‌سره ـ بل المانع ثبوتي ، بمعنى أنّه لا يعقل شمول أدلّة الأصول والأمارات لأطراف العلم الإجمالي ، فلو كانت الأدلّة بظاهرها شاملة أيضا ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهورها ، لوجود المانع العقلي ، إذ لا فرق بينه وبين العلم التفصيليّ في عدم معقولية الترخيص على خلاف المعلوم ، فكما لا يعقل أن يرخّص الشارع في ارتكاب ما هو معلوم الخمريّة مع حكمه بأنّه حرام يعاقب عليه ، كذلك لا يعقل الترخيص في ارتكاب الفردين اللذين يعلم بوجود الخمر بينهما ، فإنّه ترخيص في المعصية.

فانقدح من جميع ذلك عدم جواز المخالفة القطعيّة ، لعدم معقوليّة الشمول جميع الأطراف.

هذا كلّه بالقياس إلى جميع الأطراف ، أمّا شمول الأدلّة لبعض الأطراف : فهو وإن لم يكن فيه محذور عقلي ـ لعدم كونه مستلزما للمناقضة والترخيص في المعصية ، ولا مانع عقلا من حكم الشارع بجواز شرب أحد الإناءين ، المعلومة خمريّة أحدهما ، وهذا كتعبّد الشارع بنجاسة أحد الإناءين ، المتيقّنة نجاسته سابقا وعلم بعد ذلك بوقوع قطرة بول في أحدهما ، فإنّ الاستصحاب جار في أحد الطرفين بلا معارض مع أنّ العلم الإجمالي بوجود تكليف فعليّ متوجّه إلى المكلّف موجود ، وهكذا فيما إذا علم إجمالا بثبوت تكليف فعليّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٢٩.

٣٧٢

تعلّق بقضاء الصبح أو العصر الأدائي ، فإنّه تجري البراءة بالقياس إلى صلاة الصبح ، ويحكم بوجوب الإتيان بالعصر ، للشكّ في الخروج عن عهدة التكليف الواصل ، وبالجملة لا مانع من اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي في مقام الامتثال ، والعلم الإجمالي ـ بل التفصيليّ ـ أيضا ـ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل للشارع أن يكتفي بالامتثال الاحتمالي فيما إذا علم التكليف تفصيلا ، كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز وغير ذلك ، فضلا عن التكليف المعلوم بالإجمال ، فعمدة الوجه في منجّزيّة العلم الإجمالي هو تعارض الأصول في الأطراف ، ولو لا ذلك لا وجه لمنجّزيّته أصلا ، كما لا يخفى ، فيكون حال بعض الأطراف في المقام حال الشبهات البدويّة ـ إلّا أنّها لا تشمله ، لمانع في مقام الإثبات ، فإنّ شمولها لواحد معيّن دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، ولأحدهما لا بعينه غير صحيح قطعا إمّا لعدم تحقّق موضوع الأصل ـ وهو الشكّ ـ أو يتحقّق الموضوع لكن لا يترتّب عليه أثر ، فإنّه ـ أي أحدهما لا بعينه ـ إمّا مقطوع الحلّيّة ، فمع القطع بحلّيّة أحدهما لا بعينه لا مورد لإجراء الأصل ، ولو سلّم فأيّ فائدة لجريان الأصل المثبت لما هو مقطوع بدونه؟ أو مشكوك الحلّيّة ، كما في مورد علمنا بحرمة أحد الإناءين واحتملنا حلّيّة الآخر وحرمته ، فهو وإن كان موردا للأصل إلّا أنّه لا يترتّب عليه الأثر المقصود في المقام ـ وإن كان يترتّب عليه أثر في غير المقام ـ وهو جواز الارتكاب ، إذ غايته أنّه بمنزلة القطع بحلّيّة أحدهما ، فحكم الشارع بأنّ أحدهما لا بعينه حلال لا يزيد عن قطعنا الوجداني بذلك.

وهذا هو المراد ممّا أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ «أحدهما» ليس فردا ثالثا

٣٧٣

مشكوكا يشمله دليل الأصل (١) ، فإنّ الظاهر ـ والله العالم ـ أنّ مراده ـ قدس‌سره ـ أنّ عنوان «أحدهما» مقطوع الحلّيّة أو بحكم مقطوع الحلّيّة ، فلا مورد لجريان الأصل فيه ، وليس فردا ثالثا مشكوكا حتى يشمله دليل الأصل.

بقي احتمال آخر ، وهو : أن يشمل دليل الأصل كلا الطرفين لكن لا بنحو التعيين بل بنحو التخيير بأن كان شرب كلّ واحد من الإناءين مباحا تخييرا وعند ترك شرب الآخر ، وكان دليل الأصل شاملا للشبهات البدويّة بنحو التعيين ولأطراف العلم الإجمالي بنحو التخيير ، ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، كما لا يلزم ذلك في دليل لزوم إنقاذ الغريق الشامل لموارد غير المتزاحمة بالتعيين وموارد التزاحم بالتخيير.

والحقّ عدم صحّة هذا الاحتمال أيضا ، وذلك لأنّ التخيير لو كان تخييرا شرعيّا من قبيل التخيير بين الخبرين المتعارضين ، فهو يحتاج إلى دليل خاصّ مفقود في المقام.

وإن كان تخييرا عقليّا ناشئا من عدم قدرة المكلّف على العمل بكلا الأصلين نظير التخيير في باب التزاحم ، الناشئ من عدم قدرة المكلّف على امتثال كلا التكليفين : التكليف بإنقاذ هذا ، أو ذاك ، فالمفروض خلافه ، ضرورة أنّ المكلّف قادر على شرب كلّ من المائعين ، كما أنّه قادر على الترك بالمرّة ، وليس المانع من الإطلاق وشمول دليل الأصل لكلا الطرفين في مقام الامتثال ـ كما في إنقاذ الغريقين حتى يقال : إنّ العقل يستقلّ بالتخيير بين الأخذ بكلّ واحد من الدليلين اللذين لا يقدر على امتثال كليهما ـ بل في مقام أصل الجعل ، لما عرفت من أنّ الترخيص في كلا الطرفين ترخيص في المعصية ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٢٩.

٣٧٤

فدليل الأصل لا يمكن شموله لكلا الطرفين ، لا أنّه شامل والمكلّف لا يقدر على العمل بكلا الأصلين.

نعم ، لو قلنا بحجّيّة الأمارات من باب السببيّة وأنّ قيام الأمارة سبب لوجود مصلحة في العمل توجب العمل على طبقها ـ كما يقوله المعتزلة ـ لكان قيام الأمارتين المتنافيتين في المؤدّى من باب التزاحم ، فإنّ المكلّف لا يقدر على استيفاء كلتا المصلحتين ، وإلّا فملاك الأخذ بكلّ من الأمارتين ـ وهو ترتّب المصلحة على العمل به ـ موجود بحيث لو فرضت ـ محالا ـ قدرة المكلّف على الجمع بين المتناقضين ، لأمره المولى بالعمل على كلتا الأمارتين المتناقضتين في المؤدّى.

وربما يقال بأنّه يمكن أن يكون التخيير تخييرا عقليّا ناشئا من رفع اليد عن ظهور الدليل بالمقدار المتيقّن ، كما إذا قال المولى : «أكرم كلّ عالم» وعلمنا من الخارج بأنّه لا يريد إكرام زيد وعمر ومعا ، فإنّ رفع اليد عن شمول دليل «أكرم كلّ عالم» لزيد العالم وعمرو العالم بالكلّيّة بلا وجه ، إذ لا عذر في ترك إكرام كلّ منهما مع شمول الدليل لهما بحسب الظهور العرفي ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور الدليل بالمقدار المتيقّن ، وهو الحكم بوجوب إكرام كلّ منهما على التخيير لا التعيين ، وهذه كبرى كلّيّة جارية في كثير من المسائل الفقهيّة ، ويترتّب عليها فوائد كثيرة.

ومن هذا القبيل دليل وجوب صلاة الجمعة يومها ، الظاهر في الوجوب التعييني ، ودليل وجوب الظهر ، الظاهر في ذلك أيضا ، وهكذا إذا ورد في مورد «يجب القصر» وورد في دليل آخر أنّه «يجب التمام» فإنّ مقتضى العلم الخارجي بعدم وجوب الظهر والجمعة معا ، أو وجوب القصر والإتمام معا : رفع اليد عن ظهور الدليلين في التعيين.

٣٧٥

وبعبارة أخرى : نقيّد إطلاق كلّ منهما ـ الناطق بأنّ هذا واجب سواء أتيت بفرد آخر غيره أو لا ـ بصورة عدم الإتيان بالآخر بأن نقول : إنّ الجمعة واجبة على من لم يأت بالظهر ، وهي واجبة على من لم يأت بالجمعة ، وهكذا في القصر والإتمام.

وفي المقام أيضا كذلك ، فنقول : إنّا نعلم من الخارج بعدم شمول دليل الأصل لكلا الطرفين لمانع عقلي ، فيرفع اليد عن ظهوره بالمقدار المتيقّن ، وهو شموله لكلا الطرفين ، أمّا سقوط الدليل بالكلّيّة فلا موجب له ، فلا بدّ من الحكم بشموله لكليهما تخيّرا ، ولذا التزم بعض بالتخيير في الخبرين المتعارضين على القول بالطريقيّة المحضة. وهذه شبهة عويصة في المقام.

وأجاب عنه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ على مبناه من أنّ استحالة الإطلاق ملازمة لاستحالة التقييد أيضا ، لما بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فإذا استحال الإطلاق في الأصل الجاري في كلّ من الطرفين ـ بأن يكون مفاده أنّ هذا المائع حلال شربه سواء شربت الآخر أو لا ـ يستحيل التقييد بعدم الآخر أيضا (١).

وقد مرّ الجواب عنه مرارا من أنّ استحالة الإطلاق تستلزم ضروريّة التقييد ، ومثّلنا لذلك بالعلم والجهل ، فإنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة مع أنّ الجهل يستحيل على البارئ تعالى والعلم ضروريّ له تعالى ، وهكذا الفقر والغنى متقابلان تقابل العدم والملكة مع أنّ الغنى مستحيل على الممكن والفقر ضروريّ له.

والجواب الصحيح عن هذه الشبهة هو : أنّ المحذور لو كان الترخيص

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٣٧٦

في الجمع بأن كانت نتيجة الإطلاق إباحة الجمع بين شرب هذا الإناء وذاك الإناء ، لكان المحذور يندفع بالتقييد قطعا ، كما في الصلاة والإزالة حيث إنّ نتيجة إطلاق كلا الأمرين ـ الأمر بالإزالة والأمر بالصلاة ـ هي الأمر بالجمع بين الضدّين ، فيستحيل إطلاق كلّ منهما ، وحينئذ إذا قيّد كلّ منهما أو أحدهما بترك امتثال الآخر ، يرتفع المحذور الّذي هو الأمر بالجمع بين الضدّين.

وأمّا لو كان المحذور هو الجمع في الترخيصين بأن يرخّص في شرب هذا الإناء حال ترخيصه شرب ذاك الإناء ، فهو باق حتى مع التقييد ، لأنّ لازمه إباحة كلّ من المائعين اللذين علم بخمريّة أحدهما عند حصول القيد لكلّ منهما ، كما إذا اختار المكلّف ترك شرب كلّ منهما ، وهو ترخيص في ارتكاب الحرام ، والحكم بإباحة ما حرّمه وجواز ارتكابه ـ ولو عند ترك المكلّف إيّاه وعدم ارتكابه باختياره ـ قبيح من الحاكم العاقل ، مستحيل على الشارع الحكيم. والمحذور في المقام هو الجمع في الترخيصين لا الترخيص في الجمع.

ونمثّل مثالا لذلك حتى يتّضح المرام ، وهو : أنّه إذا حلف أحد على ترك السكنى في مكان معيّن أوّل طلوع الشمس وتردّد أمر هذا المكان بين الغرفتين ، فالمكلّف الحالف يعلم إجمالا بحرمة السكنى في إحدى الغرفتين ، ومن الواضح أنّه لا يقدر على الجمع بين السكنى في هذه الغرفة وتلك الغرفة في آن واحد ، لكونهما ضدّين لا يجتمعان ، ولكنّه قادر على أن يسكن في مكان آخر ولا يسكن في شيء من الغرفتين ، وقد مرّ أنّ دليل الأصل لا يمكن شموله لكلا الطرفين ، ولا يعقل إطلاقه في كلّ منهما.

فحينئذ نقول : المانع من الإطلاق والشمول لو كان هو الترخيص في الجمع ، فهو في المقام مفقود ، إذ المفروض أنّه لا يقدر على الجمع ، وإحدى السكنيين متروكة لا محالة ، فمن ذلك نستكشف أنّ المانع لا يكون ذلك ، بل

٣٧٧

أمر آخر ، وهو : الجمع بين الترخيصين ، وهو لا يفقد بالتقييد ، لما عرفت من أنّه ترخيص في المعصية عند حصول القيد ، وهو مستحيل على الشارع الحكيم ، وهل يرضى أحد أن يقال : يجوز للشارع أن يحكم بإباحة الزنا إذا علم بأنّ المكلّف يتركه يقينا؟

وبتقريب آخر (١) : أنّ المعلوم بالإجمال إن كان حكما ترخيصيّا ، لا مانع من إلزام الشارع ظاهرا بتركه لمصلحة التحفّظ على الملاك الواقعي بلا فرق بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، ولا بين التعبّد بالأصل التنزيلي ، كالاستصحاب وغيره.

والأوّل : كما إذا علمنا بإباحة أحد الأمرين المشتبهين بالشبهة البدويّة

__________________

(١) أقول : لو سلّم اعتبار احتمال موافقة الحكم الظاهري للواقع ، نقول : إن كان معنى التخيير هو جعل الحكم الظاهري مشروطا بترك الآخر ، يلزم ما في المتن من مخالفته للواقع ، وأمّا لو قلنا بأنّه مجعول في ظرف ترك الآخر على نحو الحينية فلا منافاة ، فإنّه لا منافاة بين المطلقة والحينيّة ، وهي إنّما بين المطلقة والمشروطة. هذا أوّلا.

وثانيا : إذا كان احتمال الموافقة معتبرا ، يلزم عدم جريان الأصل فيما إذا صار أحد الإناءين طاهرا مع سبق النجاسة فيهما ، فإنّه ـ قدس‌سره ـ يجري الاستصحابين مع أنّ الحكم بنجاسة كليهما ظاهرا ينافي الواقع من طهارة أحدهما.

وثالثا : أنّ احتمال الموافقة ليس عليه آية ولا رواية ، وإنّما وجهه هو لزوم التضادّ من حيث المنتهى كما أشار إليه في المتن ، وهو لا يلزم فيما نحن فيه ، لأنّ الحكم الظاهري المجعول لهذا الإناء هو الّذي يكون موضوعا لحكم العقل ، فإنّ حكمه الواقعي مجعول على الفرض وهكذا بالنسبة إلى الإناء الآخر.

فتحصّل أنّ التضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي على فرض وجوده منتف في جميع المراحل لا تضادّ بينهما ذاتا ولا من حيث المبدأ ولا المنتهى.

فتحصّل أنّ جعل الحكم الظاهري تخييرا لا إشكال فيه من ناحية عدم موافقته للواقع.

نعم ، هذا النحو من الجعل غير متعارف ولا عرفيّة له. فالإشكال الأساسي هو لزوم الترخيص في المعصية عند ترك الكلّ بناء على الاشتراط ، وأمّا عدم موافقة الحكم الظاهري للواقع فلا إشكال فيه. (م).

٣٧٨

قبل الفحص واقعا ، فلا مانع من إلزام الشارع بترك كليهما.

والثاني : كما إذا علمنا إجمالا بطهارة أحد الإناءين المتيقّنة نجاستهما سابقا ، فلا بأس بالتعبّد بنجاستهما ظاهرا من باب الاحتياط بمقتضى الاستصحاب.

والثالث : كما إذا علمنا بحرمة النّظر إلى إحدى المرأتين ، فلا محذور في تعبّد الشارع بالاحتياط بترك النّظر إلى كلتيهما ، إذ لا قبح في إلزام الشارع بترك أمر مباح لمصلحة فيه.

وإن كان حكما إلزاميّا كحرمة شرب أحد المائعين ، لا يعقل أن يرخّص في شرب كلّ منهما لا مطلقا ولا مشروطا بترك الآخر.

أمّا مطلقا : فواضح ، لكونه بمنزلة قوله : «إنّ الخمر حرام وحلال».

وأمّا مشروطا : فلأنّ المولى الحكيم كما لا يجوز ويقبح أن يقول : «البول نجس مطلقا من أيّ حيوان كان» ثمّ يقول : «هو طاهر مطلقا» مع عدم نسخه الحكم الأوّل ، كذلك يقبح أن يقول : «البول نجس مطلقا» ثم يقول : «هو نجس إن كان ممّا لا يؤكل» مع عدم نسخه الحكم الأوّل وبقائه على إطلاقه.

ووجه القبح وتطبيقه على المقام يتّضح بتقديم مقدّمة ، وهي أنّه يظهر من بعض كلمات الشيخ ـ قدس‌سره ـ أن لا تنافي ولا تضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي من جهة أنّ موضوع الأوّل هو الفعل بعنوان أنّه مشكوك ، وموضوع الثاني هو الفعل بعنوانه الأوّلي (١).

واستشكل عليه كثير ، منهم : صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بأنّ الحكم الواقعي غير مشروط بعدم تعلّق الشكّ به ، بل هو محفوظ حتى في ظرف الشكّ به ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٩٠ ـ ١٩١.

٣٧٩

فالتضادّ على حاله (١).

وقد مرّ منّا في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ـ مفصّلا ونعيد إشارة ـ أنّ الحكمين ليس بينهما بأنفسهما تضادّ أصلا ، وإنّما التضادّ والتنافي ناشئ من مبدأيهما أو منتهاهما ، والحكم الظاهري والواقعي لا تضادّ بينهما لا من حيث المبدأ ولا من حيث المنتهى.

أمّا من حيث المبدأ ـ وهو المصلحة أو المفسدة الموجبة له ـ فلأنّ الحكم لا ينشأ عن مصلحة في متعلّقه أصلا ، وإنّما هو ناشئ عن مصلحة في نفس الحكم.

وأمّا من حيث المنتهى ـ وهو مرحلة حكم العقل بالامتثال ـ فلأنّه فرع وصول كلا الحكمين في عرض واحد ، وهو مفقود في المقام ، إذ مع وصول الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري أصلا ، ومع وصول الحكم الظاهري الحكم الواقعي غير واصل لا محالة ، فلا تحيّر للمكلّف في مقام الامتثال.

وإذا عرفت هذه المقدّمة ، نقول : إنّ حكم المولى بإباحة شرب كلّ من المائعين ، المعلومة خمريّة أحدهما مشروطا بعدم شرب الآخر مستلزم لحكمه بإباحة الخمر المعلوم في البين بشرط ترك شرب المائع المباح ، فالخمر المعلوم محكوم بحكمين : أحدهما واقعيّ مطلق ، وهو الحرمة ، والآخر ظاهريّ مشروط بترك أمر مباح ، وهو الإباحة ، وحيث إنّ كلّا من الحكمين وأصل إلى المكلّف وفعليّ فالتضادّ من حيث المنتهى موجود وإن لم يكن موجودا من حيث المبدأ أصلا.

وبتقريب آخر : لا بدّ في الحكم الظاهري من احتمال موافقته للواقع ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢٢.

٣٨٠