الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

وثانيا : الترخيص الشرعي ثابت قبل البلوغ في حال رشد الصبي وتمييزه بمقتضى «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» فإنّه أمارة مثبتة للوازمها العقليّة ، ولازم رفع قلم التكليف الرخصة في الفعل والترك ، فيستصحب هذا الترخيص إلى حين البلوغ ، فتثبت الإباحة الظاهريّة ، فلا يحتمل العقاب ، لا من باب قبح العقاب بلا بيان ، بل من باب أنّ العقاب عقاب على ما أذن في ارتكابه ، وهو أيضا قبيح لا يصدر من مولى الموالي قطعا.

الخامس : ما أفاده شيخنا ـ قدس‌سره ـ أيضا من أنّه لا يترتّب على هذا الاستصحاب إلّا عدم استحقاق العقاب ، ومن الواضح أنّ نفس الشكّ في التكليف الواقعي كاف في ترتّب هذا الأثر ، فإنّه تمام الموضوع للحكم بعدم استحقاق العقاب ـ فهو نظير ما يقال من أنّ التشريع إدخال ما لا يعلم أنّه من الدين في الدين ، فإنّ موضوعه يتحقّق بنفس الشكّ فيما أضيف إلى الدين في أنّه من الدين أم لا؟ ـ ولا يحتاج إثباته إلى استصحاب عدم التكليف ، فإحرازه بالاستصحاب راجع إلى إحراز المحرز الوجداني بالأصل ، وهو من أردإ أقسام تحصيل الحاصل (١).

والجواب : أنّ استصحاب الترخيص الثابت قبل البلوغ رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ويدخله في موضوع حكم عقليّ آخر ، وهو قبح العقاب على ما أذن فيه المولى ورخّص في الفعل والترك ، كما في سائر الموارد التي تكون الأمارة أو الأصل رافعا لموضوع حكم شرعي أو عقلي موافق لمؤدّى الأصل أو الأمارة ، فإنّه ليس من تحصيل الحاصل بالضرورة.

السادس : ما أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ من المناقشة في بقاء الموضوع.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١.

٣٠١

وحاصله : أنّ الترخيص وإن كان ثابتا قبل البلوغ حال رشد الصبي وتمييزه ومحتملا بعد البلوغ إلّا أنّ موضوع الحكم بالترخيص قبل البلوغ هو الصبي ، وهو غير باق بنظر العرف بعد البلوغ ، فإنّ الترخيص المحتمل بعد البلوغ موضوعه بحسب لسان الدليل هو الرّجل البالغ لا الصبي ، فالحكم ببقاء الترخيص ـ الثابت قبل البلوغ ـ بعد البلوغ ليس من الاستصحاب ، بل من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وبعبارة أخرى : العنوان المأخوذ في موضوع الحكم إمّا يكون من قبيل الواسطة في الثبوت ، كعنوان «التغيّر» الّذي هو علّة لثبوت النجاسة للماء المتغيّر بالنجاسة ، وحينئذ إذا زال التغيّر ، لا مانع من استصحاب النجاسة الثابتة قبل زوال التغيّر ، لأنّ الموضوع للحكم بالنجاسة هو الماء المتنجّس بسبب التغيّر ، وهو بعد باق ، فيستصحب حكمه ، وإمّا يكون من قبيل الواسطة في العروض ، كعنوان الاجتهاد المأخوذ في موضوع حكم وجوب التقليد ، فإنّ الحكم ثابت على نفس عنوان المجتهد ـ لا على «زيد» الّذي تكون له ملكة الاجتهاد ـ بحيث يكون الاجتهاد علّة لوجوب التقليد ، ففي فرض زوال ملكة الاجتهاد لا يمكن استصحاب حكم وجوب التقليد.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الترخيص ليس ثابتا على ابن ثلاث عشرة سنة ، وتكون الصباوة واسطة وعلّة في ثبوت الحكم له حتى يمكن استصحابه ، بل تكون واسطة في العروض ، بمعنى أنّ الحكم ثابت على نفس هذا العنوان ، ومن الواضح أنّ هذا العنوان عند البلوغ غير صادق ، بل يعنون الشخص في هذا الوقت بالرجل البالغ الّذي هو بنفسه موضوع مستقلّ للأحكام الترخيصيّة والإلزاميّة ولا أقلّ من الشكّ في بقاء الموضوع ، فلا يمكن جريان الاستصحاب

٣٠٢

الحكمي الّذي يعتبر فيه القطع ببقاء الموضوع (١).

والإنصاف أنّ هذا الإيراد متين لا مدفع له.

وهذا مضافا إلى أنّه يرد عليه ثانيا أنّ عنوان الصباوة وإن سلّمنا عدم أخذه في موضوع الحكم بالترخيص حتى يكون من قبيل الواسطة في العروض ، وسلّمنا أنّه من قبيل الواسطة في الثبوت ، كعنوان التغيّر ، فانتفاؤه لا يوجب انتفاء الموضوع ، لكن لا نسلّم جريان الاستصحاب في المقام.

وتوضيحه : أنّ الأحكام بالقياس إلى عللها المختلفة تختلف ، فإنّ العلّة تارة تكون بحيث أصل حدوثها كاف في تحقّق الحكم ، وهذا كما في الظلم ، فإنّ حدوثه في زمان علّة لعدم صلاحية الظالم لنيل منصب الخلافة وإن صار الظالم بعد ذلك رجلا عادلا ورعا تقيّا ، وكما في رمي المحصنات ، فإنّ حدوثا في زمان علّة لعدم قبول الشهادة من الرامي أبدا ، لقوله تعالى : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(٢) وأخرى تكون العلّة بحيث يدور الحكم مدارها وجودا وعدما. فحينئذ لو شككنا في كون العلّة من قبيل الأوّل أو الثاني ، يصحّ استصحاب الحكم ، كما في الماء المعتصم الملاقي للنجس الموجب لتغيّره ، فإنّه لا مانع من استصحاب النجاسة الحاصلة بسبب التغيّر ، فإنّها متيقّنة الحدوث ، وهي بعينها مشكوك فيها ، لاحتمال كون حدوث التغيّر كافيا في تحقّق الحكم ، أمّا لو شككنا في بقاء الحكم لا من هذه الجهة بل لاحتمال وجود سبب آخر للحكم مع القطع بانتفاء سببه الأوّل ، فلا يجري الاستصحاب ، إذ الحكم المتيقّن السابق المسبّب عن سببه الأوّل غير محتمل البقاء ، لانتفاء سببه على الفرض ، وما هو محتمل هو المسبّب عن السبب الثاني ، الّذي هو مشكوك الحدوث ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٠٥.

(٢) النور : ٤.

٣٠٣

للشكّ في حدوث سببه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الصباوة لو كانت واسطة في الثبوت وعلّة لعروض الترخيص على موضوعه ، تكون من قبيل ما يدور الحكم مدارها بمقتضى قوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» (١) وهكذا الجنون يكون ممّا يدور الحكم مداره بمقتضى قوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن المجنون حتى يفيق» (٢) ولا يحتمل عند العرف بقاء الترخيص الناشئ عن الجنون أو الصباوة بعد الإفاقة والبلوغ أيضا. نعم يحتمل حدوث سنخه بسبب آخر.

وأشار الشيخ ـ قدس‌سره ـ إلى نظير ذلك في المكاسب ، فإنّه استشكل في استصحاب جواز التصرّف المسبّب عن الإذن المتيقّن الارتفاع لو شكّ في بقائه ، لاحتمال حدوث سبب آخر له.

والحاصل : لا يجري استصحاب الترخيص الثابت حال الصباوة ولو قلنا ببقاء الموضوع من جهة كون الصباوة علّة وواسطة في الثبوت لا عنوانا دخيلا في الموضوع وواسطة في العروض ، لأنّها تكون ممّا يدور الترخيص مدارها وجودا وعدما ، فعند البلوغ الشّك في بقاء الترخيص من جهة الشكّ في حدوث سبب آخر له ، فالحالة السابقة منتقضة قطعا ، فلا مجال للاستصحاب.

التقرير الثاني للاستصحاب : هو استصحاب عدم الجعل في الشريعة المقدّسة حيث إنّ الأحكام لم تجعل في أوّل زمان البعثة ، بل جعلت تدريجيّة وشيئا فشيئا ، فحرمة شرب التتن لم تكن مجعولة في أوّل زمان البعثة قطعا ، فنستصحب عدم مجعوليّة الحرمة له إلى الآن ، وواضح أنّ العدم ليس عدما أزليّا ، فلا يرد عليه ما أورد على التقرير الأوّل.

__________________

(١ و ٢) الخصال : ٩٣ ـ ٩٤ ـ ٤٠ و ١٧٥ ـ ٢٣٣ ، الوسائل ١ : ٤٥ ، الباب ٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١١.

٣٠٤

واستشكل على هذا التقرير شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّ استصحاب عدم الجعل في الشريعة وإن كان جاريا إلّا أنّه لا أثر له ، فإنّ ما يترتّب عليه الأثر هو الحكم الفعلي ، فإنّه الّذي يترتّب عليه إمكان الانبعاث والانزجار ، أمّا الحكم الإنشائيّ فلا أثر له أصلا ، فلا يجوز استصحابه وإن كان لازمه فعليّته في حقّ المكلّف ، لتحقّق موضوعه ، فإنّه لا يثبت ذلك.

والحاصل : أنّ استصحاب عدم الجعل لإثبات عدم الحكم الإنشائيّ وإن كان جاريا إلّا أنّه لا أثر له ، واستصحاب عدم الجعل لإثبات عدم المجعول والحكم الفعلي وإن كان ذا أثر إلّا أنّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت الّذي لا نقول بحجّيّته (١).

والجواب عنه : أوّلا : أنّه منقوض باستصحاب عدم النسخ ، الّذي لا خلاف في جريانه ، بل ادّعى المحدّث الأسترآبادي الإجماع عليه مع أنّه أيضا ـ على ما أفاده ـ من الأصول المثبتة ، فإنّ استصحاب وجوب صلاة الجمعة ، المتيقّن في زمان الحضور وعدم نسخه إلى الآن الّذي هو حكم شأني لإثبات الوجوب الفعلي من الأصول المثبتة ، فإنّه أيضا من استصحاب الجعل لإثبات المجعول.

وثانيا : أنّه ليس من الأصول المثبتة في شيء ، بل استصحاب الجعل عين استصحاب المجعول ومتّحد معه ، وهكذا استصحاب عدم الجعل عين استصحاب عدم المجعول ومتّحد معه.

بيان ذلك : أنّ حقيقة الحكم ـ كما مرّ مرارا ـ ليست إلّا اعتبار لا بدّيّة الفعل أو الترك ـ مثلا ـ على المكلّف ، والاعتبار كالتصوّر يمكن أن يتعلّق بأمور متأخّرة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٦ و ٤٠٦.

٣٠٥

بالبداهة ، فيمكن أن يعتبر الشارع كون صلاة الجمعة على ذمّة المكلّفين إلى يوم القيامة ، فإذا شكّ في ارتفاع الوجوب لها لاحتمال النسخ ، يجري استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل ، وهو عين استصحاب المجعول ، لما عرفت من أنّ متعلّق الاعتبار كون صلاة الجمعة على ذمّة المكلّفين إلى يوم القيامة ، فإذا استصحبنا بقاء الجعل والاعتبار المتعلّق بكون الجمعة على ذمّتنا أيضا ، فقد استصحبنا المعتبر والمجعول بالضرورة ، وليس الحكم الإنشائيّ أمرا يكبر تدريجا فيصير فعليّا ـ كما توهّمه بعض الأساطين ـ بل إنشاء الحكم أجنبيّ عن مقولة الإيجاد ، وإنّما هو اعتباره ، والحكم ـ كما عرفت ـ ما اعتبره المولى في نفسه من كون الفعل على ذمّة المكلّف مثلا ، وهكذا استصحاب عدم الجعل ـ الّذي هو عبارة عن عدم اعتبار ترك الفعل على ذمّة المكلّف ـ عين استصحاب عدم المجعول الّذي هو عبارة عن متعلّق هذا الاعتبار ، فإذا لم يكن المكلّف في ضيق ترك شرب التتن ولم يكن تركه على عهدته بمقتضى هذا الاستصحاب ، فلا يحتمل العقاب ـ على تقدير مصادفة الشبهة للواقع ـ على الفعل المشتبه ، فإنّ المكلّف لم يكن ممنوعا منه بمقتضى التعبّد الاستصحابي ، فلم يرتكب فعلا ممنوعا حتى يستحقّ العقاب بسببه.

فالإنصاف أنّ عمدة الدليل في المقام هو الاستصحاب على هذا التقرير ، ومع جريانه لا تصل النوبة إلى الأدلّة الأخر من قاعدة قبح العقاب بلا بيان وحديث الرفع وغير ذلك ، فإنّ موضوع القاعدة عدم الوصول واللّابيان وعدم الأمن من العقاب ، ومن الواضح أنّ الاستصحاب بيان ووصول ومؤمّن من العقاب ، ومورد حديث الرفع عدم العلم ، والاستصحاب علم تعبّدي.

نعم ، نحتاج إلى سائر الأدلّة في بعض الموارد ، كما إذا علمنا إجمالا بحرمة فعل في زمان وإباحته في زمان آخر ولم يعلم التقدّم والتأخّر ، فحينئذ

٣٠٦

لا يجري الاستصحاب ، لانتفاء الحالة السابقة المتيقّنة ، فلا بدّ من التمسّك بذيل قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو حديث الرفع أو غير ذلك من الأدلّة.

واحتجّ للقول بوجوب الاحتياط في المقام بالأدلّة الثلاثة :

أمّا الكتاب : فبآيات :

منها : الناهية عن القول بغير العلم ، كقوله تعالى : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١).

وفيه : أنّ القول بالبراءة في المقام ـ بمقتضى قبح العقاب بلا بيان والأخبار الدالّة عليها ـ ليس قولا بغير علم ، بل القول بوجوب الاحتياط في مثل المقام قول بغير علم.

ومنها : الناهية عن الإلقاء في التهلكة ، كقوله تعالى : (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢).

وفيه : أنّه لا مهلكة في الاقتحام بعد وجود ما دلّ على البراءة من العقل والنقل ، مضافا إلى أنّ المهلكة المحتملة لا دليل على حرمة إلقاء النّفس فيها لو كان لغرض عقلائي.

ومنها : الآمرة بالتقوى.

والجواب عنها : أنّ التقوي من «وقى يقي» بمعنى حفظ النّفس عن الوقوع في المهلكة إمّا الأخرويّة ـ كما يستفاد من قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)(٣) ـ وإمّا الدنيويّة.

أمّا الأولى فلا نحتملها في المقام ، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) التحريم : ٦.

٣٠٧

وأمّا الثانية فالمتيقّنة منها يجب دفعها ، أمّا المحتملة منها فالتقوى فيها من مراتب كمال العبد ، ولا تجب قطعا ، ولذا اتّفق الأصوليّون والأخباريّون ـ سوى المحدّث الأسترآبادي ـ على جواز الاقتحام في الشبهات الوجوبيّة.

وأمّا الأخبار : فبما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ، كقوله عليه‌السلام : «قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١).

والجواب : أوّلا : أنّ معنى الشبهة هو التباس الأمر على المكلّف وعدم معرفة طريق يسلكه ، وليس معناها الشكّ ، فلا تدلّ على وجوب التوقّف إلّا في الشبهات البدويّة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الإجمالي ، التي توجب تحيّر المكلّف في مقام الامتثال والتباس أمر التكليف عليه ، وأمّا فيما هو محلّ الكلام من الشبهات البدويّة بعد الفحص فلا ، لعدم كون الأمر مشتبها على المكلّف ولا يتحيّر في مقام الامتثال بعد حكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وورود النقل على جواز الاقتحام فيها.

وثانيا : أنّ مقتضى التعليل في بعض هذه الروايات بأنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة هو ثبوت الملازمة بين الاقتحام في الشبهة واحتمال الوقوع في الهلاك الأخروي ، فاحتمال الوقوع في العقاب علّة للأمر بالتوقّف ، فلا بدّ من كونه مفروض الوجود قبل الأمر ، ولا يعقل أن يجيء احتمال العقاب من قبل الأمر بالتوقّف الّذي هو معلوله ، ومن الواضح أنّا لا نحتمل العقاب في اقتحام الشبهات البدويّة بعد الفحص ، لقبح العقاب بلا بيان ، فمورد هذه الأخبار هي الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي والبدوية قبل الفحص ، التي نحتمل العقاب على ارتكابها.

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث ٢.

٣٠٨

ولا تقاس هذه الأخبار بمثل : من قتل نفسا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها و «من سرق فكذا» و «من زنى فكذا» ممّا بيّن الحكم بلسان التوعيد وبالدلالة الالتزاميّة ، فإنّه وإن كان صحيحا في الجملة إلّا أنّه لا يمكن في المقام ، لما عرفت من أنّ الأمر بالتوقّف معلّل باحتمال الوقوع في العقاب ، وهو منتف في المقام.

لا يقال : إنّ المستفاد من نفس هذه الأخبار أنّ احتمال الوقوع في الهلاك الأخروي موجود في كلّ شبهة ، وذلك من جهة إطلاق لفظ الشبهة ، الوارد في الروايات ، فتكون هذه الروايات في قوّة قولنا : «لا بدّ من التوقّف عند كلّ شبهة ، فإنّ الوقوف عند كلّ شبهة حتى البدويّة منها بعد الفحص خير من الاقتحام في الهلكة المحتملة فيها» وبذلك نستكشف إنّا أنّ الشارع أوجب الاحتياط قبل ذلك وجوبا طريقيّا مولويّا حفظا للتكاليف الواقعيّة ، وإلّا لم يكن احتمال العقاب موجودا ، لعدم البيان من الشارع وقبح العقاب بلا بيان.

فإنّه يقال : إيجاب الاحتياط ، المستكشف إنّا لو كان بأخبار الاحتياط ، فهو خلف الفرض ، فإنّ المفروض التمسّك بأخبار التوقّف ، وإن كان بنفس الأمر بالتوقّف ، فقد عرفت أنّه معلول لاحتمال العقاب ، الّذي لا يوجد في المقام إلّا بإيجاب الاحتياط فكيف يعقل إثبات إيجاب الاحتياط بنفس الأمر بالتوقّف!؟ وإن كان بدليل آخر لم يصل إلينا ، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في نفس هذا التكليف ، أي إيجاب الاحتياط ، ونحكم بالبراءة عن هذا التكليف.

وبما قرّرنا الإشكال ـ من أنّ إيجاب الاحتياط ، المستكشف إنّا وجوب

٣٠٩

مولويّ طريقيّ ـ ظهر عدم تماميّة ما أفاده الشيخ (١) في الجواب من أنّ إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعي ، فلازمه ترتّب العقاب على الواقع المجهول ومخالفة التكليف غير الواصل ، وهو قبيح ، وإن كان حكما ظاهريّا نفسيّا ، فالعقاب مترتّب على مخالفته لا مخالفة التكليف الواقعي المجهول ، فلا يكون بيانا ، فيكون العقاب على مخالفة التكليف الواقعي عقابا بلا بيان وهو قبيح.

وذلك لعدم انحصار الوجوب المولوي فيما أفاده ، بل يمكن أن يكون الوجوب مولويّا طريقيّا ، كما عرفت.

والصحيح في الجواب ما ذكرناه من عدم إمكان ذلك.

وبالجملة ، الأمر بالتوقّف في هذه الأخبار لا يكون إلّا للإرشاد إلى الاحتراز عن العقاب المحتمل في محتمل التكليف ، ومورده منحصر في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي والبدويّة قبل الفحص.

وبما دلّ على وجوب الاحتياط ، كقوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك» (٢).

والجواب : أنّ الأمر بالاحتياط في هذه الأخبار ليس إلّا للإرشاد ، والشاهد على ذلك أنّ بعضها ـ كالخبر المذكور ـ آب عن التخصيص ، مع أنّ الأخباري معترف بعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة الوجوبيّة منها ، وعلى فرض دلالتها على وجوب الاحتياط في المقام فحيث إنّها عامّة شاملة لجميع الشبهات البدويّة قبل الفحص وبعده والمقرونة بالعلم

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) أمالي الطوسي : ١١٠ ـ ١٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٦.

٣١٠

الإجمالي وما دلّ على البراءة خاصّ ، فلا محالة تخصّص به ، فتختصّ بغير الشبهات البدويّة بعد الفحص ، التي هي مورد النزاع.

وهكذا أخبار التوقّف على فرض دلالتها عامّة تخصّص بأخبار البراءة بمقتضى الجمع العرفي.

وهذا مضافا إلى أنّ أخبار الاحتياط غايتها الظهور في وجوب الاحتياط ، فلا تقاوم ما هو نصّ في البراءة ، كقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١).

وأمّا العقل : فلاستقلاله بلزوم الاحتياط في كلّ محتمل التكليف إذا كان من أطراف العلم الإجمالي ، ومن الواضح أنّا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزاميّة في الشريعة المقدّسة ، ونحتمل بالوجدان أنّ شرب التتن منها ، فإذا استقلّ العقل بالتنجيز ، فلا يجوز ارتكاب شيء من الأطراف إلّا بعد وجود مسقط للتنجيز ، وليس في البين ما يكون كذلك ، فلا بدّ من ترك كلّ ما يحتمل الحرمة حتى يحصل العلم بامتثال التكاليف والمحرّمات الواقعيّة المنجّزة بمقتضى العلم الإجمالي بثبوتها.

وبالجملة ، بعد تنجيز العلم الإجمالي لا بدّ من دليل مسقط للتنجيز في كلّ ما نحكم بعدم وجوب الاحتياط فيه من أطراف العلم ، ولا يرفع اليد عن الاحتياط في شبهة إلّا إذا علم وجدانا خروجها عن أطراف العلم أو دلّ دليل على ذلك إمّا بالمطابقة أو بالالتزام ، والمفروض أنّ أيّ محتمل التكليف من الشبهات البدويّة يكون من أطراف العلم الإجمالي ، ولم يحصل لنا العلم الوجداني بخروجها عن دائرة العلم ، ولم تدلّ أدلّة اعتبار الطرق والأمارات ـ المثبتة

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٩٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧.

٣١١

للتكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال ـ على نفي الحكم عن سائر الأطراف وموارد الشبهات البدويّة لا بالمطابقة ـ وهو واضح ـ ولا بالالتزام ، فإنّ الدلالة الالتزاميّة متوقّفة على العلم بانحصار التكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال ولا تحتمل الزيادة ، وفي المقام ليس كذلك.

مثلا : إذا علمنا إجمالا بثبوت التكليف بإتيان صلاة في يوم الجمعة مردّدة بين الظهر والجمعة ، فإن علمنا من الخارج بأنّ الواجب أمر واحد لا أزيد إمّا الظهر أو الجمعة ، فإذا قامت أمارة حينئذ على وجوب الظهر مثلا ، فتدلّ بالالتزام على أنّ الجمعة ليست بواجبة ، وإن احتملنا وجوب كلتيهما ، فبقيام أمارة على وجوب الظهر لا ينفى الوجوب عن الطرف الآخر ، والعلم الإجمالي على تنجيزه ، إذ من المحتمل أنّ المعلوم بالإجمال وجوبه هو الجمعة وكانت الظهر أيضا واجبة بمقتضى الدليل.

وبهذا التقريب يندفع ما أفاده صاحب الكفاية من سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بانحلاله إلى العلم التفصيليّ بما هو مؤدّى الأمارات والأصول من الأحكام الإلزاميّة ، والشّك البدوي في موارد الشبهات البدويّة ، ومثّل لذلك بما إذا علمنا إجمالا بحرمة إناء زيد تردّد بين إناءين ، فقامت البيّنة على أنّ هذا إناء زيد (١).

وجه الاندفاع : أنّ العلم الإجمالي لو كان مركّبا من القضيّة الحمليّة اليقينيّة ، ك «إناء زيد نجس» وقضيّة منفصلة حقيقيّة ، كأن يقال : «إنّ إناء زيد إمّا هذا أو ذاك» فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي بقيام البيّنة على أحد الطرفين ، كحصول العلم الوجداني ، وينفى الحرمة عن الطرف الآخر.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٣١٢

وأمّا لو كان مركّبا من قضيّتين : قضيّة حمليّة وقضيّة منفصلة مانعة الخلوّ ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الكأسين واحتملنا نجاسة كليهما ، فقيام البيّنة على نجاسة أحدهما المعيّن لا يوجب نفي النجاسة عن الطرف الآخر ، والمقام من هذا القبيل ، كما لا يخفى ، فلا تنفي الطرق والأصول التكليف عن غير مواردها ، فلا تكون مسقطة للتنجيز في موارد الشبهات البدويّة ، فهذا الجواب عن هذا التقريب لا يفيد.

والصحيح في الجواب عنه : أوّلا : بالنقض بالشبهات الوجوبيّة ، فإنّ مقتضى العلم الإجمالي الاحتياط والإتيان بكلّ ما نحتمل وجوبه مع أنّ جلّ الأخباريّين لا يلتزمون بذلك.

وثانيا : بالحلّ ، وهو ما ذكرنا سابقا من أنّ لنا علوما إجماليّة ثلاثة : علما إجماليّا بثبوت تكاليف إلزاميّة في الشريعة المقدّسة ، وعلما إجماليّا ثانيا بوجود تكاليف إلزاميّة بمقدار المعلوم بالإجمال بالعلم الأوّل بل أزيد فيما بين الأمارات والطرق ، وعلما إجماليّا ثالثا بوجود تكاليف كذلك فيما بأيدينا من الأخبار المعتبرة المودعة في كتب الشيعة ، ثمّ إنّا نقطع بأنّ جميع الأمارات وهكذا الأخبار لا تكون غير مطابقة للواقع ، فإن قطعنا بمطابقيّة بعض الأمارات أو الأخبار للواقع بمقدار المعلوم بالإجمال بالعلم الأوّل ، فلا محالة ينحلّ العلم الأوّل بالثاني والثاني بالثالث ، فيصير غير موارد الأخبار شبهات بدويّة ، وتخرج عن تحت دائرة العلم الإجمالي ، وإن لم نقطع بذلك ، فلا بدّ من التمسّك بأدلّة اعتبار الأمارات والأخبار لإثبات انحلال العلم الإجمالي الأوّل ، وحيث إنّ المسالك في معنى الحجّيّة مختلفة ، فينبغي التكلّم على جميع المسالك الثلاثة.

٣١٣

فنقول : أمّا على ما اخترناه ـ وفاقا لشيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ـ من أنّ مفاد أدلّة اعتبار الأمارات هو جعل الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات والعلم تعبّدا : فالانحلال واضح ، ضرورة أنّا على هذا نعلم علما تعبّديّا بأنّ مؤدّيات هذه الأخبار ـ المثبتة للتكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال بل أزيد ـ أحكام واقعيّة ، فإذا عملنا بهذه الأخبار ، فقد امتثلنا التكاليف المعلومة لنا إجمالا بل أزيد ، فلا يبقى بعد ذلك علم بالتكليف.

فعلى هذا المسلك ، الشبهات البدويّة خارجة عن تحت دائرة العلم الإجمالي ، كما في صورة العلم الوجداني بمطابقيّة بعض الأخبار للواقع بمقدار المعلوم بالإجمال ، غاية الأمر أنّ الانحلال هناك وجداني وهنا تعبّدي.

وأمّا على مسلك جعل المنجّزيّة والمعذّريّة ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية (٢) ـ فقد استصعب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ ذلك ، نظرا إلى أن الأمارة على هذا منجّزة أخرى للواقع ، بمعنى أن لا عذر للمكلّف في مخالفتها على تقدير إصابتها للواقع كالعلم الإجمالي ، والمنجّز على المنجّز لا يوجب انحلال العلم ، فالمنجّزيّة الثابتة في باقي الأطراف بمقتضى العلم الإجمالي على حالها (٣).

ولكنّ الإنصاف أنّ العلم الإجمالي منحلّ على ذلك أيضا ، وذلك لأنّ تنجيز العلم الإجمالي إنّما يكون من جهة تعارض الأصول الموجودة في الأطراف ، أمّا إذا فرضنا في مورد لم تكن الأصول معارضة ، فلا يكون العلم الإجمالي منجّزا ، كما إذا علمنا إجمالا بعد الظهر بترك إحدى الصلاتين إمّا ظهر هذا اليوم أو صبح اليوم الماضي ، فإنّ أصل الاشتغال الثابت في أحد الطرفين

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) كفاية الأصول : ٣١٩.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٩٣.

٣١٤

ـ حيث لا معارض له ـ يجري ولا ينجّز العلم ، ويحكم بوجوب إتيان الظهر وعدم وجوب قضاء الصبح ، لقاعدة الحيلولة ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الأصل الجاري في موارد الشبهات البدويّة ـ وهو أصل البراءة ـ سليم عن المعارض ، لتنجّز التكليف في سائر الأطراف بقيام الطرق والأمارات حينما علمنا إجمالا بوجود التكاليف فيه وفي ذلك الزمان حيث تنجّز التكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال بقيام الطرق ، فلا أثر للعلم الإجمالي.

نعم ، لو كان تنجيز الأمارة من حين الوصول ، فلم يكن يؤثّر في الانحلال ، وكان نظير ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين يوم الخمسين ثمّ بعد ذلك علمنا بملاقاة أحدهما المعيّن للنجاسة يوم الجمعة ، أو قامت بيّنة على ذلك ، فإنّ منجزيّة أحد الطرفين يوم الجمعة بواسطة العلم أو البيّنة لا ترفع منجّزيّة الطرف الآخر الثابتة بواسطة العلم الإجمالي.

ولكنّ الأمر ليس كذلك ، بل يكون المقام نظير ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين يوم الخميس ثمّ بعد ذلك علمنا بنجاسة أحدهما المعيّن في ذلك اليوم بعينه أو قامت البيّنة على ذلك ، ومن المعلوم أن لا أثر للعلم الإجمالي الّذي تنجّز أحد طرفيه بمنجّز آخر غيره.

وبالجملة ، كلّ علم إجمالي تنجّز أحد طرفيه أو أطرافه بمنجّز آخر لا يوجب التنجيز من جهة أنّ الأصل الجاري في سائر الأطراف سليم عن المعارض ولا يتساقط بالمعارضة.

ولا يخفى أنّه فرق بين المقام وبين ما إذا خرج أحد الأطراف عن محلّ الابتلاء ، أو اضطرّ إلى ارتكابه أو أتى بأحد طرفي المعلوم بالإجمال ، كصلاة الظهر والجمعة ، فإنّه لا يوجب الانحلال ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي ينجّز التكليف من أوّل الأمر ، والآن أيضا ذاك العلم الإجمالي موجود بمعنى أنّ

٣١٥

المكلّف بعد إتيان صلاة الظهر ـ مثلا ـ أيضا يعلم إجمالا بأنّ الواجب في يوم الجمعة في الشريعة المقدّسة أحد أمرين : إمّا الظهر أو الجمعة ، غاية الأمر أنّ الإتيان بالظهر صار سببا لسقوط التكليف الثابت بمقتضى العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذا الطرف في مقام الامتثال.

وهكذا الكلام في الخروج عن محلّ الابتلاء والاضطرار.

وأمّا على مسلك جعل الحكم المماثل : فربما يتوهّم ورود الإشكال المتقدّم عليه أيضا من جهة أنّ الأمارات على ذلك لا تكون بيانا للواقع وناظرة إليه ، فالعلم الإجمالي بوجود التكاليف الواقعيّة باق ومنجّز لها.

والجواب هو الجواب عن الإشكال المتقدّم ، فلا نعيده.

ثمّ إنّه ربّما استدلّ بدليل عقلي آخر (١) ، وحاصله : أنّ الأصل في الأشياء ـ مع قطع النّظر عن شرع وشريعة ـ هو الحظر والحرمة في غير الضروريّات من الأفعال ، وذلك لأنّ الأشياء كلّها ملك لله تبارك وتعالى وتحت سلطانه ، ولا يجوز التصرّف في ملكه وسلطانه تعالى إلّا بمقدار الضرورة ، فإذا ورد الشرع ، فما أبيح من الأشياء وعلمت إباحته فهو ، وما لم يبيّن ولم تعلم إباحته فيبقى تحت الأصل المذكور ، والشبهات البدويّة لم يثبت من الشرع جواز الاقتحام فيها ، فإنّ الأخبار الدالّة عليه معارضة بأخبار الاحتياط ، والمرجع بعد المعارضة والتساقط هو الأصل الأوّلي وهو الحظر.

وفيه : أوّلا : أنّ هذه المسألة ليست باتّفاقية ، بل ذهب بعض إلى أنّ الأصل هو الإباحة ، فلا ينبغي جعل مثلها دليلا.

وثانيا : أنّ الموضوع في المسألتين مختلف ، فإنّ موضوع الحكم العقلي

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢١٤.

٣١٦

بالحظر في تلك المسألة هو عدم ورود الشرع وفي هذه المسألة ورود الشرع وبيان الأحكام ، ولا تتّحدان موضوعا حتى تكونا متّحدي الحكم أيضا ، ولذا ترى بعض من التزم في تلك المسألة بالحظر التزم هنا بالإباحة وبالعكس.

وثالثا : أنّا أثبتنا سابقا أنّ أخبار البراءة مقدّمة على أخبار الاحتياط إمّا بالنصوصيّة والأظهريّة أو بالتخصيص.

واستدلّوا أيضا بأنّ الإقدام على ما لا يؤمن من المفسدة فيه كالإقدام على ما علم فيه المفسدة.

وفيه : أنّ هذا صغرى من صغريات وجوب دفع الضرر المحتمل ، وقد مرّ ما فيه مفصّلا ، فلا نعيده.

بقي أمور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : أنّه حيث إنّ موضوع البراءة العقليّة عدم البيان وموضوع البراءة الشرعيّة هو الشكّ ، فلا محالة لا يجري أصل البراءة في مورد جريان أصل آخر رافع للشكّ ، إذ به يرتفع الشكّ ، ويتحقّق البيان ، فلا موضوع لأصل البراءة لا عقليّة ولا شرعيّة ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الشبهة موضوعيّة ، كما إذا شكّ في حلّيّة مائع متيقّن الخمريّة سابقا ، أو حكميّة ، كما إذا شكّ في حلّيّة وطء الحائض بعد الطهر وقبل الاغتسال ، فاستصحاب الخمرية في الأوّل والحرمة في الثاني رافع لموضوع البراءة. وهذا هو المراد من الأصل الموضوعي في كلام الشيخ (١) ، وليس المراد منه هو الأصل الجاري في الموضوع مقابل الأصل الحكمي ، بل المراد مطلق ما يكون رافعا لموضوع البراءة سواء جرى في الموضوع أو في الحكم. وبهذه المناسبة ـ أي بمناسبة أنّه

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢١٨.

٣١٧

يرفع موضوع البراءة ـ سمّي أصلا موضوعيّا.

وبالجملة جريان البراءة مشروط بعدم ارتفاع موضوعها بسبب أصل آخر ، وقد فرّع الشيخ ـ قدس‌سره ـ على ذلك عدم جريان أصل البراءة في حيوان شكّ في حرمته وحلّيّته من جهة الشكّ في قبوله التذكية وعدمه (١).

وينبغي التكلّم في صور الشكّ بجميعها.

فنقول : إنّ الشبهة تارة تكون موضوعيّة ، وأخرى حكميّة.

أمّا الأولى : فعلى أقسام :

الأوّل : ما إذا علم بأنّ الحيوان الموجود قابل للتذكية ، وعلم أيضا بوقوع التذكية عليه ولكن شكّ في حلّيّته من جهة الشكّ في كونه شاة أو أرنبا بسبب أمور خارجيّة ، كظلمة أو عمى وأمثال ذلك.

وفي هذا القسم لا ريب في جريان البراءة والتمسّك بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» (٢).

لا يقال : إنّ اللحم الموجود كان سابقا قبل عروض الموت محرّم الأكل من جهة حرمة أكل الحيوان الحيّ أو حرمة أكل القطعة المبانة من الحيّ ، فنستصحب حرمته الثابتة على تقدير كونه حيّا.

فإنّه يقال : بقاء الموضوع في الاستصحاب معتبر ، وموضوع الحرمة المتيقّنة كان الحيوان الحيّ أو القطعة المبانة منه ، وبعد وقوع التذكية عليه لا يصدق عليه شيء من العنوانين ، كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أنّ ما أفاده الشهيد ـ قدس‌سره ـ من أنّ الأصل في اللحوم هو

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢١٨.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣٩ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٨ و ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٣١٨

الحرمة (١) ، غير تامّ إن أراد ـ قدس‌سره ـ إطلاقه الشامل حتى هذه الصورة.

الثاني : ما إذا علم بأنّه ممّا يقبل التذكية ، وعلم بوقوع التذكية أيضا لكن شكّ في عروض ما هو مخرج لقابليّته لذلك ، كما إذا شكّ في عروض الجلل على شاة فذكيّ.

وفي هذا القسم أيضا يحكم بالحلّيّة ، لاستصحاب عدم عروض الجلل ، وعدم خروجه عن كونه قابلا للتذكية ، وبضمّ هذا الأصل إلى الوجدان ـ وهو وقوع التذكية عليه ـ يثبت المطلوب ، وهو : أنّ هذا حيوان قابل للتذكية ، ووقع عليه التذكية ، فهو محلّل الأكل.

الثالث : ما إذا شككنا من الأوّل في قابليّته للتذكية وعدمها ولم تكن حالة سابقة متيقّنة في البين ، كما إذا شككنا في كونه شاة أو كلبا.

وفي هذا القسم أيضا يمكن إثبات الحلّيّة إن قلنا بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة ، وقلنا بوجود عموم دالّ على قابليّة كلّ حيوان للتذكية إلّا ما خرج ، وذلك لأنّ الكلبيّة ـ مثلا ـ عنوان وجودي أخذ في الدليل المخصّص ، وحيث إنّ هذا الحيوان الموجود قبل وجوده لم يكن ذاته ولم يكن متّصفا بالكلبيّة أيضا ، فالأصل عدم اتّصافه بوصف الكلبيّة ، وعدم تعنونه بهذا العنوان ، فببركة الاستصحاب نثبت أنّه ليس ممّا خرج من العموم ، ثمّ نحكم بمقتضى العموم بكونه قابلا للتذكية ، وحيث وقع عليه التذكية فهو حلال.

وإن أنكرنا جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة أو لم نظفر بعموم كذلك ، فإن قلنا بأنّ التذكية أمر بسيط مسبّب عن هذه الأفعال الخارجيّة من التسمية وفري الأوداج الأربعة مع كون الذابح مسلما وآلة الذبح حديدا وغير

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ٥٧ ذيل القاعدة ٢٧ ، و ١٨١ ـ ١٨٢ ، القاعدة ٥٠.

٣١٩

ذلك ، وخصوصيّة في الحيوان دخيلة في تحقّق هذا الأمر البسيط ، فيجري استصحاب عدم تحقّق التذكية (١) ، الثابت حال الحياة ، ويحكم بكونه محرّم الأكل.

وإن قلنا بأنّ التذكية عبارة عن نفس هذه الأفعال الخارجيّة ـ كما احتمله بل استظهره شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ـ فيحكم بحلّيّته بمقتضى قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» (٢) إلى آخره ، إذ المفروض أنّ التذكية ليست إلّا نفس هذه الأفعال ، وهي محقّقة ، فالشكّ إنّما يكون في كون هذا اللحم من القسم الحلال أو الحرام.

ولكنّ الحقّ أنّ التذكية ـ كالزوجيّة والملكيّة وغيرهما ـ أمر بسيط مسبّب عن سبب خاصّ ، ولا وجه للاستظهار من قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(٣) من جهة إسناد التذكية إلى المكلّفين ، فإنّه مثل أن يقال : إلّا ما ملكتم أو زوّجتم ، وعلى ذلك لا يحكم بحلّيّة المشكوك في هذا القسم ، إلّا أن يسهل الخطب أنّ هناك رواية دالّة على قابليّة كلّ حيوان قابل للتذكية ، وتقرّر في مقرّه جريان

__________________

(١) أقول : وجهه أنّ المورد يكون من موارد الشكّ في المحصّل. ولكنّ الحقّ هو عدم الفرق بين القول بكون التذكية أمرا مركّبا والقول بكونها أمرا بسيطا فيما نحن فيه ، وذلك أنّ الأمر البسيط على قسمين : أحدهما : أنّه أمر عرفي ومحصّله أمر تكويني كالأمر بقتل المشرك ، فإذا شكّ بعد إتيان أعمال في الخارج في حصول القتل فيستصحب عدمه. والآخر : أنّه أمر شرعي كالطهارة بالنسبة إلى الغسلات ، والمحصّل هنا أمر شرعي ، وبيانه على عهدة الشارع ، فإذا شككنا في جزئيّة شيء في المحصّل فنرفع الشكّ بالبراءة ، فإذا فرضنا وقوع التذكية التي دلّت عليها الأدلّة ورفعنا الشكّ بالبراءة عمّا زاد على تلك الأمور فليس الشكّ باقيا ، فلا فرق فيما نحن فيه بين تركّب التذكية وبساطتها. نعم ترجع هذه البراءة إلى البراءة في الشبهة الحكميّة. (م).

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٩٤.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٣١٨ الهامش (٢).

(٤) المائدة : ٣.

٣٢٠