الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

الاستصحاب في الأعدام الأزليّة ، فإذا استصحبنا عدم كونه ممّا خرج من عنوان العامّ ، نتمسّك بالعموم ، ونحكم بحلّيّته.

الرابع : ما إذا رأينا لحما مطروحا على وجه الأرض وشككنا في وقوع التذكية عليه.

وهذا القسم لا ريب في كونه محكوما بالحرمة على كلّ تقدير ، لاستصحاب عدم وقوع التذكية عليه ، إنّما الإشكال في أنّه هل يحكم بنجاسته أيضا ، أو لا؟ ذكر صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ أنّه محكوم بالنجاسة أيضا ، لأنّ موضوع النجاسة ما لم يذكّ (١).

والظاهر أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ ليس لنا دليل على النجاسة أخذ في موضوعه عنوان عدمي ، بل الروايات الواردة في الباب جميعا دالّة على أنّ موضوع النجاسة هو الميتة ، وهو أمر وجودي ، فإنّه عبارة في عرف المتشرّعة عمّا مات حتف أنفه ، أو ما استند موته إلى سبب غير شرعي ، وهذا العنوان وإن كان ملازما لغير المذكّى ، إذ هما من الضدّين لا ثالث لهما إلّا أنّ استصحاب عدم استناد الموت إلى سبب شرعي لا يثبت استناد الموت إلى سبب غير شرعي الّذي هو الموضوع للنجاسة.

وبالجملة ، ما علم أنّ موته مستند إلى سبب شرعي الّذي هو عبارة أخرى عن التذكية ، فلا إشكال في حلّيّته ، وما علم أنّ موته غير مستند إلى ذلك ، فلا إشكال في حرمته ونجاسته ، وأمّا ما شكّ في أنّ موته مستند إلى سبب شرعي أولا فبالاستصحاب يثبت عدم كون موته مستندا إلى سبب شرعي ، وليس هو موضوع النجاسة ، بل موضوع النجاسة هو ما كان موته مستندا إلى

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

٣٢١

سبب غير شرعي.

نعم ، لو كان المأخوذ في موضوع النجاسة عنوانا عدميّا ، لكان الاستصحاب جاريا ، ولكن عرفت أنّه ليس في الروايات ما هو كذلك.

نعم ، ذكر المحقّق الهمداني في كتاب طهارته رواية ادّعى دلالتها على ذلك ، وهي رواية قاسم الصيقل ، قال : كتبت إلى الرضا عليه‌السلام : إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة ، فتصيب ثيابي أفأصلّي فيها؟ فكتب إليّ «اتّخذ ثوبا لصلاتك» فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : إنّي كنت كتبت إلى أبيك بكذا وكذا ، فصعب عليّ ذلك ، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّة الذكيّة ، فكتب إليّ «كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله ، فإن كان ما تعمل وحشيّا ذكيّا فلا بأس» (١) فإنّ قوله عليه‌السلام : «فإن كان ما تعمل وحشيّا ذكيّا فلا بأس» ادّعى أنّ مفهومه إن لم يكن ذكيّا ففيه بأس (٢).

والظاهر أنّه لا يدلّ على المطلوب ، وذلك لأنّ هذه القضيّة حيث إنّها في مقابل قول الراوي ـ : إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة ، إلى أن قال : فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّة الذكيّة ـ لا مفهوم لها إلّا بالنسبة إلى المذكور في السؤال من جلود الحمر الميتة ، فمفهوم القضيّة بحسب الظاهر ـ والله العالم ـ هو : إن لم يكن ما تعمل وحشيّا ذكيّا وكان من جلود الحمر الميتة ، ففيه بأس. والشاهد على ذلك أخذ قيد الوحشيّة في موضوع الحكم مع أنّه لا دخل له فيه إثباتا ولا نفيا.

وأمّا الشبهة الحكميّة : فعلى أقسام أيضا :

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٠٧ ـ ١٦ ، التهذيب ٢ : ٣٥٨ ـ ١٤٨٣ ، الوسائل ٣ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣ ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٢) مصباح الفقيه ١ : ٥٢٤.

٣٢٢

الأوّل : ما شكّ في حلّيّته وحرمته مع العلم بكونه قابلا للتذكية والعلم بوقوع التذكية عليه ، والحكم هو الحلّيّة ، كما كان كذلك في الشبهة الموضوعيّة منه ، والكلام هو الكلام.

الثاني : ما علم بكونه قابلا للتذكية سابقا ووقوعها عليه وكان الشكّ في كونه قابلا للتذكية فعلا من جهة عروض ما يحتمل كونه رافعا لذلك ، كالجلل ، والكلام فيه أيضا هو الكلام في القسم الثاني من الشبهة الموضوعيّة.

الثالث : ما شكّ في حلّيّته من جهة الشكّ في كونه قابلا للتذكية مع عدم وجود الحالة السابقة التي هي قابليّته للتذكية ، كما إذا تولّد حيوان من شاة وكلب ولم يكن ملحقا بأحدهما أو بآخر غيرهما في الصدق العرفي حتى يلحقه حكمه.

وفي هذا الفرض لا نحتاج إلى الأصل الأزلي الّذي كنّا نحتاج إليه في الشبهة الموضوعيّة منه ، فإن كان لنا عموم دالّ على قابليّة كلّ حيوان للتذكية إلّا ما خرج ، نتمسّك بالعموم إذا لم يكن المشكوك من العنوان المخرج ، فإنه المفروض أنّ الشبهة حكميّة وليست بموضوعيّة حتى يكون التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة. وإن لم يكن لنا عموم كذلك ، فإن قلنا ببساطة التذكية ، فيجري استصحاب عدم التذكية (١) وإن قلنا بتركيبه وإنّها نفس هذه الأفعال ، تجري أصالة الحلّ ، كما في الشبهة الموضوعيّة منه.

الرابع : ما شكّ في وقوع التذكية عليه من جهة الشكّ في أحد شرائطها كما إذا ذبحنا شاة بغير الحديد مع التمكّن من الحديد وشككنا في أنّ الذبح بالحديد مع التمكّن منه شرط من شرائط تحقّق التذكية أو لا ، ففي هذا

__________________

(١) أقول : قد مرّ منّا أنّه لا فرق بين بساطة التذكية وتركّبها في عدم جريان استصحاب عدم التذكية فراجع. (م).

٣٢٣

الفرض تجري أصالة عدم التذكية (١) حتى لو قلنا بأنّ التذكية عبارة عن نفس الأفعال الخارجيّة ، إذ الشكّ حينئذ في مصداقيّة هذا الذبح الخارجي لمفهوم التذكية الشرعيّة ، والأصل عدم تحقّق التذكية التي جعلها الشارع موضوعا للحلّيّة ، فيحكم بالحرمة ، لكن لا يثبت هذا الأصل النجاسة ، لما عرفت في الشبهة الموضوعيّة من أنّ عنوان «الميتة» الّذي هو عنوان وجودي أخذ في موضوع النجاسة ، فأصالة عدم كونه مذكّى لا تثبت كونه ميتة ، بل هي معارضة ـ كما أفاده النراقي قدس‌سره ـ بأصالة عدم كونه ميتة.

نعم ، النجاسة من لوازم الحرمة عقلا ، فإنّ الواقع لا يخلو من أحد أمرين : إمّا مذكّى فحلال طاهر ، أو ميتة فحرام نجس ، إلّا أنّ شأن الأصول التفكيك بين اللوازم والملزومات ، ونظائره كثيرة في الفقه.

الأمر الثاني : أنّه لا شبهة في إمكان الاحتياط وحسنه عقلا في التوصّليّات مطلقا ، كان أمر المشتبه مردّدا بين الوجوب والاستحباب أو لم يكن ، بل كان مردّدا بين الوجوب وغير الاستحباب من الإباحة والكراهة. وهكذا لا ريب فيه في التعبّديّات فيما إذا كان أمر المشتبه مردّدا بين الوجوب

__________________

(١) أقول : الحقّ هو عدم جريانها أوّلا ، لوجود الإطلاق اللفظي الحاكم على الأصل ، وهو قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨] وهذا ينفي اعتبار كلّ محتمل الاعتبار كالحديد في المثال.

وثانيا : لو سلّم كون التذكية أمرا شرعيّا محضا غير مفهوم للعرف حتى يجري الإطلاق ، نقول : الإطلاق المقامي رافع للشكّ ، وذلك أنّ الدليل الدالّ على كيفية التذكية الشرعية كان خاليا عن هذا القيد فيحكم بعدم اعتباره.

وثالثا : لا مجال لجريان استصحاب عدم التذكية في نفسه ، فإنّ مفهوم التذكية على هذا يصير كمفهوم الغروب من الشبهات المفهومية ، ولا يجري الأصل في الشبهات المفهومية كما اعترف به سيّدنا الأستاذ ، فعند عدم جريان الأصل الحاكم يكون المرجع هو أصالة الحلّ لو لا الإطلاقان المذكوران : اللفظي والمقامي. (م).

٣٢٤

والاستحباب ، فإنّ المطلوبيّة متيقّنة ، فيمكن إتيانها بداعي المطلوبيّة بلا قصد الوجوب أو الندب ، وقصد الوجه ـ مضافا إلى أنّه لا دليل على لزومه ـ معتبر بعد التسليم فيما إذا أمكن بأن كان الوجوب أو الاستحباب متيقّنا ، أمّا في فرض عدم الإمكان ـ كالمقام ـ فلا معنى لاعتباره أصلا ، فحينئذ يأتي المكلّف بالسورة المردّدة بين الوجوب والاستحباب بداعي الأمر المتعلّق بها ضمنا أيّا ما كان ، وهكذا يدعوا المكلّف عند رؤية الهلال بداعي أمره الاستقلالي أيّا ما كان.

وإنّما الإشكال فيما إذا تردّد أمر المشتبه بين الوجوب وغير الاستحباب من الإباحة والكراهة ، حيث إنّ المطلوبيّة غير متيقّنة ، ولا بدّ في العبادة من نيّة القربة ، وهي متوقّفة على العلم بتعلّق الأمر بها ، ولا يكفي حسن الاحتياط عقلا في رفع الإشكال ، فإنّ حسنه فرع إمكانه ، والكلام في إمكانه.

فالأولى في الجواب أن يقال : أمّا على مسلك صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ من أنّ القربة المعتبرة في العبادة ليست ممّا يتعلّق بها الأمر ، بل ممّا يعتبرها العقل لأجل العلم بأنّ الغرض لا يحصل بدونها (١) : فواضح ، إذ المأمور به على هذا ليس إلّا ذات الفعل ، وليس قصد القربة من أجزائه أو شرائطه ، غاية الأمر أنّه لا بدّ من إضافة الفعل إلى الله تعالى حتى يكون مقرّبا وعبادة ، ومن المعلوم أنّ إتيان محتمل الوجوب بتمام أجزائه وشرائطه إتيان للمأمور به الواقعي على تقدير وجوده ، والإضافة تتحقّق بالإتيان بداعي احتمال المطلوبيّة ، فإذا أتى بهذا الداعي فقد أتى بالمأمور به وأضافه إلى المولى أيضا ، ولا يعتبر في العبادة أزيد من هذين الأمرين.

وأمّا على مسلك شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من إمكان اعتبار قصد الأمر في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٠.

٣٢٥

المتعلّق بالأمر الثاني دون الأمر الأوّل المتعلّق بنفس العبادة (١) : فحيث إنّ الأمر الثاني المتكفّل لبيان اعتبار إتيان المأمور به بداعي أمره ليس له عين ولا أثر في الأخبار والآثار إلّا ما يستفاد من بعض (٢) الأخبار في باب الوضوء من أنّه إنّما جعل الطهور ليكون العبد طاهرا بين يدي المولى ، وليكن ذلك بنيّة صالحة ، ولا ريب في إمكان الاحتياط في المقام ، إذ الإتيان باحتمال كون الفعل مطلوبا للمولى وموجبا لرضاه لا شكّ أنّه إتيان بنيّة صالحة.

وبهذا الكلام ظهر ـ بناء على المسلك المختار من إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر الأوّل أيضا ـ أنّ المعتبر على هذا ليس إلّا إضافة الفعل إلى الله تبارك وتعالى ، ومن المعلوم تحقّق هذا المعنى في المقام بالإتيان برجاء الأمر ، وأيّ إضافة أعلى من الإتيان بداعي احتمال المطلوبية ، بل هو من أرقى مراتب العبوديّة.

الأمر الثالث : أنّ أوامر الاحتياط ـ مثل «أخوك دينك فاحتط لدينك» (٣) وغير ذلك ـ هل تثبت استحباب الاحتياط؟ أو أنّها أوامر إرشاديّة ولا مولويّة فيها؟

أفاد شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّها يمكن كونها إرشاديّة ، لأنّها واقعة في مرحلة الامتثال وسلسلة معلولات الأحكام ، نظير أوامر الإطاعة ، كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٤) وما يكون كذلك لا يمكن أن يستتبع حكما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٦.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٠٤ ، علل الشرائع : ٢٥٧ ، الوسائل ١ : ٣٦٧ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٩.

(٣) أمالي الطوسي : ١١٠ ـ ١٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٦.

(٤) النساء : ٥٩.

٣٢٦

مولويّا شرعيّا.

ويمكن كونها مولويّة ناشئة عن مصلحة غير ملزمة هي قوّة النّفس للاحتراز عن المعاصي والمحرّمات ، كما يستفاد ذلك من قوله عليه‌السلام : «من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك» (١)(٢). هذا حاصل ما أفاده.

وما ذكره في بيان وجه كونها مولويّة في غاية الجودة ، أمّا ما أفاده في وجه كونها إرشاديّة فغير تامّ.

بيان ذلك : أنّ الحكم المولويّ في مرحلة الامتثال وإن كان لغوا لا معنى له ولو قلنا بإمكان التسلسل ـ وذلك لأنّ ما لم تنته الأوامر المولويّة إلى درك العقل صحّة العقوبة على المخالفة وقبح عصيان المولى وكونه عدوانا وظلما على المولى لا فائدة فيها ولو وصلت إلى ما لا نهاية له ، فإن كان أمر من المولى في هذه المرحلة ، فلا محالة يكون إرشادا إلى ما أدركه العقل ، وإلى ما ذكرنا أشار بعض الأخبار أيضا حيث يستفاد منه أنّ من لم يكن له زاجر من نفسه فلا ينفعه زاجر من غيرها (٣). ومن بعض آخر : أنّ العقل رسول الباطن (٤) ـ إلّا أنّ ذلك مختصّ بالإطاعة اليقينيّة ، وأمّا الإطاعة الاحتماليّة فلا ، لأنّ العقل في موارد الشبهات يدرك عدم صحّة العقاب ، فإذا أمر المولى بالاحتياط في الشبهات التي يدرك العقل قبح العقاب على الاقتحام فيها ، فلا محالة يكون مولويّا ناشئا من مصلحة إدراك الواقعيّات مثلا ، وإذا ثبت من الخارج عدم لزوم الاحتياط ، فيكون الأمر استحبابيّا مولويّا.

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٥٣ ـ ١٩٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٦١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٤.

(٣) نهج البلاغة ـ بشرح محمد عبده ـ : ١٥٤ ، وعنه في البحار ٤ : ٣١٠ ـ ٣٨.

(٤) الكافي ١ : ١٦ ـ ١٢ ، وعنه في البحار ١ : ١٣٧.

٣٢٧

الأمر الرابع : أنّه بعد ما ثبت أنّ أوامر الاحتياط أوامر مولويّة هل يتحقّق الاحتياط بالإتيان بداعي الأمر الاحتياطي ولو كان الآتي غافلا عن الأمر الواقعي ، نظير الإتيان بصلاة الليل بداعي أمرها النذري؟ أو لا يتحقّق الاحتياط ولا يصحّ العمل إلّا بالإتيان برجاء إدراك الواقع واحتمال الأمر الواقعي؟

ويتفرّع على ذلك جواز إفتاء المجتهد باستحباب محتمل المطلوبيّة بدون التنبيه على هذه الجهة ، وعدمه بدون ذلك ، بل عليه أن ينبّه على أنّ إعادة الصلاة مثلا في موضع كذا مستحبّة احتياطا وبرجاء كونها مطلوبة.

الحقّ هو الأوّل ، ووجه ما تقدّم في بحث التعبّدي والتوصّلي مفصّلا ، وإجماله أنّ الأوامر كلّها توصّليّة ، وليس لنا أمر تعبّدي أصلا. نعم ، المأمور به إمّا تعبّدي إن كان لقصد القربة مدخليّة فيه ، أو توصّلي إن لم يكن كذلك ، فعلى ذلك ، المأمور به بالأمر الاحتمالي الواقعي مركّب من أجزاء وشرائط من القراءة والركوع والسجود والطهارة والتوجّه إلى القبلة وغير ذلك ، ومن ذلك جهة الإضافة إلى الله تبارك وتعالى ، التي هي قصد القربة المعتبرة في العبادة ، فإذا أتي به تامّ الأجزاء والشرائط فقد أتي بالعبادة المأمور بها ، ومن المعلوم أنّ الإضافة إليه تعالى كما تتحقّق بالإتيان برجاء المطلوبيّة كذلك تتحقّق بالإتيان بداعي أمره الاستحبابي.

الأمر الخامس : في أخبار «من بلغ» (١) ولا ينبغي الإشكال في سند هذه الأخبار من حيث تضافرها واعتبار بعضها ، فالكلام فيها يقع في جهتين :

الأولى : أنّه هل لسان هذه الأخبار لسان الإرشاد إلى ما يدركه العقل من حسن الإتيان بما احتمل بلوغه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن كان مفادها ترتّب الثواب

__________________

(١) انظر : الوسائل ١ : ٨٠ ، أحاديث الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

٣٢٨

الانقيادي على الإتيان بما بلغ وجدانا أو تعبّدا ولو كان قطعه أو الخبر مخالفا للواقع ـ ولم تكن ناظرة إلى كيفية البلوغ أصلا ، أو لسانها لسان جعل الحجّيّة ، وأنّ الخبر المتكفّل لبيان حكم غير إلزامي حجّة ولو كان ضعيفا غايته. وبعبارة أخرى : كانت هذه الأخبار مخصّصة لأدلّة ما اعتبر في حجّيّة الخبر من الشرائط في الخبر المتكفّل للحكم الإلزاميّ ، وأمّا ما هو مسوق لبيان الحكم غير الإلزاميّ فلا ينظر إلى عدالة الراوي ولا وثاقته ولا غير ذلك من الشرائط ، بل يكون حجّة أيّا ما كان ، أو لسانها لسان جعل الاستحباب لما بلغ فيه ثواب بعنوان ثانوي كسائر ما يكون مستحبّا بطروّ عنوان عليه ـ كإجابة المؤمن ـ مع إباحته في نفسه؟

الحقّ هو الأخير ، فإنّ بيان ترتّب الثواب على ما بلغ فيه ثواب وجدانا أو تعبّدا ولو خالف الواقع من قبيل توضيح الواضحات وبعيد عن لسان هذه الأخبار غاية البعد ، ولا نحتمل ورودها على كثرتها لبيان مثل هذا الأمر البديهي ، كما أنّ لسانها بعيد عن لسان جعل الحجّيّة أيضا ، فإنّ لسان جعل الحجّيّة لسان إلغاء احتمال الخلاف ، نظير قوله عليه‌السلام : «لا ينبغي لأحد التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (١) ومن المعلوم أنّها ليست بهذه المثابة، بل هي مقرّرة للاحتمال ، وموردها مورد احتمال مصادفة الخبر لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوزانها ينافي وزان جعل الحجّيّة. هذا أوّلا.

وثانيا : لسانها لسان «من سرّح لحيته فله كذا» و «من زار الحسين عليه‌السلام فله كذا» وغير ذلك ممّا وعد فيه ثواب على عمل مخصوص ، ومثل ذلك لا دلالة له على جعل الحجّيّة أصلا ، فتعيّن كونها لبيان استحباب ما بلغ فيه ثواب ، وأنّها نظير «من قتل متعمّدا فجزاؤه جهنّم» ممّا بيّن الحكم التحريمي

__________________

(١) اختيار معرفة الرّجال : ٥٣٦ ذيل الرقم ١٠٢٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٣٢٩

بلسان التوعيد على الفعل ، فكما أنّ التوعيد على فعل يدلّ بالالتزام على حرمته كذلك الوعد على فعل يدلّ بالالتزام على استحبابه ، وكثير من المستحبّات في الفقه استفيد استحبابها من ورود الثواب عليها في الأخبار ، كما يظهر للمتتبّع. فالحقّ مع المشهور القائلين باستحباب كلّ ما دلّ خبر ـ ضعيفا أو قويّا ـ على استحبابه وإن كان تعبيرهم ب «التسامح في أدلّة السنن» ليس بجيّد ، فإنّه موهم للقول بحجّيّة الخبر الضعيف الدالّ على استحباب شيء.

الجهة الثانية : أنّه بعد ما ثبت دلالتها على الاستحباب هل تدلّ على استحباب ذات العمل أو استحبابه إذا أتي برجاء إدراك الواقع بحيث لو أتي لا بداعي احتمال الأمر الواقعي بل بداعي أمره الاستحبابي أو داع آخر من الدواعي القربيّة لم يكن مستحبّا؟ ومن ذهب إلى أنّ أوامر الاحتياط أوامر استحبابيّة وأنّه يكفي في تحقّق الاحتياط الإتيان بداعي من الدواعي القربيّة ولو كان بداعي الأمر الاستحبابي بالاحتياط غافلا عن واقعه ، يكون في فسحة من هذا النزاع ، فإنّ ما قام على استحبابه خبر ضعيف تشمله أخبار الاحتياط أيضا ، فيجوز إتيانه بأيّ داع قربيّ بمقتضى أخبار الاحتياط ، فيختصّ النزاع بمن أنكر ذلك وذهب إلى لزوم الإتيان برجاء إدراك الواقع في تحقّق الاحتياط.

وكيف كان ، الظاهر أنّ هذه الأخبار ظاهرة في استحباب ذات العمل البالغ عليه الثواب ، وذلك من جهة أنّ ترتّب الثواب على عمل كاشف عن تعلّق الأمر به ، نظير «من سرّح لحيته فله كذا» و «من أفطر صائما فله كذا» والثواب في صحيحة هشام بن سالم (١) رتّب على نفس العمل البالغ عليه الثواب بلا تقييد برجاء إدراك الواقع ولا داع قربيّ آخر ، غاية الأمر أنّا نعلم من الخارج أنّ الثواب

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٧ ـ ١ ، الوسائل ١ : ٨١ ـ ٨٢ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٦.

٣٣٠

لا يعطى إلّا على ما أتي بقصد القربة ، فبذلك نحكم بأنّ مجرّد العمل البالغ عليه الثواب لا يعطى عليه الثواب ما لم يقصد به القربة.

لا يقال : إنّ العمل في الرواية فرّع بفاء التفريع ـ الدالّة على أنّ ما بعدها مسبّب عمّا قبلها ـ على البلوغ ، وهو يوجب كون الثواب مترتّبا على المأتيّ برجاء إدراك الواقع ، ضرورة أنّ الداعي إلى العمل على هذا لا بدّ وأن يكون البلوغ ، والمفروض أنّ ما بلغ إليه أمر احتمالي ، فلا بدّ من الإتيان برجاء إدراك الواقع وباحتمال الأمر حتى يتحقّق العمل بما بلغ ويترتّب عليه الثواب.

فإنّه يقال : لا ريب في أنّ المحرّك والداعي إلى العمل هو البلوغ ، ولولاه لم يكن يأتي المكلّف به ، كما أنّ محرّكه إلى صلاة الليل ـ التي استحبابها قطعيّ ـ أيضا هو بلوغ الثواب إليه غالبا إلّا أنّ بلوغ الثواب محرّك للعبد نحو العمل البالغ عليه الثواب ، لا أنّه محرّك نحوه رجاء لإدراك الأمر.

والحاصل : أنّ الرواية مطلقة لم يقيّد العمل فيها بكونه لا بدّ وأن يكون برجاء إدراك الواقع ، فلا مانع من الأخذ بإطلاقها. وهذا هو الجواب الصحيح عن هذا الإشكال.

وأمّا ما أفاده صاحب الكفاية في الجواب ـ من أنّ داعويّة البلوغ لا توجب تعنون العمل بعنوان يؤتى به بذاك العنوان بحيث لو أتي بالعمل غافلا عن وجهه وعنوانه لم يؤت بالمستحبّ ، كما أنّ العطش محرّك وداع إلى شرب الماء ، ولا يوجب تعنون الشرب بعنوان حيث لو شرب الماء غفلة عن كونه عطشان لم يرفع العطش (١) ـ فلا يرتفع به الإشكال ، إذ وإن لم يكن العمل معنونا بعنوان إلّا أنّ المستشكل يقول : لا يتحقّق العمل بما بلغ إليه لو لم يؤت بقصد الأمر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٢.

٣٣١

الاحتمالي البالغ إليه ، فلا بدّ من أن يؤتي بداعي احتمال الأمر وبرجاء إدراك الواقع ، ومع ذلك لا مجال لاستكشاف الاستحباب الشرعي من الأخبار ، لاستقلال العقل باستحقاق حسن الاحتياط الثواب عليه.

وربّما يتوهّم من قوله عليه‌السلام ـ مضمونا : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثواب على عمل ففعله التماس ذلك الثواب أو طلبا لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فله كذا» (١) أنّ العمل لا بدّ وأن يؤتى برجاء إعطاء الثواب أو برجاء إصابة قول المبلّغ ، للواقع واحتمال الأمر الواقعي ، لأنّ المطلق وإن كان لا يحمل على المقيّد في باب المستحبّات إلّا أنّه في المقام لا بدّ من الحمل ، ضرورة أنّ عدم الحمل في مورد عدم إحراز وحدة التكليف ، ومن المعلوم أنّ أخبار «من بلغ» كلّها ناظرة إلى شيء واحد ، وهو استحباب العمل البالغ عليه الثواب.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية (٢) : بأنّ تقييد بعض هذه الأخبار لا يوجب تقييد الصحيحة التي فرّع الثواب على مطلق العمل البالغ عليه الثواب ، لعدم المنافاة بينهما ، غاية الأمر أنّه لا يمكن التمسّك بالمقيّدة منها لاستحباب نفس العمل ، بل تدلّ على استحباب ما أتي بعنوان الاحتياط وبرجاء إصابة الواقع ، ولكنّ الصحيحة دالّة على استحباب نفس العمل.

وما أفاده ـ من عدم المنافاة بين إعطاء الثواب على نفس العمل البالغ عليه الثواب وبين إعطاء الثواب عليه إذا أتي برجاء إدراك الواقع ـ وإن كان تامّا إلّا أنّه لو كانت الروايات المقيّدة دالّة على ترتّب الثواب على العمل بعنوان الاحتياط ، لكانت إرشادا محضا إلى ما استقلّ العقل به من حسن الاحتياط واستحقاق

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٧ ـ ٢ ، المحاسن : ٢٥ ـ ١ ، الوسائل ١ : ٨١ و ٨٢ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٧ و ٤.

(٢) كفاية الأصول : ٤٠٢.

٣٣٢

الثواب عليه ، فلا مجال لاستكشاف الحكم الشرعي حينئذ.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ إعطاء الثواب ليس بجزاف ، بل الثواب يعطى على الإطاعة اليقينيّة أو المحتملة ، والإطاعة لا تتحقّق إلّا بإتيان ما يكون قابلا للتقرّب بإحدى الدواعي القربيّة ، والداعي القربي في غالب الناس ـ إلّا من شذّ ـ ليس إلّا الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب ، وحيث لا عقاب على ترك المستحبّات فغالبا يؤتى بها شوقا إلى الثواب.

فما في بعض هذه الروايات ـ من العمل التماسا للثواب وطلبا لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي : مقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الثواب ـ وارد مورد الغالب ، ولا ينافي استحباب نفس العمل البالغ عليه الثواب المأتيّ به بقصد القربة ، بل يؤكّده.

بقي أمور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : ما أورد على هذه الأخبار من أنّها منافية لأدلّة اعتبار الشروط في حجّيّة الخبر الواحد ، فلا يمكن الأخذ بها.

وفيه : أوّلا : أنّها تختصّ بالخبر المتكفّل للحكم غير الإلزاميّ ، وأدلّة اعتبار الشروط عامّة ، فتخصّص بها.

وثانيا : أنّها على فرض المعارضة مقدّمة عليها ، لاشتهارها بين الأصحاب ، وقوّة سندها ، وكونها معمولا بها بينهم.

وثالثا : أنّا بيّنّا سابقا أنّ لسان هذه الأخبار بعيد عن لسان الحجّيّة ، وليس مفادها إلّا جعل الاستحباب لنفس العمل.

الثاني : أنّ مسألة حجّيّة الخبر الضعيف مسألة أصوليّة ، وهذه الأخبار أخبار آحاد ، ولا يجوز التمسّك بها لها.

وفيه : أوّلا : ما ذكرنا من أنّ مفادها ليس حجّيّة الخبر الضعيف ، بل استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، فتكون المسألة من القواعد الفقهيّة ،

٣٣٣

كقاعدة «نفي الضرر والحرج» و «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» لا مسألة أصوليّة.

وثانيا : لا مانع من التمسّك بأخبار الآحاد في المسألة الأصوليّة ، كيف لا!؟ والمدرك الصحيح في الاستصحاب هو الأخبار ، وهو من عمدة المسائل الأصوليّة.

نعم ، لا يجوز التمسّك بأخبار الآحاد في أصول العقائد لا أصول الفقه.

الثالث : ربما يتوهّم استكشاف الحكم المولوي الاستحبابي لنفس العمل من ترتّب المقدار البالغ من الثواب ، نظرا إلى أنّ العمل بعنوان الاحتياط وبرجاء إدراك الواقع لا يثاب إلّا بالثواب الانقيادي ، فإذا فرّع الثواب البالغ على عمل إلى المكلّف ، على العمل البالغ عليه الثواب ، يستكشف منه استحباب نفس العمل لا استحبابه بعنوان الاحتياط.

وفيه : أنّه لا مانع من التفضّل بإعطاء ما بلغ إلى العامل من الثواب على انقياده بذلك ، بل هو مقتضى كمال العظمة ورفيع المنزلة.

والحاصل : أنّه من الممكن بل ممّا يساعده العرف والعادة أن يكون الثواب الموعود على الانقياد ، لا على نفس العمل ، فمن أين يستكشف به استحباب نفس العمل؟

الرابع : أنّ هذه الأخبار شاملة لموارد ورود الخبر الضعيف الدالّ على استحباب شيء بالالتزام كما إذا ورد خبر ضعيف على أنّ من أفطر صائما فله كذا من الأجر ، أو بالمطابقة بأنّ ورد محبوبيّة شيء في خبر ضعيف ، فإنّه وإن لم يدلّ على بلوغ الثواب بالمطابقة إلّا أنّه يدلّ عليه بالالتزام ، فإنّ كلّ ما كان مستحبّا يثاب عليه.

وهكذا شاملة لموارد ورود الخبر الضعيف الدالّ على وجوب شيء ،

٣٣٤

فإنّه دالّ بالالتزام على أمرين : ترتّب الثواب على الفعل ، وبهذا الاعتبار يكون مشمولا لأخبار «من بلغه ثواب على عمل» والعقاب على الترك ، ولا يحكم بالوجوب بهذا الاعتبار من جهة ضعفه.

وهكذا تشمل موارد فتوى فقيه باستحباب شيء أو وجوبه ، إذ يصدق بلوغ الثواب على عمل ، فيجوز الحكم باستحباب ما أفتى فقيه باستحبابه أو وجوبه بهذه الأخبار.

وهل تشمل موارد الإخبار بالكراهة أو لا؟ الظاهر هو الثاني ، إذ في جميع الأخبار رتّب الثواب على الفعل ، وليس في شيء منها ترتّب منقصة على عمل ، أو ثواب على ترك عمل ، ولم يحصل لنا القطع بالمناط وإن كان مظنونا ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، فلا يمكن التمسّك بأخبار «من بلغ» لإثبات كراهة ما ورد النهي عنه تنزيها أو تحريما في خبر ضعيف أو فتوى فقيه بكراهته أو حرمته.

ثمّ إنّ الظاهر أنّها لا تشمل الشبهات الموضوعيّة ، فإذا ورد خبر ضعيف على مسجديّة قطعة من الأرض ، لا يمكن الحكم بجريان أحكام المسجديّة عليها من استحباب الصلاة فيها وغير ذلك ، فإنّ هذه الأخبار منصرفة إلى بلوغ الثواب عن النبي بما هو نبي لا بما هو بشر ، والإخبار عن المسجديّة ليس من شئون النبي بعنوان النبوّة ، بل شأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو نبي ليس إلّا بيان الأحكام الكلّيّة الثابتة على موضوعاتها.

وهكذا لا تشمل موارد ورود الخبر المعتبر الدالّ على حرمة شيء أو كراهته على خلاف الخبر الضعيف الدالّ على استحبابه ، فإنّ هذا الخبر الضعيف بمقتضى الرواية المعتبرة معلوم الكذب تعبّدا ، والأخبار منصرفة عمّا علم بكذبه من بلوغ الثواب ولو تعبّدا.

٣٣٥

ومن هنا ظهر أنّها لا تشمل الأخبار الضعاف ، المتكفّلة لبيان مصائب الأئمّة ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ أو فضائلهم عليهم‌السلام ، لما عرفت من أنّها مختصّة بالشبهات الحكميّة ، ولا تشمل الشبهات الموضوعيّة ، فلا يجوز ذكر المصائب الواردة في أخبار ضعاف بدون نصب القرينة من قوله : «روي كذا» أو «رأيت في كتاب كذا» ولا يثبت بأخبار «من بلغ» كونه مصيبة.

هذا ، مضافا إلى أنّه قول بغير علم ، وهو حرام بمقتضى أدلّة حرمة الكذب ، فبمقتضاها نعلم تعبّدا أنّ ذكر مثل هذه المصيبة لا يترتّب عليه ثواب ، وقد عرفت عدم شمولها لبلوغ الثواب المعلوم الكذب ولو تعبّدا.

ثمّ إنّا ذكرنا أنّها لا تشمل موارد الإخبار بكراهة شيء أو حرمته ، فهل تشمل موارد ورود الخبر الضعيف على استحباب شيء أو وجوبه ، المعارض بخبر آخر كذلك دالّ على حرمته أو كراهته ، أو أنّها مختصّة بمورد المتمحّض (١) في بلوغ الثواب؟ ادّعى شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ الانصراف (٢) ، ولا نعلم وجها صحيحا له ، فلا مانع من الأخذ بإطلاقها.

هذا على المختار من عدم ثبوت الكراهة بها ، وأمّا لو قلنا بشمولها للإخبار بالكراهة أو الحرمة أيضا ، فلو قلنا بثبوت الكراهة بها ، فلا ريب في عدم شمولها للفرض ، للمعارضة بين الخبرين.

وأمّا لو قلنا بثبوت استحباب الترك فقط لا الكراهة ، فقد ادّعى شيخنا الأنصاري أنّه لا مانع من الشمول لذلك ، وحكم باستحباب الصوم يوم عاشوراء ، واستحباب تركه أيضا ، وأنّه آكد من استحباب الفعل ، نظرا إلى أنّه من قبيل التزاحم في المستحبّات ، وهو ليس بعزيز بل في كلّ آن وزمان تكون

__________________

(١) أي الخبر المتمحّض.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢١٣.

٣٣٦

المستحبّات الواردة فيه متزاحمة ، كما لا يخفى (١).

وأشكل عليه شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره ، وقد مرّ في محلّه تماميّة كلام الشيخ ـ قدس‌سره ـ في باب الصوم وعدم ورود إشكاله ـ قدس‌سره ـ عليه ، إلّا أنّ ما أفاده لا يتمّ على إطلاقه ، فإنّ في باب الصوم ـ حيث إنّه عبادي ويعتبر فيه قصد القربة ـ أمورا ثلاثة : ذات الصوم مجرّدا عن قصد القربة ، والصوم معه ، وتركه ، فلا مانع من شمول أخبار «من بلغ» للصوم بقصد القربة وتركه وجعل الاستحباب لكليهما ، إذ هما ليسا بمتناقضين ، بل هما ضدّان لهما ثالث ، وهو الصوم بلا قصد القربة.

وأمّا ما كان توصّليّا لا يعتبر فيه قصد القربة ـ كأكل الرمّان ـ فلا يمكن استحباب الفعل والترك كليهما فيه ، ضرورة أنّهما نقيضان لا يجتمعان ، فكيف تشمل أخبار «من بلغ» الخبر الضعيف المتكفّل لبيان استحبابه أو ترتّب الثواب عليه ، والخبر الدالّ على كراهته معا!؟ هذا كلّه في بيان سعة دائرة شمول أخبار «من بلغ» وضيقها.

بقي الكلام في الثمرة بين القول بأنّ المستفاد من هذه الأخبار استحباب نفس العمل البالغ عليه الثواب وبين القول بأنّ لسانها لسان الإرشاد إلى ما استقلّ به العقل لا جعل الاستحباب لنفس العمل.

وقد ذكر الشيخ (٣) ـ قدس‌سره ـ لذلك ثمرتين.

الأولى : أنّه إذا ورد خبر ضعيف دالّ على استحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء ، فعلى الأوّل يثبت استحبابه ، فيجوز الأخذ من بللها

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، فرائد الأصول : ٢٣٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢١٣.

(٣) فرائد الأصول : ٢٣٠ ـ ٢٣١.

٣٣٧

على فرض جفاف بلّة اليمنى ، والمسح بها ، ولا يجوز على الثاني.

وقد نوقش في ذلك بوجهين :

الأوّل : ما أفاده صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ في تعليقته على الرسائل من أنّ ثبوت الاستحباب لا يوجب جواز المسح ، إذ يمكن أن يكون غسل المسترسل من اللحية فعلا مستحبّا ظرفه الوضوء (١).

وفيه : أنّه على تقدير ثبوت استحبابه في الوضوء يكون جزءا مستحبّيّا للوضوء ، كالاستعاذة قبل القراءة في الصلاة ، لا أنّه أمر مستحبّ غير مربوط بالوضوء أصلا.

الثانية : ما احتمل من تأمّل الشيخ ـ قدس‌سره ـ في ذيل هذه الثمرة من أنّ المسح لا بدّ وأن يكون ببلّة الأعضاء الأصليّة الواجب غسلها على ما يستفاد من روايات باب الوضوء ، فعلى كلا القولين لا يجوز المسح ببلّة المسترسل من اللحية.

الثانية : إذا ورد خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغاية من الغايات ، كقراءة القرآن أو المشي إلى الحاجة ، فعلى الأوّل يجوز الدخول في الصلاة مع هذا الوضوء ، وعلى الثاني لا يجوز.

ونوقش في هذه الثمرة أيضا : بأنّ استحباب الوضوء لا يلازم رافعيّته للحدث ، ضرورة أنّ وضوء الحائض ومن يريد إعادة الجماع والجنب المريد للنوم أو الأكل والشرب مستحبّ ، ولا يرفع الحدث.

وفيه : أنّ الكلام في الحدث الأصغر ، والمحدث بالحدث الأكبر لا يرفع حدثه إلّا بالغسل ، فعدم رافعيّة الوضوء من جهة عدم قابليّة الحدث للرفع به ،

__________________

(١) حاشية فرائد الأصول : ١٣٦.

٣٣٨

أمّا ما يكون قابلا ـ كالحدث الأصغر ـ فأيّ مانع لرفعه بمثل هذا الوضوء؟

مضافا إلى إمكان الرافعيّة بمرتبة في الأكبر أيضا بحيث ترتفع عن الحائض ـ مثلا ـ بواسطة الوضوء مرتبة من الظلمة ، وتحصل لها نورانية ضعيفة بها تصير قابلة لشمول الفيض الإلهي لها عند الذّكر.

وهذه الثمرة ساقطة على القول المختار من استحباب الوضوء نفسا ، فإنّ الوضوء ـ سواء أتي بعنوان الاحتياط أو بقصد أمره الاستحبابي ـ رافع للحدث ، ومحبوب نفسا.

فعمدة الثمرة في المقام جواز إفتاء الفقيه بالاستحباب على الإطلاق بلا تنبيه على كونه مستحبّا بعنوان الاحتياط ورجاء إدراك الواقع على القول الأوّل ، وعدم جوازه ولزوم التنبيه على القول الثاني بحيث لو لم ينبّه يكون مشرّعا في الدين مرتكبا للحرام.

وهناك ثمرات أخر تظهر للمتتبّع في الفقه.

الأمر السادس : ذهب بعض المحقّقين إلى عدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة على عكس الأخباري ، نظرا إلى أنّ التكليف معلوم مبيّن ، وإنّما الشكّ في مقام الامتثال ، فلا بدّ من الخروج عن عهدته في مقام الامتثال ، وإذا ارتكب الفرد المشتبه من الخمر ، لا يعلم بالخروج عن عهدة «لا تشرب الخمر» وليس الشكّ في التكليف حتى يكون موردا للبراءة.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بأنّ مفاد النهي لو كان مطلوبيّة ترك كلّ فرد بنحو الانحلال بحيث يكون كلّ واحد من التروك محكوما بحكم ومطلوبيّة دون ما يحكم به الآخر ، فلا مانع من جريان البراءة في الفرد المشكوك ، إذ الشكّ حينئذ شكّ في أصل التكليف ولم يعلم بالنسبة إليه.

وأمّا لو كان مطلوبيّة مجموع التروك ، فلا تجري فيه البراءة ، بل مقتضى

٣٣٩

القاعدة هو الاشتغال وإحراز ترك المجموع امتثالا للنهي ما لم يحرز الترك بالأصل ، كما إذا كانت حالته السابقة الترك (١).

وللشيخ ـ قدس‌سره ـ كلام أيضا ، وحاصله بتوضيح منّا : أنّ التكاليف حيث إنّها مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة المنحلّ كلّ واحدة منها بحسب الواقع إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد موضوعاتها وإن كانت بحسب اللفظ قضيّة واحدة ، كما في قضيّة «النار حارّة» التي مقتضاها ثبوت فرد خاصّ من الحرارة لفرد خاصّ من النار مغاير لما ثبت لفرد آخر منها ، فلا محالة يرجع الشكّ في الموضوع إلى الشكّ في أصل التكليف ، فإنّ الإنشاء وإن كان واحدا معلوما مبيّنا إلّا أنّه منحلّ إلى إنشاءات نشكّ كون الفرد المشكوك منها.

وبالجملة ، لا نعلم بانحلال تكليف «لا تشرب الخمر» إلى هذا الفرد المشكوك أيضا ، فلا مانع من جريان البراءة (٢).

والتحقيق في الجواب أنّ مفاد النهي تارة يكون هو الزجر بأن كان ناشئا عن مفسدة في الفعل ، كما هو الحقّ المحقّق في محلّه ، وأخرى يكون طلب الترك بأن كان ناشئا عن مصلحة في الترك ، فإن كان الأوّل فهو على أقسام :

الأوّل : أن يكون متعلّقا بكلّ فرد فرد بنحو العامّ الاستغراقي ، ولا ريب في جريان البراءة في هذا القسم بالنسبة إلى الفرد المشتبه ، فإنّ تعلّق النهي به والزجر عنه مشكوك.

الثاني : أن يكون متعلّقا بمجموع الأفراد بنحو العامّ المجموعي.

ومثاله : التصوير ، فإنّ المحرم منه هو تصوير ذوات الأرواح بجميع أعضائها ، وأميا تصوير يد أو رجل أو صدر بدون ضمّ سائر الأعضاء إليه فليس

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

(٢) فرائد الأصول : ٢٢١.

٣٤٠