الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

المذكورين لو كانت بما هم رواة لا بما هم أهل العلم لكان لإثبات المطلوب بالإجماع المركّب وجه لكنّه ليس كذلك ، فمن هذه الجهة لا إشكال فيه ولكن فيه ما عرفت آنفا من أنّ المراد من الفقيه هو مطلق أهل اللسان لا معناه المصطلح في هذا العصر على الفرض.

وثانيا : أنّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم لا وجوب قبول الجواب تعبّدا ، فإنّ العرف لا يفهمون من قولك : «سل إن كنت جاهلا» إلّا رفع الجهل بالجواب ، وهذا الجواب متين جدّاً.

ثمّ إنّ ظاهر الآية ـ بمقتضى السياق ـ أنّ المراد من أهل الذّكر هو علماء أهل الكتاب ، وفسّر في الأخبار المستفيضة بالأئمّة (١) سلام الله عليهم أجمعين ، ولا منافاة بينهما أصلا ، لأنّ أهل الذّكر هم الذين يرجع إليهم ويحتجّ بقولهم ، فبالقياس إلى علائم النبوّة وصفات النبيّ ، التي هي مكتوبة في التوراة كان علماء اليهود ـ لاطّلاعهم على جميع ذلك ـ من أهل الذّكر ، الذين يرجع إليهم اليهود ، ويحتجّون بقولهم وإن كان الأئمّة سلام الله عليهم أيضا عالمين بها ، بل هم عليهم‌السلام أعم وأخبر بذلك منهم بمراتب إلّا أنّهم عليهم‌السلام حيث كانوا من فروع النبوّة لا يصحّ الاحتجاج بقولهم في علائم النبوّة وصفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم أهل الذّكر بالنسبة إلى الأحكام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّ الفقهاء أهل الذّكر بعدهم سلام الله عليهم.

ومن الآيات قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٢).

وحاصل الاستدلال بها : أنّ الله تبارك وتعالى مدح رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتصديقه

__________________

(١) انظر : الوسائل : ٢٧ : ٦٢ ، أحاديث الباب ٧ من أبواب صفات القاضي.

(٢) التوبة : ٦١.

٢٢١

للمؤمنين ، بل قرنه بالتصديق بالله ، وإذا كان التصديق حسنا كان واجبا ، فيجب تصديق الجائي بالخبر إذا كان مؤمنا.

وفيه : أنّ المراد بتصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله للمؤمنين ليس قبول قولهم تعبّدا من دون حصول العلم بصدقهم وترتيب آثار الواقع على كلّ ما سمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم بدون ذلك ، لأنّ مورد الآية هو تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقول النمّام الّذي أخبر الله تعالى بنميمته ، فصدّقه وأحضر النمّام وسأله فأنكر وحلف على ذلك فقبل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدّقه في ذلك مع علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه كاذبا ، وكيف يمكن مع ذلك أن يترتّب آثار الواقع على قوله!؟ فمدحه بتصديقه للمؤمنين كان من جهة حسن ظنّه بهم وعظم خلقه حيث كان لهم يتّهم الكاذب ولا يعارضه بكذبه ولا يخجله بين الناس بأن يقول له : «أنت كاذب في كلامك» بل كان يعامل معه بحسب الظاهر معاملة المصدّق ويظهر القبول منه بما ينفعه ولا يضرّ غيره ، ولا يكذّبه ولا يؤذيه في الظاهر ، كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : «يا محمد (١) كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا ، وقال : لم أقله ، فصدّقه وكذّبهم» (٢) الخبر ، فإنّه لا معنى لتصديق الواحد مع شهادة خمسين قسامة على خلافه إلّا ما ذكر من إظهار القبول منه وتصديقه بما ينفعه ولا يضرّهم ، كما أنّ المقصود من تكذيبهم تكذيبهم فيما يضرّه ولا ينفعهم ، لا ترتيب آثار الصدق واقعا عليه والكذب عليهم.

ثمّ إنّ شيخنا العلّامة الأنصاري ـ أعلى الله مقامه ـ استشهد لذلك بتغيير الأسلوب واختلاف السياق في الآية حيث عبّر عن تصديقه تبارك وتعالى

__________________

(١) هو محمد بن الفضيل الراوي عن الإمام أبي الحسن الرضاع.

(٢) الكافي ٨ : ١٤٧ ـ ١٢٥ ، عقاب الأعمال : ٢٩٥ (باب عقاب الذين.). الحديث ١ ، الوسائل ١٢ : ٢٩٥ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٤.

٢٢٢

بالإيمان بالله ، وعن تصديق قول المؤمنين بالإيمان لهم بتعدية الإيمان بالباء في الأوّل وباللام في الثاني ، المشعر بأنّ التصديق يكون فيما ينفعهم ولا يضرّ غيرهم (١).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ مادّة «آمن» إذا عدّيت بالباء ، فمعناها هو التصديق بالشخص ، وإذا عدّيت باللام ، تفيد التصديق بالقول ، فإذا قيل ، «آمن به» يكون معناه صدّق بوجوده ، بخلاف ما إذا قيل : «آمن له» فإنّ معناه أنّه صدّق قوله ، فالإيمان في قوله تعالى : (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) حيث عدّي باللام يراد منه بحسب تتّبع موارد استعمالاته أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يصدّق قولهم ، ولا يكون المراد منه أنّه يصدّق بوجودهم حتى يتعدّى بالباء ، إذ لا معنى لتصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجود المؤمنين ، فلا تصحّ تعديته بغير اللّام ، فلا يكون شاهدا على ما ذكره قدس‌سره.

والنكتة في تعدية الإيمان في قوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) بالباء دون اللام ـ مع أنّ مقتضى ما ذكرنا هو التعدية باللام ، إذ المراد منه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يصدّق قوله تعالى وقولهم ، لا أنّه يصدّق بوجوده تعالى وبقولهم ـ لعلّها أنّ التصديق بوجود الله تعالى ملازم للتصديق بقوله وجميع صفاته الكماليّة ، بخلاف التصديق بوجود المؤمنين ، فإنّه لا يلازم التصديق بقولهم ، كما هو أوضح من أن يبيّن.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٨٣.

٢٢٣
٢٢٤

فصل :

في الأخبار التي استدلّ بها لحجّيّة الخبر الواحد.

لا يخفى أنّ الاستدلال بالأخبار يتوقّف على قطعيّة صدورها ، وهي إمّا بتواترها لفظا بأن تكون بألفاظها منقولة بكثرة امتنع تواطؤ الناقلين على الكذب ، أو معنى بأن يكون معنى مشتركا بين جميعها منقولا كذلك أو إجمالا بأن يكون واحد منها مقطوع الصدور ، فيؤخذ بأخصّها مضمونا ، فإن دلّ الأخصّ على حجّيّة الأعمّ ، كما إذا كان مفاد الأخصّ حجّيّة خبر الثقة العادل ووجدنا خبرا كذلك دلّ على حجّيّة مطلق خبر الثقة ، فنتمسّك به ، ونثبت حجّيّة خبر الثقة مطلقا.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ أنكر القسم الثالث (١) ، ولا وجه له ، ضرورة أنّا لا نحتمل كذب جميع الأخبار التي تكون في الوسائل أو في الكتب الأربعة ، بل نقطع بصدور جملة منها قطعا وجدانيّا لا يشوبه شكّ ولا ريب.

وهي ـ على ما جمعها وضبطها شيخنا العلّامة الأنصاري أعلى الله مقامه وشكر الله سعيه ـ على طوائف أربع :

الأولى : هي الأخبار العلاجيّة الواردة في مقام تعارض الأخبار ، فإنّها تدلّ على أنّ حجّيّة الأخبار غير القطعية مفروغ عنها عند أصحاب الأئمّة سلام الله عليهم أجمعين ، وإنّما سؤالاتهم كانت للعلاج في مقام التعارض بين الخبرين غير القطعيّين ، إذ لا يمكن التعارض بين القطعيّين ، وما يكون أحدهما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١١٣.

٢٢٥

قطعيّا والآخر ظنّيّا لا إشكال في تقدّم القطعيّ على غيره.

الثانية : ما ورد في مقام إرجاعهم عليهم‌السلام شيعتهم إلى ثقاتهم وأصحابهم (١) مع أنّ الرجوع إليهم لا يوجب العلم بالحكم الواقعي الصادر عنهم عليهم‌السلام.

الثالثة : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرّواة والثقات.

الرابعة : الأخبار المتفرّقة الدالّة بمجموعها على جواز العمل بالخبر الواحد.

ولا يخفى أنّ أخصّ تلك الأخبار مضمونا هو ما دلّ على جواز العمل بخبر الثقة العادل ، ولا ريب في كونها متواترة إجمالا ، فمقتضاها حجّيّة خبر الثقة العادل ، فلو كان في البين خبر بهذه المثابة دالّ على حجّيّة مطلق خبر الثقة ، نأخذ به ، ونحكم بجواز العمل بخبر مطلق الثقة ، ولا نحتاج إلى كونها. متواترة معنى في ذلك وإن ادّعى شيخنا الأستاذ تواتر خصوص الأخبار الدالّة على جواز العمل بخبر الثقة معنى (١) ، ولا يبعد. فالإنصاف أنّ دلالة الأخبار على حجّيّة خبر الثقة مطلقا ولو لم يكن بعادل ولا إماميّ تامّة إمّا للتواتر المعنوي أو الإجمالي.

نعم ، لا تدلّ تلك الأخبار على حجّيّة خبر الضعيف ، المنجبر بالشهرة ، فلا بدّ لإثبات ذلك من التماس دليل آخر.

__________________

(١) أقول : لا دلالة لما ورد في مقام إرجاعهم عليهم‌السلام على ما نحن فيه من حجّيّة الخبر غير المحفوف بالقرينة على الصدق ، فإنّ إرجاع الإمام عليه‌السلام إلى الأشخاص المعلومين يكشف عن أنّهم بمثابة من الوثاقة والعدالة وغيرهما من الصفات لا يحتمل الكذب في إخبارهم عادة ، وليس الكلام في حجّيّة مثله. (م).

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١١٤.

٢٢٦

فصل :

في الإجماع على حجّيّة الخبر.

ويمكن تقريبه بأحد وجوه خمسة :

الأوّل : دعوى الإجماع القولي من جميع العلماء ـ في مقابل السيّد وأتباعه ـ على ذلك ، نظرا إلى أنّ مخالفته حيث إنّه معلوم النسب لا يضرّ بالإجماع.

الثاني : دعوى الإجماع حتى من السيّد وأتباعه على ذلك بملاحظة أنّ السيّد إنّما لا يعمل بالأخبار الآحاد من جهة أنّه يرى انفتاح باب العلم في زمانه ، لأنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور ، لاحتفافها بالقرائن القطعيّة ، أمّا في أمثال زماننا ممّا انسدّ فيه باب العلم فلا يمنع من العمل بالخبر الواحد.

الثالث : دعوى اتّفاق الأصحاب على العمل بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة.

الرابع : دعوى جريان سيرة العلماء خلفا عن سلف بلا اختلاف بينهم أصلا.

الخامس : دعوى جريان سيرة المسلمين المسمّاة بسيرة المتشرّعة.

ولا يخفى عدم تماميّة شيء من هذه الوجوه لو لا السيرة العقلائيّة مع اختلاف مشرب المجمعين في المبنى ومذاقهم في العمل ، فإنّ كلّا يتمسّك بدليل خاصّ ويعمل بوجه مخصوص يخصّ به بحيث لا يمكن كشف قول المعصوم عليه‌السلام أو دليل معتبر أو إمضاء للسيرة المتشرّعة ولعمل المسلمين بما

٢٢٧

هم مسلمون لا بما هم عقلاء.

فالعمدة هو سادس الوجوه ، وهو : جريان سيرة العقلاء فيما يرجع إلى أمور دنياهم وعقباهم على العمل بالخبر المفيد للوثوق ، ولا ريب ولا كلام في حجّيّة هذه السيرة طبعا لو لا ردع الشارع عنه ، إذ الشارع رئيس العقلاء ، فإذا رأى أنّهم يعاملون مع الخبر المفيد للوثوق معاملة الخبر المقطوع الصدور ويعتنون به كالاعتناء بذلك ، فلو لم تكن هذه الطريقة مرضيّة له ، فعليه أن يردعهم ويشدّد النكير على طريقتهم ويمنع أشدّ المنع عن سيرتهم ، كما فعل في القياس حيث بلغت الروايات الواردة في المنع عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية ، بل لا بدّ وأن يكون المنع عن العمل بالخبر الواحد الموجب للاطمئنان بمراتب أشدّ من المنع عن العمل بالقياس ، لأنّ اعتناءهم بالخبر المفيد للوثوق أكثر وأشدّ بمراتب من اعتنائهم بالقياس ، فإذا لم يردع الشارع عن مثل هذه السيرة ، نستكشف منه رضاه بذلك.

وإنّما الكلام في أنّه هل ثبت ردع من الشارع عن هذه السيرة أم لا ، وربّما يقال : إنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، مثل : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢) وأمثال ذلك كافية في الردع.

وأجاب في الكفاية عن هذا الإشكال بأجوبة ، أحدها في متن الكتاب والآخران في هامشه.

الأوّل : أنّ مردوعيّة السيرة بالآيات الناهية دوريّة ، فإنّها متوقّفة على عدم كون الآيات مخصّصة بالسيرة ، وهو متوقّف على مردوعيّة السيرة.

ثمّ أورد على نفسه سؤالا ، وهو : أنّ مخصّصيّة السيرة للآيات أيضا

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) يونس : ٣٦ ، النجم : ٢٨.

٢٢٨

كذلك ، فإنّها متوقّفة على عدم مردوعيّتها ، وهو يتوقّف على مخصّصيتها لها.

وأجاب : بأنّه يكفي في تخصيص السيرة للآيات عدم ثبوت الردع لا عدم الردع واقعا (١).

وفيه أوّلا : عدم كفاية عدم ثبوت الردع في حجّيّة السيرة ، ضرورة أنّ عدم الثبوت لا يثبت رضى الشارع عليه‌السلام وإمضاءه لها ، ومن البيّن أنّ السيرة لا تتّصف بالحجّيّة إلّا إذا أمضاها الشارع ، فإنّا لسنا عبيد العقلاء ، حتى يكون عملهم حجّة لنا بدون إمضاء الشارع لها ، فإذا لم يثبت إمضاؤه المستكشف من عدم ردعه عنها فلم تثبت حجّيتها ، فلا بدّ من إحراز عدم الردع لإثبات الإمضاء ولو من طريق «عدم الدليل دليل العدم» ولا يكفى عدم ثبوت الردع في ذلك.

وثانيا : أنّ عدم ثبوت التخصيص كاف في رادعيّة الآيات عن السيرة ، بداهة أنّ دليل العامّ حيث انعقد له ظهور (١) في العموم يجب اتّباع هذا الظهور والعمل بالعموم ما لم تثبت حجّة أقوى على خلافه ، فحجّيّة العامّ في العموم لا تتوقّف على عدم التخصيص واقعا أو إحرازه ، بخلاف ، حجّيّة السيرة ، فإنّها تتوقّف على إحراز عدم الردع عنها ولو من باب أنّه لو كان لبان ، فالأمر على عكس ما أفاده قدس‌سره.

الثاني : أنّا نستصحب عدم الردع المتيقّن قبل نزول الآيات إلى زمان نزولها ، ونحكم بحجّيّة السيرة ونخصّص بها الآيات (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

(٢) أقول : وجود السيرة العقلائية في زمان نزول الآيات مانع عن تحقّق الظهور للآيات في العموم ، فلا ينعقد لها ظهور ، فإنّ السيرة كالمخصّص المتّصل اللفظي ، فالحقّ أنّ الآيات غير رادعة ، وأنّ السيرة مخصّصة لها. (م).

(٣) كفاية الأصول : ٣٤٩ ، الهامش (١).

٢٢٩

أقول : هذا بعد الفراغ عن حجّيّة الاستصحاب ، فلا ينافي ما أفاده في بحث الاستصحاب من تقدّم العمومات والآيات الناهية عن العمل بغير العلم على السيرة العقلائية الجارية في العمل بالاستصحاب ، إذ لا يمكن التمسّك باستصحاب السيرة لإثبات حجّيّة نفس الاستصحاب ، بخلافه في المقام ، فإنّه لإثبات حجّيّة خبر الواحد بعد الفراغ عن حجّيّة الاستصحاب.

الثالث : أنّ المقام صغرى من صغريات بحث تقدّم الخاصّ زمانا على العامّ ، وقد ثبت في ذلك المبحث ـ أي العمل بالخاص ـ تقدّم الخاصّ على العامّ وتخصيصه به (١).

وفي كلا الوجهين نظر ظاهر ، فإنّ جريان الاستصحاب وبناء العامّ على الخاصّ المتقدّم يحتاج إلى إحراز إمضاء الشارع للسيرة قبل نزول الآيات ولو بساعة أو ساعتين حتى تكون السيرة حجّة وموردا لإمضاء الشارع في زمان ، فنستصحب حجّيّته إلى نزول الآيات ، أو نخصّص بها العامّ المتأخّر ، وأنّى لنا بإثبات ذلك.

نعم ، لو أحرزنا عدم الردع في أوّل زمان يمكن للشارع الردع ، يتمّ ذلك ، لكنّك عرفت أنّه لا طريق لنا لإحراز ذلك.

فالحقّ في الجواب أنّ يقال : إنّ السيرة لو كانت نسبتها إلى العمومات نسبة الحاكم إلى المحكوم ، فلا ريب في حجّيتها ما لم يردع عنها الشارع بالخصوص ولم يهتمّ بالنكير على العمل بها ، ولا يكفي مجرّد ورود عامّ على خلافها في ردعها ، وهذا كما في العمل بالظواهر والأقارير ، وذلك لأنّ العقلاء حيث لا يرون العمل بالظواهر والأقارير مصداقا للعمل بغير العلم ، بل العمل بها

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ و ٣٤٩ ، الهامش.

٢٣٠

عندهم هو العمل بالعلم ، لا يلتفتون إلى شمول العامّ لها ، ولا تنتقل أذهانهم إلى ذلك حتى يرتدعوا بورود العامّ على خلافه ، فلا بدّ من التنبيه عليه بالخصوص ، كما فعل في القياس ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ العقلاء لا يرون العمل بالخبر المفيد للوثوق عملا بغير العلم حتى يرتدعوا بمجرّد نزول قوله تعالى : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) فلا تكفي الآيات للرادعيّة عن مثل هذه السيرة.

نعم ، لو لم تكن نسبة السيرة إلى العامّ نسبة الحاكم إلى المحكوم ، كما لو جرت السيرة على كذب الهزل وقام دليل على حرمة الكذب مطلقا ، يكفي نفس إطلاق هذا الدليل لرادعيّة السيرة الجارية على كذب الهزل ، ولا يلزم التنبيه عليه بالخصوص ، لأنّ كذب الهزل أيضا كالجدّ كذب عند العقلاء.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ دلالة بعض الآيات والأخبار والسيرة العقلائيّة على حجّيّة الخبر الموثوق الصدور تامّة غير قابلة للإنكار.

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

٢٣١
٢٣٢

فصل :

في الوجوه العقليّة التي استدلّ بها على حجّيّة أخبار الآحاد :

أحدها : أنّه نعلم ـ من شدّة اهتمام الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في تهذيب الأخبار وضبطها وتعيين رواتها وتميز ثقاتهم عن غيرهم وكثرة التعب في ذلك ـ علما إجماليّا بصدور كثير من الأخبار الموجودة في كتبنا المعتبرة بمقدار واف بمعظم الفقه ، ومقتضاه وجوب العمل بجميع هذه الأخبار.

وتوضيح هذا الوجه بوجه يسلم عمّا أورده عليه الشيخ (١) قدس‌سره وقرّره شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره ـ من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات من الشهرات والإجماعات المنقولة وأمثالها لا في خصوص هذه الأخبار ـ : أنّ لنا علوما إجماليّة ثلاثة :

الأوّل : العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في الشريعة المقدّسة ، ومنشأ هذا العلم هو العلم بثبوت أصل الشريعة ، فإنّه ملازم مع هذا العلم.

ولا يخفى أنّ كلّ ما يحتمل فيه التكليف من المظنونات والموهومات والمشكوكات يكون من أطراف هذا العلم.

الثاني : العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في ضمن أخبارنا الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة والموجودة في صحاح العامّة وفي ضمن الشهرات والإجماعات المنقولة وسائر الأمارات الظنّيّة ، ومنشأ هذا العلم تراكم هذه الأمارات الكثيرة المتقنة ، ودائرة هذا العلم أضيق من الأوّل ، لخروج

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١١٧ ـ ١٢٠.

٢٣٣

المشكوكات والموهومات عن أطراف هذا العلم.

الثالث : العلم الإجمالي بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة ، ومنشأ هذا العلم ما ذكرناه من شدّة الاهتمام بجمعها وتنقيحها وتهذيبها عن الأخبار المدسوسة ، وهذا العلم أضيق دائرة من الكلّ ، لخروج سائر الأمارات فضلا عن المشكوكات والموهومات.

وبعد ذلك نقول : لا ريب في عدم تنجيز العلم الإجمالي الأوّل الّذي هو أوسع دائرة من الكلّ ، لانحلاله بالعلم الثاني المتوسّط بينه وبين الأخير ، فإنّا إذا نقصنا مقدار المعلوم بالإجمال من أطراف العلم الإجمالي الثاني وأفرزنا طائفة من الأمارات كذلك ، أي بمقدار المعلوم بالإجمال ، ثمّ لاحظنا سائر الأمارات والمشكوكات والموهومات ، نرى أنّه ليس لنا علم إجمالي آخر بوجود تكليف واحد فضلا عن تكاليف في غير تلك الطائفة من الأمارات ، فبذلك نستكشف انحلال العلم الأوّل ، ووجود جميع التكاليف المعلومة لنا بالإجمال في ضمن هذه الأمارات بحيث تكون الشبهات في غيرها شبهات بدويّة. فظهر عدم تنجيز العلم الإجمالي الأوّل بسبب انحلاله بالعلم الثاني.

وكذا لا ريب في انحلال العلم الإجمالي الثاني وعدم تنجيزه بسبب العلم الإجمالي الثالث ، وذلك لأنّا إذا أفرزنا طائفة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة ، الدالّة على الأحكام الإلزاميّة بمقدار المعلوم بالإجمال ثمّ لاحظنا سائر الأمارات من الأخبار والإجماعات المنقولة والشهرات التي لا تكون موافقة (١) في المضمون مع ما أفرزناه من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة بأن كان الخبر دالّا على وجوب شيء والإجماع المنقول ـ مثلا ـ على

__________________

(١) فإنّ ما يكون موافقا تكفينا الأخبار بالقياس إليه. هامش الأصل.

٢٣٤

حرمة ذلك الشيء بعينه أو العكس ، نرى بالوجدان أنّه ليس لنا علم إجمالي بوجود تكليف واحد فضلا عن تكاليف بين هذه الأمارات الدالّة على أحكام إلزاميّة مخالفة لما دلّت عليه تلك الأخبار التي أفرزناها من الأحكام. وهذا ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه. وبهذا يندفع ما أورده الشيخ ـ قدس‌سره ـ حيث لا يلزم الاحتياط في جميع الأمارات ، فمن هذه الجهة لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال من جهة أنّه لا يفيد فيما نحن بصدده ونريده إثباته ، وهو حجّيّة الخبر بمعنى ترتيب جميع آثار الدليل الاجتهادي عليه من تقدّمه على جميع الأصول العمليّة وبعض الأصول اللفظيّة ، بمعنى تخصيص العمومات وتقييد المطلقات ـ مثلا ـ به.

توضيح ذلك : أنّ هذه الأخبار بين ما يكون مثبتا للتكليف الإلزاميّ وبين ما يكون نافيا له.

فما يكون مثبتا للتكليف ، فإنّ كان الأصل العملي في مورده من الأصول المثبتة للتكليف وموافقا له ، فالقائل بحجّيّة الخبر والقائل بعدم حجّيّته كلّ منهما يعمل على طبق مضمونه.

وإن كان الأصل العملي في مورده مخالفا له بأنّ يكون الأصل نافيا للتكليف فحيث لا تجري الأصول العمليّة النافية للتكليف ـ سواء كانت أصولا تنزيليّة ، كالاستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز بناء على كونهما من الأصول لا الأمارات ، أو غير تنزيليّة ، كأصالة الطهارة وغيرها ـ في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف ـ لأنّه تلزم منه المخالفة القطعيّة لو أجريناها في جميع الأطراف ، أو الترجيح بلا مرجّح لو أجريت في بعضها ـ يجب العمل على طبق مضمون الأخبار ، ولا فرق في ذلك أيضا بين من يقول بحجّيّة هذه الأخبار ومن لا يقول بها.

٢٣٥

وما يكون نافيا للتكليف من هذه الأخبار ، فإن كان الأصل العملي في مورده موافقا له بأن يكون نافيا للتكليف ، ففي هذا الفرض أيضا لا تفاوت بين القولين ، ولا تظهر ثمرة في البين ، إذ كلّ من الفريقين يعمل على طبق مضمون الأخبار.

وإن كان الأصل العملي في مورده مخالفا له بأن يكون مثبتا للتكليف ، فإن كان الأصل في جميع الأطراف من الأصول غير التنزيليّة كقاعدة الاشتغال ، فلا إشكال في جريانه في أطراف العلم الإجمالي ، لأنّه لا تلزم منه مخالفة قطعيّة عمليّة ، إذ المفروض أنّ المعلوم بالإجمال هو الحكم الترخيصي ، فلا يلزم من جريان الأصل في جميع الأطراف الترخيص في المعصية ، فمقتضى ما أفاده هذا المستدلّ من وجوب الاحتياط في جميع ما بأيدينا من الأخبار هو العمل على مقتضى الأصل في هذا الفرض ، ورفع اليد عمّا دلّت عليه الأخبار.

وإن كان الأصل في جميع الأطراف من الأصول التنزيليّة ، كالاستصحاب ، أو كان في بعض الأطراف كذلك وفي بعضها من غيرها ، فإن بنينا على جريانها في أطراف ما علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف ـ كما هو الحقّ ، وذهب إليه صاحب الكفاية (١) قدس‌سره ـ ففي هذا الفرض أيضا يجب رفع اليد عن الأخبار النافية للتكليف ، والعمل بمقتضى الأصل الجاري في مورده.

وإن أنكرنا ذلك ـ كما أنكره الشيخ (٢) قدس‌سره ، ووافقه شيخنا الأستاذ (٣) قدس‌سره ـ فيجوز العمل على طبق مضامين تلك الأخبار ، ففي الفرض السابق والفرض الأخير على أحد التقديرين رفعنا اليد عن تلك الأخبار ، وقدّمنا الأصل العملي

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٣ ـ ٣١٤ وهامش ٣١٤ ، وص ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

(٢) فرائد الأصول : ٢١.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٩ ـ ٥٣.

٢٣٦

مع أنّ الثمرة بين القول بالحجّيّة وعدمها إنّما تظهر فيهما ، فلم تثبت حجّيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة ووجوب العمل بها مطلقا ولو كان في قبالها أصل عملي مخالف لها. هذا كلّه في الأصول العمليّة التي تكون في مواردها.

أمّا الأصول اللفظيّة التي تكون في مواردها ونقطع باعتبارها من كتاب أو سنّة متواترة أو خبر محفوف بالقرينة القطعيّة ، فإن كانت موافقة لمضمون الخبر ، فلا كلام.

وإن لم تكن موافقة له ، فذهب صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ إلى وجوب العمل بمقتضى الأصل اللفظي من عامّ أو إطلاق أو خاصّ أو مقيّد ، فلو كان هناك أصل لفظي أيّا ما كان ، قطعي الاعتبار ، دالّ على خلاف ما تضمّنه الخبر الواحد ، يرفع اليد عن الخبر ، ويعمل على طبق الأصل مطلقا ، سواء كان مثبتا للتكليف أو نافيا ، فيخصّص أو يقيّد لو كان الخبر عامّا أو مطلقا ، ولا يخصّصه ولا يقيّده لو كان الأصل كذلك ، وكلّ ذلك لأجل أنّ ظواهر الكتاب وما في حكمها حجّة يجب العمل بمقتضاها ما لم تقم حجّة أقوى على خلافها ، والمفروض أنّ الخبر لم تثبت حجّيّته بالخصوص ، وإنّما وجب العمل به من جهة كونه طرفا للعلم الإجمالي ، فلا يقاوم ما يكون حجّة بالخصوص (١) ، هذا.

والحقّ أنّ ما أفاده ـ قدس‌سره ـ على إطلاقه ليس بسديد ، وأنّ حال الأصول اللفظيّة بعينها حال الأصول العمليّة بلا تفاوت بينهما في محلّ الكلام ، والكلام هو الكلام ، فكما لا يجري الأصل العملي النافي للتكليف في مورد العلم الإجمالي بالتكليف ، للزوم المخالفة القطعيّة العمليّة ، والترخيص في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٧٤.

٢٣٧

المعصية ، كذلك تسقط الأصول اللفظيّة النافية للتكليف في هذا المورد ، لعين هذا المحذور ، إذ كما يلزم من إجراء أصالة الطهارة في كلّ من المائعين ـ اللذين علم إجمالا بنجاسة أحدهما ـ الترخيص في المعصية كذلك يلزم ذلك لو وجب اتّباع البيّنة القائمة على طهارة كلّ واحد منهما ، فلو كان الخبر مثبتا للتكليف ـ مثل النبوي المشهور «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر» (١) الدالّ على فساد البيع الغرري ـ يعمل على طبقه ، ويقيّد به إطلاق قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) وهذا هو مقتضى العلم الإجمالي بالتكليف الّذي هو بمنزلة العلم التفصيليّ به ، فلا يكون من قبيل تقديم غير الحجّة على الحجّة ، وكما تجري الأصول العمليّة المثبتة للتكليف ويعمل بمقتضاها ويرفع اليد عمّا دلّ عليه الخبر من نفي التكليف كذلك تجري الأصول اللفظيّة المثبتة للتكليف.

مثلا : لو وردت رواية متكفّلة لحكم ترخيصي ، كما إذا ورد أنّه «لا ربا بين الوالد والولد» لا يقيّد بها إطلاق قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(٣) بل يقدّم إطلاق الآية عليها ، ويحكم بحرمة مطلق الرّبا ، كان بين الوالد والولد أو لم يكن.

وبالجملة لا فرق بين الأصول اللفظيّة والعمليّة في جريانها في أطراف العلم الإجمالي وعدمه ، بل كلاهما من واد واحد.

بقي شيء ، وهو أنّه لو كان كلّ من الأصل ـ لفظيّا أو عمليّا ـ والخبر متكفّلا لحكم إلزامي مخالف للآخر ـ كما لو ورد في الخبر : لا تكرم الفاسق ، وورد في الدليل القطعي : أكرم العلماء ، فوقع التعارض بينهما في العالم الفاسق ـ فما ذا

__________________

(١) مصنّف عبد الرزّاق ٨ : ١٠٩ ـ ١٤٥٠٧ و ١٤٥٠٨ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٣٨ ، مسند أحمد ١ : ٤٩٧ ـ ٢٧٤٧.

(٢ و ٣) البقرة : ٢٧٥.

٢٣٨

يقتضي الاحتياط؟

وهذه المسألة من فروع العلم الإجمالي ، ولم يعنونها فيها أحد من الأصحاب فيما نعلم.

ومثاله الواضح : أن يحلف أحد حلفا وكان حلفه مردّدا بين وطء إحدى زوجاته وبين ترك وطئها وكان الحلف على الوطء مردّدا بين أن يكون متعلّقا بالزوجة الكبيرة أو المتوسّطة ، وعلى ترك الوطء مردّدا بين المتوسّطة والصغيرة ، فالمتوسّطة طرف للعلم الإجمالي بوجوب الوطء وللعلم الإجمالي بحرمة الوطء معا ، والكبيرة طرف للعلم الإجمالي الأوّل فقط ، والصغيرة طرف للعلم الثاني فقط.

والحقّ وجوب الاحتياط في الكبيرة والصغيرة ، والتخيير في المتوسّطة ، إذ بعد تساقط الأصول في الأطراف وتنجيز العلم الإجمالي يكون مقتضى القاعدة الاحتياط ، وحيث لا يمكن في المتوسّطة فيحكم بالتخيير ، لا لدوران الأمر بين المحذورين ، لأنّا نحتمل عدم تعلّق الحلف بالمتوسّطة أصلا ، بل لكونه شبيها بما إذا دار الأمر بين المحذورين في عدم إمكان الاحتياط ، ولا بدّ من الاحتياط في الكبيرة والصغيرة بمجرّد احتمال التكليف مع عدم المؤمّن من العقاب لا عقلا ولا شرعا.

ولا يقاس المقام بما إذا اضطرّ المكلّف بارتكاب أحد الأطراف حيث قيل بجواز ارتكاب الباقي ، لانحلال العلم الإجمالي بالاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف ، لأنّ العلم الإجمالي في المقام بواسطة تساقط الأصول ينجّز ، ويوجب الاحتياط ، والترخيص في ارتكاب بعض الأطراف إنّما نشأ من عدم إمكان الاحتياط ، فلا وجه لعدم الاحتياط فيما يمكن فيه الاحتياط ولم يكن مؤمّن من العقاب في ارتكابه لا عقلا ولا شرعا ، وهذا بخلاف باب الاضطرار ،

٢٣٩

فإنّه ربما يقال بعدم تساقط الأصول وعدم تنجيز العلم ، للاضطرار الموجب للترخيص في الارتكاب.

على أنّ لنا كلاما هناك أيضا يأتي في محلّه إن شاء الله.

فقد اتّضح تطبيق المقام مع المثال ، فإنّ العالم الفاسق مورد وطرف لعلمين إجماليّين : أحدهما : العلم بوجود تكاليف إلزاميّة فيما بين هذه الأخبار التي هذا الخبر الفرضي الدالّ على حرمة إكرام العالم الفاسق أحدها ، والثاني : هو العلم إجمالا ببقاء بعض الأدلّة القطعيّة المتكفّلة لأحكام إلزاميّة ، العامّة أو المطلقة على عمومه أو إطلاقه ، التي هذه الرواية القطعيّة الفرضيّة الدالّة على وجوب إكرام كلّ عالم إحداها ، فحينئذ يحكم بالتخيير في العالم الفاسق وبوجوب الاحتياط في غيره.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أنّ هذا التقريب لا يفيد لإثبات الحجّيّة للخبر ووجوب العمل به بحيث يقدّم على جميع الأصول المثبتة للتكليف لفظيّة كانت أو عمليّة.

ثانيها : ما عن صاحب الوافية ـ مستدلّا على حجّيّة الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة وغيرها ممّا يعتمد عليه الشيعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ـ من أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة بمثل الصلاة والصوم والحجّ وغيرها من الأصول الضروريّة ، ومن المعلوم أنّ أكثر أجزائها وشرائطها وموانعها لا يثبت إلّا بخبر الواحد بحيث لو تركنا العمل به نقطع بخروج هذه الماهيّات عن حقائقها ، ومن أنكر فإنّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان (١).

وأورد عليه الشيخ ـ قدس‌سره ـ بأنّ لازمه إمّا الاحتياط ، والعمل بكلّ أمارة دلّت

__________________

(١) الوافية : ٥٧.

٢٤٠