الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

بحرام.

وفي هذا القسم يجوز ارتكاب معلوم الفرديّة فضلا عن مشكوكها ما لم يرتكب مجموع الأفراد.

الثالث : ما إذا تعلّق بصرف الوجود ، المنطبق لأوّل الوجودات بأن يكون أوّل وجود الطلاق ذا مفسدة ، ولازم ذلك تعلّق النهي به فقط ، فإذا شكّ في فرديّة فرد للطبيعة المنهيّة كذلك فقد شكّ في أصل التكليف ، للشكّ في تحقّق شرطه ، وهو فرديّته للطبيعة ، لما مرّ مرارا من أنّ الموضوع في القضايا الحقيقيّة راجع إلى الشرط ، والشكّ في الشرط مساوق للشكّ في المشروط ، فيرجع إلى البراءة عقلا ونقلا ، ففي جميع صور الشكّ يكون المرجع هو البراءة عقلا ونقلا.

وبعبارة أخرى : في القسم الأوّل تكون المصلحة قائمة : بكلّ فرد فرد ، ولازمه الزجر بنحو الانحلال ، ومقتضاه ، الرجوع إلى البراءة في الفرد المشكوك ، وفي الثاني وإن كان الزجر واحدا من جهة أنّ للمجموع مصلحة واحدة وإطاعة وعصيانا واحدا إلّا أنّ ما هو مزجور عنه هو مجموع الأفراد لا الأقلّ ، فيجوز إبقاء فرد واحد وارتكاب الباقي قطعا ، قطع بفرديّته أو شكّ.

وهل يجوز إبقاء الفرد المشكوك وارتكاب الباقي أو لا؟ الظاهر الجواز ، لأنّ الزجر عن الفرد المتيقّن والمشكوك مقطوع به ، وتعلّقه بالأفراد المتيقّنة فقط غير معلوم ، فيرجع فيه إلى البراءة عقلا ونقلا ، وهذا على عكس الواجب الارتباطي ، فإنّ البراءة تجري فيه بالقياس إلى الأكثر ، وفي الثالث المصلحة قائمة بأوّل وجود من الطبيعة ، ومقتضاه الزجر عنه فقط ، فالشكّ في الفرديّة مساوق للشكّ في الزجر عنه ، فيرجع إلى البراءة.

وإن كان الثاني ، فهو على ثلاثة أقسام أيضا :

٣٤١

الأوّل : أن يكون المطلوب كلّ واحد من التروك بنحو العامّ الاستغراقي بحيث يكون لكلّ واحد إطاعة وعصيان ، ولا ريب في جريان البراءة أيضا.

الثاني : أن يكون المطلوب مجموع التروك بنحو العامّ المجموعي بأن كان هناك مصلحة واحدة مترتّبة على ترك الجميع وله إطاعة واحدة وعصيان واحد ، وهو من صغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيّين. والكلام فيه هو الكلام ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ جريان البراءة فيه ، فإنّ الطلب المتعلّق بترك مجموع الأفراد ـ وبعبارة أخرى : طلب الجمع في الترك ـ وإن كان طلبا واحدا شخصيّا ، لأنّ المفروض قيام مصلحة واحدة على جميع التروك ، إلّا أنّ هذا النهي الواحد البسيط ينحلّ إلى نواه عديدة ضمنيّة ، كانحلال الأمر الواحد البسيط المتعلّق بالمركّب الارتباطي إلى أوامر عديدة ضمنيّة ، وكما تجري البراءة في الفرد المشكوك تعلّق الأمر الضمني بفعله كذلك تجري البراءة في الفرد المشكوك تعلّق النهي الضمني بفعله وطلب تركه كذلك ، أي ضمنا.

الثالث : أن يكون المطلوب عنوانا بسيطا متحصّلا من مجموع التروك ، والشكّ في فرديّة الفرد في هذا الفرض راجع إلى الشكّ في تحقّق الامتثال ، ومقتضاه الرجوع إلى قاعدة الاشتغال لا البراءة ، إذ بارتكاب الفرد المشتبه لا يحصل العلم بتحقّق هذا العنوان البسيط المعلوم تعلّق التكليف به ، فلا يجوز الارتكاب إلّا إذا أحرز ذلك العنوان بالأصل.

مثلا : نفرض أنّ العنوان العدمي ـ المتحصّل من ترك شرب كلّ فرد من أفراد الخمر ، ونعبّر عنه في مقام التعبير بخلوّ الصفحة عن وجود شرب الخمر ـ مطلوب للمولى ، فنقول : نحن كنّا تاركين لشرب الخمر في أوّل الزوال وكانت الصفحة خالية عن وجوده قطعا ، فنستصحب ذلك العنوان إلى حين ارتكاب الفرد المشتبه ، فنحن حينئذ بحكم الشارع تاركين لشرب الخمر ومحصّلين

٣٤٢

لذلك العنوان البسيط المكلّف به.

وفي عبارة الكفاية في المقام ـ وهي : والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه إلّا أنّ قضيّة لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرّز عنه لا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه أيضا (١) ـ مسامحة واضحة ، وذلك لأنّ المطلوب بالنهي لو كان العنوان المتحصّل من الأفراد ، فلا معنى لجريان البراءة في الفرد المشتبه ، ولو كان العنوان المنطبق على الأفراد ـ كعنوان الصلاة ، المنطبق على التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وغير ذلك ـ فلا مانع من جريان البراءة ، ولا مقتضي لقاعدة الاشتغال ، ضرورة أنّه حينئذ من صغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، التي التزم ـ قدس‌سره ـ بجريان البراءة فيها (٢).

ثمّ إنّ ما ذكرناه من إمكان إحراز العنوان المطلوب بالأصل إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأفراد العرضيّة فقط بمعنى أنّ العنوان المتحصّل من الأفراد العرضيّة فقط يمكن إحرازه بالأصل ، وأمّا العنوان المتحصّل من الأفراد العرضيّة والطوليّة لا يمكن إحرازه بالأصل.

مثلا : لو كان المطلوب بالنهي عن شرب الخمر خلوّ صفحة الوجود ، المنتزع عن ترك شرب الخمر من أوّل الزوال إلى الغروب ، فحيث لا يتحقّق العنوان إلّا بترك شرب جميع أفراد الخمر ، العرضيّة والطوليّة فلا يحرز العنوان لو ارتكب المشتبه لا وجدانا ، وهو واضح ، ولا تعبّدا ، إذ المفروض أنّ العنوان لا يتحصّل إلّا من ترك شرب جميع أفراد الخمر في هذه المدّة ، فلا حالة سابقة له حتى نستصحبها ، والحالة السابقة المتيقّنة قبل ارتكاب الفرد المشتبه هي خلوّ الصفحة عن الأفراد العرضيّة فقط ، ولا فائدة فيها ، وما له فائدة ـ وهو الخلوّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٣.

(٢) كفاية الأصول : ٤١٣.

٣٤٣

عن الأفراد العرضيّة والطوليّة معا ـ ليست له حالة سابقة ، وإذا لم يحرز العنوان المطلوب بالاستصحاب ، فمقتضى القاعدة هو الاشتغال من جهة كون الشكّ في الامتثال بعد معلوميّة التكليف.

ثمّ إنّه ممّا يتفرّع على هذه المسألة ـ أي جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة ـ مسألة جواز الصلاة في اللباس المشكوك كونه ممّا لا يؤكل ، وعدم جوازه.

ومجمل الكلام فيه أنّه يستفاد من الروايات الباب كلّها أنّ المأخوذ قيدا في الصلاة هو الأمر العدمي ، أي عدم وقوع الصلاة فيما لا يؤكل ، لا وقوعها فيما يؤكل ، إذ في جميعها نهي عن الصلاة فيما لا يؤكل ، وليس في شيء منها الأمر بالصلاة فيما يؤكل.

نعم ، توهّم ذلك من ذيل رواية موثّقة ابن بكير ، قال : سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «إنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله» (١) الحديث.

وهذا التوهّم أيضا فاسد ، فإنّ ظاهر قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية : «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله» وإن كان قيديّة وقوع الصلاة في المأكول إلّا أنّه ـ حيث فرّع على ما قبله وهو الحكم بفساد الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل الّذي لا يفهم منه إلّا المانعيّة وقيديّة الأمر العدمي ـ يرفع اليد عن هذا الظهور بقرينة الصدر ، فيكون مفادها مفاد نظائرها من أنّه لا بدّ من عدم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٧ ـ ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ ـ ٨١٨ ، الوسائل ٤ : ٣٤٥ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ١.

٣٤٤

وقوع الصلاة فيما لا يؤكل ، وأنّ الصلاة الواقعة فيه فاسدة لا تقبل حتى يؤتى بفرد آخر غير مقرون بالمانع.

وبعد الفراغ عن ذلك نقول : إنّ النهي عن إيقاع الصلاة فيما لا يؤكل يتصوّر بصور:

الأولى : أن يكون المطلوب به ترك كلّ فرد من أفراد ما لا يؤكل بنحو العامّ الاستغراقي ، نظير النهي في «لا تشرب الخمر» في التكليف الاستقلالي.

الثانية : أن يكون المطلوب به مجموع التروك بنحو العامّ المجموعي.

الثالثة : أن يكون المطلوب به ترك الطبيعة بنحو صرف الوجود بحيث لو لبس المصلّي فردا ممّا لا يؤكل ، يتحقّق عصيان النهي الضمني.

الرابعة : أن يكون المطلوب عنوانا وجوديّا بسيطا منتزعا عن مجموع التروك ، نظير عنوان العريان المتحقّق من ترك لبس كلّ فرد من أفراد اللباس.

ولا ريب في جريان البراءة في الصور الثلاث الأول ، وعدم جريانها في الأخيرة منها بالبيان المتقدّم في التكليف الاستقلالي ، إذ لا فرق في ذلك بين التكاليف الضمنيّة والاستقلاليّة ، وظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ فيما لا يؤكل» أو «الصلاة في وبره وشعره وكذا وكذا فاسدة» هو مطلوبيّة ترك كلّ فرد من مصاديق ما لا يؤكل بنحو العامّ الاستغراقي ، كما في «لا تشرب الخمر» و «الخمر حرام» ولا فرق بين العبارتين أصلا إلّا أنّ الأولى نهي ضمني ، والثانية استقلالي (١) ، فكما تجري البراءة في الفرد المشتبه من الخمر كذا تجري في الفرد المشكوك من اللباس ، فكما أنّ «لا تشرب الخمر» أو «الخمر حرام» قضيّة حقيقيّة منحلّة إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد مصاديق الخمر كذلك

__________________

(١) أي : نهي استقلالي.

٣٤٥

«لا تصلّ فيما لا يؤكل» أو «الصلاة في وبره فاسدة» قضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضايا عديدة حسب تعدّد مصاديق غير المأكول ، وأمّا مطلوبيّة مجموع التروك أو ترك الطبيعة بنحو صرف الوجود فلا يفهم منه أصلا.

والشاهد على ذلك ما هو متسالم عليه بين الفقهاء على الظاهر من أنّ من اضطرّ إلى لبس غير المأكول أو النجس لا بدّ من أن يقتصر على مقدار الضرورة ، ولا تنطبق هذه الفتوى إلّا على الانحلال ، ضرورة أنّ الاضطرار بلبس فرد ما من الطبيعة موجب لسقوط النهي لو كان بنحو صرف الوجود أو العامّ المجموعي ، فلما ذا يجب الاقتصار بمقدار الضرورة بعد سقوط النهي عن اللّبس بواسطة الاضطرار إلى متعلّقه؟ وهذا بخلاف ما لو كان بنحو الانحلال ، إذ كلّ فرد من الأفراد منهي عنه ، فإذا اضطرّ إلى فرد ، يسقط النهي المتعلّق به خاصّة ، وتبقى الأفراد الأخر غير المضطرّ إليها على حالها ، ولا يسقط النهي المتعلّق بها.

وهكذا لا يستفاد من الروايات مطلوبيّة العنوان البسيط المنتزع عن مجموع التروك ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، ظاهر الروايات هو مطلوبيّة ترك لبس كلّ فرد من أفراد ما لا يؤكل بنحو العامّ الاستغراقي وإن كانت البراءة تجري في جميع الصور الثلاث المتقدّمة إلّا أنّ واقع المطلب ذلك.

وهل يجري الاستصحاب الموضوعي الحاكم على قاعدة الاشتغال في الصورة الرابعة التي قلنا بأنّ مقتضى القاعدة فيها هو الاشتغال ، أو لا يجري؟

ربّما يقال بالتفصيل بين أن يكون معروض القيد هو الصلاة بأن تكون الصلاة لا بدّ وأن تقع فيما لا يؤكل ، فلا يجري ، إذ الشكّ من أوّل الأمر موجود ، وليس لها حالة سابقة متيقّنة ، بل الصلاة من أوّل وجودها يشكّ في وقوعها فيما لا يؤكل ، وعدم وقوعها.

٣٤٦

نعم ، لو لبس المشكوك في أثناء الصلاة ، لا مانع من جريان الاستصحاب بأن يقال: إنّ الصلاة حال وجودها لم تقع فيما لا يؤكل والآن كما كانت ، وهكذا يجري في الشعرة الملقاة في الأثناء ، وبين أن يكون معروض القيد هو اللباس بأن اعتبر فيه أن لا يكون ممّا لا يؤكل ، فلا يجري أيضا ، فإنّ الفرد المشكوك ليس من غير المأكول في زمان حتى نستصحب ، بل من أوّل وجوده إمّا كان من المأكول أو كان من غير المأكول ، نعم يجري في الشعرة الملقاة المشكوكة ، وبين أن يكون معروض القيد هو المصلّي بأن اعتبر في المصلّي أن لا يكون لابسا لغير المأكول ، فيجري الاستصحاب ، فيقال : إنّه لم يكن لابسا لغير المأكول قبل لبس المشكوك والآن كما كان ، فتصحّ الصلاة فيه بمقتضى التعبّد الاستصحابي.

والحقّ أنّ المستفاد من الروايات سيّما قوله عليه‌السلام في موثّقة ابن بكير : «إنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وكذا وكذا فاسدة» هو معروضيّة الصلاة للقيد ، واعتباره في الصلاة ، وعلى هذا لا بدّ من التفصيل بين مقارنة الصلاة من أوّلها مع لبس المشكوك ، فنحكم بعدم جريان الاستصحاب ، وبين مقارنتها معه في الأثناء ، فنحكم بصحّتها ، لجريان الاستصحاب.

وهذا على فرض عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة ، وأمّا على المختار من الجريان ، فيجري الاستصحاب على جميع التقادير.

ويمكن أن يقال بجريان استصحاب عدم غير المأكول بنحو العدم النعتيّ لا المحمولي بوجه دقيق ، وهو أنّ شعر الحيوان ووبره وجلده وهكذا جميع أعضائه كلّها كان مستحالا من الأغذية التي أكلها الحيوان من النبات ، فمادّة الشعر من أوّل الأمر قبل أن تتصوّر بالصورة الشعريّة كانت علفا ولم تكن متصوّرة بصورة شعر غير المأكول ، وبعد تصوّرها بالصورة الشعريّة نشكّ في تلبّسها بصورة شعر غير المأكول ، وعدمه ، فنستصحب عدمه ، ولا يعارض

٣٤٧

ذلك باستصحاب عدم تلبّسها بصورة شعر الحيوان المأكول ، فإنّه لا يترتّب عليه أثر إلّا بلازمه ، وهو تلبّسها بصورة شعر غير المأكول.

ونظير ذلك : ما إذا قطعنا بانقلاب ماء العنب إلى مائع آخر مردّد بين الخمر والخلّ ، ألسنا نستصحب عدم انقلابه إلى الخمر وعدم تلبّسه بالصورة الخمريّة ، الّذي كان متيقّنا سابقا؟

وبالجملة لا إشكال في صحّة الصلاة في اللباس المشكوك كونه ممّا لا يؤكل بعد استفادة أنّ القيد أمر عدمي ، وجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة ، وفي الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، ومع تسليم هذه الجهات الثلاث لا مجال لإنكار صحّة الصلاة في اللباس المشكوك.

ثمّ إنّ الشيخ (١) ـ قدس‌سره ـ نبّه على أمر في ذيل بحث البراءة ، وهو أنّ بعض الأخباريّين تخيّل إنكار المجتهدين حسن الاحتياط ، ولذا شنّع عليهم بذلك.

وردّه الشيخ ـ قدس‌سره ـ بأنّهم لا ينكرون حسن الاحتياط عقلا ـ ما لم يوجب الإخلال بالنظام ـ فيما قامت أمارة معتبرة خاصّة على جوازه واحتمل حرمته فضلا عن موارد البراءة ، التي لم تقم على جواز الاقتحام فيها أمارة معتبرة بالخصوص.

وبالجملة ، ما ينكر المجتهدون هو وجوب الاحتياط من جهة عدم استفادة ذلك من أخبار الاحتياط واستفادة الإرشاد إلى ما يراه العقل من حسن الاحتياط أو الاستحباب الشرعي ، لا أصل حسن الاحتياط ، فإنّه عقلي غير قابل للإنكار.

ثمّ إنّ الإخلال بالنظام تارة يكون ناشئا من الاحتياط في كلّ مورد مورد

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢١٩.

٣٤٨

بحيث يكون كلّ احتياط مخلا بالنظام ، وأخرى يكون ناشئا من ضمّ بعض الاحتياطات إلى بعض ، وعلى كلّ تقدير إذا وصل الاحتياط إلى مرتبة الإخلال بالنظام ، ليس فيه حسن لا عقلا ، فإنّ العقل يرى قبح الإخلال بالنظام ، ولا نقلا ، إذ أدلّة الاحتياط مخصّصة بالمخصّص العقليّ ، ففي الفرض الأوّل لا حسن في الاحتياط أصلا ، وفي الثاني لا حسن فيه إذا وصل إلى مرتبة الإخلال ، وأمّا بمقدار لم يصل إلى هذه المرتبة فباق على حسنه.

ولكنّ الأولى تعيين مقدار لا يوجب الإخلال ، والإدامة على الاحتياط في ذلك المقدار ، فإنّ القليل الّذي يدام عليه خير من كثير لا يدام عليه ، كما في الخبر «قليل تدوم عليه خير من كثير لا تدوم عليه» (١).

وهكذا الأولى ترجيح الموارد المهمّة من محتملات التكليف ـ كالأموال والأعراض والنفوس ـ على غيرها ، والموارد التي كان احتمال التكليف فيها أكثر من غيرها بأن يحتاط في مظنونات التكليف مثلا ، ويطرح المشكوكات والموهومات والحاصل : الأولى التبعيض في الاحتياط بترجيح مقدار على غيره احتمالا أو محتملا والإدامة على ذلك.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢١٧ ـ ٢٧٨ ، وعنه في البحار ٦٨ : ٢١٨ ـ ٢٢ نحوه.

٣٤٩
٣٥٠

فصل :

في دوران الأمر بين محذورين.

ولا يخفى أنّ محلّ الكلام ما إذا علم بجنس التكليف وتردّد أمره بين الوجوب والحرمة حدوثا ، وأمّا ما لم يكن كذلك ـ بأنّ تردد أمر شيء بين الوجوب والحرمة والإباحة مثلا ، أو علم بجنس التكليف لكن لا حدوثا بكل بقاء بأن كانت حالته السابقة هو الوجوب أو الحرمة ـ فخارج عن محلّ الكلام ، بل تجري البراءة في الأوّل بلا شبهة والاستصحاب في الثاني بلا معارض ، وينحلّ العلم الإجمالي بالتعبّد الاستصحابي بالوجوب مثلا ، فلا أثر بعد ذلك لاحتمال الحرمة.

ويقع الكلام في مقامين :

الأوّل : ما إذا كان كلّ من التكليفين المحتملين توصّليّا ، والأقوال في المقام خمسة :

١ ـ جريان البراءة عقلا ونقلا.

٢ ـ تعيّن الأخذ باحتمال الحرمة.

٣ ـ التخيير بين الأخذ بالوجوب والأخذ بالحرمة.

٤ ـ التخيير بين الفعل والترك عقلا ، وجريان أصل الإباحة ، كما في الكفاية (١).

٥ ـ التخيير العقلي بلا جريان أصل شرعي أصلا ، كما ذهب إليه شيخنا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٤.

٣٥١

الأستاذ (١).

وكلّها خلاف التحقيق إلّا الأوّل منها.

وأمّا الثاني : فلا وجه له إلّا توهّم أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وهو فاسد ، فإنّ هذا كلام شعري لا يساعده دليل لا عقلا ولا نقلا في دوران الأمر بين المقطوع منهما فضلا عن محتملهما ، إذ كثيرا ما تقدّم المصلحة المقطوعة على المفسدة المقطوعة ، كما في إنقاذ الغريق المتوقّف على التوسّط في الأرض المغصوبة.

هذا ، مضافا إلى الالتزام بالإباحة ، وعدم الاعتناء بالمفسدة المحتملة فيما إذا كان طرفها الإباحة التي لا مصلحة فيها أصلا ، فكيف يعتنى بها فيما إذا كان طرفها الوجوب!؟

وأمّا الثالث ـ وهو التخيير الشرعي ـ فإن كان المراد منه هو التخيير في المسألة الأصوليّة من قبيل التخيير بين الخبرين ، فليس مدلولا لدليل ، ولا وجه له إلّا توهّم لزوم الموافقة الالتزاميّة ، وهو على تقدير تسليمه ـ لا يوجب الأخذ بأحدهما والفتوى على طبقه ، بل تتحقّق الموافقة الالتزاميّة بالالتزام إجمالا بالحكم الواقعي أيّا ما كان ، ولا يلزم الالتزام تفصيلا بل محرّم قطعا ، فإنّه تشريع محرّم ، ويشمله قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٢).

وإن كان المراد منه التخيير في مقام العمل بأن يجب الفعل أو الترك ، فهو غير معقول وغير صادر من الحكيم ، فإنّه لغو محض لا فائدة فيه أصلا ، لعدم خلوّ المكلّف من أحدهما ، ولا يمكنه امتثالهما ، لامتناع اجتماع النقيضين ، ولا عصيانهما ، لامتناع ارتفاع النقيضين ، وإنّما الوجوب التخييري يعقل بين

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٠ ـ ٢٣٢.

(٢) يونس : ٥٩.

٣٥٢

أمرين أو أمور يمكن للمكلّف أن يخلو عن جميعها ، ويشتغل بفعل آخر ، كالعتق والإطعام والصيام ، وأمّا في النقيضين أو الضدّين لا ثالث لهما ـ كالأمر بالفعل أو الترك وبالتكلّم أو السكوت ـ فهو غير معقول.

وأمّا الرابع ـ وهو ما أفاده في الكفاية من التخيير العقلي وجريان أصالة الحلّ ـ فيرد عليه أمران :

الأوّل : أنّ روايات الحلّ قد تقدّم أنّها مختصّة بموارد الشبهات الموضوعيّة ، لقرائن موجودة فيها ، كلفظ «فيه» في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» (١) ولفظ «بعينه» وغير ذلك ، ولا تشمل موارد الشبهات الحكميّة ، فالدليل أخصّ من المدّعى وإن لم نقف على مثال في الفقه للشبهة الحكميّة ومورد يكون أمره دائرا بين محذورين من جهة الشبهة الحكميّة.

الثاني : أنّه على فرض شمول الروايات للشبهات الحكميّة أيضا لا تشمل المقام ، فإنّ لسانها لسان جعل الحكم الظاهري ، والترخيص بين الفعل والترك في ظرف الجهل ، ولا يمكن جعل الترخيص في مورد يقطع بوجود الإلزام الشرعي فيه ، ولا يصحّ أن يقول المولى : «أيّها القاطع بالإلزام والعالم بأنّك غير مرخّص في الفعل أو الترك أنت مرخّص في الفعل أو الترك» فإنّه من التناقض في الكلام.

وبعبارة أخرى : لا بدّ في الحكم الظاهر أن يحتل مصادفته للواقع ، وهو مقطوع العدم في المقام ، للعلم بعدم إباحته واقعا قطعا.

وأمّا الخامس ـ وهو ما أفاده شيخنا الأستاذ من اللاحرجيّة العقليّة من باب لا بدّيّة الفعل أو الترك وتساقط الأصول كلّها ـ فعمدة المدرك فيه وجهان :

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣٩ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٨ و ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٣٥٣

الأوّل : أنّ كلّ أصل شرعي لا بدّ له من أثر شرعي يترتّب عليه وإلّا يلغو التعبّد به ، ولا أثر في المقام أصلا ، إذ المكلّف غير خال عن الفعل أو الترك.

والثاني : أنّ «رفع ما لا يعلمون» (١) وغيره من أدلّة البراءة موردها ما إذا أمكن للشارع الوضع بإيجاب الاحتياط ، وفي المقام لا يمكن له الوضع ، لعدم إمكان الاحتياط ، فلا يمكن الرفع أيضا.

والحاصل : أنّه كلّما كان وضع التكليف بيد الشارع فرفعه أيضا بيده ، ولا يمكن التكليف في المقام بإيجاب الاحتياط ، فليس رفعه أيضا بيده وتحت اختياره.

والتحقيق أنّ الأثر موجود في المقام ، ووضع التكليف ممكن ، فرفعه أيضا ممكن.

بيانه : أنّ المولى ليست يده مغلولة في المقام ، بل يده مبسوطة يمكنه إلزام المكلّف بالفعل بالخصوص ، كما أنّ له الإلزام بالترك بالخصوص ، ولا مانع منه أصلا.

وبعبارة أخرى : ليس للمولى الإلزام بالفعل والترك معا بأن يقول : «يجب عليك أيّها الشاكّ في وجوب شيء وحرمته الجمع بين الفعل والترك» لامتناع اجتماع النقيضين ، ولكن له أن يقول : «أيّهما المتردّد في وجوب شيء وحرمته يجب عليك الاحتياط بالفعل ، أو يجب عليك الاحتياط بالترك» فإذا أمكن وضع كلّ من الوجوب والحرمة منفردا يمكن له رفعه أيضا ، وللرفع أثر ، وهو الترخيص في الترك في رفع الوجوب ، والترخيص في الفعل في رفع الحرمة ، فالوجوب بنفسه قابل للوضع ، ولرفعه أثر ، وهو الرخصة في الترك ، فتشمله

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٣ ـ ٢٤ ، الخصال : ٤١٧ ـ ٩ ، الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النّفس ، الحديث ١.

٣٥٤

أدلّة البراءة النقليّة ، والحرمة أيضا بنفسها قابلة للوضع ، ولرفعها أثر ، وهو الترخيص في الفعل ، فتشملها أيضا.

نعم ، يلزم منه المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، ولا محذور فيه ، والمحذور لزوم المخالفة العلميّة وليس في المقام.

وتوهّم أنّ مورد البراءة الشرعيّة مورد الجهل وعدم العلم بالتكليف جنسا أو نوعا ، وفي المقام جنس الإلزام معلوم مبيّن ، فاسد ، فإنّ المراد من العلم بجنس التكليف أو نوعه ما يكون قابلا للتحريك ، كما إذا علم إجمالا بتعلّق الحلف بوطء زوجته الأولى أو ترك وطء الثانية ، فإنّ جنس الإلزام معلوم وقابل للتحريك ، ضرورة إمكان الموافقة القطعيّة بوطء الأولى وترك وطء الثانية ، كما أنّ المخالفة القطعيّة أيضا ممكنة بأن يترك وطء الأولى ويطأ الثانية ، لا ما لا يكون قابلا للتحريك ، كما في المقام ، الّذي متعلّق العلم واقعة شخصيّة واحدة غير عباديّة على الفرض ، إذ لا يمكن الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة ، فأيّ فائدة لمثل هذا الإلزام الّذي لا يكون قابلا للتحريك ، بل وجوده كعدمه؟

وبذلك ظهر جريان البراءة العقليّة أيضا في المقام ، إذ مورده عدم البيان ، والمقام كذلك ، ضرورة أنّ الوجوب بالخصوص لم يبيّن ، والحرمة بالخصوص كذلك ، ومعلوميّة جنس الإلزام لا يعدّ بيانا كما عرفت ، لعدم قابليّته للتحريك ، والمراد منه ـ كما مرّ مرارا ـ هو الحجّة لا مجرّد صدور كلام من المولى ولو لم يعرف المكلّف معناه أصلا.

فاتّضح فساد ما في الكفاية من عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان

٣٥٥

في المقام ، لتماميّة البيان (١) ، لما عرفت من أنّ البيان ما يكون قابلا للتحريك ، وهو مفقود في المقام.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا عدم تمامية الأقوال الأربعة الأخيرة ، وصحّة القول الأوّل من جريان البراءة عقلا ونقلا.

وممّا ذكرنا ظهر أيضا عدم المانع من جريان الاستصحاب سواء كانت الشبهة في الموضوع أو الحكم إذا كانت لها حالة سابقة ، إذ لا مانع منه إلّا توهّم الفرق بين الأصول التنزيليّة وغيرها في مانعيّة لزوم المخالفة الالتزاميّة عن جريانها وعدم مانعيّته ، ويأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ أنّ المخالفة الالتزاميّة غير مانعة عن جريان الأصول ما لم تنته إلى المخالفة القطعيّة العمليّة ، سواء كان الأصل تنزيليّا ، كالاستصحاب ، أو لم يكن كذلك.

ثمّ إنّه على المختار من جريان البراءة عقلا ونقلا لا موضوع للبحث عن أنّ التخيير بين الفعل والترك ثابت حتى في فرض احتمال أهمّيّة أحد التكليفين على تقدير وجوده ، وذلك لأنّ كلّ واحد من الوجوب والحرمة كان مرفوعا بأدلّة البراءة ، فالوجوب المحتمل على تقدير ثبوته واقعا بأيّ مرتبة من الأهمّيّة كان رفع في مقام الظاهر ، وهكذا الحرمة ، وبعد الرفع لا مجال للقول بتعيين محتمل الأهمّيّة.

وأمّا على القول بعدم جريان البراءة لا نقلا ولا عقلا ، فقد يقال ـ كما في الكفاية (٢) ـ بأنّ المقام داخل في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، غاية الأمر أنّ الدوران في المقام بين التكليفين الاحتماليّين ، وهناك بين قطعيّين ، والعقل لا يفرّق بينهما في الحكم بتعيين محتمل الأهمّيّة أو الأهمّ.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٥.

(٢) كفاية الأصول : ٤٠٦.

٣٥٦

وفيه : أنّ ملاك حكم العقل بتعيين الأهمّ في موارد التزاحم بين التكليفين كالإنقاذ والغصب ، وهو : سقوط إطلاق المهمّ وبقاء الأمر بالأهمّ على إطلاقه ، وهو مفقود في المقام الّذي ليس في البين إلّا تكليف واحد فارد محتمل بين أمرين.

بيان ذلك : أنّ مقتضى إطلاق كلّ من دليلي وجوب الإنقاذ وحرمة الغصب كون المكلّف في ضيق ولو في صورة التزاحم ، وحيث لا يمكنه في مقام الامتثال الجمع بين الامتثالين في صورة التزاحم بأن ينقذ الغريق ويترك الغصب ، فلا يعقل بقاء كلا الإطلاقين ، فإنّ لازمه التكليف بما لا يطاق ، فلا بدّ من سقوط أحدهما ، وبما أنّ سقوط إطلاق دليل حرمة الغصب متيقّن على كلّ حال ، إذ لو لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر لسقط كلا الإطلاقين ، لعدم وجود المرجّح في البين ، وعدم إمكان بقائهما على حالهما ، ولا مانع عقلا من بقاء إطلاق دليل وجوب الإنقاذ ، ونشكّ في تقييده بصورة عدم الابتلاء بالمزاحم وعدمه فنتمسّك بالإطلاق ، ونحكم بوجوب الإنقاذ ولو في مورد الابتلاء بالغصب ، وهذا هو الملاك في الحكم بتعيين الأهمّ في التكليفين المتزاحمين ، ومن الواضح أنّه مفقود في التكليف الواحد المردّد بين الوجوب والحرمة ، الّذي لا يمكن للمكلّف العلم بموافقته أو مخالفته.

ودعوى استقلال العقل هنا أيضا بتقديم محتمل الأهمّيّة عهدتها على مدّعيها ، ضرورة أنّه ليس من البديهيّات ، بل من النظريّات العقليّة ، فلا بدّ في إثباته من إقامة الدليل ، ولا يكفي مجرّد الدعوى كما لا يخفى.

فاتّضح عدم تعيين محتمل الأهمّيّة في المقام سواء قلنا بجريان البراءة ، أو قلنا بالتخيير العقلي وعدم جريان البراءة.

وبالجملة ، الوجه الّذي نعتمد عليه في باب التزاحم هو أنّ تفويت

٣٥٧

الملاك الملزم الّذي هو روح التكليف لا يجوز بعد وصوله إلى المكلّف بوصول ما اشتمل عليه من التكليف بمقتضى قاعدة الاشتغال ، وفي باب التزاحم حيث لا يمكن للمكلّف استيفاء ملاك كلّ من التكليفين لم يكن المكلّف موظّفا باستيفائهما معا ، وحينئذ إذا استوفى ملاك الأهمّ احتمالا فقد عمل بوظيفته قطعا ، فإنّ الملاك المستوفى إمّا بقدر الملاك الآخر أو أزيد ، فجواز تفويت ملاك المهمّ قطعي ، ولكن جواز تفويت ملاك محتمل الأهمّيّة مشكوك ، وحيث إنّ البيان تامّ والملاك وأصل لا تجري البراءة ، فيحكم بالتعيين ووجوب تقديم محتمل الأهمّيّة.

وهذا الوجه غير جار في المقام ، إذ ليس هناك تكليفان وملاكان وأصلان إلى المكلّف ، بل تكليف واحد وملاك فارد ، وليس في البين إلّا احتمال كون التكليف المعلوم بجنسه متحقّقا في ضمن الوجوب أو الحرمة ، وعلى فرض عدم جريان البراءة احتمال أهمّيّة أحد التكليفين على تقدير وجوده لا أثر له ، ضرورة أنّه لا منجّز لهذا الاحتمال لا عقلا ولا نقلا ، لعدم وصول نوع التكليف المحتمل أهمّيّته على تقدير وجوده ، فلا يصحّ للمولى أن يعاقب على مخالفته ، فمقتضى القاعدة ـ لو قلنا بعدم جريان البراءة ، كما هو مفروض الكلام ـ هو : الحكم بالتخيير من باب اللاحرجيّة العقليّة ولا بدّيّة الفعل أو الترك مطلقا ، سواء احتمل أهمّيّة أحدهما أو لم يحتمل.

نعم ، لو أمر الشارع بالاحتياط في خصوص أحد الطرفين ، يتعيّن بذلك.

المقام الثاني : فيما إذا دار أمر شيء بين محذورين وكان أحدهما أو كلاهما تعبّديّا ، كما في الصلاة في أيّام استظهار المرأة بناء على الحرمة الذاتيّة ، فإنّ أمرها مردّد بين الوجوب لو كانت المرأة طاهرة والحرمة لو كانت حائضا ، ولا تجري البراءة هنا ، لأنّ الموافقة القطعيّة وإن كانت غير ممكنة إلّا أنّ المخالفة

٣٥٨

القطعيّة ممكنة بإتيان الصلاة بلا قصد القربة ، إذ لو كانت حائضا ، تحرم عليها الصلاة ، فأتت بها وخالفت ، ولو كانت في الواقع طاهرة ، تجب الصلاة عليها ، فلم تأت بما أمرت بها ، الّذي هو الصلاة مع قصد القربة ، فخالفت أيضا ، وإذا أمكنت المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، فلا تجري الأصول الجارية باعتبار هذا الأثر ، فإنّه في كلّ علم إجمالي ـ سواء كان له أثران : إمكان الموافقة القطعيّة ، والمخالفة القطعيّة ، أو أثر واحد إمّا الأوّل أو الثاني ـ لا تجري الأصول الجارية باعتبار الأثر المترتّب عليه ، فتجب الموافقة القطعيّة وتحرم المخالفة القطعيّة فيما له أثران ، وأحدهما فيما له أثر واحد ، ففي المقام لا تجوز الصلاة بلا قصد القربة قطعا ، فإنّها مخالفة قطعيّة ، وتجب الموافقة الاحتماليّة إمّا بالصلاة بقصد القربة ، أو تركها بالمرّة.

وليعلم أنّه لا تجوز الصلاة حينئذ بداعي الأمر ، فإنّها تشريع محرّم ، لعدم إحراز الأمر ، بل يجب عليها إمّا إتيان الصلاة رجاء أو تركها بالمرّة.

وبالجملة ، مقتضى العلم الإجمالي بالتكليف : وجوب الموافقة القطعيّة إن أمكنت ، ووجوب الموافقة الاحتمالية إن لم تكن ممكنة ، فإنّ للعلم الإجمالي صورا أربعا :

الأولى : ما إذا أمكنت المخالفة والموافقة القطعيّتين معا ، كدوران أمر الواجب يوم الجمعة بين الظهر والجمعة.

الثانية : ما إذا لم يمكن لا الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة ، كما في الوطء المردّد بين كونه محلوف الفعل أو الترك.

الثالثة : ما إذا أمكنت الموافقة القطعيّة ولم يمكن المخالفة القطعيّة ، كما إذا حرم الجلوس أوّل طلوع الشمس إمّا في هذا المكان أو ذاك المكان ، فإنّه يمكن الموافقة القطعيّة بترك الجلوس في كلا المكانين ، فإنّهما من الضدّين

٣٥٩

اللذين لهما ثالث ، ولا يمكن المخالفة القطعيّة ، لعدم قدرة المكلّف على الجلوس في كلا المكانين ، والمنهي أحدهما يقينا في آن واحد.

الرابعة : عكس الثالثة. والمقام من هذا القبيل.

وفي جميع الصور ـ عدم الأولى ـ يجب الاحتياط بقدر الإمكان ولو بالموافقة احتمالا ، ضرورة أنّ مجرّد احتمال التكليف ـ ولو كان بدويّا فضلا عن كونه مقرونا بالعلم الإجمالي ـ منجّز للتكليف ما لم يكن معذّر في البين من العقل أو النقل ، فلا بدّ من الاحتياط بقدر الإمكان.

ثمّ إنّ الشيخ ـ قدس‌سره ـ احتمل بل لعلّه مال إلى اندراج ما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطا للعبادة أو مانعا عنها في باب دوران الأمر بين محذورين ، وأنّه يحكم بالتخيير (١).

وهذا كما إذا دار أمر السلام بعد التشهّد الأوّل بين الوجوب إن كان الواجب هو القصر ، والمانعيّة إن كان الواجب هو الإتمام ، وهكذا في الركعتين الأخريين.

ولكنّ التحقيق عدم اندراجه في الباب ، لإمكان الموافقة القطعيّة بتكرار الصلاة بإتيان صلاة قصرا وأخرى إتماما ، كما أنّه يمكنه المخالفة القطعيّة بترك الصلاة بالمرّة ، فاللازم عليه حينئذ القطع بموافقة الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة ، المردّدة بين تحقّقها في ضمن فرد واجد لما تحتمل شرطيّته ، وتحقّقها في ضمن فرد فاقد لما تحتمل شرطيّته ومانعيّته ، وهو يحصل بإتيان الصلاة تارة مع ما تحتمل شرطيّته ومانعيّته ، وأخرى بدون ذلك.

وتوهّم أنّ مثل هذه الصلاة أمرها دائر بين محذورين من جهة أخرى ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٩٧.

٣٦٠