الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

في دلالة الآية على المفهوم ليس إلّا تقريب دلالة الوصف على المفهوم بعينه ، وليس المقام من باب التعليل بجهة عرضيّة مع وجود الجهة الذاتيّة ، لأنّه ليس من التعليل في شيء ، بل إنّما يصحّ ذلك في مثل «اجتنب عن الدم لملاقاته النجاسة» والمقام من باب أخذ الوصف في موضوع الحكم ، ومن المعلوم أنّه لا يدلّ على نفي ذلك الحكم عند عدم الوصف.

نعم ، لا بدّ وأن لا يكون (١) هذا الأخذ بلا فائدة ، ولكن لا تنحصر الفائدة في المفهوم ، بل يمكن أن تكون الفائدة هو الإشعار بفسق الوليد الّذي نزلت الآية في شأنه.

الوجه الثالث من وجوه الاستدلال هو : التمسّك بمفهوم الشرط.

وتقريبه : أنّ الآية بمنطوقها تدلّ على أنّ النبأ لو كان الجائي به فاسقا يجب تبيّنه ، فهو ممّا يدلّ على أنّه لو لم يكن الجائي به فاسقا لا يجب التبيّن ، فيدلّ على حجّيّة الخبر العادل.

لا يقال : إنّ هذا المفهوم يدلّ على حجّيّة خبر الواسطة ، كالصغيرة والمجنون.

لأنّا نقول : إنّ المقيّد بالعدالة قد علم من دليل خارجي لا من الآية ، كما ذكرنا سابقا.

هذا وقد أشكل على الاستدلال بمفهوم الشرط بوجوه لا يهمّنا التعرّض لجميعها ، لأنّ اندفاع أكثرها في غاية الوضوح ، وإنّما المهمّ منها ثلاثة :

__________________

(١) أقول : وجوب التبيّن مقيّد في مقام الإثبات بالفسق ، وكلّ قيد ظاهر في كونه احترازيّا ، فلا بدّ من حفظ هذا الظهور إلى أن يثبت المانع ، وهو مفقود في المقام ، والإشعار بفسق الوليد وإن كان ممكنا إلّا أنّه ليس ممّا لا يجتمع مع التقييد والتعليق ، فلا يكون مانعا عن الظهور ، فالأولى الجمع بينهما ، فلا يرد هذا الإشكال على الشيخ قدس‌سره. (م).

١٨١

الأوّل : ما ذكره الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ الشرطيّة ليس لها مفهوم ، لأنّها سيقت لبيان تحقّق الموضوع ، فإنّ مفهوم قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ)(١) إنّما هو : إن لم يجئكم فاسق ، ومن المعلوم أنّ عدم وجوب التبيّن حينئذ ليس إلّا من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وليس المفهوم للآية حجّيّة خبر العادل ، فهو خارج عن المفهوم والمنطوق جميعا ، نظير قولنا : «إن رزقت ولدا فاختنه» (٢).

وقد أجاب عن هذا الإشكال في الكفاية : بأنّ الشرطيّة ليست لبيان تحقّق الموضوع ، بل إنّما سيقت لبيان المفهوم ، وذلك لأنّ الموضوع في القضيّة ليس هو مجيء الفاسق ، بل الموضوع إنّما هو النبأ ، ويكون مجيء الفاسق به شرطا لا جزءا محقّقا للموضوع ، فيكون المنطوق أنّ النبأ إذا كان الجائي به فاسقا يجب التبيّن فيه ، وهذا بمفهومه يدلّ على أنّ النبأ الّذي لا يكون الجائي به فاسقا لا يجب التبيّن فيه (٣).

وتوضيح ما ذكره يحتاج إلى مقدّمات ثلاث :

الأولى : كون القضيّة الشرطيّة ذات مفهوم إنّما يتوقّف ـ كما ذكرنا في باب المفاهيم ـ على رجوع القيد فيها إلى الحكم لا إلى الموضوع ولا إلى المتعلّق ، إذ من الواضح أنّه لو رجع إلى الموضوع أو المتعلّق ، يوجب تقيّد الموضوع أو المتعلّق وتخصيصه بحصّة خاصة منها ، فيدخل في باب مفهوم الوصف ، ومن الواضح أنّ إثبات حكم لموضوع أو لمتعلّق خاصّ لا يدلّ على انتفائه عن غير تلك الحصّة ، فحينئذ إذا رجع القيد إلى الحكم ، يصير موجبا

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) فرائد الأصول : ٧٢.

(٣) كفاية الأصول : ٣٤٠.

١٨٢

لانتفائه عند انتفاء قيده ، فيستفاد منه المفهوم ، هذا بحسب الثبوت.

أمّا في مقام الإثبات : فلا إشكال في أنّ الظاهر ـ بحسب المتفاهم العرفي ـ في الجملة الشرطيّة إنّما هو رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع أو المتعلّق ، ولذا ذكر أهل المنطق والنحو أنّ مفاد الجملة الشرطيّة إنّما هو إثبات حكم على تقدير ثبوت شيء آخر ، فالتعليق بين الجملتين ، لا بين الحكم ومفرد مقيّد. فتحصّل : أنّ ظهور الجملة الشرطية في رجوع القيد إلى الحكم ، وكونها ذات مفهوم.

المقدّمة الثانية : أنّ كون القضيّة الشرطيّة ذات مفهوم إنّما يكون فيما إذا كان تعليق الحكم في الجزاء على القيد المذكور في الشرط تعليقا مولويّا ، فإنّه حينئذ يدلّ على أنّ المولى لم يحكم بذلك الحكم مع عدم وجود ذلك القيد ، كما إذا قيل : «إذا أكرمك زيد فأكرمه» وأمّا إذا لم يكن التعليق مولويّا بل كان عقليّا ، كما في «إن رزقت ولدا فاختنه» فلا تدلّ على المفهوم ، لأنّ الشرط لا يكون مسوقا لبيان المفهوم ، بل إنّما سيق لبيان تحقّق الموضوع ، وحينئذ يكون انتفاء الحكم مع عدم وجود الشرط من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا من جهة المفهوم ، ففي تلك القضيّة يكون ختان ولد الغير أجنبيّا عن تلك القضيّة مفهوما ومنطوقا.

نعم ، إن قال : «إن رزقت ولدا فاختن ولد الغير» فهذا الشرط ليس مسوقا لبيان تحقّق الموضوع ، لعدم توقّف ختان ولد الغير على ارتزاق الولد عقلا ، فلذا يدلّ على المفهوم.

وبالجملة ، الفرق بين القضيّة التي سيقت لبيان المفهوم أو لبيان تحقّق الموضوع إنّما هو كون التوقّف مولويّا أو عقليّا.

المقدّمة الثالثة : أنّ المذكور في الشرط إذا كان قيدين يكون تعليق

١٨٣

الحكم في الجزاء على أحدهما عقليّا وعلى الآخر مولويّا ، فالمفهوم إنّما يكون بالنسبة إلى القيد الّذي يكون تعليق الجزاء عليه مولويّا دون القيد الآخر. فإن قال : «إن رزقت ولدا يوم الجمعة فاختنه» تكون القضيّة بالنسبة إلى يوم الجمعة ذات مفهوم ، وهذا الّذي ذكرنا لا يفرق الحال فيه بين تقدّم كلّ واحد منهما وتأخّره ، فالقضيّة تكون بالنسبة إلى القيود ـ التي لا تكون مقوّمة للموضوع بل أخذها من ناحية المولى ـ ذات مفهوم.

فبعد ذلك نقول : إنّ الآية الشريفة قد أخذ فيها قيدان : أحدهما : وجود النبأ. الثاني : كون الجائي به فاسقا ، ومن المعلوم أنّ تعليق الحكم على الأوّل وإن كان عقليّا إلّا أنّ القيد الآخر ـ وهو كون الجائي به فاسقا ـ مولويّ ، فلها دلالة على المفهوم من جهة هذا القيد الّذي لم يؤخذ لبيان تحقّق الموضوع ، فحينئذ يكون مرجع الآية إلى أنّ النبأ إن كان الجائي به فاسقا فتبيّنوا ، ومن الواضح أنّ معنى المفهوم عدم وجوب التبيّن إذا لم يكن الجائي فاسقا ، ولا يرد عليه ما ذكره الشيخ ـ قدس‌سره ـ من الإشكال.

نعم ، لو فرض كون مدلول الآية أنّه إن تحقّق نبأ فاسق ، يجب التبيّن فيه ، فلا يكون لها مفهوم ، ولكن فهم العرف يشهد بأنّ مساق الآية الشريفة أجنبيّ عن هذا المعنى ، بل يكون معناها كما ذكرنا.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم أنّ النبأ الموضوع لوجوب التبيّن إمّا أن يكون خصوص النبأ الّذي جاء به الفاسق ، أي هذه الحصّة الخاصّة ، أو المراد أنّه طبيعي النبأ ، سواء جاء به الفاسق أو غيره ، ولكنّ الحكم بوجوب التبيّن لطبيعي النبأ مشروط بمجيء الفاسق.

فإن كان المراد به الأوّل ، فمن الواضح عدم دلالة الآية على المفهوم إلّا على القول بحجّيّة مفهوم الوصف ، لأنّ إثبات حكم لموضوع خاصّ لا يدلّ

١٨٤

على انتفاء ذلك الحكم عن غيره.

وإن كان المراد به الثاني ، فهي وإن كان لها مفهوم إلّا أنّ لازمه حينئذ أنّ طبيعيّ النبأ ـ سواء كان الجائي به فاسقا أو عادلا ـ يجب التبيّن فيه إذا جاء رجل فاسق بنبإ ، لتحقّق شرطه ، فإذا جاء فاسق واحد بنبإ ، يجب التبيّن في خبر العادل أيضا ، لتحقّق الشرط في الخارج ، وهو مجيء الفاسق بنبإ ، وهو واضح الفساد ، ولا يلتزم به أحد ، فلا مناص عن الالتزام بالأوّل ، وعليه فلا مفهوم للآية.

ولكن لا يخفى فساد هذا التوهّم ، وذلك لأنّ معنى رجوع القيد إلى الحكم ليس هو كونه متمحّضا في تقيّد الحكم به بحيث لا يوجب تقيّد الموضوع به ولا يمسّ كرامة إطلاقه أصلا في قبال القيود الراجعة إلى الموضوع فقط ، فإنّها لا توجب تقييد الحكم بها أصلا حتى تكون النتيجة بقاء الموضوع على إطلاقه مع كون الحكم مقيّدا به ، فيشكل الأمر ، بل معناه أنّ القيد ـ بحسب الظهور العرفي ـ يرجع ابتداء إلى الحكم ، ويوجب تقييده ، وهذا لا ينافي كونه موجبا لتقييد الموضوع به أيضا في طوله وفي رتبة متأخّرة عنه ، بل القيود كلّها راجعة إلى الموضوع ، ولا يعقل كون الحكم مقيّدا مع بقاء الموضوع على إطلاقه ، ولكن قد يكون القيد راجعا إلى الموضوع ابتداء ، فيكون الموضوع مقيدا به ، ويرد الحكم على الموضوع المقيّد ، وهذا هو الّذي قلنا : إنّه لا دلالة لمفهوم الوصف ، وقد يكون القيد أوّلا راجعا إلى الحكم ، وموجبا لتقييده ، كما في القضيّة الشرطيّة ، وهذا يدلّ على المفهوم ، لأنّ تقيّد الحكم بقيد معناه عدم ثبوته عند عدمه ، ولكن ليس معنى رجوعه أوّلا إلى الحكم عدم رجوعه إلى الموضوع أصلا ، بل هو مع رجوعه إلى الحكم أوّلا يرجع إلى الموضوع ثانيا وفي طول رجوعه إلى الحكم ، ولا يعقل عدم رجوعه إليه ، فلو قلنا : إنّ عدم

١٨٥

انفعال الماء مقيّد بكونه بالغا حدّ الكرّ ، فليس معناه إلّا أنّ الماء المقيّد بكونه كرّا لا ينفعل ، فلا يبقى الموضوع على إطلاقه بعد تقييد الحكم ، فلا معنى لأن يقال : إنّ النبأ الّذي هو الموضوع يبقى على إطلاقه مع تقيّد حكمه ـ وهو وجوب التبيّن ـ بمجيء الفاسق ، بل النبأ أيضا يصير لا محالة مقيّدا بمجيء الفاسق به ، فتكون النتيجة أنّ الحكم ـ وهو وجوب التبيّن ـ وارد على الحصّة الخاصّة من النبأ.

وببيان آخر : أنّ الحكم المعلّق على موضوع ـ ونعني بالموضوع الأعمّ من المتعلّق ، كالشرب في قولنا : «لا تشرب الخمر» ومن متعلّق المتعلّق ، وهو الّذي نسمّيه بالموضوع ، كالخمر في المثال ـ إذا كان في عالم الإنشاء والدلالة مشروطا بشرط ، ففي ظرف التحليل لا يخلو الأمر إمّا أن يكون ذلك الشرط ممّا يكون ذلك الحكم معلّقا عليه عقلا أم لا.

فعلى الأوّل : يكون ذلك الشرط أيضا من مقوّمات الموضوع وأجزائه ، ولا تكون الشرطيّة إلّا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، فليس لها مفهوم إلّا على القول بمفهوم الوصف أو اللقب.

وأمّا على الثاني : فالشرط في عالم الإنشاء ليس من مقوّمات الموضوع ومحقّقاته ، بل هو راجع إلى الحكم ومن قيوده ، ويكون له المفهوم ، لأنّ تقييد الحكم بقيد معناه انتفاؤه عند انتفائه.

ولكن ما ذكرنا من انقسام الشرط إلى قسمين : قسم راجع إلى الموضوع وآخر راجع إلى الحكم إنّما يكون في عالم الإنشاء والدلالة بحسب التحليل العقلي ، وأمّا في عالم اللّبّ والواقع القيود راجعة إلى الموضوع وموجبة لتقيّده ، غاية الأمر قد ترجع إلى الموضوع أوّلا ، كما في القيود الموجبة لتحقّق الموضوع ، وقد ترجع إليه ثانيا بتبع رجوعه إلى الحكم ، ولا منافاة بين رجوع

١٨٦

القيد [إلى الموضوع] وبين كونها ذات مفهوم في المقام وإن كان بينهما منافاة في القسم الأوّل ، وذلك لأنّ الموضوع لم يكن مقيّدا من أوّل الأمر ، بل يكون في مرتبة سابقة على ورود الحكم عليه مطلقا بأن ورد الحكم المقيّد على الموضوع المطلق ، فصار مقيّدا ، فلا محذور في كونها ذات مفهوم.

ومن هذا القبيل : قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (١) لأنّ الموضوع ـ وهو الماء ـ كان مطلقا قبل ورود الحكم عليه ، فحيث ورد عليه الحكم المقيّد فصار هو أيضا مقيّدا ، فصارت النتيجة أنّ الماء الكرّ لا ينفعل.

والآية من هذا القبيل ، فإنّ النبأ وإن كان في مرتبة سابقة على الحكم مطلقا إلّا أنّه بعد ورود الحكم المقيّد عليه صار مقيّدا ، فصارت النتيجة أنّ النبأ الّذي كان الجائي به فاسقا يجب تبيّنه ، فلا وجه للتوهّم المذكور أصلا.

وكأنّ المتوهّم غفل عن الملازمة بين رجوع القيد إلى الحكم ورجوعه إلى الموضوع.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما ذكره صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ من أنّ الآية تدلّ على المفهوم ولو قلنا بأنّ الشرط مسوق لبيان تحقّق الموضوع ، لأنّها ظاهرة في انحصار الموضوع لوجوب التبيّن في خبر الفاسق ، ومقتضى الانحصار هو انتفاء الوجوب عند انتفاء هذا الموضوع ووجود موضوع آخر (٢).

وذلك لأنّه بعد تسليم أنّ الشرطيّة لبيان تحقّق الموضوع ما الوجه في دعوى ظهور القضيّة في الانحصار؟ وهل هذا إلّا من باب إثبات حكم لموضوع خاصّ وإجرائه لموضوع آخر؟

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ـ ١٠٧ و ٢٢٦ ـ ٦٥١ ، الاستبصار ١ : ٦ ـ ١ و ٢٠ ـ ٤٥ ، الوسائل ١ : ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٢) كفاية الأصول : ٣٤٠.

١٨٧

الإشكال الثاني على مفهوم الآية الشريفة : ما ذكره الشيخ قدس‌سره ، وهو : أنّ الشرطيّة ولو سلّم ظهورها في المفهوم في نفسها إلّا أنّها قد اقترنت بما يمنع عن ذلك الظهور ، بل يوجب ظهورها في عدم المفهوم ولا أقلّ من كونه مانعا عن انعقاد الظهور في المفهوم ، وهو عموم التعليل ، وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً)(١) إلى آخره ، فإنّه أقوى ظهورا في الدلالة على وجوب التبيّن في كلّ ما يكون فيه إصابة القوم بجهالة ولو كان خبر العادل من ظهور الشرطيّة في المفهوم وعدم وجوب التبيّن ، فوجب ظهورها في عدم المفهوم ، إذ لا أقلّ من تساوي الظهورين ، فيوجب المنع عن انعقاد الظهور في المفهوم ، لاحتفاف الكلام بالقرينة القطعيّة أو بما يصلح للقرينيّة (٢).

وتوضيحه : أنّه ليس المراد من إصابة القوم بجهالة هو الوقوع في مفسدة خلاف الواقع من العمل بخبر الفاسق ، وذلك لأنّ الموضوع هو طبيعيّ نبأ الفاسق ، ومن المعلوم أنّ تلك الطبيعة لا توجب الوقوع في ذلك دائما ، إذ الفاسق لا يكذب دائما ، بل قد يصدق في خبره ، فلا يترتّب على خبره الوقوع في ذلك ، بل المراد أنّه حيث لا يبالي بالكذب لفسقه يكون العمل بخبره معرضا للوقوع في مفسدة خلاف الواقع ، فالنهي عن العمل بخبره إنّما هو لأجل كونه موجبا لمعرضيّة الوقوع في مفسدة خلاف الواقع ، وليس المراد من إصابة القوم بجهالة هو الإصابة النوعيّة والوقوع في المفسدة النوعيّة ، كما هو ظاهر قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً)(٣) إذ الفاسق لا يخبر دائما عمّا يوجب العمل به معرضيّة الوقوع في المفسدة النوعيّة ، بل قد يخبر عن ملكيّة أحد لشيء أو عن

__________________

(١ و ٣) الحجرات : ٦.

(٢) فرائد الأصول : ٧٢.

١٨٨

عدالة أحد ونحو ذلك ممّا ليس في العمل به مظنّة الوقوع في المفسدة النوعيّة ، بل يكون فيه مظنّة الوقوع في المفسدة بالنسبة إلى شخص فقط ، فالمراد من الآية هو المنع عن العمل بخبر الفاسق لكونه موجبا لمظنّة الوقوع في المفسدة ، والتعبير بإصابة القوم بجهالة ، الظاهر في المفسدة النوعيّة إنّما هو لأجل أنّ خصوص مورد الآية ـ وهو إخبار الوليد عن ارتداد بني المصطلق ـ كان مترتّبا عليه المفسدة النوعيّة من قتل النفوس ونهب الأموال ونظائرهما ، فعلى هذا ، الميزان على تلك الكبرى الكلّيّة ، وهي معرضيّة الوقوع في المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع ، ومن المعلوم أنّ هذه الكبرى موجودة في خبر العادل أيضا ، لأنّه وإن لم يحتمل في حقّه الكذب العمدي لعدالته إلّا أنّه يحتمل في خبره الصدق والكذب وجدانا لأجل خطئه أو نسيانه ونحوهما ، فاحتمال الكذب المخبري غير موجود إلّا أنّ احتمال الكذب الخبري موجود ، فيكون العمل بخبره حينئذ في معرض الوقوع في المفسدة ، فيشمله عموم التعليل.

وهذا الإشكال في مقام إبداء المانع عن ظهور الشرطيّة في المفهوم بعد فرض ثبوت المقتضي له ، كما أنّ الإشكال الأوّل في مقام المنع عن أصل المقتضي.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان المراد من الجهالة هو عدم العلم ، فإنّ العادل والفاسق سيّان في عدم إفادة خبرهما العلم ، وليس المراد منها ذلك ، وإلّا يلزم التخصيص في موارد البيّنة ونحوها من الأمارات ، مع أنّ سياق التعليل آب عن التخصيص ، فلا يمكن أن يقال : «لا توقع نفسك في الهلكة إلّا في المورد الفلاني» فالمراد من الجهالة ليس عدم العلم ، بل المراد منها ـ كما هو الظاهر في الاستعمالات العرفيّة ـ هو السفاهة ، أي فعل ما لا ينبغي صدوره من العقلاء نوعا ، وحينئذ الفرق بين خبر العادل والفاسق في غاية

١٨٩

الظهور ، لأنّ السيرة العقلائية جرت على العمل بالأوّل ، وليس العمل بقوله عملا بما لا ينبغي وإصابة القوم بجهالة ، وهذا بخلاف العمل بخبر الفاسق ، إذ العقلاء لا يعملون بخبر فاسق إلّا بعد التبيّن ، فيدخل في إصابة القوم بجهالة وسفاهة.

لا يقال : كيف عمل الصحابة بخبر الوليد مع فسقه حيث تهيّئوا لحربهم؟ ولا يمكن الالتزام بسفاهة جميعهم ، بل كان فيهم عقلاء ، فيعلم أنّ الجهالة ليست بمعنى السفاهة.

فإنّه يقال : العمل بقول الفاسق يكون من السفاهة إذا كان مع العلم بفسقه ، وأمّا مع الجهل به واعتقاد عدالته أو ثقته فليس من السفاهة ، وعمل الصحابة وترتيبهم الآثار كان من هذا القبيل ، ولهذا نبّه في الآية على خطئهم في معتقدهم ، وأنّه فاسق بتطبيق تلك الكبرى الكلّيّة عليه.

ولو تنزّلنا عن ذلك ، وقلنا بأنّ المراد من الجهالة هو عدم العلم ، فقد أجاب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ عن ذلك بوجهين :

الأوّل : ما يشمل المقام وغيره ، بل في المقام أولى ، لأنّ العموم فيه مستفاد من الإطلاق ، وهو ما ذكره في بحث العامّ والخاصّ في تعارض العامّ مع المفهوم بأن كان المفهوم أخصّ من العامّ مطلقا ، كما في مفهوم الآية مع عموم التعليل ، فإنّ المفهوم يدلّ على وجوب العمل بقول العادل ، والتعليل يدلّ على حرمة العمل بغير العلم.

والوجه الثاني : ما ذكره في خصوص المقام.

أمّا الوجه الأوّل : فملخّصه : أنّه إذا دار الأمر بين تخصيص العامّ بالمفهوم والأخذ بالعموم وإلغاء الشرطيّة عن المفهوم ، فلا بدّ من تخصيص العامّ ، ولا يمكن أن يكون العامّ مانعا عن انعقاد الظهور للجملة الشرطيّة في

١٩٠

المفهوم ، وذلك لأنّ دلالة الجملة على المفهوم تتوقّف على أمرين :

أحدهما : ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم.

وثانيهما : ظهور الجملة في كون الشرط علّة منحصرة للجزاء ، إذ مع عدم ظهور الجملة في ذلك لا تدلّ على المفهوم ، إذ يمكن أن يكون للجزاء علّة أخرى تقوم مقام الشرط عند انتفائه.

وظهور الجملة الشرطيّة في الأوّل إنّما هو بالوضع ، لأنّ أداة الشرط قد وضعت للدلالة على ذلك ، كما يشهد به المراجعة إلى العرف ، فإنّهم لا يفهمون من الجملة إلّا رجوع القيد إلى الحكم ، ولذا ذكروا أنّ الشرط تعليق جملة بجملة لا مفرد بمفرد ، وأمّا ظهورها في الأمر الثاني إنّما هو بالإطلاق ، إذ مع ذكر العدل للشرط لا تدلّ على الانحصار ، فظهورها فيه إنّما هو من جهة عدم ذكر العدل وسكوته في مقام بيان تمام المراد.

وأمّا دلالة العامّ على العموم وظهوره في ذلك أيضا يتوقّف على أمرين :

أحدهما : بالوضع ، وهو ظهور أداة العموم في تسرية الحكم لكلّ فرد من الأفراد.

وثانيهما : دلالة المدخول على الطبيعة المطلقة ، إذ مع عدم دلالته على ذلك لا تدلّ الأداة على التسرية ، لأنّ الأوّل يدلّ بالوضع على عموم ما أريد من مدخوله ، فلو لم يكن المراد من المدخول الطبيعة المطلقة ، فلا تدلّ على تسرية الحكم إلى جميع الأفراد ، ولا ريب أنّ هذا بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، لما ذكرنا من أنّ الألفاظ لم توضع للدلالة على الطبيعة المطلقة ، بل وضعت للطبيعة المهملة ، وفي دلالتها على الطبيعة المطلقة تحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة.

فحينئذ نقول : كون العموم مانعا عن انعقاد الظهور للجملة الشرطيّة في

١٩١

المفهوم إمّا من جهة كونه مانعا عن الأمر [الأوّل] وهو كون الشرط ظاهرا في رجوعه إلى الحكم ، وإمّا من جهة كونه مانعا عن الأمر الثاني ، وهو ظهور القضيّة في الانحصار ، ومن الواضح عدم صلاحيته لواحد منهما ، إذ الأوّل إنّما هو بالوضع ، فكيف يمنع عنه ما يحتاج في دلالته على العموم إلى مقدّمات الحكمة!؟

وبعبارة أخرى : دلالة العامّ على العموم حيث إنّها بالأخرة تحتاج إلى مقدّمات الحكمة بالنسبة إلى المدخول تكون بالإطلاق ، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ، فدلالته إذا كانت بالإطلاق لا يمكن أن تكون مانعة عن دلالة الأداة على إرجاع القيد إلى الحكم الّذي يكون ذلك بالوضع.

وأمّا الثاني منهما وإن كان بالإطلاق إلّا أنّ العامّ لا يصلح لأن يكون مانعا عنه ، لأنّ غاية ما يكون العامّ دالّا عليه إنّما هي تسرية الحكم إلى جميع ما أريد من مدخوله ، وأمّا كونه دالّا على ثبوت العدل للشرط ومتكفّلا لهذه الجهة فلا (١).

وأمّا الوجه الثاني الّذي يختصّ بالمقام فهو : أنّ العامّ في القضايا الحقيقيّة ـ كما هو مورد الكلام ـ لا يتكفّل إلّا لإثبات الحكم على جميع أفراد موضوعه على تقدير وجوده وثبوت فرديّته من الخارج ، ولا يتكفّل لإثبات فرد للموضوع.

وحينئذ بعد الفراغ عن كون القضيّة الشرطيّة ظاهرة في المفهوم تدلّ الآية بمفهومها على خروج موضوع المفهوم ـ وهو نبأ العادل ـ عن كونه داخلا تحت موضوع العامّ ـ وهو كونه إصابة القوم بجهالة ـ بالحكومة ، فكيف يمكن أن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٩٨ ـ ٥٠٤.

١٩٢

يكون العامّ المحكوم موجبا لدخول موضوع الحاكم في موضوع نفسه ، وهو إصابة القوم بجهالة ، مع أنّ العامّ لا يتكفّل لإثبات موضوع نفسه ، بل يكون متكفّلا لإثبات الحكم على الفرد ، الثابتة فرديّة لموضوعه!؟

وبالجملة ، لا يعقل التعارض بين دليلي الحاكم والمحكوم ، ولا يمكن أن يكون دليل المحكوم مثبتا لفرديّة موضوع الحاكم لموضوع نفسه ، بل يتقدّم دليل الحاكم ، ومعه لا يبقى مجال لشمول موضوع المحكوم لموضوعه ، فانعقاد العموم للعامّ يتوقّف على عدم ظهور الشرطيّة بنفسها ، فهو في رتبة علّته ، ولا يعقل أن يكون ما هو في رتبة المعلول مانعا عمّا هو في رتبة علّته ، وهل هو إلّا دور واضح؟ بداهة أنّ معنى مانعيّته أن يكون عدم المفهوم مستندا إليه ، مع أنّ هذا كان في رتبة علّته ، فكيف يمكن أن يكون مستندا إلى ما هو في رتبة المعلول!؟

نعم ، كون عموم العامّ مانعا عن انعقاد المفهوم إنّما يصحّ في غير أمثال المقام الّذي لا تكون فيه بين المفهوم والعامّ نسبة الحاكميّة والمحكوميّة ممّا تكون فرديّة العامّ محرزة وجدانا ، سواء كان مفهوم أو لم يكن ، كما إذا قيل : «إن كان هذا رمّانا فلا تأكله ، لأنّه حامض» وفرضنا أنّه حامض آخر غير الرّمّان ، فإنّ فرديّة العامّ محرزة ولا تتوقّف على عدم المفهوم ، ففي مثله عموم العامّ يمنع عن انعقاد الظهور للشرط في المفهوم (١). هذا جملة ما أفاده في المقام مع توضيح.

وما ذكره في الوجه الثاني في غاية المتانة والجودة (١) ، وبه يندفع ما عن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٠٥.

(٢) أقول : لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّه لو كان مفاد مفهوم الآية أنّ خبر العادل لا يحتاج ـ

١٩٣

بعض المحقّقين ـ قدس‌سره ـ من أنّ عموم العامّ يتوقّف على عدم ثبوت المفهوم ، وثبوت المفهوم أيضا يتوقّف على العموم في التعليل ، فيلزم الدور.

وذلك لما ذكرناه من أنّ العموم وإن كان يتوقّف على عدم المفهوم إلّا أنّ ثبوت المفهوم لا يتوقّف على العموم في التعليل ، بل ظهور التعليل لا يمكن أن يكون مانعا عن انعقاد المفهوم ، لما ذكرنا من كونه حاكما عليه ، وهذا ظاهر.

وأمّا الوجه الأوّل : فهو غير تامّ.

أمّا أوّلا : فلما ذكرنا في العامّ والخاصّ من أنّ دلالة العامّ على العموم إنّما هي بالوضع ، ولا تتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول ، لأنّ نفس أداة العموم تدلّ على التساوي في أفراد المدخول ، وأنّه لا مدخليّة لخصوص فرد في ذلك ، فحينئذ لا بدّ من تقديمه على المفهوم الّذي تكون دلالته بالإطلاق فيما إذا كان في كلام متّصل ، كما في المقام ، لا في المنفصل ، لاحتياج الجملة الشرطيّة في دلالتها على الانحصار إلى عدم البيان ، والعامّ يصلح لأن يكون بيانا له ، ويثبت عدلا للشرط.

نعم ، إذا كان العموم في جملة مستقلّة منفصلة ، فيقدّم المفهوم عليه ، لأنّ المفهوم لأخصّيّته قرينة على المراد في العامّ ولو كان عمومه بالوضع ، لما

__________________

ـ إلى التبيّن ، لأنّه بنفسه علم وتبيّن ، لكان لحكومة المفهوم على التعليل وجه ، ولكنّه ليس كذلك ، فإنّ المفهوم ليس إلّا أنّ خبر العادل لا يحتاج إلى التبيّن ، وأمّا وجه ذلك ما ذا؟ فالمفهوم ساكت عنه. ولعلّه لاحترام العادل.

ويشهد على ما قلناه أنّ من لا يقول بأنّ المجعول في الأمارات هو الوسطيّة في الإثبات وتتميم الكشف ـ الّذي هو مبنى الحكومة ـ أيضا يقول بعدم وجوب التبيّن ، فعدم وجوب التبيّن عند خبر العادل ـ وهو مبنى حجّيّة خبر العادل ـ أعمّ من كونه علما ، ويحتاج إلى دليل آخر مفقود ، فالوجه الثاني المذكور في كلام المحقّق النائيني ـ وهو حكومة المفهوم على التعليل ـ غير صحيح. (م).

١٩٤

ذكرناه مفصّلا في العموم والخصوص.

وما ذكره في المقام ـ من أنّ العامّ إنّما يصلح لإثبات الحكم على جميع أفراد موضوعه ، ولا يتكفّل لإثبات العدل للشرط ـ غير صحيح ، إذ العامّ وإن كان لا يدلّ على إثبات العدل مطابقة إلّا أنّ دلالته عليه التزاما في غاية الوضوح ، ولا يحتاج إلى أزيد منها لإثبات العدل ، فإنّ مجرّد كونه دالّا على ثبوت الحكم المذكور في الجملة الشرطيّة لموضوع آخر مغاير للشرط كاف في إثبات العدل وإن لم يكن ناظرا إليه ، كما إذا قال : «إذا نمت فتوضّأ» وفي الدليل الآخر : «البول يوجب الوضوء» فإنّ الثاني وإن لم يكن مثبتا للعدل للشرط مطابقة إلّا أنّه يكون مثبتا للحكم المذكور في الشرطيّة لموضوع مغاير للشرط ، وهو البول ، وهو يكفي لإثبات العدل له التزاما.

وثانيا : لو سلّم توقّف دلالة العامّ على العموم على إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول ، فيصير حاله حال الجملة الشرطيّة بعينها ، فكما أنّ العامّ في دلالته على العموم بالأخرة يحتاج إلى المقدّمات في المدخول كذلك المفهوم يحتاج بالأخرة إليها لإثبات الانحصار ، وحيث إنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين يكون التعارض بين المطلقين ، ولا يمكن تقديم أحدهما ، فيوجب الإجمال ، فعلى هذا ، الحق مع الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ عموم العامّ يتقدّم على ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم ، لما ذكرنا من أنّه بالوضع ، فيقدّم على المفهوم الّذي هو بالإطلاق ، إلّا في خصوص المقام ، لكون المفهوم حاكما على العامّ ، كما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره.

الإشكال الثالث على المفهوم هو : ما نقل عن بعض من أنّ المراد بالتبيّن في المنطوق إمّا أن يكون هو العلم الوجداني أو مطلق الوثوق الأعمّ من العلم ، وعلى كلا التقديرين لا يمكن استفادة المفهوم منها.

١٩٥

أمّا على الأوّل : فلأنّ المراد من التبيّن لو كان هو العلم ، فحجّيّته ذاتيّة ، ووجوب العمل على طبقه من أحكام العقل ، فحكم الشارع بوجوب العمل على طبقه إرشاديّ ، فلا يستفاد المفهوم ، إذ ليس الحكم مولويّا حتى ينتفي عند انتفاء شرطه.

وأمّا على الثاني : فلأنّ المراد منه لو كان مطلق الوثوق ، فالجمع بين المفهوم والمنطوق غير ممكن ، لأنّه مستلزم لإحداث قول ثالث ، وذلك لأنّ المراد من المنطوق حينئذ أنّ خبر الفاسق لا يعمل به إلّا بعد الوثوق به ، ومقتضى المفهوم ـ بناء عليه ـ أنّ خبر العادل حجّة ، سواء كان مفيدا للوثوق أم لا ، مع أنّ العلماء بأجمعهم بين قائل باعتبار العدالة في حجّيّة الخبر ، ولا يعتنون بخبر الفاسق ولو كان موثوقا به ، وبين قائل باعتبار الوثوق في الخبر ، فلا يعملون بخبر غير موثوق به ولو كان راويه عدلا ، فالعمل بمفهوم الآية مع المنطوق كليهما ـ بأن يقال : يكفي في العمل بخبر الفاسق حصول الوثوق منه كأن يعمل به الأصحاب مثلا ، ولا يحتاج في العمل بخبر العادل إلى الوثوق ، بل يعمل به وإن لم يكن موثوقا به بإعراض المشهور عنه ـ إحداث للقول الثالث ، إذ على القول الأوّل لا يعمل بخبر الفاسق حتى الموثوق به ، وعلى القول الثاني لا يعمل بخبر العادل غير موثوق به موافقا للمفهوم.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّا نختار أوّلا الشقّ الثاني ، فنقول : قولكم : إنّه مستلزم لإحداث القول الثالث ، قلنا : ممنوع.

أمّا أوّلا : فلأنّ القائلين باعتبار العدالة لا نسلم أنّهم يعملون بخبر العادل ولو كان الوثوق بخلافه بأن أعراض الأصحاب عنه ، فإنّ صاحب المدارك ـ قدس‌سره ـ قائل باعتبار العدالة ، ومع ذلك لا يعمل بالخبر المعرض عنه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الجمع بين المنطوق والمفهوم لا محذور فيه ،

١٩٦

ولا يوجب إحداث القول الثالث ، وذلك لأنّ مقتضى المنطوق أنّه يجب في العمل بخبر الفاسق من حصول الوثوق به ، والمفهوم لا يقول : لا يعتبر الوثوق في العمل بخبر العادل ، بل يقول : إنّ الوثوق يحصل بنفس كون المخبر عادلا ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك ، لأنّ احتمال الكذب العمدي مفروض الانتفاء في حقّه ، واحتمال الخطأ منتف بحكم العقلاء وبنائهم ، فيحصل الوثوق بمجرّد كون المخبر عادلا ، غاية الأمر أنّ المفهوم مطلق يشمل ما إذا كان خبر العادل معمولا به أو معرضا عنه الأصحاب ، فلا بدّ من تقييده بدليل خارجي دلّ على أنّ إعراض الأصحاب عن خبر العادل يوجب وهنه وضعف الوثوق به ، فلا تنافي بين المفهوم والمنطوق مع القولين.

وثانيا : نختار الشقّ الأوّل ، وما ذكرتم من أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة ومن الأحكام العقليّة فلا مفهوم للقضية ، إنّما يصحّ إذا كان مفاد المنطوق وجوب العمل بالقطع الوجداني إذا كان الجائي بالنبإ فاسقا ، وليس كذلك ، بل مقتضى المنطوق على ذلك إنّما هو وجوب تحصيل العلم الوجداني إذا كان الجائي بالنبإ فاسقا ، ومن المعلوم أنّ وجوب تحصيل العلم غير وجوب العمل بالعلم ، وهو حكم مولويّ ، ومن الواضح أن ليس وجوبه نفسيّا ، لعدم مصلحة في نفسه ، بل المصلحة في العمل بالمخبر به ، كما أنّ وجوبه لا يكون غيريّا أيضا ، لعدم وجوب نفسيّ في البين يكون التبيّن مقدّمة له بل وجوبه وجوب شرطيّ بمعنى أنّ العمل بخبر العادل لا يكون مشروطا بتحصيل العلم بصدقة ، بخلاف الفاسق ، فإنّه مشروط بذلك.

وهل المراد بالتبيّن هو العلم الوجداني أو مطلق الوثوق أو غيرهما؟ سيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

هذا ، وقد أشكل الشيخ رحمه‌الله بمفهوم الآية إشكالا آخر ، وهو : أنّ

١٩٧

مفهوم الآية لا بدّ من طرحه ، لأنّه مستلزم لتخصيص المورد ، لأنّ مورد الآية إنّما هو إخبار الوليد عن ارتداد بني المصطلق ، ومن المعلوم أنّه لا يكفي في الإخبار عن الارتداد إخبار عادل واحد ، بل لا بدّ من البيّنة خصوصا في مثل المقام الّذي هو إخبار عن ارتداد طائفة ، لأنّه تترتّب على العمل به ـ على تقدير كذبه ـ مفاسد لا تحصى من القتل والنهب وغيرهما ، وحيث إنّ الالتزام بالمفهوم يستلزم إخراج المورد وهو مستهجن ، فلا يكون حجّة (١).

وقد أجاب عنه ـ قدس‌سره ـ بما توضيحه : أنّ المراد بالفاسق في المنطوق ليس هو الكثرة حتى تدلّ على الوحدة ، فيكون مفهوم الآية حجّيّة خبر العادل الواحد ، بل المراد هو الجنس ، فيكون المفهوم حجّيّة خبر جنس العادل واحدا كان أو متعدّدا ، سواء في الموضوعات الخارجيّة أو غيرها ، وسواء كان إخبارا عن الارتداد أو لا ، غاية الأمر أنّ إطلاقه غير معمول به في مثل المورد ، فلا بدّ من تقييده بمقتضى الأدلّة الخارجيّة الدالّة على اعتبار البيّنة في أمثاله ، ولا محذور فيه (٢).

وقد استشكل على هذا الجواب بعض بأنّ المراد بالتبيّن إمّا أن يكون هو العلم الوجداني أو مطلق الوثوق ، فعلى الأوّل لا مفهوم للآية ، لما ذكرنا من أنّ وجوب العمل على طبق القطع حكم عقليّ ، فحكم الشارع ليس إلّا إرشاديّا ، وعلى الثاني يلزم حجّيّة خبر الفاسق الموثوق به حتى في مورد الآية ، لئلا يلزم تخصيص المورد ، ومن الضروريّ أنّه لا يمكن العمل بخبر الفاسق في مثل المورد الّذي هو عبارة عن الارتداد حتى مع الوثوق أيضا مع ما فيه من التوالي الفاسدة على تقدير الكذب.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٧٦.

(٢) فرائد الأصول : ٧٦.

١٩٨

وبعبارة أخرى : أنّ المراد بالتبيّن لا يمكن أن يكون هو الوثوق ، وإلّا فاللازم قبول خبر الفاسق بالنسبة إلى المورد أيضا مع أنّه غير جائز قطعا ، وحيث إنّ تخصيص المورد مستهجن ، فلا بدّ وأن يكون المراد بالتبيّن هو العلم الوجداني ، وقد ذكرنا أنّ العلم واجب العمل بحكم العقل ، فلا يكون حكم الشارع في مورده مولويّا ، فلا تدلّ القضيّة على المفهوم.

والجواب : أمّا أوّلا : فبما ذكرنا من أنّ الواجب ليس وجوب العمل على طبق العلم ، بل الحكم إنّما هو تحصيل العلم.

وأمّا ثانيا : فبأنّ المراد بالتبيّن ليس هو العلم الوجداني ولا الوثوق ، بل المراد ما هو معناه اللغوي ، وهو مشتق من «بان يبين» إذا ظهر ، والمراد بالتبيّن هو طلب الظهور مطلقا ، لا خصوص العلم ، ولا خصوص الوثوق ، كما هو المراد من قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ)(١) وحينئذ لا بدّ من ملاحظة مصاديق الظهور ، وحيث إنّ الآية لا يمكن أن تكون متكفّلة لبيان المصاديق ، فلا بدّ من إحراز ذلك من المراجعة إلى الخارج ، وقد علمنا أنّ القطع الوجداني مصداق له ، وأمّا غيره فلا بدّ من المراجعة إلى الشارع في أنّ مصداق التبيّن والظهور ولو بإمضاء وتقرير منه للطرق العقلائية ما هو؟ كما علمنا كون المخبر عادلا من مصاديق التبيّن بدلالة المفهوم حيث إنّ وجوب التبيّن يدلّ بالملازمة العرفيّة على أنّه بنفسه مصداق للتبيّن ، لأنّ احتمال الكذب منتف على الفرض ، واحتمال الخطأ لا يعتني به العقلاء ، فهو بنفسه يكون مصداقا له ، ولذا قلنا بحكومة المفهوم وأنّ خبر العادل خارج عن «إصابة القوم بجهالة» موضوعا ، وقد ثبت ذلك أيضا في نحو اليد وسوق المسلم ونحوهما ،

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

١٩٩

ولذا يقبل قول ذي اليد الفاسق في طهارة ما في يده أو ملكيّته له حتى لو كان كافرا ، وهكذا سوق المسلم والوثوق وإن كان من الطرق العقلائيّة التي أمضاها الشارع إلّا أنّه بمقتضى الأدلّة الدالّة على اعتبار البيّنة في باب المخاصمات علمنا أنّه في تلك الموارد لا يكون الوثوق ممضى عند الشارع ، فلذا لا يكون مصداقا للظهور والتبيّن ، وكذلك الحال في الإخبار عن الارتداد ، فإنّ مقتضى الدليل الدالّ على اعتبار البيّنة فيه هو : أنّ الوثوق فيه غير مفيد ، وليس من مصاديق الظهور عند الشارع ، ولذا لا يكون إخبار الفاسق الموثّق حجّة في باب الارتداد.

وبالجملة ، ليس المراد بالتبيّن هو الوثوق حتى يلزم تخصيص المورد ، لعدم حجّيّة خبر الفاسق ، الموثوق به في الارتداد ، بل المراد منه طلب الظهور ، فلا بدّ في كلّ مورد أخبر الفاسق عن شيء من أن يرى ما المصداق للظهور في ذلك المورد؟ والوثوق وإن كان مصداقا للظهور في جملة من الموارد إلّا أنّه ليس من مصاديقه في باب الارتداد والمخاصمات بمقتضى أدلّة اعتبار البيّنة في تلك الأبواب.

وهذا هو الوجه في تقيّد المفهوم في نحوها ، فإنّ مقتضى إطلاق المفهوم وإن كان حجّيّة خبر العادل مطلقا إلّا أنّ دليل اعتبار البيّنة يقيّد إطلاق المفهوم ، ويحكم بوجوب التعدّد في موارد خاصّة.

وقد أشكل أيضا بدلالة المفهوم بأنّ مقتضى حجّيّة قول العادل إنّما هو قبول قول السيّد ـ قدس‌سره ـ حيث أخبر بعدم حجّيّة خبر الواحد مستدلّا بالإجماع ، فحجّيّة خبر العادل ، الّذي منه هذا الخبر المنقول عن السيّد ـ قدس‌سره ـ مستلزمة لعدم حجّيّته ، فلزم من وجودها عدمها.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال ليس كالإشكالات السابقة في كونه مختصّا بخصوص آية النبأ ، بل يجري في جميع أدلّة حجّيّة خبر الواحد.

٢٠٠