الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

ولا يبيع داره التي رضي ببيعها مع كثرة علاقته بها لرفع اضطرارها ، ومن الواضح أنّه خلاف الامتنان ، والمكره لا يكون كذلك بالوجدان ، بل بحكم الشارع بالبطلان يردّ ماله وينتفع به ، وهذا امتنان محض.

ثمّ إنّ الامتنان لا بدّ وأن يكون بالإضافة إلى نوع المكلّفين ، فإنّ ظاهر الحديث ـ كما يستفاد من قرينة «عن أمّتي» ـ أنّ الرفع امتنان على الأمّة ، فلو كان رفع الحكم امتنانا بالقياس إلى شخص وخلاف الامتنان بالإضافة إلى نوع المكلّفين ، كما إذا أتلف أحد مال أحد نسيانا أو خطأ ، لا يرتفع الضمان عن المتلف ، فإنّه وإن كان امتنانا في حقّه إلّا أنّه إضرار بالغير.

نعم ، ترتفع حرمة الإتلاف بعروض هذه العوارض بحديث الرفع.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الشبهات الحكميّة والموضوعيّة كلّها مورد للبراءة بمقتضى هذا الحديث الشريف وأنّه لا ريب في صحّة سنده وتماميّة دلالته.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١).

وهذه الرواية ربما يقال : إنّها أقوى دلالة من حديث الرفع ، إذ لا يرد عليه ما أورد على حديث الرفع من اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة من جهة عدم ذكر عنوان «ما اضطرّوا إليه» و «ما استكرهوا عليه» وغيرهما ممّا يختصّ بالشبهات الموضوعيّة فيه.

وأورد عليه ما أورد على حديث الرفع من أنّ «ما» لو أريد به الحكم المجهول والموضوع المشتبه كلاهما ، لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ ـ ٣ ، التوحيد : ٤١٣ ـ ٩ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

٢٨١

وقد أجبنا عن ذلك بجوابين :

أحدهما : أنّ لفظ «ما» استعمل في معنى واحد ، وهو «الشيء» وهو ينطبق على الحكم تارة وعلى الموضوع الخارجي أخرى.

ثانيهما : أنّ المراد منه هو الحكم مطلقا ، سواء كان كلّيّا أو جزئيّا ، فيعمّ الشبهات الموضوعيّة والحكميّة.

والّذي يوهن الاستدلال بها أنّ إسناد الحجب إلى الله تعالى يقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة ، حيث إنّ العباد علمهم محدود ولا يعرفون حقائق الأشياء ، لأنّ الله تعالى لم يعلّمهم الغيب وحجب عنهم كثيرا من العلم ، فالمائع المجهول خمريّته مرفوع عنهم ، لأنّه ممّا حجب الله تعالى عنهم علمه ، فاستفادة لبراءة في الشبهات الموضوعيّة من الرواية في غاية الظهور.

وأمّا الأحكام المجهولة المشتبهة : فاستفادة البراءة منها بالنسبة إليها في غاية الإشكال ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يحجب علم الأحكام عن العباد ، بل بيّنها لهم ، وإنّما حجبها خلفاء الجور لعنهم الله تعالى ، فلعلّ مفاده ـ على تقدير عدم الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة ، بل الاختصاص بالشبهة الحكميّة ، كما هو ظاهر إسناد الحجب إلى الله تعالى ـ هو مفاد «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» وأنّ ما حجب الله علمه عن العباد من الأحكام ولم يبيّنه (١) أصلا لمصلحة في

__________________

(١) أقول : لا إشكال في دلالة حديث الحجب على البراءة الشرعية ، ولا يختصّ بالأحكام التي سكت الله عن بيانها كي يخرج عمّا نحن فيه.

توضيح ذلك : أنّ في حديث الحجب ـ كما في حديث الرفع ـ امتنانا على الأمّة ، وهو فيما إذا رفع حكم موضوع غير واصل ، وأمّا عدم وضع الحكم أصلا فليس فيه امتنان بل ولا معنى لمرفوعية غير الموضوع والمجعول ، وهو مستهجن عرفا. فالحقّ تماميّة دلالة الحديث ـ بناء على تمامية السند ـ على البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية ، ولا يختصّ بالشبهة الموضوعية ولا بما لم يجعل أصلا ، فلا يخرج مفاده عمّا نحن فيه. (م).

٢٨٢

تأخيره إلى أن يقوم القائم عجّل الله تعالى فرجه كما يستفاد من بعض الأخبار تأخير بيان كثير من الأحكام حتى يظهر القائم ، ولعلّه لذلك ورد أنّه يأتي بدين جديد (١) ـ مرفوع عنهم ، فيكون أجنبيّا عمّا هو محلّ الكلام من أنّ ما علم أنّه جعل له حكم في الشريعة مردّد بين الإباحة والحرمة وبيّن لجماعة ووصل إليهم ولكن عرض الاختفاء واشتبه علينا بواسطة إخفاء المخالفين هل هو مورد للبراءة أو لا؟

ومنها : ثلاث روايات :

إحداها : رواية مسعدة بن صدقة ، الموثّقة (٢) «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة» إلى أن قال : «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين أو تقوم به البيّنة» (٣).

والمراد من الحلّيّة في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» إمّا هي الحلّيّة الظاهريّة وما أخذ الشّك. في موضوعه ، فيكون قوله : «وذلك مثل الثوب» إلى آخره تنظيرا لمشكوك الحكم ، المحكوم بالحلّيّة الظاهريّة أو الحلّيّة المطلقة

__________________

(١) انظر : البحار ٥٢ : ١٣٥ ـ ٤٠ ، و ٢٣١ ـ ٩٦ ، و ٢٣٥ ـ ١٠٣ ، و ٣٣٨ ـ ٨٢ ، و ٣٥٤ ـ ١١٤.

(٢) توثيق الرواية لأجل مسعدة بن صدقة ، وهو مبني على وثاقة من وقع في أسناد «كامل الزيارة».

وفيه : أنّ المبنى خطأ ، فإنّ كلام ابن قولويه لا يدلّ على توثيق جميع الرّواة الموجودين في «كامل الزيارة» مضافا إلى رجوع سيّدنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ عن ذلك المبنى أخيرا وقال بوثاقة مشايخ ابن قولويه حسب ، ومسعدة ليس منهم ، فالرواية غير معتبرة سندا ، وأمّا دلالتها فتامّة. (م).

(٣) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ٢٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٢٨٣

القابلة للانطباق على الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، فتكون الموارد المذكورة أمثلة للشبهات الموضوعيّة ، ويكون الحلال حينئذ بمعناه اللغوي ، وهو الحلّ في مقابل العقد ، ويرادف الإطلاق والإرسال ، ولذلك يشمل الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ، إذ يصحّ أن يقال : شرب التتن المشكوك حلّيّته وحرمته مطلق وغير ممنوع من الشارع ، وهكذا يصحّ أن يقال : المائع المحتمل خمريّته مرسل ولم يمنع عن شربه الشارع ، وقوله عليه‌السلام : «والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين أو تقوم به البيّنة» راجع إلى الموارد المذكورة قبله وما يكون من قبيلها ، لعدم انحصار الحجّة في الشبهات الحكميّة بالعلم والبيّنة ، وهذا بخلاف الشبهات الموضوعيّة التي كانت محكومة بالحلّيّة بمقتضى أصل أو أمارة ، فإنّ الحجّة على خلاف الحلّيّة المستندة إلى قاعدة اليد أو الاستصحاب أو غيرهما منحصرة في العلم الوجداني وقيام البيّنة على الخلاف.

وتوهّم أنّ إقرار ذي اليد أو حكم الحاكم على الخلاف أيضا حجّة في الشبهات الموضوعيّة ، فاسد ، لأنّ الأوّل خلف الفرض ، فإنّ المفروض فيما هو محكوم بالحلّيّة بمقتضى ادّعاء ذي اليد ملكيّته ، فصورة إقرار ذي اليد على عدم الملكيّة خلف الفرض. والثاني راجع إلى الحجّة الثانية المذكورة في الرواية ، وهي قيام البيّنة ، إذ الحاكم لا يحكم جزافا ، بل بالعلم الوجداني لو قيل بجوازه ، أو بالبيّنة ، فتكون البيّنة في الرواية أعمّ ممّا قامت عند الجاهل وممّا قامت عند الحاكم ، ولا يكون حكم الحاكم شيئا في عرض البيّنة.

ودعوى أنّ الاستبانة أعمّ من الوجدانيّة والتعبّديّة فتشمل كلّ حجّة فلا تنحصر في العلم الوجداني والبيّنة حتى ترجع الغاية إلى خصوص ما ذكر من الموارد وما يكون من قبيلها بل تعمّ جميع الشبهات حكميّة كانت أو موضوعيّة ، لا يساعدها ذكر «أو تقوم به البيّنة» عقيب «حتى يستبين» فإنّه

٢٨٤

مستدرك على ذلك. هذا فقه الحديث.

أمّا الاستدلال بها للبراءة في محتمل الحرمة : فلا يصحّ من وجوه :

الأوّل : من جهة لفظ «بعينه» (١) فإنّه ظاهر في اختصاص الحكم بالشبهات الموضوعيّة ولا أقلّ من كونه محتملا للقرينيّة على ذلك ، لأنّ معنى العرفان بعينه هو تمييز الشيء بشخصه ، وهذا لا يناسب الشبهة الحكميّة ، فإنّ الشيء لو كان معلوم الحرمة فهو حرام ، وما معنى لكونه حراما بعينه ، ولكن يصحّ أن يقال : إنّ هذا المائع حرام بعينه ، أي دون غيره ، كما يقال : رأيت زيدا بعينه ، أي لا ابنه وغلامه ، وذلك لأنّ الشبهات الموضوعيّة غالبا مقرونة بالعلم الإجمالي حتى البدويّة منها ، غاية الأمر أنّ بعض أطرافها خارجة عن محلّ الابتلاء ، فغالب ما يشكّ في كونه مصداقا للحرام منشأ الشكّ فيه هو كونه مردّدا بين أمور علم بمصداقيّة أحدها للحرام إجمالا ولم يعلم بعينه ، فاعتبر في الرواية العلم التفصيليّ وجعله الغاية للحلّيّة المطلقة.

الثاني : من جهة ذكر «أو تقوم به البيّنة» (٢) في ذيل الرواية ، فإنّه أيضا

__________________

(١) أقول : وجه ظهور «بعينه» في الشبهة الموضوعية هو كون الأصل في القيد احترازيّا لا تأكيديّا ، فقوله : «بعينه» في قبال «لا بعينه» وهو كالمختصّ بالشبهة الموضوعية ، فإنّ تحقّق «لا بعينه» في الحكمية نادر ، ولكن هذا يضرّ فيما إذا أردنا اختصاص الرواية بالشبهة الحكمية ، فإنّ تحقّق «لا بعينه» فيها نادر جدّاً ويلزم حمل اللفظ على الفرد النادر ، لكنّا نقول : إنّ الرواية عامّة شاملة للشبهة الحكمية أيضا ، وفرق بين حمل اللفظ على النادر وشموله له ، فمعنى قوله : «كلّ شيء» هو أعمّ من عنوان كلّي لا يعلم حكمه كلحم الأرنب ومن موضوع جزئي كهذا المائع الّذي لا نعلم انطباق عنوان الخمر عليه.

فتحصّل أنّ القرينة الأولى لا توجب اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية. (م).

(٢) أقول : هذا مبني على كون البيّنة بمعناها الاصطلاحي من تعدّد العدل. ولو سلّم لما كان فيه دلالة على المدّعى.

توضيح ذلك : أنّه لو كان مدلول الرواية مختصّا بالشبهة الموضوعيّة أيضا لما كانت ـ

٢٨٥

ظاهر في اختصاص الحكم بالشبهات الموضوعيّة أو تحتمل قرينيّته على ذلك.

الثالث : من جهة الأمثلة (١) المذكورة فيها ، فإنّها لو لم تكن موجبة لظهورها في الشبهات الموضوعيّة فلا أقلّ من الاحتمال ، لأنّها صالحة للقرينيّة.

وبالجملة ، لا دلالة للرواية على جريان البراءة في محتمل الحرمة من جهة الشبهة الحكميّة ، ولذا ذكرها الشيخ ـ قدس‌سره ـ في الشبهات الموضوعيّة (١) ، والروايتين (٢) الأخريين في الشبهات الحكميّة (٣) ، ولم يذكرهما صاحب الكفاية أصلا ، واستدلّ بهذه الرواية على حلّيّة ما لم يعلم حرمته (٤) ، نظرا إلى أنّهما من جهة اشتمالهما للفظ «فيه» في قوله عليه‌السلام : «كلّ ما ـ أو شيء ـ فيه حلال وحرام» الظاهر في اختصاصهما بالشبهات الموضوعيّة لا يمكن الاستدلال بهما على المطلوب ، بخلاف هذه الرواية ، فإنّ صدرها «كلّ شيء لك حلال» ولم يذكر

__________________

ـ الحجّة على الحرمة منحصرة في العلم والبيّنة ، بل يكفي حكم الحاكم والاستصحاب ، فيمكن أن يقال : إنّ مدلول الرواية أعمّ من الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، وعدم ذكر العادل الواحد الثقة من قبيل عدم ذكر الاستصحاب وحكم الحاكم ، فليس ذكره دالّا على الانحصار حتى يقال : إنّه قرينة على اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية.

وبعبارة أخرى : أنّ المدلول هو أعمّ من الحكميّة والموضوعيّة ، والرافع لأصالة الحلّيّة أمران : أحدهما : العلم بالحرمة ، وهو مشترك بين الموضوعيّة والحكميّة ، والآخر : قيام البيّنة ، وهو بناء على الاصطلاح المستحدث مختصّ بالموضوعيّة ، وبناء على معناها اللغوي شامل لكلّ حجّة حتى الخبر الواحد الثقة ، فهو أيضا مشترك. (م).

(١) أقول : اختصاص الأمثلة بالشبهة الموضوعيّة لا يكون دليلا على كون المدّعى أعمّ ، ولا يكون ما يصلح للقرينيّة. نعم اختصاص الأمثلة بالشبهة الموضوعيّة ينافي القول باختصاص مدلول الرواية بالشبهة الحكميّة ولكنّا نقول : إنّ مدلولها أعمّ من الحكميّة والموضوعيّة. (م).

(٢) فرائد الأصول : ٢٢٠.

(٣) ستأتي الإشارة إلى مصادرهما.

(٤) فرائد الأصول : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٥) كفاية الأصول : ٣٨٨.

٢٨٦

فيها لفظ «فيه» وقد فرّ عن هذا الإشكال ووقع فيما هو أعظم منه من الإيرادات الثلاثة المذكورة.

الرواية الثانية : صحيحة (١) عبد الله بن سليمان عن الباقر عليه‌السلام قال : «سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٢).

الرواية الثالثة : صحيحة عبد الله بن سنان «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٣).

وهاتان الروايتان من جهة اشتمالهما على لفظ «بعينه» (٤) يرد عليهما ما أوردناه على الأولى ، ويبقى فيهما إشكال آخر يختصّ بهما ، وهو : أنّ «كلّ ما ـ أو شيء ـ فيه حلال وحرام» ظاهر في الشبهات الموضوعيّة ، فإنّ الموضوعات الخارجيّة تكون منقسمة إلى الحلال والحرام وما احتمل كونه مصداقا لكلّ منهما ، فالمائع الخارجي مثلا قسم منه حلال ، وهو الخلّ ، وقسم منه حرام ، وهو الخمر ، وقسم مشكوك كونه من الأوّل أو الثاني ، فالقسم المشكوك منه حلال حتى يعرف أنّه خمر ، وأمّا شرب التتن فلا ينقسم إلى قسمين : حلال وحرام ، بل هو محتمل للحلّيّة والحرمة ، وحمل «ما فيه حلال وحرام» على محتمل الحلّيّة والحرمة خلاف الظاهر بل غلط.

هذا ، مع أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «حتى تعرف الحرام» حيث أسند العرفان

__________________

(١) الرواية ليست بصحيحة ، لأنّه ليس لعبد الله بن سليمان توثيق. (م).

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٩ ـ ١ ، الوسائل ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣٩ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ـ ١٠٠٢ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٨ ، و ٩ : ٧٩ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٤) أقول : قد مرّ عدم دلالته على اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية. (م).

٢٨٧

إلى الحرام لا إلى ما هو حرام ـ كما في رواية مسعدة بن صدقة ، فإنّ فيها «حتى تعرف أنّه حرام بعينه» ـ هو اختصاص الحكم بالشبهات الموضوعيّة ، إذ الحرام هو الذات الخارجي كالخمر ، لا الحكم التحريمي ، وكم فرق بين قوله : «حتى تعرف الحرام» وقوله في الرواية الأولى : «حتى تعرف أنّه حرام» فإنّ متعلّق العرفان في الأوّل هو نفس الذات الخارجي المحكوم بالحرمة ، وفي الثاني هو حرمة الذات الخارجي.

ثمّ إنّ الشيخ ـ قدس‌سره ـ التزم بأنّ الرواية الأخيرة ظاهرة في الشبهات الموضوعيّة ، لأنّ لفظ «شيء» إمّا أن يراد منه الفرد الخارجي ، فلا بدّ من الالتزام بالاستخدام ، ويكون المعنى : كلّ شيء خارجي كان في نوعه حلال وحرام فهو لك حلال ، أو يراد منه المفهوم الكلّي ، فيكون المعنى : أنّ كلّ نوع كان بعض أفراده حلالا وبعضها حراما فالمشكوك لك حلال. وعلى كلّ تقدير الرواية ظاهرة في التقسيم الفعلي ، وهو لا يمكن إلّا في الشبهات الموضوعيّة ، وأمّا الشبهات الحكميّة فالتقسيم فيها ووهميّ ، أي ليس فيها إلّا احتمال الحلّيّة والحرمة ، ضرورة أنّ شرب التتن ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام (١).

ورجّح شيخنا الأستاذ الاحتمال الأوّل ، وهو احتمال إرادة الفرد الخارجي بدعوى أنّ الشيء مساوق الوجود ، فالمراد منه هو الموجود الخارجي ، وحينئذ لا بدّ من ارتكاب أحد أمرين كلّ منهما خلاف الظاهر : إمّا الالتزام بالاستخدام وحفظ ظهور التقسيم في كونه فعليّا ، أو رفع اليد عن هذا الظهور وعدم الالتزام بالاستخدام والقول بأنّ المراد هو التقسيم الوهمي واحتمال الحلّيّة والحرمة ، ولا ريب أنّ الثاني أهون من الأوّل ، فلا مانع من

__________________

(١) فرائد الأصول ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٢٨٨

شمول الرواية للشبهات الحكميّة (١).

وهذا الّذي أفاده تامّ لو كان حمل الرواية على الترديد والتقسيم الوهميّ صحيحا خلاف الظاهر ، وليس الأمر كذلك بعد ما تأمّلنا موارد استعماله ، بل يعدّ استعمال مثل هذا الكلام ـ الّذي يدلّ على التقسيم ـ في مقام الترديد غلطا عند العرف ، فلا مناص من إرادة التقسيم الفعلي.

مضافا إلى أنّ ترجيحه ـ قدس‌سره ـ الاحتمال الأوّل بلا وجه ، إذ «الشيء» من المفاهيم العامّة القابلة للانطباق على الموجودات الخارجيّة والمفاهيم الكلّيّة والممكنات والممتنعات ، كما لا يخفى.

فالحقّ ما أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ من اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعيّة ، ويكون مفادها ـ كسابقتها ـ أنّ كلّ شيء مثل المائع فيه حلال كالخلّ وحرام كالخمر ، فيكون المشكوك كونه من أحدهما لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه ، أي تعرف أنّ المشكوك هو الحرام بعينه ، وليس المراد : حتى تعلم بحرام في الشرع ولو كان غير هذا المشكوك بحيث لو شكّ في لحم الحمار وعلم بحرمة لحم الأرنب لكان كافيا للحكم بحرمة لحم الحمار ، فإنّه بديهيّ البطلان.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (٢) بإضافة لفظ «سعة» إلى «ما» الموصولة ، ومفاده على هذه القراءة مفاد «رفع ما لا يعلمون» فإنّ مفاد «رفع ما لا يعلمون» أيضا هو أنّ الناس ليسوا في ضيق الأحكام المجهولة لهم بحيث يجب عليهم الاحتياط ، بل هم في سعتها ، فلا يضيقوا على أنفسهم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٥.

(٢) الكافي ٦ : ٢٩٧ ـ ٢ ، الوسائل ٣ : ٤٩٣ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ١١ نحوه.

٢٨٩

بالاحتياط ، وعلى هذا يعارض بها أخبار الاحتياط ، كما تعارض بحديث الرفع.

وأمّا على قراءة «سعة» منوّنة بجعل «ما» في «ما لا يعلمون» زمانيّة لا موصولة ، فلا تقع المعارضة (١) بينها وبين أخبار الاحتياط ، لأنّ معناها حينئذ هو أنّ الناس في سعة الأحكام المجهولة لهم ما دام لم يحصل لهم العلم. وبعبارة أخرى : ما دام لم يرد بيان من الشارع ، فإذا حصل لهم العلم وورد البيان ، فليسوا في سعتها ، ومن المعلوم أنّ أخبار الاحتياط على تقدير تماميّة دلالتها بيان ويحصل منها العلم بالحكم ، فتكون حاكمة على هذه الرواية.

ولكنّ الظاهر (٢) أنّ لفظ «ما» الّذي وقع في حيّزها فعل المضارع لم يستعمل إلّا موصولة.

نعم ، إن وقعت بعدها «دام» أو «كان» تكون زمانيّة في الأوّل ، ويحتملها في الثاني.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١).

وقد ادّعى شيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره ـ أنّه أظهر ما استدلّ به على البراءة من الروايات (٢).

__________________

(١) أقول : لا فرق بين القراءتين في تحقّق المعارضة بين هذه الرواية وأخبار الاحتياط. أمّا على الأولى : فواضح. وأمّا على الثانية : فهذه الرواية تدلّ على عدم وجوب الاحتياط ، وتلك الأخبار تدلّ على وجوب الاحتياط ، وليس هذا إلّا التعارض. (م).

(٢) أقول : ما أفاده صحيح ، لكن لفظ الحديث هكذا : «في سعة ما لم يعلموا» لا «ما لا يعلمون» راجع جامع أحاديث الشيعة ١ : ٣٢٦ ـ ٦ نقلا عن المستدرك.

ومعلوم أنّ «ما لم يعلموا» هو الماضي معنى ، فإذا كان بين الإضافة والتنوين فرق من حيث المعنى ، فتصير الرواية مجملة. (م).

(٣) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٩٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧.

(٤) فرائد الأصول : ١٩٩.

٢٩٠

واستشكل صاحب الكفاية عليه : بأنّ دلالته تتوقّف على كون الورود بمعنى الوصول ، وهو في حيّز المنع ، فإنّه وإن كان استعماله فيه صحيحا إلّا أنّه خلاف الظاهر ، بل ظاهره هو الصدور.

ثمّ أورد على نفسه سؤالا وهو : أنّه يتمّ الاستدلال به بضميمة استصحاب عدم الورود والصدور.

وأجاب : بأنّه نعم إلّا أنّ الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة وأنّه مطلق يكون حينئذ بعنوان أنّه ممّا لم يرد فيه نهي ، لا بعنوان أنّه مجهول الحرمة ، الّذي هو محلّ كلامنا (١). إلى آخر ما أفاده.

والظاهر أنّه لو جرى الاستصحاب ، لا نحتاج إلى التمسّك بالرواية ، بل نفس الاستصحاب كاف للحكم بالإباحة ، إذ لا معنى لعدم ورود النهي إلّا عدم صدور التكليف الإلزاميّ بالترك بناء على كون الورود بمعنى الصدور ، وهو عبارة أخرى عن الإباحة ، كما لا يخفى. ولكنّه يتّضح إن شاء الله في محلّه عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام.

واعترض عليه أيضا شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ بعد تسليمه كون الورود بمعنى الوصول ـ : بأنّ الرواية دالّة على أنّ الشيء بعنوانه الأوّلي مطلق ومرخّص فيه ما لم يصل النهي الصادر ، إلى المكلّف ، فمفادها أجنبيّة عن محلّ الكلام ، بل هو دليل على أنّ الأصل في الأشياء في الشريعة الإباحة حتى تثبت الحرمة (٢).

والتحقيق : أنّه لا مناص عن كون الورود بمعنى الوصول ، وعن أنّ المراد من لفظ «الشيء» هو الشيء المجهول ، وأنّ الرواية متكفّلة لبيان حكم مجهول الحرمة ، وأنّه مباح ظاهرا حتى يعلم بالحرمة الواقعيّة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٨٢.

٢٩١

بيان ذلك : أنّه إذا كان المراد من الإطلاق هو الإباحة الظاهريّة ـ كما هو الصحيح ـ فلا معنى لكونها مغيّاة بصدور النهي واقعا ولو لم يصل إلى المكلّف ولم يعلم به ، فلا بدّ من جعل الورود بمعنى الوصول حتى يصحّ جعله غاية للحكم الظاهري بالإباحة.

وإن كان المراد من الإطلاق هو الإباحة الواقعيّة ـ كما ادّعاه شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ فكون الورود بمعنى الوصول أوضح ، إذ لو كان بمعنى الصدور ، يكون هذا الكلام من أبده البديهيّات ، سواء كان الإطلاق إخبارا عن الحكم المجعول في الشريعة أو إنشاء للحكم ، فإنّ معناه حينئذ أنّ كلّ شيء مباح واقعا ما لم يكن حراما ، ومرخّص فيه ما لم يمنع عنه الشارع ، وواضح أنّ كلّ أحد يعلم أنّ ما يكون مباحا في الشريعة أو جعل له الإباحة في زمان لا يكون حراما حتى يجعل الشارع الحرمة له واقعا ويمنع عنه ، وهو مساوق للقول بأنّ المباح ليس بحرام ، فلا ينبغي صدور مثل هذا الكلام عن الحكيم ، وهذا بخلاف ما يجعل الورود بمعنى الوصول ، إذ يستفاد من الرواية معنى صحيحا ، وهو : أنّ كلّ شيء مباح حتى يعلم بحرمته الواقعيّة. فعلى كلّ تقدير ـ سواء كان المراد من الإطلاق الإباحة الظاهريّة أو الواقعيّة ـ لا بدّ أن يكون الورود بمعنى الوصول ، فلفظ «الورود» وإن كان يستعمل في الصدور بل لعلّه الظاهر منه عند الإطلاق لكنّه في خصوص المقام يكون بمعنى الوصول ليس إلّا.

ثمّ إنّه لا يمكن أن يكون وصول النهي عن الشيء غاية لإباحته الواقعيّة ، ضرورة أنّ المباح الواقعي لم يرد فيه نهي واقعي حتى يصير حراما بوصوله إلى المكلّف ، فحكم الإباحة لو كان للشيء بعنوانه الأوّلي ، فلا حرمة واقعيّة له حتى يحكم بها حين وصولها إلى المكلّف ، فلا محيص عن كون لفظ «الشيء» في الرواية يراد منه الشيء بعنوان كونه مجهول الحكم ، وأنّ الورود بمعنى

٢٩٢

الوصول ، وعلى ذلك يتمّ الاستدلال بالرواية على البراءة في مجهول الحرمة ، كما أفاده الشيخ قدس‌سره ، ولا مجال للإشكال فيها أصلا.

نعم ، يعارض بها أخبار الاحتياط لو تمّت دلالتها على لزوم الاحتياط.

وأمّا الإجماع : فيمكن تقريره بوجوه :

الأوّل : دعوى الاتّفاق على قبح العقاب بلا بيان ، وأنّ التكليف المجهول ما لم يصل إلى المكلّف بنفسه أو بطريقه لا يستحقّ على مخالفته العقاب ، والعقاب عليه عقاب بلا مقتض.

وهذا الاتّفاق وإن كان محقّقا إلّا أنّه إجماع على أمر عقليّ ، وليس إجماعا في الاصطلاح ، إذ مورده هو الحكم الشرعي الظاهري أو الواقعي ، لا ما هو ممّا يستقلّ به العقل.

والثاني : دعوى الاتّفاق على أنّ التكليف المجهول ما لم يصل بنفسه أو بطريقه إلى المكلّف مرخّص فيه ،ومباح ظاهرا.

وهذا أيضا وإن كان محقّقا ، فإنّ هذه الكبرى مسلّمة عند الأخباريّين أيضا إلّا أنّهم يدّعون معلوميّة التكليف بمقتضى أخبار الاحتياط في الشبهة التحريميّة ، فالصغرى عندهم ممنوعة.

والثالث : دعوى الاتّفاق على البراءة الشرعيّة في الشبهة التحريميّة.

ولا ريب في بطلان هذه الدعوى كيف لا!؟ وقد خالف قاطبة الأخباريّين وفيهم أساطين الفقهاء ، وذهبوا إلى وجوب التوقّف عند الشبهة ، والاحتياط ، فما هو محقّق من الإجماع لا يفيد ، وما هو مفيد ـ كالأخير ـ غير محقّق ، فلا يمكن الاستدلال به على البراءة الشرعيّة في المقام.

وأمّا العقل : فلا ريب في استقلاله بقبح العقاب على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر به بنفسه أو بطريقه ، وكما أنّ شوق

٢٩٣

المولى بشيء ولو بلغ من القوّة ما بلغ ما لم يبرز بمبرز خارجي لا يقتضي تحريك العبد وانبعاثه إليه ـ فإنّ الإنسان لا ينبعث إلّا عن البعث بوجوده العلمي الّذي هو طريق إلى وجوده الخارجي ، ولذا لا يهرب عن حيّة تكون في بيته ، ولا يحترز عن بئر في طريقه ما لم يحصل له العلم بذلك ، وربّما يموت عطشا مع وجود الماء عنده ، ومع عدم إمكان الانبعاث عن بعث المولى وإرادته غير المبرزة بمبرز خارجي يكون العقاب على مخالفته عقابا بلا مقتض ، وغير صالح على المولى الحكيم ، لقبحه ـ كذلك إذا جعل التكليف ولم يوضع في موضع يمكن للمكلّف أن يصل إليه ويعلم به ، يكون العقاب على مخالفته قبيحا وبلا مقتض ، والعقل يستقلّ بعدم صدوره عن الحكيم ، فإنّه لا يفعل القبيح ، لما عرفت من أنّ الانبعاث لا يمكن إلّا عن البعث الواصل ، فإذا كان عدم الوصول لمانع من غير ناحية العبد ولقصور في وظيفة المولويّة ، فلا يمكن مؤاخذة مثل هذا العبد على مخالفة مثل هذا التكليف ، على المولى الّذي قصّر في وظيفته.

والحاصل : أنّ قبح العقاب بلا بيان ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه ، فإنّه عقاب بلا مقتض ، لما عرفت من أنّ مجرّد وجود التكليف واقعا ما لم يكن بحيث يمكن للعبد عادة الوصول إليه لا يقتضي التحرّك.

نعم ، لو كان التكليف بحيث يمكن للعبد أن يصل إليه بالفحص في مظانّه ولم يفحص ، فلا يقبح العقاب على مخالفته ، فإنّ المولى لم يقصّر في وظيفته وإنّما العبد لم يعمل بوظيفته من الفحص ، ولذا لا نقول بالبراءة في الشبهات قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي ، والعقلاء عند ذلك لا يأمنون من العقاب ، بل إمّا يحتاطون ولا يرتكبون ما يحتملون حرمته ، أو يفحصون حتى يحصل لهم الأمن بأنّ المولى لا يعاقبهم ـ من جهة أعمالهم

٢٩٤

ما هو وظيفتهم ـ على مخالفة التكليف على تقدير وجوده واقعا ، وهذا جار في القوانين العرفيّة المقنّنة في مملكة ، فإنّه لا تسمع دعوى الجهل بالقانون الموضوع في المملكة من مرتكب خلافه إذا نشر في الجرائد ووضع في مرأى ومسمع أهل المملكة ، بخلاف ما لم يكن بهذه المثابة ، فإنّ مرتكب الخلاف لا يطلب إلى المحكمة لمؤاخذته على ذلك.

وبالجملة ، ما لم يصل التكليف إلى المكلّف صغرى وكبرى ـ بأن يعلم بأنّ الخمر في الشريعة المقدّسة حرام ويعلم أنّ المائع الخارجي خمر ـ لا يستحقّ العقاب على مخالفته ، ومع عدم الاستحقاق لا يحتمل العقاب ، فهو مقطوع العدم ، فلا موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فيما هو محلّ الكلام من الشبهات البدويّة بعد الفحص ، فلا يمكن أن تكون بيانا عقليّا.

وربّما يتوهّم أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما تصلح أن تكون رافعة لموضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كذلك تصلح لأن تكون رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ احتمال ضرر العقاب موجود بالوجدان ، فمع جريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل يرتفع موضوع تلك القاعدة ، فكلّ من القاعدتين العقليّتين يصلح للجريان ورفع موضوع الأخرى ، فما وجه تقديم أحدهما؟

وفساد هذا التوهّم من الوضوح بمكان ، فإنّ التنافي لا يمكن بين دليلين قطعيّين عقليّين أو شرعيّين ، فلا يمكن المعارضة بين القاعدتين ، ولا يعقل صلاحية جريان كلّ منهما في مورد واحد ، ونرى أنّ المقام من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان دون تلك القاعدة ، إذ موردها احتمال ضرر العقاب ، المساوق لاستحقاقه ، الملازم لمخالفة التكليف الواصل بنفسه أو بطريقه ، والمفروض عدم الوصول كذلك ، فلا مورد لها.

٢٩٥

وبعبارة أخرى : مورد تلك القاعدة وصول التكليف ، ومورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان عدم وصول التكليف ، فتختلفان موردا ، فكيف يكون ما مورده الوصول بيانا لما يكون مورده عدم الوصول!؟

هذا ، مضافا إلى أنّ الوجوب في القاعدة إمّا نفسي ، أو طريقي ، أو إرشادي ـ وهو الصحيح (١) ـ وعلى كلّ تقدير لا يمكن أن تكون بيانا.

أمّا على تقدير كونه إرشاديّا : فواضح ، إذ لا يترتّب عليه إلّا ما يترتّب على المرشد إليه.

وأمّا على تقدير كونه وجوبا نفسيّا ـ فمع كونه باطلا ، لأنّه يلزم منه أن يكون مرتكب خلاف التكليف المحتمل أسوأ حالا من العاصي ، إذ يكون معاقبا ولو لم يكن تكليف واقعا ـ لا يعقل كونها بيانا ، لما عرفت من أنّ موضوعها احتمال الضرر ، الملازم لوصول التكليف ، الّذي هو المراد من البيان ، ومن الواضح أنّ الحكم لا يحقّق موضوع نفسه ، فإنّ مرتبته متأخّرة عن الموضوع نحو تأخّر المعلول عن علّته التامّة ، فلا يعقل إحراز موضوع القاعدة ـ وهو البيان ـ بنفسها.

وأمّا على فرض كونه طريقيّا نظير إيجاب الاحتياط ـ فمع أنّه خلاف

__________________

(١) أقول : الوجوب في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل هو بالمعنى الّذي في حكم العقل بوجوب إطاعة المولى في أوامره القطعيّة ونواهيه كذلك ، فكما أنّ معنى الوجوب هناك ليس إلّا دركه الملازمة بين المخالفة واستحقاق العقاب ، وليس له حكم بالفعل أو الترك كذلك فيما نحن فيه.

وبعبارة أخرى : في مورد الشبهة البدوية قبل الفحص لا يحكم العقل بفعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة ، بل يرى الملازمة بين عدم الاحتياط واستحقاق العقاب عند تحقّق المخالفة للواقع ، فعليه لا معنى لحمل الوجوب على الإرشاد ، فإنّ الإرشادية والمولويّة والنفسيّة والطريقية والغيريّة كلّها من أقسام الوجوب الشرعي دون العقلي ولا موضوع لها فيما نحن فيه. (م).

٢٩٦

الواقع وليس شأن العقل إلّا إدراك صحّة العقاب مع احتماله وعدم المؤمّن ، وهذا هو المراد من الوجوب الإرشادي ـ لا ينتج ، ضرورة أنّ موضوعها أيضا احتمال الضرر ، الملازم لوصول التكليف ، الّذي هو البيان ، ولا يمكن تحقّق الموضوع بنفس الحكم.

فظهر أنّ توهّم أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقليّ رافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان فاسد من أصله.

هذا كلّه فيما إذا كان المراد من الضرر الضرر الأخروي والعقاب ، وإن كان المراد منه هو الضرر الدنيوي ، ففيه ـ مضافا إلى أنّ احتمال التكليف لا يلازم احتمال الضرر الدنيوي ، بل بين التكليف والضرر عموم من وجه ـ أنّ العقل لا يستقلّ على وجوب دفع المضارّ الدنيويّة ، وليس بناء للعقلاء أيضا على ذلك بالضرورة ، بل كثيرا ما يوقعون أنفسهم في المضارّ لأجل بعض الأغراض والدواعي ، غاية الأمر لو لم يكن الغرض والداعي عقلائيّا ، يعدّ الفعل من اللغو عند العقلاء ، فالاستدلال صغرى وكبرى ممنوع.

وإن كان المراد منه هو المفسدة ، فاحتمال التكليف وإن كان ملازما لوجود المفسدة والمصلحة الملزمة في المتعلّق على مسلك العدليّة إلّا أنّ ترك ما يكون ذا المصلحة لا مفسدة فيه ، فلا تتمّ الصغرى في الواجبات ، مع ممنوعيّة الكبرى أيضا ، إذ لو كان العقل مستقلّا بوجوب دفع المفسدة المحتملة ، كانت الشبهات الموضوعيّة أيضا موردا للقاعدة ، لوجود احتمال المفسدة مع أنّ الأخباري لا يقول به.

وبالجملة ، لا سبيل لدعوى استقلال العقل بقبح اقتحام ما فيه احتمال المفسدة.

نعم ، ربّما تكون المفاسد والمصالح المحتملة بمثابة من الأهمّيّة

٢٩٧

لا يرضى الشارع بالوقوع في مخالفتها ولو احتمالا ، كما في الأموال الخطيرة والأعراض والنفوس ، إلّا أنّ على الشارع حينئذ جعل الاحتياط للتحفّظ عليها ، وكلّما لم يوجب الاحتياط تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ثمّ إنّ القاعدة تدلّ على البراءة مع عدم تماميّة أخبار الاحتياط ، وإلّا فلو تمّت فلا مورد للقاعدة ، فلا يمكن الاستدلال بالقاعدة في قبال الأخباري المدّعي لوجود البيان بواسطة أخبار الاحتياط.

تذييل : وممّا استدلّ على البراءة في المقام هو الاستصحاب ، وتقريره بوجهين :

أحدهما : استصحاب عدم المنع ، الثابت حال الصغر.

وقد نوقش فيه بوجوه :

الأوّل : ما نسبه صاحب الكفاية إلى الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون شيئا قابلا للتعبّد بأن يكون حكما مجعولا أو موضوعا ذا حكم مجعول ، وعدم المنع ـ حيث إنّه أزليّ وغير مقدور للمكلّف والشارع ـ لا يكون قابلا للتعبّد ، وليس له أثر يكون كذلك أيضا ، فلا يمكن أن يقع موردا للتعبّد الاستصحابي (١).

والجواب : أنّ العدم مقدور بقاء واستمرارا ، فعدم التكليف كنفس التكليف مقدور للشارع ، ولا معنى لكون التكليف تحت اختيار الشارع وعدم التكليف خارجا عن تحت اختياره ، إذ نسبة القدرة إلى طرف الوجود والعدم على حدّ سواء بالوجدان ، فلا مانع من استصحاب عدم المنع ، الثابت حال الصغر من هذه الجهة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٥ ، وانظر : فرائد الأصول : ٢٠٤.

٢٩٨

وتوهّم أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون حكما مجعولا أو موضوعا ذا حكم مجعول ، فاسد ، بل اللازم في التعبّد الاستصحابي أن يكون المستصحب قابلا للتعبّد ، وعدم التحريم أيضا كنفس التحريم قابل للتعبّد الشرعي.

الثاني : ما أفاده شيخنا الأستاذ من أنّ عدم المنع ، الثابت حال الصغر ليس إلّا بمعنى اللّاحرجيّة العقليّة بمعنى كون الصغير ـ حيث إنّه كالبهائم ـ غير قابل لوضع قلم التكليف عليه ، فهو مرخى العنان ، ولا حرج عليه قهرا من دون أن يكون إطلاق عنانه من ناحية الشارع ، وهذا المعنى غير قابل للاستصحاب ، للعلم بانتقاضه حين البلوغ إمّا بجعل الترخيص واللّاحرجيّة الشرعيّة ، أو الحرمة حينئذ (١).

والجواب : أنّه لا مانع من استصحاب عدم المنع ، الثابت قبل البلوغ بيوم أو يومين بل وسنة أو سنتين ، فإنّ اللّاحرجيّة الثابتة للصبي حينئذ لا حرجيّة شرعيّة ، لكونه قابلا لوضع قلم التكليف عليه.

نعم ، يتمّ هذا البيان في عدم المنع ، السابق على رشد الصبي وتمييزه.

الثالث : ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ أيضا من أنّ عدم المنع ، الثابت حال الصغر حيث إنّه غير مستند إلى الشارع فاستصحابه لإثبات العدم المضاف إلى الشارع ، المحتمل بعد البلوغ داخل في الأصول المثبتة التي لا نقول بحجّيّتها (٢).

والجواب : أوّلا : ما ذكرناه في الوجه الثاني من أنّ هذا البيان لا يتمّ إلّا في عدم المنع ، الثابت قبل رشد الصبي وتمييزه ، وأمّا بعد ذلك ـ كما إذا كان قبل البلوغ بيوم أو يومين بل سنة أو سنتين ـ فعدم المنع مضاف إلى الشارع ، لكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٩٠.

٢٩٩

الصبي في هذه الحال قابلا لوضع قلم التكليف عليه ، وليس كالبهائم ، فالتعبّد إنّما يكون بنفس هذا العدم المضاف إلى الشارع لا بأمر يكون ملازما لذلك حتى يكون استصحابه من الأصول المثبتة.

وثانيا : يكفي في صحّة الاستصحاب ترتّب الأثر على نفس الاستصحاب ، من الواضح أنّ مقتضى التعبّد بلزوم البناء على عدم المنع حين البلوغ هو الترخيص في الترك ، فالمستصحب وإن كان ليس له أثر ولا هو بنفسه أثر شرعي إلّا أنّ نفس الاستصحاب له أثر شرعي ، وهو الترخيص والإذن في الترك من ناحية الشارع ، وهو كاف في جريانه.

الرابع : ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، وحاصله : أنّ الاستصحاب لو كان من الأمارات أو قلنا بحجّيّة الأصول المثبتة ، لكان استصحاب عدم المنع ، الثابت حال الصغر مفيدا للحكم بالترخيص الشرعي الظاهري ، وعدم استحقاق العقاب على الاقتحام في الشبهة ، وحيث قرّر في مقرّه بطلان كلّ منهما فلا يكون مثل هذا الاستصحاب دليلا على البراءة الشرعية في المقام ، إذ لا تثبت باستصحاب عدم التحريم الإباحة الظاهرية ، فإنّ الإباحة ضدّ التحريم بمقتضى تضادّ الأحكام ، وعدم أحد الضدّين ملازم عقلا لوجود الضدّ الآخر ، وما لم يثبت ذلك لا يؤمن من العقاب (١).

والجواب عنه : أوّلا : أنّ ما لم يكن حراما بحكم الشارع يقبح العقاب على ارتكابه قطعا ، ضرورة أنّ استحقاق العقاب مسبّب للعصيان ، ولا عصيان مع عدم التحريم ، ولا يلزم أن يكون الفعل مباحا ومرخّصا فيه في عدم استحقاق العقاب على ارتكابه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢٠٤.

٣٠٠