الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

منها :ما ذكرنا سابقا من أنّ مقتضى أدلّة اعتبار خبر الواحد إنّما هو حجّيّته فيما إذا كان المخبر به أمرا حسّيّا لا حدسيّا ، فلا يكون قول السيّد ـ قدس‌سره ـ حجّة ، لأنّ استناده إلى الإمام عليه‌السلام ليس من جهة رؤيته إيّاه ، بل من جهة الحدس عن رأيه.

ومنها : معارضة إخباره ـ قدس‌سره ـ عن قيام الإجماع على عدم الحجّيّة بإخبار الشيخ ـ قدس‌سره ـ عن حجّيّته بالإجماع ، وأدلّة الحجّيّة لا تشمل صورة المعارضة.

ومنها : أنّ الأدلّة لا تشمل خصوص خبر السيد ـ قدس‌سره ـ لخصوصيّة فيه وإن كان إخبارا عن أمر حسّيّ ولا يكون معارضا بإخبار الشيخ قدس‌سره ، وذلك لأنّ شمولها لخبر السيد ـ قدس‌سره ـ مستلزم لعدم شمولها له ، لأنّ ما أخبر به إنّما هو عدم حجّيّة خبر الواحد ، ومن المعلوم أنّ خبره أيضا مصداق له ، فيوجب عدم حجّيّته ، وما يلزم من دخوله خروجه فدخوله مستحيل.

وقد أجيب عن هذا الجواب : بأنّ عدم الحجّيّة ، الّذي هو المخبر به لا يشمل نفس خبر السيّد رحمه‌الله ، فإنّ شموله له يستلزم تقدّمه على عدم الحجّيّة رتبة تقدّم الموضوع على حكمه ، مع أنّ مقتضى كون عدم الحجّيّة مخبرا به ومحكيّا بهذه الحكاية كونه مقدّما على خبره رتبة تقدّم المحكي عن الحاكي ، وكونه مقدّما ومتأخّرا مستحيل ، فلا يشمل ما أخبر به لخبر نفسه.

وبعبارة أخرى : أنّ خصوص خبر السيّد ـ قدس‌سره ـ لا يمكن أن يكون داخلا في موضوع عدم الحجّيّة ، وإلّا يلزم تقدّمه على عدم الحجّيّة ، المخبر به ، لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، مع أنّ مقتضى كون عدم الحجّيّة مخبرا به ومحكيّا عنه : تقدّمه على خبره تقدّم كلّ محكي على الحاكي ، فيلزم من ذلك تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم.

٢٠١

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ عدم الحجّيّة ليس إلّا كسائر الأحكام الشرعيّة المجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة ، وكما أنّ الأحكام المجعولة ـ سواء كانت بنحو الجملة الخبريّة أو الإنشائيّة ـ تنحلّ إلى قضايا شرطيّة شرطها وجود الموضوع وجزاؤها ثبوت المحمول ، وتكون لها مرتبتان : مرتبة الجعل والإنشاء ، وفي هذه المرتبة لا يحتاج إلى وجود الموضوع ، ومرتبة المجعول والفعليّة ، التي تحدث بعد وجود الموضوع ، وفي هذه المرتبة تكون نسبة الحكم إلى الموضوع نسبة المعلول إلى علّته في التقدّم والتأخّر وإن لا يكون كذلك واقعا ، لعدم تأثير وتأثّر أصلا ، فلا بدّ أوّلا من ثبوت الموضوع ثمّ ثبوت الحكم عليه ، كذلك الحجّيّة وعدمها أيضا لها مرتبتان ، لعدم اختصاص ما ذكرنا بخصوص الأحكام التكليفيّة ، بل يجري في جميع الأحكام التي منها الحجّيّة ، ففي مرتبة الجعل لا يحتاج إلى وجود الموضوع ، ولكن في مرتبة المجعول يحتاج إليه.

وبما ذكرنا ظهر اندفاع الإشكال ، إذ المخبر به بخبر السيّد ـ قدس‌سره ـ ليس إلّا عدم الحجّيّة في مرتبة الجعل والإنشاء ، فإنّ السيّد رحمه‌الله يخبر بأنّ الحجّيّة لم تجعل لخبر الواحد ، ومن الواضح أنّ دخول نفس هذا الخبر تحت خبر الواحد الّذي أخبر بعدم حجّيّته لا يستلزم تقدّمه عليه ، لأنّ مقام الإنشاء لا يحتاج إلى وجود الموضوع ، بل يكفي مجرّد الفرض ، وعليه فلا يلزم من تقدّم عدم الحجّيّة على الخبر ـ لكونه محكيّا عنه ـ تقدّم المتأخّر ، ولا تأخّر المتقدم ، وعدم الحجّيّة الفعليّة وإن كان يحتاج إلى وجود الموضوع إلّا أنّه لم يخبر به السيّد رحمه‌الله حتى يقال بأنّ شموله لنفسه يحتاج إلى تقدّم خبره عليه وكونه محكيّا ليلزم تأخّره ، فالمخبر به ليس إلّا عدم الحجّيّة الإنشائيّة لكلّ ما فرض أنّه من أفراد الخبر ، ولا يحتاج ذلك إلى وجود خبر في العالم فكيف

٢٠٢

بخبر نفسه ، وبعد وجود الخبر خارجا يترتّب عليه عدم الحجّيّة الفعليّة ، وحينئذ يكون الجواب عن أصل الإشكال صحيحا.

ثمّ إنّ هذا المستشكل قد أجاب بنفسه عن أصل الإشكال بوجه آخر ، وهو : أنّ خبر السيّد رحمه‌الله لا يمكن أن يكون حجّة ، وذلك لأنّ الحجّيّة وعدمها حيث إنّهما متناقضان ، فهما في مرتبة واحدة ، فلو فرضت استحالة شمول عدم الحجّيّة لنفس الخبر ، لاستلزامه تقدّم المتأخّر وبالعكس ، يستحيل شمول الحجّيّة لهذا الخبر أيضا ، لأنّهما في مرتبة واحدة.

وفيه ـ مضافا إلى جريان ما ذكرنا في الحجّيّة أيضا ، إذ المقدّم إنّما هي الحجّيّة الإنشائيّة ، وهي لا تناقض الحجّيّة الفعليّة المتأخّرة عن خبر السيّد ـ قدس‌سره ـ حتى يلزم المحذور المذكور ـ أنّ ما ذكره من أنّ المتناقضين إذا كان أحدهما مقدّما على الآخر بالرتبة ، لزم تقدّم الآخر أيضا ، لأنّهما في مرتبة واحدة ، ممنوع.

نعم ، يصحّ ذلك في المتقارنين بالزمان ، فإذا كان أحد المتقارنين زمانا مقدّما على شيء ، فالمقارن الآخر لا بدّ وأن يكون مقدّما عليه ، لأنّ التقدّم الزماني بواسطة الزمان ، فالملاك الّذي أوجب تقدّم أحد المتقارنين على شيء ـ وهو تقدّم زمانه عليه ، إذ تقدّم نفسه عرضيّ بتبع الزمان ـ هو بعينه موجود في المقارن الآخر.

وأمّا المتساويان : فلا يكون تقدّم أحدهما على شيء ملازما لتقدّم الآخر عليه ، ضرورة أنّ الإحراق إذا كان متأخّرا عن وجود النار ، لكونها علّة له ، لا يستلزم أن يكون متأخّرا عن عدم النار ، الّذي هو في مرتبة النار أيضا ، وذلك لأنّ الملاك الموجب للتقدّم في النار إنّما هو العلّيّة للإحراق ، وهو مفقود في نقيضه ، فحينئذ تقدّم عدم الحجّيّة على خبر السيّد ـ قدس‌سره ـ رتبة لكونه محكيّا به

٢٠٣

لا يوجب تقدّم نقيضه ـ وهو الحجّيّة ـ عليه ، لفقد ملاك التقدّم ـ الّذي هو الحكاية ـ في نقيضه دونه.

هذا ، مع ورود النقض عليه بما لو أخبر أحد عن عدم حرمة الكذب ، فنقول : إنّ هذا الخبر صدق أو كذب؟ لا إشكال في أنّه كذب ، فنقول : هل يكون هذا الكذب حراما أم لا؟ لا يمكن أن نقول بعدم الحرمة ، لما ذكر من لزوم تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم ، فإذا كان حراما ، فيرد الإشكال بأنّه لو لم يكن كذبه مشمولا لعدم الحرمة فكيف يمكن أن يكون مشمولا للحرمة مع أنّهما نقيضان وهما في مرتبة واحدة!؟ فظهر أنّ الصحيح في الجواب هو الوجوه الثلاثة المتقدّمة.

ومنها : أنّه لو كانت أدلّة الحجّيّة شاملة لخبر السيّد قدس‌سره ، يلزم منه خروج غيره من بقيّة الأخبار عن تحتها ، وهو ـ مضافا إلى أنّه نظير تخصيص الأكثر المستهجن ـ يكون إنشاء لعدم الحجّيّة بلسان الحجّيّة ، وإنشاء شيء بلسان نقيضه خارج عن طريقة المحاورة.

وبعبارة أخرى : الأمر دائر بين دخول خصوص خبر السيّد ـ قدس‌سره ـ تحت الأدلّة وخروج غيره ، وبين دخول غيره وخروج خصوص خبر السيّد رحمه‌الله فقط ، ولا ريب أنّ الثاني أولى ، لأنّ دخول خبر السيّد مستلزم للمحذور السابق.

وقد أجيب عن هذا : بأنّ الأمر ليس كذلك ، بل الأمر دائر بين دخول خبر السيّد وسائر الأخبار التي كانت قبل خبره ، وبين دخول الأخبار التي بعد خبر السيّد ، وذلك لأنّ خبر السيّد إنّما كان بعد تلك الأخبار السابقة زمانا ، فكيف يمكن أن يشمل الأخبار السابقة!؟ فما هو مشمول لخبر السيّد رحمه‌الله إنّما هو الأخبار اللاحقة ، وأمّا السابقة فتشملها أدلّة حجّيّة الخبر بلا معارض ، فلا يرد لإشكال.

٢٠٤

وفساد هذا التوهّم واضح ، لأنّ خبر السيّد وإن كان بنفسه متأخّرا عن زمان صدور الأخبار السابقة إلّا أنّ المخبر به بخبره لا يكون متأخّرا عنه ، لأنّه أخبر بعدم حجّيّة طبيعيّ الخبر في الشريعة ، ومن الواضح أنّه كما يشمل الأخبار اللاحقة كذلك يشمل السابقة أيضا ، وليس المخبر به بخبره عدم حجّيّة الأخبار اللاحقة فقط ، إذ احتمال النسخ مفقود قطعا ، مضافا إلى أنّه لو سلّم التصريح بعدم حجّيّة خصوص اللاحقة منها ، نقطع بعدم الفرق في ملاك القبول بعد عدم احتمال النسخ ، فيكون قول السيد رحمه‌الله على تقدير حجّيّته بمنزلة المعارض لأدلّة الحجّيّة.

هذا ، وقد أشكل إشكال سادس بأصل حجّيّة الخبر بأيّ دليل كانت ، وهو : أنّ أدلّة حجّيّة الخبر إنّما تنفع في الأخبار بلا واسطة ، وأمّا الأخبار مع الواسطة فلا.

ويمكن تقريب الإشكال بوجهين :

أحدهما ـ وهو يختصّ بخصوص الواسطة ـ : أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول في تقدّم رتبته عليه ، فلو كان الحكم علّة لوجود فرد من أفراد موضوعه ، فلا يمكن أن يشمل لذلك الفرد ، فإنّ الفرد حسب الفرض معلول للحكم ، فلو شمله ، لزم تقدّمه عليه (١) ، فيلزم تقدّم المعلول ـ الّذي هو الفرد ـ على علّته ـ وهو الحكم ـ وهو محال.

وحينئذ نقول : لو أخبر الشيخ عن المفيد ـ رحمهما‌الله ـ مثلا ، فإخبار الشيخ وجدانيّ ، وأمّا إخبار المفيد فليس بوجدانيّ قطعا ، وإنّما أحرز كون الخبر خبرا له بالتعبّد بوجوب تصديق الشيخ فيما أخبر به حيث إنّ المخبر به بخبره إنّما هو

__________________

(١) أي : تقدّم الفرد على الحكم.

٢٠٥

كون هذا الخبر خبرا للمفيد ، وإحراز ذلك ليس إلّا بنفس أدلّة حجّيّة خبر الواحد ، فخبر المفيد معلول لهذه الأدلّة ، فلو كانت شاملة له ، يلزم تقدّمه عليها ، وتقدّم المعلول على علّته محال.

وثانيهما ـ الّذي يختصّ بذي الواسطة ـ هو : أنّ شمول أدلّة الحجّيّة لشيء إنّما يتوقّف على أحد أمرين : إمّا أن يكون ذلك الشيء بنفسه أمرا شرعيّا قابلا للوضع والرفع ، أو كونه موضوعا للأثر الشرعي مع قطع النّظر عن التعبّد به ، فلو أخبر العادل عن حرمة شرب الخمر أو خمريّة مائع ، تشمله أدلّة الحجّيّة ، وأمّا لو أخبر بأنّ العرش فوق الكرسي ، فلا معنى للتعبّد بخبره هذا ، الّذي ليس أثرا شرعيّا ولا موضوعا للأثر الشرعي.

ففي الخبر بلا واسطة ـ سواء كان المخبر به حكما شرعيّا أو موضوعا ذا حكم شرعي ـ حيث إنّه بنفسه قول المعصوم ، يكون مشمولا للأدلّة ، وأمّا الأخبار مع الواسطة فحيث لا أثر لها إلّا نفس وجوب التصديق فإنّ المخبر به بخبر الشيخ ـ وهو خبر المفيد ـ ليس أثرا شرعيّا ولا موضوعا ذا أثر كذلك مع قطع النّظر عن التعبّد به ، فلا تشمله الأدلّة.

وأمّا الجواب عن كلا التقريبين فبالنقض أوّلا : بموارد الإقرار على الإقرار والبيّنة على البيّنة ، إذ لو أقرّ المنكر عند الحاكم بإقراره السابق على طبق قول المدّعي ولكن ادّعى أنّ إقراره كان كذبا ، لا إشكال ولا خلاف في أنّه يؤخذ بإقراره ، لأنّه يثبت بإقراره الثاني إقراره الأوّل ، مع أنّ مقتضى ما ذكر عدم ثبوته ، لأنّ ثبوت الإقرار الأوّل معلول للحكم بنفوذ الإقرار الثاني ، فكيف يمكن أن يصير مشمولا لنفس هذا الحكم!؟ وهكذا أيّ أثر مترتّب على الإقرار الثاني مع قطع النّظر عن هذا الحكم ، لأنّ متعلّقه هو الإقرار الأوّل ، وهو لا يكون حكما شرعيّا ولا موضوعا له.

٢٠٦

وهكذا الحال في البيّنة ، على البيّنة ، فإنّ البيّنة القائمة على قيام بيّنة على نجاسة الثوب مثلا متبعة قطعا بمقتضى أدلّة حجّيّة البيّنة وإلّا لانسدّ باب السجلّات رأسا ، فإنّ البيّنة الأولى ربما تموت شهودها ، فلا طريق إلى إثبات أنّهم شهدوا بذلك إلّا بيّنة أخرى مع جريان الإشكال فيها بعينه.

وبالحلّ ثانيا ، وهو أنّ الحكم الثابت لمتعدّد لو كان حكما واحدا بأن كان الحكم الثابت لهذا لا فرد بعينه هو الحكم الثابت لفرد آخر كما في الحكم الثابت على عامّ مجموعي ، لكان للإشكالين مجال ، وأمّا إذا كان منحلّا إلى أحكام عديدة حسب تعدّد أفراد موضوعه وإن كان إنشاؤه واحدا كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة ، فلا مجال للإشكالين أصلا ، وفي المقام الحكم بوجوب تصديق العادل ينحلّ إلى أحكام متعدّدة ، فلكلّ واحد من أخبار العدول حكم يخصّه ، فيكون في الأخبار مع الواسطة أحكام عديدة حسب تعدّد الوسائط ، فلو أخبر الشيخ عن المفيد ، فليس وجوب التصديق المترتّب على خبر الشيخ بعينه مترتّبا على خبر المفيد ـ حتى يقال : كيف يمكن مع أنّ مقتضى كونه حكما لخبر المفيد تأخّره عنه ، ومقتضى كونه علّة لثبوت خبره تقدّمه عليه ، وهو ليس إلّا تقدّم المتأخّر وتقدّم المعلول على علّته!؟ ـ بل وجوب التصديق المترتّب على حكم الشيخ حكم ، ووجوب التصديق المترتّب على خبر المفيد حكم آخر ، فلا إشكال ، ولا يلزم تقدّم المعلول ـ الّذي هو خبر المفيد ، الثابت بوجوب التصديق ـ على علّته ، إذ هو متقدّم على وجوب تصديق آخر غير ما هو علّة له.

وهكذا ليس الأثر لخبر المفيد ـ قدس‌سره ـ بعينه هو وجوب تصديق الشيخ ـ قدس‌سره ـ حتى يقال بأنّه ليس لإخبار الشيخ ـ مع قطع النّظر عن التعبّد به ـ أثر ، لأنّ المخبر به ليس حكما شرعيّا ولا موضوعا له ، بل لخبر المفيد رحمه‌الله أثر

٢٠٧

يخصّه ، وهو وجوب تصديق قوله المختصّ به ، ويكون ذلك مترتّبا على قوله واقعا مع قطع النّظر عن التعبّد بقول الشيخ رحمه‌الله ، ويكون أثر التعبّد بقول الشيخ هو ترتّب الأثر الواقعي ـ المترتّب على قول المفيد ، الّذي يكون مخبرا به بقول الشيخ رحمه‌الله ـ وهو وجوب تصديقه المختصّ به ، وحينئذ فلا تلزم اللغوية في التعبّد بقول ذي الواسطة ، فيرتفع الإشكالان من البين.

وما ذكرنا يجري في الإقرار على الإقرار والبيّنة على البيّنة لكونهما أحكاما انحلاليّة.

وبما ذكرنا يندفع إشكال آخر أورد في المقام ، وهو : اتّحاد دليل الحاكم والمحكوم.

وتوضيحه : أنّ خبر الواسطة ليس محرزا بالوجدان ، بل إنّما أحرز بالتعبّد بقول العادل الّذي هو ذو الواسطة ، وحينئذ لو كان هكذا الحكم شاملا لخبر الواسطة أيضا ، يلزم أن يكون هذا الحكم حاكما على نفسه ، لأنّه يوجب إدخال خبر الواسطة في موضوع نفسه تعبّدا ، فيكون الدليل الواحد حاكما ومحكوما ، لأنّه بعينه يثبت الموضوع.

أمّا وجه الدفع : فبيانه أنّ الحكومة على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الدليل الحاكم شارحا للدليل المحكوم بمدلوله اللفظي ومبيّنا له ومفسّرا لما هو المراد منه بمثل كلمة «أي» و «أعني» كالرواية الواردة في الشكوك من قوله عليه‌السلام : «إنّما عنيت الشكّ بين الثلاث والأربع» (١).

الثاني : أن يكون الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم إمّا بالنظر إلى عقد حمله ، كما في أدلّة الضرر بالنسبة إلى الأحكام ، فيرفع نفس الأحكام من غير

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٥٩ (باب معنى ما روي.). الحديث ١ ، الوسائل ٨ : ١٨٨ ، الباب ١ من أبواب الخلل ، الحديث ٥ نقلا بالمعنى.

٢٠٨

تصرّف في الموضوع ، أو بالتصرّف في الموضوع توسعة ، كما في «الطواف بالبيت صلاة» أو تضييقا ، كما في «لا شكّ لكثير الشكّ».

الثالث : أن لا يكون الدليل شارحا ولا ناظرا ، بل كان مثبتا لفرد الموضوع ومتكفّلا لتطبيقه على فرد من الأفراد الخارجيّة ، أو نفي تطبيقه عليه ، فالموضوع باق على ما كان عليه من الأفراد ، وإنّما يوجب الدليل الحاكم تطبيق الموضوع على فرد وعدمه ، كما في حكومة الأمارات على الواقع ، فإنّ البيّنة إذا قامت على خمريّة مائع تكون حاكمة على الواقع ، أي توجب تطبيق الخمر الواقعي عليه ، وكذلك الحال في حكومة الأمارات على الأصول العمليّة ، فإنّها ترفع الشكّ الّذي يكون موضوعا للأصول تعبّدا ، وتقول : «أيّها المكلّف الّذي تخيّلت أنّك شاكّ اعلم بأنّك لست بشاكّ في حكم الشارع» وهكذا الأمر في حكومة الأصول السببيّة على الأصول المسبّبيّة ، فإنّ استصحاب الكرّيّة في الماء المشكوك كرّيّته يوجب رفع الشكّ في نجاسة الثوب المغسول به ، وجعله متيقّنا بطهارته بعد العلم بنجاسته سابقا ، فيوجب نفي فرد عن الاستصحاب المسبّبي ، وهو نجاسة الثوب.

وبعد ذلك نقول : إنّ التعدّد في دليلي الحاكم والمحكوم إنّما يعتبر في القسمين الأوّلين من الحكومة ، فإنّ لازم شرح أحد الدليلين للآخر أو نظره إليه أن يكون متعدّدا ، وأمّا في القسم الأخير فلا يعتبر ذلك ، فإنّ الدليل في الأصل السببي والمسبّبي واحد ، وهو قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١) مع أنّ الأصل الجاري في أحدهما حاكم على الأصل الجاري في الآخر ، وليس هذا إلّا لكون الحكومة إنّما هو بالمعنى الثالث ، أي تطبيق الموضوع على فرد ، والمقام

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٢٠٩

من هذا القبيل ، فإنّ وجوب العمل بخبر العادل في ضمن فرد منه ـ وهو خبر الشيخ رحمه‌الله مثلا ـ يوجب إثبات فرد آخر لموضوع نفسه ـ وهو خبر المفيد رحمه‌الله ـ ويكون موجبا لتطبيق موضوع نفسه على قول المفيد ، فعلى هذا لا يحتاج إلى تعدّد الدليلين في هذه الحكومة.

والوجه فيه : أنّ الحكومة بين المدلولين لا بين الدليلين ، وفي المقام المدلولان ـ وهما الحكمان اللذان يكونان مدلولين لدليل «صدّق العادل» ـ متغايران وإن كان دليلهما واحدا.

بقي في المقام شيء ، وهو : أنّ المتأخّرين إنّما يعملون في الكتب الفقهيّة بأربعة أقسام من الخبر :

الأوّل : الصحيح ، والمراد به ما كان جميع رواته عدلا إماميّا.

الثاني : الحسن ، والمراد منه ما كان رواته جميعا إماميّين ممدوحين بالخير والسداد ، ومتحرّزين عن الكذب ، وكان فيهم غير معدّل.

الثالث : الموثّق ، والمراد منه ما كان رواته موثّقين وإن لم يكونوا إماميّين.

الرابع : الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب.

فهل جميع الأقسام داخلة في الآية الشريفة أم لا؟

لا إشكال في دخول الأوّل منها ، بل هو المتيقّن منه ، كما أنّه لا إشكال في دخول الأخير في المنطوق ، فإنّ الفحص والتفتيش عنه وملاحظة عمل المشهور به تبيّن عن أحواله ، وموجب للوثوق والاطمئنان بصدقة ، فإنّ عملهم به مع فسق راويه كاشف عن وجود قرينة دالّة على الصدق وإن كان الراوي متّهما بالكذب.

وأمّا الوسطان : فيمكن تقريب الآية على وجه يكونان داخلين في المفهوم ، ويمكن تقريبها على وجه يوجب إدخالهما في المنطوق.

٢١٠

أمّا التقريب الأوّل بأن يقال : إنّ المراد بالفاسق في الآية الشريفة ليس هو الفاسق على إطلاقه ، بل الظاهر أنّ المراد منه ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ خصوص الكاذب غير المتحرّز عن الكذب ، وذلك لأنّ وجوب التبيّن عن صدق الخبر لعدم إصابة القوم بجهالة إنّما يناسب الفاسق غير المتحرّز عن الكذب لا الفاسق مطلقا وإن كان موثّقا في خبره ، ويكون الفاسق الموثّق مع العادل سواء في الجهة المطلوبة هنا ، فيدخل الخبر الموثّق والحسن في المفهوم ، فلا يجب التبيّن فيه.

ولكن هذا التقريب وإن كان حسنا إلّا أنّ الاستدلال به غير ممكن ، لأنّا وإن سلّمنا أنّ الملاك لعدم القبول هو عدم التحرّز عن الكذب إلّا أنّ الفاسق حيث إنّه بمقتضى فسقه لا يعتني بشأن الله وأحكامه ، فيحتمل وجدانا أن يكون كاذبا في خصوص هذا الخبر وإن كان موثّقا في نقله ومتحرّزا عن الكذب نوعا ، فإنّه بمقتضى فسقه لا يبالي بالكذب ، فلا يؤمن منه ، فلا عبرة بقوله.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الكذب حكمة نوعية في عدم اعتبار قول طبيعيّ الفاسق ، ولا يلزم فيه الاطّراد ، كما في العلّة.

وأمّا التقريب الثاني بأن يقال : إنّ التبيّن ـ كما ذكرنا ـ طلب الظهور ، ومن المعلوم أنّ الظهور والوضوح كما يمكن أن يتحقّق بالعلم الوجداني كذلك يمكن أن يتحقّق بما جعله الشارع وضوحا وتبيّنا ولو إمضاء ، وحينئذ نقول : ظهور صدق الخبر كما يتحقّق بالتبيّن والتحقيق عن أحوال نفس الخبر كما في الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب كذلك يتحقّق بالتبيّن في أحوال شخص المخبر ، وأنّه صادق أو كاذب ، ولا ريب أنّ الوثوق والاطمئنان بصدق الراوي طريق عقلائيّ لاستكشاف صدق الخبر ، فيكون هذا مصداقا للتبيّن عندهم ، وحيث لم يرد عن الشارع ردع عنه يكون هذا عنده أيضا ممضى ، فالوثوق

٢١١

بصدق الراوي تبيّن عن الخبر ، فيسمع قول راويه وإن كان فاسقا ، فيدخل القسمان كالأخير في المنطوق ، والأوّل في المفهوم ، فاستفيد حكم الجميع من الآية.

ومن جملة الآيات التي استدلّ بها على حجّيّة الخبر الواحد : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١).

وتقريب الاستدلال بها : أنّ المراد بالحذر في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) هو التحفّظ والتحرّز العملي والاجتناب عن المحذور في مقام العمل لا الخوف النفسانيّ الّذي يوجب التحرّز الخارجي ، وعلى هذا لا نحتاج في الاستدلال إلى ضمّ الإجماع المركّب ، أو أنّ الحذر إذا كان حسنا ، فلا محالة يكون واجبا ، فإنّ جميع ذلك موقوف على كون المراد من الحذر هو نفس الخوف النفسانيّ لا الفعل الخارجي المترتّب عليه ، وأنّ كلمة «لعلّ» سواء وقعت في كلامه تعالى أو غيره ظاهرة في علّيّة ما بعدها لما قبلها ، فيكون الحذر في المقام علّة غائيّة لوجوب الإنذار.

ثمّ إنّ الغاية المترتّبة على واجب إمّا أن تكون فعلا من أفعال المكلّف أو لا ، وما يكون من أفعاله إمّا [أن] يكون تحت اختياره أو لا.

فما لا يكون من أفعاله ، مثل أن يقال : «استغفر الله لعلّه تعالى يغفرك» أو يكون من أفعاله ولكنّه ليس تحت اختياره ، كقول الطبيب : «اشرب هذا الدواء لعلّك تصحّ» لا يتعلّق التكليف به قطعا ، ووجهه ظاهر.

وأمّا ما يكون من أفعاله وتحت اختياره ، كما فيما نحن فيه ، فإنّ الحذر

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٢١٢

بالمعنى الّذي ذكرنا ـ وهو التحفّظ العملي والتحرّز الخارجي ـ يكون تحت اختيار المكلّف ، فيتعلّق التكليف به يقينا ، لأنّه الغرض الأصلي من وجوب الإنذار ، فهو أولى بتعلّق التكليف الوجوبيّ به ، وأنّ ظاهر قوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا) إلى آخره هو العامّ الاستغراقي (١) ، كما هو مقتضى مقابلة الجمع بالجمع ، نظير قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)(١) فإنّه ليس المراد أنّكم جميعا اغسلوا وجه الكلّ ، بل المراد أنّ كلّ أحد يغسل وجهه ويده ، فليس المراد أنّ المتفقّهين جميعا يجب أن يجتمعوا في محلّ واحد وينذروا قوما واحدا حتى يحصل التواتر بسبب إنذار الجميع ، بل المراد أنّ كلّ واحد من المتفقّهين يرجع إلى قومه وينذرهم ، ومن المعلوم أنّ خبر الواحد بحسب طبعه لا يفيد العلم.

ومقتضى جميع ما ذكرنا : أنّ الحذر والتحفّظ والتحرّز عن المحذور واجب عند إنذار من نفر وتفقّه في الدين ، فالآية تدلّ على حجّيّة خبر الواحد (٢)

__________________

(١) أقول : دلالة الآية ـ بمقتضى مقابلة الجمع بالجمع ـ على العموم الاستغراقي لا ريب فيها إلّا أنّ هذا الأمر ليس من مقدّمات الاستدلال ، فإنّه يمكن مع العامّ المجموعي أيضا ، فإنّ حصول العلم والتواتر ليس من لوازم العامّ المجموعي ، بل هو مطلق بالنسبة إلى حصول العلم وعدمه ، فيتمسّك بإطلاق العامّ المجموعي فلا يضرّ بالاستدلال. (م).

(٢) المائدة : ٦.

(٣) أقول : التحذّر من الحذر والحذر ، ومن معاني الحذر الاحتياط ، كقوله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) النساء : [٧١ و ١٠٢] أي اسلكوا طريق الاحتياط كما قيل ، ومعناه هو الاحتياط عند إنذار المنذر بحيث لا يقع المنذر ـ بالفتح ـ في خلاف الواقع ، كما في موارد العلم الإجمالي ، وهذا المعنى غير حجّيّة الخبر الواحد ، فإنّها تعني أنّ المخبر إذا أخبر بوجوب شيء يجب الأخذ به ويجوز الفتوى بمضمونه.

نعم ، للتحذّر معنى آخر ينطبق على حجّيّة الخبر ، فلسان الآية بالنسبة إلى المدّعى مجمل ، لاحتمال أن يكون المدلول هو وجوب الاحتياط عند الإنذار ، أو حجّيّة الخبر ، ـ

٢١٣

مطلقا ، ثقة كان أو غيره ، غاية الأمر أنّ يقيّد إطلاقه بالعدالة بدليل خارجي.

والحقّ ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من تماميّة دلالة الآية على ذلك ، وأنّ دلالتها على المطلوب أقوى من دلالة آية النبأ عليه ، لكثرة الإيرادات الواردة عليها ، وأنّ تضعيف شيخنا العلّامة الأنصاري ـ أعلى الله مقامه ـ دلالتها على ذلك وتصديقه من (١) شبه الاستدلال بها على حجّيّة الخبر الواحد بالاستدلال عليها بالنبوي المشهور «من حفظ على أمّتي أربعين حديثا» (٢) إلى آخره لم يكن مترقّبا منه قدس‌سره (٣).

وقد أورد عليها إشكالات.

منها : أنّ الآية ليست في مقام بيان وجوب الحذر عند إنذار المنذر الواحد ، بل تكون في مقام بيان وجوب النفر والتفقّه والإنذار ، وأمّا وجوب الحذر فلعلّه مقيّد بصورة حصول العلم.

وفيه : أنّ التقييد بالعلم في المقام لغوا لا معنى له ، إذ معنى التقييد ـ كما قرّر في مقرّه ـ أن يزاد قيد على الموضوع مع حفظ عنوان الموضوع ، كما في «أعتق رقبة» فإنّ موضوع الحكم ـ وهو الرقبة ـ محفوظ بعد ازدياد قيد الإيمان ، لا إلغاء عنوان الموضوع ورفع اليد عنه ، وتقييد وجوب الحذر بصورة حصول العلم موجب لإلغاء عنوان الإنذار الّذي هو موضوع لوجوب الحذر ، إذ العلم هو حجّة بنفسه ، وبعد حصول العلم بالمحذور يجب الحذر ، سواء كان هناك

__________________

ـ فالدليل أعمّ من المدّعى. وبعبارة أخرى : ليس مدلولها كمدلول قوله عليه‌السلام : «لا ينبغي التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا». (م).

(١) المراد بالموصول هو الشيخ البهائي في أربعينه : ٧١.

(٢) الخصال : ٥٤١ ـ ١٥ ، ثواب الأعمال : ١٦٢ ـ ١ ، كنز العمّال ١٠ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ـ ٢٩١٨٢ ـ ٢٩١٨٩.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١١١ ، وانظر : فرائد الأصول : ٨١.

٢١٤

إنذار أم لم يكن ، فأخذ عنوان الإنذار في الموضوع بعد ذلك لغو لا معنى له.

وهذا نظير ما ذكرنا في الجمع بين رواية إسماعيل بن بزيع ـ وهي «إنّ ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا إذا تغيّر طعمه أو ريحه فينزح حتى يطيب الطعم وتذهب الريح ، لأنّ لها مادّة» (١) ـ الدالّة على عدم انفعال كلّ ماء ذي مادّة بمقتضى التعليل المذكور في ذيلها ، وبين مفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (٢) فإنّ مفهومه أنّ الماء القليل غير البالغ حدّ الكرّ ينفعل ، سواء كان ذا مادّة أو لم يكن كذلك ، وبينهما عموم من وجه ، ومادّة التعارض هو الماء القليل الّذي له مادّة من تقديم رواية ابن بزيع والحكم بعدم انفعال القليل الّذي له مادّة من جهة أنّ تقييد ما له مادّة بكونه كرّا موجب لإلغاء عنوان ما له مادّة ، فإنّ الكرّيّة عنوان مستقلّ لعدم الانفعال ، فما فائدة أخذ ذي المادّة في الموضوع؟ وهذا بخلاف العكس ، فإنّ تقييد موضوع الانفعال ـ وهو الماء القليل ـ بأن لا يكون له مادّة لا يوجب ذلك ، وعنوان الموضوع ـ وهو القلّة ـ بعد محفوظ لم يرفع اليد عنه.

وهكذا الكلام في قوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٣) الشامل للطير وغيره ، وقوله عليه‌السلام : «كلّ حيوان يطير فلا بأس ببوله وخرئه» (٤)

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٣ ـ ٨٧ ، الوسائل ١ : ١٤١ ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢ ـ ٢ ، التهذيب ، ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ـ ١٠٧ و ٢٢٦ ـ ٦٥١ ، الاستبصار ١ : ٦ ـ ١ و ٢٠ ـ ٤٥ ، الوسائل ١ : ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٧ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ٢٦٤ ـ ٧٧٠ ، الوسائل ٣ ، ٤٠٥ ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

(٤) الكافي ٣ : ٥٨ ـ ٩ ، التهذيب ١ : ٢٦٦ ـ ٧٧٩ ، الوسائل ٣ : ٤١٢ ، الباب ١٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٢١٥

فإنّ تقييد ما يطير بكونه مأكول اللحم موجب لرفع اليد عن عنوان الطيران المأخوذ في موضوع الرواية الثانية ، ولا يكون العكس كذلك ، كما هو واضح.

وبالجملة ، هذا التقييد لغو لا تترتّب عليه فائدة أصلا.

مضافا إلى أنّه تقييد بمورد نادر ، فإنّ طبع الخبر ممّا يحتمل الصدق والكذب ، فغالبا لا يحصل العلم من إنذار المنذر ، ونادرا في بعض الموارد بسبب الأمور الخارجيّة غير المرتبطة بالخبر بما هو خبر يحصل العلم ، فتقييده (١) بالعلم لو لم يكن لغوا من الجهة المذكورة يكون لغوا من هذه الجهة.

ومنها : أنّ الإنذار بمعنى التخويف ، ولا تخويف في خبر الراوي بما هو راو وناقل لألفاظ الرواية التي سمعها من الإمام عليه‌السلام أصلا ، فهو لا يصدق عليه المنذر حتى يجب الحذر عند إنذاره.

نعم ، الواعظ الّذي يخوّف الناس بضروريّات الأحكام ، والفقيه الّذي ينذر الناس بما فهمه من الأحكام يمكن الاستدلال بالآية على وجوب الحذر عند إنذارهما.

والجواب : أنّه إن كان المراد بالإنذار هو الإنذار الابتدائي ، فالآية لا تكون شاملة للفقيه أيضا ، فإنّ الفقيه يفتي بأنّ السورة ـ مثلا ـ جزء للصلاة فيجب إتيانها فيها ، وبعد إفتائه بذلك يعلم المقلّد بأنّه يعاقب على ترك السورة ، فالفقيه لا ينذر ابتداء ، بل ينذر بالإفتاء وببيان الأحكام التي فهمها من مداركها لا ابتداء وبلا واسطة ، ولا يمكن عدم شمول الآية له ، فإنّه موردها.

وإن كان المراد منه أعمّ من الابتدائي والضمني ، فالراوي أيضا بنقل الرواية التي دلّت على وجوب شيء أو حرمة شيء يخوّف الناس وينذرهم ،

__________________

(١) أي تقييد وجوب الحذر.

٢١٦

فلم لا تشمله الآية؟

ومنها : أنّ الآية تدلّ على وجوب التحذّر عند إنذار المنذر المتفقّه بما تفقّه ، فلا بدّ من العلم بكون الإنذار إنذارا بما تفقّه ، ومن المعلوم أنّه لا يحصل العلم بذلك بمجرد إنذار المنذر ، فالشبهة مصداقيّة.

والجواب : أنّ هذا الإشكال راجع إلى الإشكال الأوّل من لزوم تقييد وجوب الحذر بما إذا حصل العلم بالمحذور ، وقد عرفت جوابه ، فالآية بإطلاقها تدلّ على وجوب الحذر وقبول الخبر مع عدم إفادته للعلم ، كما هو مقتضى مقابلة الجمع بالجمع ، وعلى أنّ المنذرين هم النافرون ، كما استشهد به الإمام (١) عليه‌السلام ، لا المتخلّفون ، كما في بعض التفاسير (٢).

ومنها : أنّ الآية لا تدلّ على وجوب قبول خبر الراوي بما هو راو ، بل تدلّ على وجوب قبول خبر الفقيه بقرينة (لِيَتَفَقَّهُوا).

وتوهّم : أنّ مثل زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما ممّن كانوا من فقهاء الرّواة لا ريب في وجوب قبول خبرهم ، وإذا ثبتت حجّيّة قولهم تثبت حجّيّة خبر غيرهم بعدم الفصل ، فاسد ، فإنّ حجّيّة قول زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما إن كانت بما هم فقهاء لا بما هم رواة ، فليس هناك عدم القول بالفصل حتى يتمّ به الاستدلال ، وإن كانت بما هم رواة لا بما هم فقهاء ، فلا قائل بالفصل ، إلّا أنّه أوّل الكلام.

والّذي يرفع الإشكال أنّ الفقه ليس المراد منه معناه الاصطلاحي ـ وهو الاستنباط والاجتهاد الّذي هو أشدّ من طول الجهاد ، لكثرة الروايات المتعارضة الواردة في باب العبادات وقلّة ما ورد في باب المعاملات وزيادة الاختلاف بين

__________________

(١) الكافي ١ : ٣١ ـ ٦ ، تفسير العياشي ٢ : ١١٨ ـ ١٦٢.

(٢) التبيان ٥ : ٣٢١ ، الكشّاف ٢ : ٢٢١ ، مجمع البيان ٥ : ١٢٦.

٢١٧

أقوال العلماء بحيث لا يتيسّر التفقّه إلّا للقليل ـ بل المراد منه هو الفقه المعمول في ذلك الزمان الّذي هو عبارة عن فهم مضامين كلمات الأئمّة سلام الله عليهم أجمعين ، ومن المعلوم أنّ الرّواة كانوا من أهل اللسان عارفين باللغة العربيّة ملتفتين إلى معاني أسئلتهم من الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، والأجوبة الصادرة منهم عليهم‌السلام ، فهم فقهاء بهذا المعنى ، ونسبتهم إلى الأئمّة في ذلك الزمان كنسبة المقلّدين في زماننا إلى مراجع تقليدهم في فهم أحكام دينهم.

فظهر من جميع ما ذكرنا اندفاع جميع الإشكالات الواردة على الآية وتماميّتها في الدلالة على حجّيّة قول الراوي وخبر الواحد.

وممّا استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١).

وتقريب الاستدلال بها : أنّ الآية تدلّ على حرمة كتمان ما أنزل من الأحكام ، وإذا وجبت حرمة الكتمان يجب القبول عند الإظهار مطلقا ، سواء كان المظهر واحدا أو متعدّدا ، وإلّا لزمت لغويّة الإظهار ، وهذا نظير وجوب إظهار النساء ما في أرحامهنّ بمقتضى قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(٢) فإنّه يجب قبول قول المرأة بمجرّد الإظهار ، وإلّا تلزم لغويّة وجوب الإظهار ، والملاك في كلا المقامين واحد.

وفيه : أنّ المقام لا يقاس بحرمة كتمان النساء ، لوجهين :

الأوّل : أنّ الكتمان في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ) إلى آخره ، راجع إلى أمر هو في نفسه خفيّ ، ولو لم يظهر يبقى على خفائه ،

__________________

(١) البقرة : ١٥٩.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

٢١٨

ويوجب اضمحلال المقتضي ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الكتمان راجع إلى أمر هو في نفسه ظاهر وبيّن بحيث لو لا المانع لظهر بنفسه ، ومن الواضح أنّ الشيء بعد ظهوره ووضوحه لا يحتاج في تصديقه إلى التعبّد بقول المظهر ، فكم فرق بين إظهار ما خفي في نفسه وإظهار ما ظهر بنفسه ولكنّه خفي بالكتمان ، فإنّ الأوّل حيث إنّه لا يصير ظاهرا أو معلوما بإظهار المظهر ـ كالحمل ـ يحتاج إلى التعبّد بوجوب القبول ، وإلّا يصير وجوب الإظهار لغوا ، والثاني حيث إنّه يصير معلوما وظاهرا بإظهار المظهر ويرتفع المانع من ظهوره ، فلا معنى للتعبّد به بعد ظهوره ومعلوميّته.

الثاني : أنّ حرمة الكتمان في باب الحمل ليس لها أثر إلّا وجوب القبول عند إظهاره ، بخلاف المقام ، فإنّ حرمة الكتمان تترتّب عليها فائدة أخرى أيضا ، ولا ينحصر أثرها بوجوب القبول ، وهي : أنّ يظهر كلّ من عنده الخبر والواقعة حتى يحصل العلم بذلك ، كواقعة غدير خمّ ، فعلى كلّ أحد يجب الإظهار ، لهذه الحكمة والمصلحة.

لا يقال : إنّ لازمه عدم وجوب الإظهار إذا انحصر من عنده الخبر والواقعية بعدد لا يحصل العلم به ، وهذا خلاف إطلاق الآية.

فإنّه يقال : حصول العلم للسامعين ليس علّة للحكم حتى يدور الحكم مدارها وجودا وعدما ، بل هو حكمة (١) ، فلا مانع من عدم اطّرادها ، كما في باب

__________________

(١) أقول : إن كان بين العلّة والحكمة فرق كما قيل ، فهذا الجواب صحيح ، ولكنّ الفرق بينهما غير صحيح ، فإذا كان شيء في لسان الدليل غاية ، فهو علّة ، سواء كانت موجودة أم لا. نعم ، عبّروا عن العلّة فيما إذا انتفت وكان الحكم موجودا عند الكلّ ـ كما في مورد العدّة ونظائرها ـ بالحكمة ، وهذا اصطلاح محض في موارد خاصّة للفرار عن لزوم تحقّق المعلول بلا علّة ، فالفرق بينهما صرف اصطلاح ، ولا ضابطة في تشخيص العلّة عن ـ

٢١٩

العدّة ، فإنّ حكمتها عدم اختلاط المياه ومع ذلك تجب على كلّ امرأة ولو كانت عقيمة لا تحمل أبدا ، وباب استحباب غسل الجمعة لكلّ أحد ولو لم تكن حكمة الجعل موجودة فيه ، وهو رفع أرياح الآباط ، وباب وجوب شهادة الشاهد ولو كان واحدا مطلقا إذا ما دعي ، مع أنّ شهادة الواحد لا يترتّب عليها أثر لو لم ينضمّ إليه شاهد آخر أو يمين في بعض الموارد.

وممّا استدلّ به على حجّيّة الخبر الواحد : قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) بتقريب أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب ، وإلّا لغا وجوب السؤال ، وإذا كان قبول الجواب واجبا عند السؤال عمّا سمعه الراوي من الإمام عليه‌السلام يجب ابتداء (٢) أيضا ، لعدم الخصوصيّة للسؤال قطعا.

ويرد عليه أوّلا : أنّ المراد من أهل الذّكر في الآية هو أهل العلم ظاهرا والراوي بما هو راو ليس من أهل العلم ، فالآية ـ لو سلّمت دلالتها على وجوب العمل بالجواب ـ تدلّ على حجّيّة قول المفتي لا الراوي.

وما أفاده صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ من أنّ الآية تدلّ على حجّيّة قول بعض الرّواة مثل زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما ممّن يكون عالما وفقيها وتثبت حجّيّة قول غيرهم بعدم القول بالفصل (٣) قد عرفت فساده وأنّ حجّيّة قول الرّواة

__________________

ـ الحكمة إلّا دوران الحكم مدارها عند الكلّ ، وعدمه ، فإذا أخذ شيء علّة غائيّة ، فالحكم النفسيّ يدور مداره دائما ، وفيما نحن فيه لا بدّ وأن لا يجب الإظهار على من انحصر الخبر عنده ، والحكم في موارد عدم العلّة ليس حكما نفسيّا ناشئا عن الملاك ، بل حكم ابتدائي طريقي جعل تحفّظا على الملاكات الواقعيّة. (م).

(١) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

(٢) أي من غير سؤال.

(٣) كفاية الأصول : ٣٤٥.

٢٢٠