الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

أصل التكليف ، فهو مورد البراءة ، وإن كان في المكلّف به فإن أمكن الاحتياط ، فهو مورد الاشتغال ، وإلّا فهو مورد التخيير (١).

وأمّا قاعدة ـ أصل ـ الطهارة : فهي وإن كانت أيضا من القسم الرابع من المباحث الأصوليّة إلّا أنّها حيث كانت متسالما عليها ولم تكن خلافيّة لم تذكر في الأصول ، وأمّا كونها مختصّة ببعض أبواب الفقه ـ كما في الكفاية (٢) ـ فلا يصير وجها لعدم الذّكر ، إذ المناط في كون المسألة أصوليّة كونها متوقّفا عليها الاستنباط في الجملة لا في جميع أبواب الفقه ، وكثير من المسائل الأصوليّة من هذا القبيل ، كمسألة الضدّ والنهي عن العبادة واجتماع الأمر والنهي ، فإنّها مختصّة ببعض أبواب الفقه حيث لا تجري في بعض الحدود والدّيات وأمثالها ممّا لم يكن في البين أمر ونهي.

وربما يقال في وجه خروج قاعدة الطهارة عن البحث : إنّ النجاسة والطهارة ليستا بأمرين مجعولين ، كالملكيّة والزوجيّة حتى يكون الشكّ فيهما شكّا في التكليف ، بل هما أمران خارجيّان تكوينيّان كشف عنهما الشارع وجعلهما موضوعا للأحكام من وجوب الاجتناب وجواز الشرب والوضوء وغير ذلك ، وحينئذ تكون الشبهة موضوعيّة خارجة عن محلّ الكلام.

والجواب : أنّه إن كان المراد أنّ الشارع أخبر بما له خاصّيّة خارجيّة من دون أن تكون تلك الخاصّيّة موجبة لحدوث ملاك في جعلهما ، فهو خلاف ظاهر أخبار الباب. وإن كان المراد إخباره بما له خاصّيّة توجب ذلك ، فهو عين أنّهما مجعولان ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه يقع الكلام أوّلا في الأصل الثاني من هذه الأصول الأربعة ، وهو

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ و ١٩٢.

(٢) كفاية الأصول : ٣٨٤.

٢٦١

أصل البراءة ، ومورده ـ كما ذكرنا ـ هو الشكّ في أصل الإلزام ، وجوبيّا كان أو تحريميّا مع عدم البيان من الشارع ، كان منشأ الشكّ عدم النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين أو اشتباه أمور خارجيّة بناء على التوقّف مع عدم مرجّح في البين.

والحاصل : مورد البراءة هو الشكّ في أصل الإلزام مع عدم نهوض الحجّة عليه أيّا ما كان منشأ الشكّ. نعم إذا كان منشأ الشك هو اشتباه الأمور الخارجيّة ، فالبحث عنه استطرادي ، فإنّه غير داخل في المسائل الأصوليّة ، لعدم كونه ممّا يتوقّف عليه الاستنباط.

وقد أخرج صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ صورة تعارض النصّين ـ بناء على التخيير ـ عن محلّ الكلام.

ولا وجه له على إطلاقه ، فإنّ التخيير ـ على القول به ـ مختصّ بالروايتين المتعارضتين ، لمكان الروايات الواردة في ذلك ، أمّا إذا لم يكن التعارض بين الروايتين ، بل كان بين نصّين آخرين ، فلا دليل على التخيير ، ولا وجه له ، فكان عليه أن يخرج عن محلّ الكلام صورة تعارض الروايتين مع عدم المرجّح بناء على التخيير ، لا مطلق ما كان منشأ الشكّ فيه تعارض النصّين ، سواء كانا روايتين أو غيرهما ، كما هو مقتضى إطلاق كلامه.

وبالجملة ، مناط البحث في جميع هذه الأقسام واحد ، فلا وجه لإفراد البحث عن كلّ واحد من هذه الأقسام كما فعله شيخنا العلّامة الأنصاري ، وقسّم مورد البراءة إلى أقسام ثمانية : ما كان منشأ الشكّ عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه أو اشتباه الأمور الخارجيّة ، وكانت الشبهة في كلّ منها وجوبيّة أو

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٨٥.

٢٦٢

تحريميّة (١) ، نظرا إلى اختصاص بعض أدلّة المقام بخصوص بعض هذه الأقسام ، مثل قولهعليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٢) فإنّه مختصّ بالشبهة التحريميّة.

وكيف كان فقد وقع الكلام في جريان البراءة وعدمه في المقام بين الأصوليّين والأخباريّين ، فذهب الأصوليّون كلّا إلى الأوّل ، والأخباريّون طرّا إلى الثاني.

والظاهر أنّ النزاع بينهما مختصّ بالشبهات التحريميّة ، وأمّا الوجوبيّة فلم يستشكل أحد في جريان البراءة فيها إلّا المحدّث الأمين الأسترآبادي من الأخباريّين على ما نسب إليه (٣).

وقد استدلّ على البراءة بالأدلّة الأربعة.

أمّا الكتاب : فبآيات أظهرها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٤) وتقريب الاستدلال بها أنّ بعث الرسول كناية عن إتمام الحجّة والبيان ، وهذا نظير قولك : «لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذّن المؤذّن» فإنّه كناية عن دخول الوقت. وليس المراد منه مجرّد بعث الرسول ولو لم يتمّ الحجّة على الأمّة ولم يخرج من داره أصلا ، قطعا ، وظاهر (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) ليس مجرّد نفي التعذيب ، بل ظاهره ـ كما يظهر لمن لاحظ نظائره من قوله تعالى : (ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)(٥) وقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٩٢.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٩٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧.

(٣) انظر : فرائد الأصول : ٢٢٧.

(٤) الإسراء : ١٥.

(٥) مريم : ٢٨.

٢٦٣

هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(١) و «ما كان زيد يفعل كذا» ـ هو أنّ التعذيب مع عدم إتمام الحجّة وبعث الرسول لا يليق بنا وبعيد عن ساحتنا ولا يناسب مقام رأفتنا ، فالآية ـ على ذلك ـ تدلّ على أنّ التعذيب مع عدم إتمام الحجّة والبيان لا يناسب مقام الربوبي ، ولا يصحّ على الله تبارك وتعالى.

وبهذا التقريب الّذي قرّبناه يندفع ما قيل من أنّ ظاهر الآية هو الإخبار بعدم فعليّة العذاب ووقوعه على الأمم السالفة بعد إتمام الحجّة ، فيختصّ بالعذاب ، الدنيوي ، ولا يشمل العذاب الأخروي الّذي هو محل الكلام.

وهكذا يندفع ما أورد في المقام من أنّها لا تدلّ على عدم استحقاق العذاب ، الّذي نحن بصدده ، بل تدلّ على عدم فعليّة العذاب مع عدم البيان.

ووجه الاندفاع : ما عرفت من أنّ تركيب (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وأمثاله ممّا وقع لفظ «كان» في حيّز النفي ظاهر في عدم صحّة صدور الفعل عمّن نفي عنه ، لا عدم صدوره عنه خارجا ، فظاهر الآية أنّه لا يصحّ على الله تعالى العذاب مع عدم إتمام الحجّة ، لا أنّه لا يعذّب.

فلا يرد الإشكال الثاني ، لأنّ المنفي صحّة العذاب لا فعليّته ووقوعه خارجا ، ومن الواضح أنّه يصح مع الاستحقاق ، فعدم صحّة العذاب مختصّ بصورة عدم استحقاق المكلّف للعذاب.

ولا يرد الإيراد الأوّل أيضا ، لعدم الفرق بين الأمم في صحّة العذاب وعدمها مع عدم البيان ، ولا بين الدنيويّ منه والأخروي بعد ما أنكرنا ظهور الآية في عدم وقوع العذاب على الأمم السالفة مع عدم البيان ، وأثبتنا ظهورها في عدم صحّته مع عدم البيان.

__________________

(١) التوبة : ١١٥.

٢٦٤

ولو سلّمنا ظهورها في عدم وقوع العذاب الدنيويّ فقط ، فنقول : إنّ العذاب الأخروي لكونه أشدّ منه بمراتب فأولى بالعدم مع عدم إتمام الحجّة.

وبالجملة ، دلالة الآية على عدم صحّة العذاب مع عدم إتمام الحجة والبيان ظاهرة لا ينبغي الشكّ فيها إلّا أنّها مع ذلك لا ترفع الغائلة بين الأخباري والأصولي ، فإنّ الأخباري يسلّم هذه الكبرى ولا يدّعي أنّ العقاب على ما لم تتمّ عليه الحجّة من المولى صحيح ، بل ينكر الصغرى ويدّعي أنّ مورد الشكّ في التكليف ليس من مصاديق هذه الكبرى ، لتماميّة الحجّة ، وهي ورود روايات دلّت على لزوم الاحتياط ، مثل : «قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١) و «أخوك دينك فاحتط لدينك» (٢) فلا بدّ من بيان عدم دلالة هذه الروايات ، وأنّ الأمر بالاحتياط في جميعها للإرشاد ، كما يأتي إن شاء الله ، وأنّه على تقدير دلالتها فهي معارضة بما هو أقوى منها من الأخبار الدالّة على البراءة ، فهذه الآية لا يمكن الاستدلال بها على البراءة إلزاما للأخباري.

وأمّا السنّة فروايات :

منها ـ وهي العمدة ـ : حديث الرفع ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والطيرة ، والحسد ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق» (٣) ومحلّ الشاهد هو فقرة «ما لا يعلمون».

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٤٧٤ ـ ١٩٠٤ ، الوسائل ٢٠ : ٢٥٩ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث ٢.

(٢) أمالي الطوسي : ١١٠ ـ ١٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

(٣) الخصال : ٤١٧ ـ ٩ ، التوحيد : ٣٥٣ ـ ٢٤ ، الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب ـ

٢٦٥

وتقريب الاستدلال يستدعي تقديم مقدّمة ، وهي : أنّ أمر الحكم ـ واقعيّا كان أو ظاهريّا ـ بيد الشارع من حيث الوضع والرفع ، فله رفع الحكم الواقعي واقعا كما أنّ له وضعه ، وكما أنّ له أن يجعل حكما ظاهريّا إلزاميّا ، كإيجابه الاحتياط ، أو ترخيصيّا ، كقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» (١) إلى آخره في ظرف الشّك في الحكم الواقعي على ما بيّنّا في المباحث السابقة من عدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي ، كذلك له أن يرفع الحكم الواقعي ظاهرا في ظرف الشكّ في الحكم الواقعي ، وتكون نتيجة هذا الرفع عدم إيجاب الاحتياط ، والترخيص الظاهري في ارتكاب الشبهة والاقتحام فيها ، وعدم التضييق على المكلّفين بإلزامهم على حفظ الملاكات الواقعيّة ، فإنّ رفع اليد عن الإلزام الواقعي ظاهرا لا يكون ترخيصا ظاهريّا لكنّه يلازم ذلك ولا ينفكّ عنه.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ ظاهر الحديث أنّ الرفع وارد على «ما لا يعلمون» والمراد من الموصول هو نفس الأحكام الواقعيّة ، فإنّها هي المجهولة لنا ، وحينئذ يكون مقتضى الحديث الشريف مرفوعيّة كلّ ما هو مجهول لنا من الأحكام ظاهرا لا واقعا ، فإنّ رفع الحكم الواقعي واقعا في ظرف الجهل به ينافي ما عليه العدليّة من اشتراك الأحكام بين العالمين بها والجاهلين ، فما هو المرفوع نفس الأحكام الواقعيّة المجهولة لا إيجاب الاحتياط ـ كما يظهر من الشيخ (٢) قدس‌سره ـ وإن كانت نتيجته هو عدم إيجاب الاحتياط ، والترخيص الظاهري وعدم المؤاخذة على الاقتحام ، إذ لا فرق بين الترخيص الواقعي

__________________

ـ جهاد النّفس ، الحديث ١.

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) فرائد الأصول : ١٩٧.

٢٦٦

والظاهري في كون كل منهما بيانا وإذنا في الاقتحام ، فلا يصحّ العقاب على الاقتحام بعد الإذن فيه ، فمفاد الحديث في الواقع وضع حكم ترخيصي ظاهري كما في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» (١) بلسان رفع الإلزام الواقعي المجهول ، فعلى هذا دلالة الحديث الشريف على جواز الاقتحام في الشبهة وترك ما هو محتمل الوجوب وفعل ما هو محتمل الحرمة واضحة لا ينبغي الشّك فيها.

ثمّ إنّ تماميّة الاستدلال بالحديث متوقّفة على كون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الحكم المجهول ، أمّا لو كان المراد منه الموضوع المشتبه ، فلا يتمّ الاستدلال به للبراءة في الشبهات الحكميّة ، بل يدلّ على البراءة في الشبهات الموضوعيّة التي لا كلام في جريان البراءة فيها ، وكل من الأخباري والأصولي قائل بجريان البراءة فيها.

وقد ذكر لكون المراد من الموصول الموضوع المشتبه وجوه :

منها : أنّ وحدة السياق تقتضي ذلك ، إذ المراد من الموصول في «ما استكرهوا عليه» و «ما اضطرّوا» و «ما لا يطيقون» هو الفعل لا الحكم ، ضرورة أنّه لا معنى للاضطرار إلى الحكم أو الاستكراه عليه ، فهذه العناوين من عوارض الفعل الخارجي لا الحكم ، فيكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» أيضا هو الفعل الخارجي بمقتضى وحدة السياق.

وفيه : أنّ المراد من لفظ «ما» في جميع الفقرات هو أمر واحد ، وهو «شيء» ف «ما لا يعلمون» معناه : الشيء الّذي لا يعلمون ، و «ما اضطرّوا إليه» مفاده : الشيء الّذي اضطرّوا إليه ، وهكذا في سائر الفقرات ، فلفظ «ما» استعمل

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٢٦٧

في معنى واحد ومفهوم فارد ، غاية الأمر بحسب الخارج لا ينطبق «ما اضطرّوا إليه» إلّا على الفعل والشيء المجهول غير المعلوم [وهو] ينطبق على الحكم والفعل الخارجي معا ، والسياق واحد ، ولا يقتضي أن يكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الموضوع المشتبه.

ومنها : أنّ إسناد الرفع إلى «ما لا يعلمون» حقيقي ، وإلى «ما لا يطيقون» و «ما استكرهوا عليه» وغيرهما إسناد إلى غير ما هو له ، فإنّ المراد من رفعها هو رفع الحكم المتعلّق بها ، ولا مانع من اختلاف الفقرات في ذلك وكون الإسناد في بعضها حقيقيّا وإلى ما هو له وفي بعضها الآخر مجازيّا وإلى غير ما هو له ، لوجود القرينة ، وهي أنّ هذه العناوين غير عنوان «ما لا يعلمون» من المقطوع أنّها غير مرفوعة خارجا ، فالمراد من رفعها ـ بهذه القرينة ـ رفع أحكامها إلّا أنّ صدر الرواية حيث إنّه هكذا : «رفع عن أمّتي تسعة» وأسند الرفع إلى التسعة فلا بدّ من أن يكون هذا الإسناد إمّا حقيقيّا أو مجازيّا ، ولا يمكن كونه حقيقيّا ومجازيّا معا ، فاللازم حينئذ أن يكون المراد من «ما لا يعلمون» ـ الّذي هو أحد مصاديق التسعة المسندة إليها الرفع ـ هو الفعل المشتبه والموضوع المجهول حتى يكون الإسناد في جميع مصاديق التسعة إسنادا مجازيّا وإلى غير ما هو له ، لئلا يلزم الحقيقة والمجاز معا في إسناد واحد ، وهو إسناد الرفع إلى التسعة.

وفيه : أنّ المراد من الرفع في الحديث الشريف ليس هو الرفع التكويني الخارجي قطعا ، بل المراد منه هو الرفع في عالم التشريع ، والرفع بهذا المعنى يصحّ إسناده إلى الموضوع الخارجي والفعل المشتبه بلا عناية ولا مئونة قرينة أصلا ، وهو في مقابل الوضع في عالم التشريع الّذي هو بمعنى جعل الفعل على ذمّة المكلّف وعلى عهدته. يقال : الصلاة موضوعة وثابتة في الشريعة لغير الحائض ، وهي مرفوعة عنها كذلك ، حقيقة وبلا عناية ، وإتيانها الصلاة في

٢٦٨

الخارج وعدمه لا دخل لهما في صحّة هذا الإسناد على نحو الحقيقة ، فوضع الفعل في الشريعة كتبه على العباد وجعله على رقبتهم ، كأنّه حمل حمل عليهم ، كما في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) نظير ما يقال : إنّ هذا المال على زيد ، أي : ثابت في ذمّته ولو لا يعطي خارجا أبدا ، ورفع الفعل في الشريعة عدم جعله على رقبتهم وعدم تحميلهم بهذا الحمل بحيث يكونون أحرارا في اختياراتهم.

فظهر أنّ إسناد الرفع إلى جميع هذه العناوين المذكورة في الحديث على نحو الحقيقة ، فلا وجه لإرادة خصوص الموضوع المشتبه من الموصول في «ما لا يعلمون» هذا أوّلا.

وثانيا : لو سلّم اختلاف الفقرات في الإسناد من حيث الحقيقة والمجاز ، فلا نسلّم لزوم الحقيقة والمجاز كليهما في إسناد الرفع إلى لفظ التسعة ، بل الإسناد فيه مجازي ، نظير ما لو قيل : الله والربيع أنبتا البقل ، حيث أسند الإنبات إلى ضمير التثنية ، الراجع إلى الله الّذي إسناد الإنبات إليه حقيقي ، والربيع الّذي إسناد الإنبات إليه مجازي ، وذلك لأنّ الإسناد الحقيقي عبارة عن إسناد الفعل أو شبهه إلى ما هو له ، وهذا لا يتحقّق إلّا فيما يكون المسند إليه ممّا هو له بجميع أفراده ، أمّا لو لم يكن بعض أفراده كذلك كالمثال ، فلا يكون المسند إليه ممّا هو له ، فلا يكون الإسناد حقيقيّا ، إذ المركّب من الداخل والخارج خارج ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الإسناد على نحوين باعتبار مصاديق المسند إليه ، وانحلال هذا الإسناد الواحد بإسنادات متعدّدة حسب تعدّد مصاديق المسند إليه في الواقع لا ربط له بمقام اللفظ والتركيب الكلامي الّذي هو المناط في الحقيقة

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٢٦٩

والمجاز.

وبالجملة ، إسناد الرفع إلى التسعة التي ليس بعض مصاديقها ممّا هو له إسناد مجازي ، فلا يلزم أن يكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الموضوع المشتبه.

ومنها : أنّ متعلّق الرفع لا بدّ وأن يكون أمرا ثقيلا ، فما لا ثقل فيه لا يناسب إسناد الرفع إليه ، كما يظهر من موارد استعمال الرفع ، ومن الواضح أنّه لا ثقل في نفس الحكم المجهول ، وإنّما الثقل في متعلّقه ، فهو المناسب لإسناد الرفع إليه.

وفيه : أنّ الرفع كما يسند إلى الأمر الثقيل بلا عناية كذلك يسند إلى سبب الثقل وما يترتّب عليه بلا عناية ، فيصحّ أن يقال : ما هو سبب للثقل وموجب لجعل المكلّف في كلفة الفعل وثقله ـ وهو التكليف ـ مرفوع. وهكذا يصحّ أن يقال : ما يترتّب على الفعل الحرام الثقيل على المكلّف ـ وهو العقاب والمؤاخذة ـ مرفوع ، كما يصحّ أن يقال : الفعل المضطرّ إليه مرفوع ، بلا عناية أصلا.

ومنها : أنّ الرفع والوضع ضدّان أو متقابلان تقابل العدم والملكة ، وأيّا ما كان لا يمكن ورود أحدهما على الآخر ، فلا يمكن ورود الرفع على الوضع الّذي هو عبارة عن نفس التكليف.

وبعبارة واضحة : الوضع والرفع يتواردان على مورد واحد ، ومن الواضح أنّ الوضع يتعلّق بالفعل الخارجي ، فإنّه الّذي يوضع في ذمّة المكلّف ويثبت في عهدته ويكتب عليه ، كما في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) فلا بدّ

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٢٧٠

من أن يتعلّق الرفع أيضا بالفعل ، فهو المرفوع في ظرف الجهل عن الأمّة ، وأمّا التكليف والحكم فلا يوضع في ذمّة المكلّف ولا يجعل على رقبته ولا يثبت في عهدته حتى يكون مرفوعا بمقتضى الحديث.

والجواب : أنّ متعلّق الوضع والرفع يختلف باختلاف ظرفهما ، فإن كان ظرف الوضع والرفع هو عهدة المكلّف وذمّته ورقبته ، فيكون المتعلّق هو الفعل في كليهما ، فإنّه الّذي هو ثابت في الذمّة أو مرفوع عنها ، وإن كان ظرف الوضع والرفع هو الدين والشريعة ، فالمتعلّق هو نفس الحكم ، فإنّه الّذي هو ثابت في الشريعة المقدّسة وموضوع في الدين ، وظاهر الحديث أنّ ظرف الرفع هو الدين وأنّه رفع عن أمّتي في دين الإسلام والشريعة المقدّسة تسعة أشياء ، ويؤيّد ذلك لفظ «عن أمتي» المشعر باختصاص الرفع بهذه الأمّة من دون سائر الأمم وفي هذا الدين دون سائر الأديان ، فالمرفوع هو نفس الحكم المجهول.

ومنها : أنّ الحديث شامل للشبهات الموضوعيّة بلا كلام ، فلو كان شاملا للشبهات الحكميّة أيضا ، لزم أن يستعمل لفظ «ما» في «ما لا يعلمون» في معنيين : الموضوع والحكم ، وهو إمّا غير جائز أو خلاف الظاهر.

والجواب : أوّلا : ما ذكرناه سابقا من أنّ المراد بالموصول هو «الشيء» فالمعنى شيء واحد ، وهو مفهوم «الشيء» غاية الأمر ينطبق تارة على الفعل الخارجي وأخرى على الحكم.

وثانيا : نلتزم بأنّ المراد من الموصول هو الحكم فقط ، سواء كان كلّيّا أو جزئيّا ، فيشمل الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ الموضوع المشتبه بواسطة أمور خارجيّة أيضا ممّا لا نعلم حكمه الجزئي فهو مرفوع ، ولا فرق في الجهل بالحكم الكلّي والجزئي

٢٧١

إلّا في أنّ منشأ الأوّل هو إجمال النصّ أو فقدانه مثلا ، ومنشأ الثاني هو اشتباه الأمور الخارجيّة ، وهذا لا يكون فارقا.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ دلالة الحديث على البراءة ـ فيما شكّ في وجوبه وحرمته ولم نظفر على دليل يدلّ عليه بعد الفحص ـ تامّة ، ولا يرد عليه شيء من الإيرادات الواردة المذكورة.

بقي هناك أمور راجعة إلى فقه الحديث ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : ربما يقال : إنّ الرفع يستعمل فيما له وجود في الزمان السابق على الرفع ، ولا يستعمل فيما لا وجود له كذلك ، وإنّما هو مورد استعمال الدفع إذا كان مقتضي الوجود موجودا ، ففي مقام بيان أنّ الحكم غير مجعول في الشريعة في ظرف عدم العلم به مثلا لا يصحّ استعمال الرفع ، بل هو مورد استعمال الدفع ، كما لا يخفى.

وأجاب عن هذا الإشكال شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بأنّ كلّا من الرفع والدفع يصحّ استعماله في الآخر ، فإنّهما حقيقة واحدة على ما هو الحقّ المحقّق في محلّه من أنّ البقاء كالحدوث يحتاج إلى المؤثّر ، إذ على ذلك ما يرفع البقاء في الحقيقة هو المزاحم لتأثير مقتضي البقاء ، والمانع عن الوجود الثاني ، فالرافع في الحقيقة يدفع عن الوجود الثاني ، ويمنع عن تأثير علّة البقاء ، وإذا كانا حقيقة واحدة فيصحّ استعمال كلّ منهما في الآخر ، فيصحّ قوله عليه‌السلام : «رفع عن أمّتي تسعة ... ما لا يعلمون» إلى آخره (١).

وهذا الّذي أفاده ـ قدس‌سره ـ وإن كان كلاما متينا في نفسه لكنّه لا يفيدنا في المقام شيئا ، إذ كونهما حقيقة واحدة لا يوجب صحّة استعمال أحدهما في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٧٠.

٢٧٢

الآخر في اللغة بعد أن وضع لفظ «الرفع» لقسم خاصّ من الدفع ، وهو ما يكون رافعا لخصوص مقتضي البقاء عن تأثيره.

فالصحيح في الجواب أن نلتزم بأحد أمرين :

إمّا بأنّ هذه العناوين المذكورة في الحديث من الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وغيرها كانت محكومة بأحكام في الشرائع السابقة ورفعت عن هذه الأمّة ، كما يستشعر ذلك من لفظ «عن أمّتي» فتلك الأحكام التي كانت ثابتة في الشرائع السابقة كانت مرفوعة بهذا الحديث الشريف.

أو بأنّ الرفع كما يستعمل في المزاحم لتأثير مقتضي البقاء كذلك يستعمل في العرف في دفع مقتضي الحدوث إذا كان تامّا بحيث كاد أن يقع في الخارج ، كما يقال : «رفع البلاء بالدعاء فيما إذا توجّه البلاء وكاد أن ينزل فدعا الناس فلم ينزل وارتفع».

وبالجملة ، يصحّ استعمال الرفع في مقام بيان أنّ الحكم غير مجعول باعتبار وجود مقتضية وكونه بهذه المثابة.

الثاني : أنّ نتيجة الرفع في «ما لا يعلمون» ـ حيث إنّه رفع ظاهري والواقع محفوظ على حاله ـ ليست إلّا عدم إيجاب الاحتياط ، الملازم للترخيص الظاهري ، كما عرفت ، وعلى هذا لو دلّ دليل بعمومه أو إطلاقه على شرطيّة شيء أو جزئيّة شيء للصلاة ـ مثلا ـ في ظرف الجهل لا يمكن التمسّك بحديث الرفع لرفع الشرطيّة أو الجزئيّة ، فإنّ هذا الدليل يرفع موضوع حديث الرفع ، وهو الشكّ في الحكم ، لكونه واردا أو حاكما عليه على الخلاف ، وبعد ما لم يكن المكلّف شاكّا في الحكم بمقتضى الدليل فلا يبقى مجال للتمسّك بالأصل الّذي أخذ في موضوعه الشكّ في الحكم ، وهكذا لو ظفرنا بالدليل المذكور بعد إجراء البراءة والعمل على طبقها ، لا يصحّ التمسّك بالحديث

٢٧٣

لإثبات صحّة الصلاة المأتيّة الفاقدة للمشكوك شرطيّته أو جزئيّته ، بل يكون مقتضى القاعدة بطلانها ، وتبتني صحّتها على دليل آخر من إجماع أو غيره ، ويصير صغرى من صغريات مسألة اقتضاء الأمر الظاهري الإجزاء وعدمه.

هذا كلّه بالإضافة إلى «ما لا يعلمون» وأمّا بالقياس إلى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطرّوا إليه وما لا يطيقونه : فنتيجة الرفع فيها هي تخصيص أدلّة الأحكام الواقعيّة المترتّبة على موضوعاتها بما إذا لم يعرض عليها هذه العوارض ، إذ الرفع حينئذ رفع واقعي موجب لتضييق دائرة الأحكام الواقعيّة ، فدليل حرمة الكذب مثلا الشامل بعمومه أو إطلاقه للكذب الصادر عن الخطأ أو النسيان مثلا يخصّص بالكذب الّذي لا يكون كذلك ، وأمّا الكذب الخطئي أو الصادر عن نسيان فلا حرمة له واقعا بمقتضى هذا الحديث.

هذا إذا تعلّقت وطرأت هذه الطوارئ على موضوعات الأحكام التي رتبتها من الأحكام رتبة العلّة من المعلول ، كما إذا ورد «تجب الكفّارة على من أتى أهله في نهار شهر رمضان» فإنّ الإتيان موضوع لوجوب الكفّارة ، وأمّا إذا عرضت على متعلّقات الأحكام فإن كان الحكم التكليفي المتعلّق بها انحلاليّا وبنحو مطلق الوجود كما في موارد الحرمة ، فنتيجة الرفع فيها أيضا تخصيص أدلّة الأحكام الواقعيّة بغير ما تعلّق به هذه الأمور ، إذ الرفع واقعي ، فيكون مقتضى حديث الرفع عدم حرمة شرب الخمر الصادر عن خطأ أو نسيان.

وإن كان بنحو صرف الوجود ، كقوله : «أكرم عالما» فإذا تعلّق الإكراه ـ مثلا ـ بفرد من هذه الطبيعة المأمور بها بنحو صرف الوجود ، لا يكون الأمر بالطبيعة مرفوعا بحديث الرفع ، فإنّ المفروض أنّ الإكراه لم يتعلّق بما هو مأمور به ، وهو الطبيعة ، وما تعلّق به الإكراه ـ وهو الفرد ـ لا يكون مأمورا به حتى يرتفع حكمه بسبب كونه مكرها عليه.

٢٧٤

نعم ، إذا تعلّق الإكراه بأصل الطبيعة أينما سرت وفي ضمن أيّ فرد تحقّقت ، فيرتفع حكمها بحديث الرفع. وهكذا لا إشكال في ارتفاع الحكم التكليفي ـ كحرمة القتل ـ بحديث الرفع.

هذا كلّه فيما إذا تعلّقت هذه الأمور بالمأمور به بالأمر الاستقلالي ، أمّا في المأمور به بالأمر الضمني ، كما إذا أكره المكلّف على التكلّم في صلاته ، فالكلام فيه أيضا هو الكلام ، فإنّ المكلّف موظّف بالإتيان بالصلاة غير المقرونة مع التكلّم ، فيما بين الحدّين : الزوال والمغرب ، فإذا أكره على فرد من الطبيعة المأمور بها ، لا يرتفع الأمر المتعلّق بأصل الطبيعة إلّا إذا تعلّق الإكراه بأصل الطبيعة أو بالفرد المنحصر الّذي لا يمكن تحقّق الطبيعة إلّا في ضمنه ، كالإكراه الواقع على الفرد المأتيّ به في آخر الوقت من الصلاة.

وممّا ذكر ظهر أنّه لا يجوز التمسّك بحديث الرفع لرفع حكم الخلل الواقع في الصلاة عن إكراه أو نسيان أو غيرهما من العوارض الخمسة ، فلا يرفع بحديث الرفع جزئيّة ما اعتبرت جزئيّته أو شرطيّة ما اعتبرت شرطيّته ـ مثلا ـ إذا عرضت عليها هذه العوارض ، بل لا بدّ من إيجاد الطبيعة في ضمن فرد آخر واجد لما اعتبر فيها.

نعم ، لقائل أن يقول : ما اعتبر في العبادة بنحو من الاعتبار من الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة أو القاطعيّة يرتفع في صورة طروّ هذه الطوارئ على أصل الطبيعة أو الفرد المنحصر تحقّق الطبيعة فيه بحديث الرفع ، فإنّ مقتضاه أن لا يكون المقيّد أو المركّب مأمورا به ، فلازمه رفع الجزء أو القيد في هذه الحال.

لكن عند التأمّل يظهر أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ مقتضى الحديث رفع الأمر المتعلّق بهذه العشرة أجزاء مثلا ، لا إثبات الأمر لذات أجزاء تسعة. وبعبارة أخرى : حديث الرفع يرفع ما لولاه لكان ثابتا ، وهو وجوب الصلاة مع السورة

٢٧٥

حتى حال الإكراه على تركها ، وأمّا إثبات أنّ الصلاة بلا سورة مأمور بها في هذه الحال فأجنبيّ عن مدلول الحديث.

ولا يقاس المقام بجواز التمسّك به لرفع جزئيّة غير معلوم الجزئيّة ، فإنّ القياس مع الفارق ، إذ في باب الأقلّ والأكثر يعلم إجمالا بوجود الأمر المردّد بين تعلّقه بتسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فنفس التكليف معلوم ، والشكّ في سعته وضيقه ، وأمّا في المقام : فالشكّ في أصل التكليف بذات أجزاء تسعة ، ولا يتكفّل حديث الرفع لإثبات كونها مأمورا بها.

والسرّ في ذلك : أنّ الأجزاء والقيود ليست مأمورا بها بالأمر الاستقلالي حتى ترفع بعروض هذه العوارض عليها ، بل إنّما هي مأمور بها بالأمر المتعلّق بالمجموع والمقيّد من حيث هو ، فالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة إنّما جاءت من قبل الأمر بالمركّب والمقيّد ، فارتفاعها أيضا لا بدّ أن يكون من قبل ارتفاع هذا الأمر ، وليست هي بأنفسها أحكاما وضعيّة مستقلّة حتى ترتفع بأنفسها بلا احتياج إلى ارتفاع الأمر بالمركّب أو المقيّد.

فظهر أنّ مقتضى القاعدة هو بطلان الصلاة المكره على ترك جزء من أجزائها أو قيد من قيودها ، وهكذا مقتضى القاعدة هو بطلان الصوم إذا أكره الصائم على الأكل أو الشرب وصدر عن نفسه ، فلا بدّ في إثبات الصحّة من التماس دليل آخر غير حديث الرفع.

لا يقال : مقتضى حديث الرفع رفع الفعل المستكره عليه أو المضطرّ إليه في عالم التشريع ، كما في «لا ربا بين الوالد والولد» و «لا شكّ لكثير الشكّ» فالتكلّم في الصلاة عن إكراه أو اضطرار كالتكلّم مع الله تعالى ليس بمبطل للصلاة ، فإنّ المبطل هو الكلام والشارع لا يرى هذا مصداقا للكلام ، وهكذا الأكل والشرب عن إكراه أو اضطرار في نهار رمضان غير مفسد للصوم ، لذلك.

٢٧٦

فإنّه يقال : إنّ المراد من الرفع في الحديث بحسب الفهم العرفي هو رفع الأحكام الثابتة للفعل بعنوانه الأوّلي ، الشاملة لحال الإكراه والاضطرار لو لا حديث الرفع عند عروض العنوان الثانوي عليه من الإكراه أو الاضطرار أو غير ذلك ، ولا يفهم من الحديث أنّ الكلام الصادر عن إكراه ليس بكلام ، أو الكذب الصادر عن اضطرار ليس بكذب ، بل المراد أنّه كلام وكذب ، ولا يترتّب عليه أحكام الكلام والكذب ، وذلك لأنّ المرفوع هو الفعل المعنون بهذه العناوين ، فإنّها أخذت مفروضة الوجود ، ولو كان المراد رفعه بمعنى أنّه لا يكون مصداقا للكذب في عالم التشريع ، تنعكس النتيجة ، إذ المنفي هو الكذب المضطرّ إليه أو الخطئي أو الصادر عن نسيان ، فنفيه نفي للأحكام الثابتة للكذب المضطرّ إليه والصادر عن خطأ أو نسيان.

وبالجملة ، الصلاة المضطرّ إلى التكلّم فيها ـ مثلا ـ لا تكون مشمولة لحديث الرفع ، سواء استوعب الاضطرار الوقت أو لم يستوعب ، وهكذا سائر العبادات الواقعة فيها خلل من فقدان جزء أو شرط أو وجود مانع ، فلو لم يكن هناك دليل آخر على الصحّة مثل «لا تعاد الصّلاة إلّا من خمس» يحكم بالبطلان.

وهذا واضح بعد ما ذكرنا من الأمرين في تضاعيف كلماتنا :

أحدهما : أنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة كما لا يمكن جعلها إلّا بجعل منشأ انتزاعها ، فإنّ جعلها مستقلّا غير معقول ، كذلك لا يمكن رفعها إلّا برفع منشأ انتزاعها ، فمعنى رفع الجزئيّة عن السورة رفع الأمر المتعلّق بالصلاة مع السورة ، كما أنّ جعلها عبارة عن جعل الصلاة مع السورة.

وثانيهما : أنّ المستفاد من الحديث بحسب الفهم العرفي هو رفع الأحكام الثابتة للفعل بعنوانه الأوّلي بعد طروّ العنوان الثانوي عليه ، لا إثبات

٢٧٧

حكم آخر للفعل بعنوانه الثانوي ، فإنّ الحديث ناف لا مثبت.

بقي توهّم رفع حكم وجوب قضاء الصلاة المضطر إلى التكلّم فيها ، أو الصوم المكره على الأكل فيه ، نظرا إلى أنّه أيضا أحد الأحكام الثابتة للصلاة والصوم قبل عروض الاضطرار أو الإكراه ، فيكون مرفوعا بعروض ذلك ، وسيجيء الجواب عنه.

هذا كلّه في العبادات ، وقد عرفت أنّ حديث الرفع لا يرفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة فيها.

والّذي يوضّح مدّعانا غاية التوضيح هو : أنّ الحكم الوجوبيّ أو التحريمي يصحّ أن يقال : إنّه ثابت على المكلّف أو مرفوع عنه ، وهكذا الفعل الواجب يصحّ أن يقال : ثابت عليه أو مرفوع عنه ، وكما يقال : عليه دين أو ليس عليه دين ، كذلك يقال : مات زيد وعليه صوم أو صلاة ، أو ليس عليه صوم أو صلاة ، فالحكم الوجوبيّ أو التحريمي وهكذا الفعل الواجب يصحّ أن يقال : ثابت عليه أو مرفوع عنه ، وهذا بخلاف الفعل الحرام ، فإنّه لا يصحّ وضعه على المكلّف بأن يقال : شرب الخمر ثابت على المكلّف ، فلا يصحّ رفعه في عالم التشريع أيضا بأن يقال : شرب الخمر مرفوع عن المكلّف.

وحينئذ نقول : لو كان الحديث مختصّا بخصوص الواجبات ، لكان ظاهرا في رفع ذات الفعل وذات الموضوع في عالم التشريع ، ولكان من قبيل «لا ربا بين الوالد والولد» ولكن حيث إنّه ليس كذلك بل هو عامّ شامل للواجبات والمحرّمات والمعاملات فلا معنى لكونه رافعا للفعل الحرام في عالم التشريع إذا تعلّق به الإكراه أو الاضطرار ، فلا مناص عن كونه رافعا لموضوعيّة الموضوع ، بمعنى أنّه ينفي كون شرب الخمر عن إكراه موضوعا للحرمة ، وهذا ملازم لكونه رافعا للحكم ، فإنّهما متضايفان من قبيل الأبوّة

٢٧٨

والنبوّة.

وما صدر عنّا سابقا من أنّ المرفوع هو الفعل ليس بوجيه ، وعلى هذا فالرفع وارد على موضوعيّة الفعل الخطئي أو الصادر عن إكراه أو اضطرار أو نسيان للحكم الثابت عليه بعنوانه الأوّلي ، فالكلام الصادر عن إكراه في الصلاة رفعه معناه رفع موضوعيّته للحكم الوضعي ، وهو المانعيّة ، وقد عرفت أنّها غير قابلة للرفع مستقلّا ، وأنّ رفعها رفع لمنشإ انتزاعه ، وهو الأمر المتعلّق بالصلاة المقيّدة بترك الكلام فيها ، وهذا لا يستلزم إثبات الأمر بالصلاة المقرونة مع الكلام عن إكراه.

ومنه يظهر حال المعاملات وأنّه لو أكره البائع على البيع باللغة الفارسية ـ لو قلنا ببطلانه حال الاختيار ـ لا يمكن إثبات صحّته بحديث الرفع. وهكذا لو أكره على تقديم القبول على الإيجاب ، إذ لا حكم شرعيّ لتقديم القبول على الإيجاب أو البيع باللغة الفارسيّة حتى يرتفع برفع موضوعيّة هذا البيع له.

نعم ، لو كان هذا البيع حراما ، لارتفع حرمته بحديث الرفع.

الأمر الثالث : قد عرفت أنّ الرفع يرد على موضوعيّة الفعل لحكم ثابت له بعنوانه الأوّلي والثانوي لو لا حديث الرفع ، ويرفع موضوعيّته لهذا الحكم عند عروض العنوان الثانوي من الإكراه والاضطرار والخطأ وغير ذلك ، وذكرنا أنّ الحديث لا يرفع الحكم الثابت للعنوان الثانوي ، فإن كان الفعل بعنوانه الثانوي محكوما بحكم ، كالتكلّم سهوا في الصلاة ، الّذي هو موضوع لوجوب سجدتي السهو ، لا يرفع هذا الحكم بالحديث ، ضرورة أنّ مقتضي وجود الشيء لا يكون مقتضيا لعدمه أيضا ، والعنوان الثانوي حينئذ مثبت للحكم ، فكيف يكون معدما له!؟

الأمر الرابع : أنّ الرفع في غير «ما لا يعلمون» لا بدّ أن يرد على الفعل

٢٧٩

الصادر عن المكلّف ، الّذي يكون في رفع حكمه برفع موضوعيّته له امتنان ، فما لا يكون كذلك ـ بأنّ لا يكون فعلا متعلّقا للحكم أو كان ولم يكن في رفعه امتنان ـ فلا يشمله حديث الرفع ، فالنجاسة الحاصلة للماء من ملاقاة يد المكلّف ، النجسة نسيانا لا يمكن رفعها بحديث الرفع ، فإنّ النجاسة حكم للملاقاة الخارجيّة ولو حصلت بسبب الريح.

نعم ، ربّما تحصل بفعل المكلّف ولكنّه بما هو ليس موضوعا للحكم ، فلا نحتاج في إخراجه من عموم الحديث إلى الإجماع.

وهكذا وجوب القضاء المترتّب على الإفطار عمدا ـ مثلا ـ لا يمكن رفعه إذا كان الإفطار العمدي عن إكراه أو اضطرار ـ مثلا ـ فإنّه مترتّب على الإفطار العمدي بأيّ سبب كان وإن كان ربّما يحصل بسبب الإكراه.

نعم ، لو كان الإكراه بنحو أخرج الفعل عن كونه إفطارا عمديّا بأن يصبّ الماء في حلقه بحيث لا يمكنه أن لا يشرب ، لا يجب القضاء ، لعدم تحقّق موضوعه ، كما لا يجب لو أفطر نسيانا أو سهوا ، وهذا بخلاف الكفّارة ، فإنّها مترتّبة على الإفطار الّذي هو فعل المكلّف ، فيرتفع إذا صدر عن إكراه أو اضطرار بحديث الرفع. فاندفع إشكال عدم الفرق بين الحكمين : وجوب الكفّارة ، ووجوب القضاء الّذي أشرنا إليه سابقا ، وانقدحت مشموليّة الأوّل لحديث الرفع دون الثاني.

وهكذا لا ترتفع صحّة البيع الواقع عن اضطرار ، إذ ليس في رفع هذا الحكم الوضعي امتنان أصلا ، كما لا يخفى ، وهذا بخلاف البيع الواقع عن إكراه ، فإنّه لا مانع من شمول حديث الرفع له ، لورود الرفع على الفعل ، وثبوت الامتنان في الرفع ، والفرق بينهما في غاية الوضوح حيث إنّ المضطرّ إلى بيع داره لو كان بيعه باطلا بمقتضى حديث الرفع لازمه أن يموت من الجوع

٢٨٠