الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

فصل :

في حجّيّة الشهرة.

فنقول : إنّ الشهرة تارة تكون في الرواية ، وأخرى في الاستناد ، وثالثة في الفتوى.

أمّا الشهرة في الرواية : فهي أن تكون رواية نقلها مشهورة متكرّرة بين الرّواة بحيث نقلها كثير منهم ، وفي مقابلها الشاذّ النادر الّذي لم ينقله إلّا قليل منهم.

ولا ريب أنّ هذه الشهرة من المرجّحات في مقام التعارض ، كما تدلّ عليه مرفوعة زرارة «خذ بما اشتهر بين أصحابك» (١) أو مقبولة عمر بن حنظلة (٢).

وأمّا الشهرة في الاستناد : فهي أن تكون رواية استند المشهور إليها في مقام الفتوى وعملوا بها ، وفي مقابل ذلك إعراض المشهور عن رواية.

ولا ريب أنّ هذه الشهرة توجب جبر ضعف سند الرواية لو كانت ضعيفة السند ، كما أنّ إعراض المشهور يوجب ضعف الرواية الصحيحة ، لما سيجيء في آخر بحث خبر الواحد من أنّ عمل المشهور برواية ـ مع علمهم بضعفها ـ كاشف عن كونها محتفّة بقرينة أوجبت صيرورتها موثوقا بها عندهم ، وإلّا

__________________

(١) غوالي اللئالي ٤ : ١٣٣ ـ ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ـ ١٠ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٣ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، الباب ٩ صفات القاضي ، الحديث ١.

١٦١

لم يعملوا بها ، كما أنّ إعراضهم عن رواية ـ مع علمهم بصحّة سندها ـ كاشف عن كونها ضعيفة عندهم بوجه لا نعلمه.

نعم ، لا بدّ من علمهم بالضعف في الأوّل والقوّة في الثاني ، لكونها بمرأى ومسمع منهم ، وإلّا لا تكون جابرة أو كاسرة.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة : فهي أن تكون الفتوى بشيء مشهورة بين العلماء من دون الاستناد إلى رواية ، وقد اختلف في حجّيّتها ، فقيل بحجّيّتها لوجوه :

منها : إطلاق قوله عليه‌السلام في مرفوعة زرارة : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر» وعموم التعليل في مقبولة ابن حنظلة «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» فإنّ المراد هو الشهرة لا الإجماع بقرينة قوله : «ودع الشاذّ النادر» وإطلاق الأوّل وعموم الثاني يشمل الشهرة الفتوائيّة ، فإنّ الصلة معرّفة للموصول ، فكأنّه قال : «خذ بالمشهور والمجمع عليه».

وقد أجاب الشيخ (١) ـ قدس‌سره ـ عنه أوّلا : بأنّ المراد من الشهرة ليس هو الشهرة الاصطلاحيّة ، بل هي بمعناها اللغوي ، وهو الظهور والوضوح عند كلّ أحد بحيث لا ينكره، من قولنا : «شهر فلان سيفه» أي سلّ ، بقرينة إدخاله عليه‌السلام المشهور في «بيّن الرشد» وخلافه في «المشكل» الّذي يردّ علمه إليهم في ذيل الحديث ، فالمراد بالمشهور هو الواضح الظاهر ، ومن الواضح أنّ الشهرة في الرواية حيث إنّها من الأمور الحسّيّة توجب فيها الظهور والوضوح.

وأمّا الفتوى : فحيث إنّها مبنيّة على الحدس والاجتهاد لا تكون الشهرة موجبة للظهور ولا لوضوح أنّها على الرشد ، لما ذكرنا من أنّه كلّما زاد الخبر في الأمر الحسّي يوجب بعد الاحتمال حتى يصل إلى مرتبة القطع ، بخلاف الإخبار

__________________

(١) انظر : فرائد الأصول : ٦٦.

١٦٢

عن الأمر الحدسيّ ، فإنّه لا يوجب ذلك ، ويكون المشهور وغيره فيه على حدّ سواء في احتمال الخطأ ، وعلى هذا فالرواية لا تشمل الشهرة الفتوائيّة.

وممّا يدلّ على عدم الشمول فرض الراوي أنّ كليهما مشهوران ، ومن الواضح أنّه يستحيل في الشهرة الفتوائية ، لأنّه إذا كان أحدهما مشهورا ، فالآخر لا محالة يكون نادرا ، وهذا بخلاف الشهرة في الرواية ، فإنّ ذلك فيها ممكن بأن يكون الحديثان قد نقلهما جميع الرّواة ، وليس المراد بالشهرة في الرواية أن تكون إحدى الروايتين ممّا نقله أكثر الرّواة والرواية الأخرى منقولة عن بقيّة الرّواة كما في الفتوى حتى يمتنع تصوّر الشهرة في الرواية أيضا ، بل المراد أنّ كلّ من روى غير المشهور فقد روى المشهور أيضا مع زيادة ، فحينئذ يمكن تصوّر الشهرة فيهما معا ، بخلاف الفتوى ، فالرواية لا تشمل الشهرة الفتوائيّة.

وثانيا : بأنّه كما تكون الصلة معرّفة للموصول كذلك تكون الجملة المتقدّمة في الكلام معرّفة للمتأخّرة ، فلو قال أحد للمخاطب : «أيّ الرمّانتين أحبّ إليك؟» فقال في الجواب : «ما يكون أكبر» فلا ريب أنّ هذا الجواب لا يدلّ على أنّ كلّ ما هو أكبر يكون محبوبا له ، بل يدلّ على محبوبيّة خصوص الأكبر من الرمّان ، فالسؤال يكون معرّفا للأكبر الواقع في الجواب ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ قول السائل : «يأتي عنكم خبران» يدلّ على أنّ المراد بالموصول في قول الإمام عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» هو المشهور من الخبرين لا من غيرهما ، فلا إطلاق في الجواب ، وكذلك في التعليل الوارد في المقبولة ، فلا عموم فيه أيضا.

هذا ، ولا يخفى أنّ كلا الجوابين في غاية المتانة.

ومن الوجوه التي استدلّوا بها على حجّيّة الشهرة : أنّ حجّيّة خبر الواحد إنّما تكون لكونه مفيدا للظنّ ، فحيث إنّ الظنّ المستفاد من الشهرة أقوى من

١٦٣

الظنّ الحاصل من الخبر ، فتكون حجّة بطريق أولى.

وفيه أوّلا : أنّ ذلك إنّما يسلّم لو علمنا بأنّ الملاك في حجّيّة الخبر هو إفادته الظنّ ، فيستفاد منه حجّيّة كلّ ظنّ مساو معه أو أقوى ، وأمّا إذا لم نعلم ذلك بل علمنا بأنّ ملاك الحجّيّة فيه ليس ذلك ، إذ الخبر وإن كانت حجّيّته من باب الطريقيّة أو الموضوعيّة إلّا أنّه ليس المراد من الطريقيّة هو كونه مفيدا للظنّ ، بل المراد أنّه لا تحدث بسبب قيامه على شيء مصلحة في المؤدّى في قبال مصلحة الواقع ، وإنّما أعطى الشارع صفة الطريقيّة للخبر لأجل كونه أغلب المطابقة للواقع لا بملاك الظنّ ، فحينئذ إذا أحرز كون شيء بمثابة الخبر في غلبة المطابقة للواقع أو أقوى منه ، فيؤخذ به ، ولم يحرز ذلك في الشهرة ، فلا يمكن إثبات حجّيّتها من دليل حجّيّة الخبر.

وثانيا : كون الملاك لحجّيّة الخبر هو غلبة المطابقة للواقع أيضا غير معلوم ، بل لعلّه شيء آخر ولا ندري به ، فلا بدّ من متابعة الدليل ، إذ الأصل في الظنّ ـ كما ذكرنا ـ عدم الحجّيّة ، ولا بدّ في الخروج عنه من ورود دليل ، وحيث إنّ الدليل قام على حجّيّة الخبر ، ولم يقم في الشهرة ولا يمكن استفادة حجّيّتها من الدليل الأوّل على حجّيّة الخبر ، فلا بدّ من القول بعدم حجّيّتها.

ومن الوجوه التي استدلّوا بها : استفادة ذلك من عموم التعليل الوارد في آية النبأ ، وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) فيستفاد منه أنّ كلّ ما لا تكون فيه إصابة القوم بجهالة لا بدّ من الأخذ به بلا تبيّن ، وكما أنّ الشهرة الاستناديّة تكون حجّة موجبة لجواز الأخذ بالرواية الضعيفة التي قامت الشهرة على الاستناد إليها ـ لأنّ الأخذ بتلك الرواية مع

__________________

(١) الحجرات : ٦.

١٦٤

الشهرة لا يكون من إصابة القوم بجهالة في شيء ، فتكون حجّة ـ كذلك الشهرة الفتوائيّة توجب خروج الأخذ بتلك الفتوى عن إصابة القوم بالجهالة ، فتكون موجبة لحجّيّة تلك الفتوى وعدم وجوب التبيّن فيها.

وفيه : أنّ معنى التمسّك بعموم التعليل إنّما هو إسراء الحكم إلى كلّ موضوع ثبتت فيه تلك العلّة وإن كان مخالفا لموضوع الحكم ، ومعنى تخصيص الحكم بمورد التعليل إنّما هو تضيّق الحكم بموارد ثبوت العلّة وإن كان نفس الموضوع يشمل غيرها أيضا.

وكيف كان فلا بدّ في موارد تعميم الحكم أو تخصيصه من ثبوت العلّة حتى يترتّب عليها ذلك الحكم ، وليس معنى العمل بعموم التعليل هو إثبات نقيض الحكم في موارد عدم العلّة ، بل يمكن أن يكون لذلك الحكم علّة أخرى ، فلو قال : «لا تأكل الرمّان ، لأنّه حامض» يكون مقتضى عموم التعليل هو المنع عن أكل كلّ حامض ، ومعنى تخصيص الحكم بموارد ثبوت العلّة أن يكون المحرّم خصوص الرمّان الحامض ، فلا يشمل الحلو منه ، فعلى أيّ حال ليس معنى عموم التعليل هو عدم ثبوت الحرمة في غير الحامض ، لعدم دلالة هذه القضيّة على الانحصار ، لإمكان أن تكون الحرمة في غير الحامض مستندة إلى علّة أخرى ، فحينئذ القدر المستفاد من عموم التعليل في الآية إنّما هو وجوب التبيّن وعدم جواز الأخذ قبله في كلّ ما يكون إصابة قوم بجهالة ، خبرا كان أو شهرة أو غيرهما ، ولا يستفاد منه عدم وجوب التبيّن ووجوب الأخذ بكلّ ما لا تكون فيه إصابة القوم بجهالة.

هذا ، مضافا إلى أنّه لا وجه لقياس الشهرة الفتوائيّة بالشهرة الاستناديّة ، إذ الشهرة الاستناديّة بنفسها تبيّن وتحقيق في مورد الخبر الضعيف ، وهذا بخلاف الشهرة الفتوائيّة ، فإنّها ليست تبيّنا في موارد الفتوى ، فإذا كان هناك خبر ضعيف

١٦٥

وفتّشنا ورأينا أنّ المشهور استندوا إليه ، يكون نفس استنادهم تبيّنا ، لكونه إخبارا عن صدور ذلك الخبر ، وحيث إنّه إخبار عن أمر حسّيّ تكون شهرتهم في ذلك كإخبار جماعة كثيرة موثوق بهم عن وقوع ذلك الأمر الحسّيّ وهو المخبر به ، فلذا يوجب الوثوق والاطمئنان بصدور ذلك الخبر ، ويصير صدوره واضحا ومبيّنا ، وهذا بخلاف الشهرة الفتوائيّة ، فإنّه إذا حقّقنا وفتّشنا ورأينا أنّ المشهور أفتوا بذلك ، فليس إفتاؤهم تبيّنا وظهورا عن تلك الفتوى ، فإنّه أمر حدسيّ ، فيكون كإخبار جماعة عن أمر حدسيّ ، وهو لا يوجب الاطمئنان بأنّ الفتوى هي الواقع حتى يكون ذلك تبيّنا وظهورا عنه ، إذ إخبار جماعة عن أمر حدسيّ ليس إلّا كإخبار واحد عنه في عدم كونه موجبا للظهور.

* * *

١٦٦

فصل :

في حجّيّة الخبر الواحد.

فنقول : إنّه من أهمّ المباحث الأصوليّة ، إذ الأدلّة القطعيّة ـ كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة القطعيّة والإجماع ونحوها ـ في غاية الندرة ، وليست الخصوصيّات الواقعة في العبادات والمعاملات ـ كوجوب السورة والإقامة ـ ممّا نطقت بها تلك الأدلّة القطعيّة ، فباب العلم بالأحكام منسد قطعا ، ويبقى باب العلميّ ، فلو قلنا بعدم حجّيّة أخبار الآحاد يصير باب العلميّ أيضا منسدّا ، فلا بدّ من الالتزام بوجوب العمل بالظنّ ، بخلاف ما إذا قلنا بحجّيّة الأخبار ، فإنّه حينئذ يصير باب العلميّ مفتوحا ، وينسدّ باب الانسداد ، فهو من أهمّ المسائل الأصوليّة ، وله ثمرات عمليّة ، فلا وجه للإشكال في كونها من المسائل الأصوليّة من جهة أنّ المسألة الأصوليّة هي ما يبحث فيها عن أحوال الأدلّة التي هي موضوع علم الأصول ، والخبر الحاكي عن السنّة ليس من الأدلّة الأربعة ، فلا يكون البحث عنه بحثا عن أحوال الأدلّة.

وذلك لأنّ كونه من المسائل الأصوليّة ممّا لا إشكال فيه ، فلا بدّ من اتّخاذ الموضوع على وجه ينطبق عليه أيضا ، إذ الموضوع للعلم ليس إلّا ما ينتزع عن موضوعات مسائله ، وكون هذا البحث من المسائل واضح ، فلا بدّ من انتزاع أمر ينطبق عليه وجعله هو الموضوع ، أو أن يفرض أوّلا الموضوع شيئا ثمّ تطبّق المسائل عليه ، ويحكم بخروج بعض المسائل عن العلم ، إذ لا بدّ من ردّ المتشابه إلى المحكم لا العكس ، فإذا كان هذا البحث من المسائل قطعا ، فلا بدّ من أخذ الموضوع على وجه يصحّ انطباقه عليه أيضا.

١٦٧

وأمّا جعل الموضوع أوّلا هو الأدلّة الأربعة والإشكال في كون هذا من المسائل الأصوليّة إنّما هو من قبيل ردّ المحكم إلى المتشابه ، إذ لم تجعل الأدلّة الأربعة موضوعا للأصول في آية أو رواية ، فالإشكال إنّما هو في أخذ الأدلّة الأربعة موضوعا لا في كون هذا البحث من المسائل ، فعلى هذا لا نحتاج إلى التكلّف للجواب ـ كما ارتكبه الشيخ قدس‌سره ـ بأنّ العمل على طبق الخبر يحتاج إلى جهات ثلاث :

إحداها : البحث عن صدور الخبر.

الثانية : عن جهة صدوره من أنّه هل صدر تقيّة أو لبيان الحكم الواقعي؟

الثالثة : البحث عن دلالته.

وحيث إنّ البحث عن الدلالة قد مرّ في بحث الظواهر ، والبحث عن الجهة الثانية غير محتاج إليه ، لأجل بناء العقلاء على حمل كلام كلّ متكلّم على بيان مراده الجدّي ، فيقع البحث في الجهة الأولى فقط ، وهو : أنّه هل السنّة تثبت بخبر الواحد أم لا؟ فحينئذ يكون البحث عن أحواله بحثا عن أحوال السنّة ، فتدخل في المسائل الأصوليّة (١).

ولا يخفى عدم تماميّة هذا الجواب ، وذلك لأنّ المراد إن كان الثبوت الواقعي الّذي هو مفاد «كان» التامّة ، فهو على قسمين ، لأنّ الثبوت والوجود على قسمين : خارجي وذهني.

فإن كان المراد هو الخارجي ، فهو واضح الفساد ، لأنّ وجود السنّة خارجا معلول لعلّته ، وليست الخبر الحاكي ، وهذا واضح.

وإن كان المراد هو الذهني ، فهو أيضا فاسد ، لأنّ الخبر يحتمل الصدق

__________________

(١) فرائد الأصول : ٦٦ ـ ٦٧.

١٦٨

والكذب ، فكيف يكون علّة للقطع بالنسبة لوجودها في عالم النّفس والذهن!؟إذ ليس الكلام في المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعيّة حتى يوجبا القطع ، بل الكلام في الخبر الواحد ، ومن الواضح أنّه يحتمل الكذب ، فلا تثبت به السنّة في عالم النّفس ، والظاهر أنّه لم يرد بالثبوت الثبوت الواقعي ، بل الثبوت التعبّدي ، وحينئذ يرد عليه :

أوّلا : أنّ البحث عن الثبوت ـ الّذي مرجعه إلى أنّه هل خبر الواحد كالسنّة عند الشارع؟ وهل يكون منزّلا منزلتها في وجوب العمل؟ ـ بحث عن أحوال الخبر الحاكي وعن عوارضه ، ولا يكون بحثا عن السنّة.

وثانيا : أنّ الملاك في المسائل ما يبحث عنه في العلم مطابقة ، لا ما يبحث عنه التزاما ، والمبحوث عنه في الأصول مطابقة ليس هو حجّيّة السنّة ، بل حجّيّة الخبر. هذا.

وقد أجاب عن الإشكال بعض (١) المحقّقين : بأنّه في كلّ تنزيل لا بدّ من منزّل ومنزّل عليه وجهة التنزيل ، والمنزّل في المقام هو الخبر الواحد ، والمنزّل عليه هو السنّة ، وجهة التنزيل هي الحجّيّة ، وحينئذ كما يمكن أن يقال في التنزيل : هل نزّل الخبر منزلة السنّة في تلك؟ كذلك يمكن أن يقال : هل السنّة منزّل منزلتها شيء في الحجّيّة وهو الخبر ، أم لا؟ كما أنّه في قولنا : «زيد كالأسد» يمكن أن يقال : زيد شبّه بالأسد في الشجاعة ، ويمكن أن يقال : الأسد شبّه به زيد في الشجاعة ، وحينئذ فالبحث على النحو الأوّل وإن لم يكن من المسائل ، لكونه بحثا عن أحوال الخبر ، إلّا أنّه على النحو الثاني بحث عن أحوال السنّة ، فيكون من المسائل.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣٧ و ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

١٦٩

ولا يخفى ما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ جهة البحث في المقام ليست هي أنّ السنّة هل نزّل منزلتها شيء أم لا؟ بل جهة البحث إنّما هي أنّ الخبر هل هو حجّة ومنزّل منزلة السنّة أم لا؟ فيكون البحث عن أحوال الخبر لا السنّة.

وثانيا : قد ذكرنا في أوّل بحث الظنّ أنّ الشارع لم ينزّل شيئا منزلة شيء ، لا المؤدّى منزلة الواقع ، ولا الظنّ منزلة القطع ، والمجعول في باب الأمارات ليس هو التنزيل لا في المؤدّى ولا في نفس الظنّ ، وإنّما المجعول فيها هو اعتبار الطريقيّة للظنّ ، فالتنزيل فيها أمر لا واقع له ، هذا.

ثمّ إنّه اختلف في حجّيّة الخبر الواحد وعدمها ، فذهب السيّد والقاضي وابن زهرة وابن إدريس والطبرسي إلى عدم الحجّيّة (١) ، بل ادّعى بعضهم الإجماع وضرورة المذهب على عدمها ، نظير القياس ، وذهب المشهور إلى حجّيّته.

واستدلّ المانعون بوجوه :

منها : الإجماع.

ولا يخفى أنّه موهون أوّلا : بقيام الشهرة القطعيّة على خلافه.

وثانيا : أنّ المحصّل منه غير حاصل ، والمنقول منه لا يكون حجّة في المقام ولو كان حجّة في غيره ، وذلك لأنّ حجّيّة الإجماع متوقّفة على حجّيّة الخبر الواحد ، إذ لو لم نقل بحجّيّة الخبر عن حسّ فعدم حجّيّته إذا كان عن حدس بطريق أولى ، وأمّا لو قلنا بحجّيّة الخبر ، فإن قلنا بشمول دليلها للخبر الحدسي أيضا ، يكون موجبا لحجّيّة الإجماع المنقول ، فحينئذ حجّيّة الإجماع

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٢٨ ، المهذّب ٢ : ٥٩٨ ، الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٧٥ ، السرائر ١ : ٤٧ ، مجمع البيان ٩ : ١٩٩ في تفسير آية النبأ.

١٧٠

تتوقّف على حجّيّة الخبر فكيف يمكن أن يستدلّ على عدم حجّيّته بالإجماع!؟

ومنها : الأخبار الكثيرة بل المتواترة إجمالا ـ بمعنى القطع بصدور بعضها ـ الدالّة على أنّ الخبر إذا كان مخالفا للكتاب أو السنّة ، أو لم يعلم عليه شاهد من كتاب الله تعالى ، أو لم يعلم أنّه قولهم ، أو لم يكن موافقا للقرآن أو غير ذلك ، لا بدّ من ردّه وضربه على الجدار ، أو أنّه زخرف ، أو لم أقله (١) ، وغير ذلك من التعبيرات ، ومن الواضح أنّ أكثر أخبار الآحاد من هذا القبيل ، لأنّها مخالفة لعموم أو إطلاق أو غير ذلك من القرآن ، فلا تكون حجّة أصلا.

وجوابه : أنّ هذه الأخبار الكثيرة وإن كانت دالّة على عدم حجّيّة أخبار الآحاد إلّا أنّها معارضة بالأخبار الكثيرة الأخر الدالّة على حجّيّتها ، وهذه الأخبار أيضا مقطوعة الصدور إجمالا ، كما في قوله : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني (٢)؟ وقوله عليه‌السلام : ما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» (٣) وقوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (٤) وغير ذلك من الأخبار الكثيرة.

وحينئذ لا بدّ في مقام الجمع من حمل الأخبار المانعة على أحد أمور على سبيل منع الخلوّ ، وليس المراد حمل الجميع على أحد هذه الأمور ، بل المراد حمل كلّ طائفة منها على أحد هذه الأمور :

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٩ ـ ٣ ـ ٥ ، المحاسن : ٢٢٠ ـ ٢٢١ ـ ١٢٨ و ١٣٠ ، الوسائل ٢٧ : ١١٠ و ١١١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١٢ ـ ١٥.

(٢) اختيار معرفة الرّجال : ٤٩٠ ـ ٩٣٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

(٣) الكافي ١ : ٣٣٠ ـ ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

(٤) اختيار معرفة الرّجال : ٥٣٥ ـ ٥٣٦ ـ ١٠٢٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

١٧١

منها : أنّ المراد في الأخبار المانعة هو الأخبار المخالفة للقرآن بنحو التباين.

ودعوى : أنّه ليس المراد من المخالفة هذا النحو من المخالفة ، إذ لم يصدر عن المخالفين الأخبار المخالفة بهذا النحو ، إذ لو كان صدر عنهم هذا النحو من الأخبار ، فلا يصدّقهم أحد في ذلك ، ممنوعة : بأنّها إنّها تصحّ لو كان صدورها بطريق النقل عن الأئمّة ، وأمّا لو كان من قبيل الدسّ في الكتب ـ كما يشهد به ما عن مولانا الصادق عليه‌السلام : «إنّ فلانا (١) دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث» (٢) ـ فلا مانع من صدورها عنهم بهذا النحو.

ويشهد بهذا الجمع : صدور الأخبار المخالفة لإطلاق آية أو عمومها في كثير من أبواب الفقه قطعا ، كقوله عليه‌السلام : «لا ربا بين الوالد والولد» (٣) المخالف لظاهر قوله تعالى : (حَرَّمَ الرِّبا)(٤) وقوله عليه‌السلام : «نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر» (٥) المخالف لظاهر (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٦) ونحوها ، فليس المراد من قوله عليه‌السلام : «لم أقله» أو «زخرف» أو غير ذلك هذا النحو من المخالفة ، وإلّا لانسدّ باب العمل بالأحكام ، ويوجب تأسيس دين جديد ، إذ الأخبار المتواترة والمحفوفة بالقرائن القطعيّة في غاية القلّة ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذا النحو من

__________________

(١) يعني المغيرة بن سعيد.

(٢) اختيار معرفة الرّجال : ٢٢٤ ـ ٤٠١ ، وعنه في البحار ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ـ ٦٢.

(٣) الكافي ٥ : ١٤٧ ـ ١ و ٣ ، الفقيه ٣ : ١٧٦ ـ ٧٩١ ، التهذيب ٧ : ١٨ ـ ٧٦ ، الوسائل ١٨ : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الرّبا ، الحديث ١ و ٣.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٥ ـ ٤٦ ـ ١٦٨ ، وعنه في البحار ٧٠ : ٣٠٤ ـ ١٩. مصنّف عبد الرزاق ٨ : ١٠٩ ـ ١٤٥٠٧ و ١٤٥٠٨ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٣٨ ، مسند أحمد ١ : ٤٩٧ ـ ٢٧٤٧.

(٦) البقرة : ٢٧٥.

١٧٢

المخالفة ليس مخالفة أصلا.

والقول بالتخصيص في الأخبار المانعة عن العمل بالخبر المخالف بهذا النحو من المخالفة مناف لسياق تلك الأخبار ، لعدم قبولها التخصيص ، مع أنّه موجب لتخصيص الأكثر.

الوجه الثاني من وجوه الجمع هو : أن تحمل الأخبار المانعة على المنع عن العمل بها في أصول الدين ، وذلك لأنّ الكذّابين كانوا في زمن الصادقين عليهما‌السلام كثيرا ما يكذبون عليهما في باب أصول الدين في مثل مسائل الجبر والتفويض والغلوّ وغيرها ، فلذا منعوا عن العمل بأخبار الآحاد في باب أصول الدين حيث إنّ المعتبر فيه العلم ، وهذه الأخبار ممّا يحتمل فيه الصدق والكذب ، وقد نقل عن أهل التاريخ أنّ الأخبار كانت مشحونة بأمثال هذه الأخبار ، لكنّ الكتب المعتبرة الموجودة عندنا ـ كالكتب الأربعة وغيرها ـ مهذّبة عن أمثالها ، فعلى هذا تخرج الأخبار المانعة عن محلّ الكلام ، لأنّ الكلام في فروع الدين لا في الأصول.

الوجه الثالث من وجوه الجمع : أن تحمل تلك الأخبار على صورة المعارضة بين الخبرين ، فإنّ من المرجّحات أن يؤخذ بما هو موافق للكتاب والسنّة ، ويطرح غير الموافق ، ويشهد بهذا الجمع الأخبار الواردة في باب التعارض ، فإنّها تدلّ على حجّيّة الخبر المخالف أيضا مع قطع النّظر عن المعارضة ، بل تدلّ على حجّيّته حتى مع المعارضة أيضا حيث إنّ الراوي بعد ما فرض تعارض الروايتين ، فأجاب عليه‌السلام بأنّه «خذ بما اشتهر» ثمّ بعد ذلك قال الراوي : إنّ كليهما مشهوران مأثوران عنكم ، فأجاب عليه‌السلام بأخذ ما رواه الأعدل والأفقه وغير ذلك ، ثمّ بعد فرض التساوي في جميع ذلك أجاب عليه‌السلام بالأخذ

١٧٣

بما وافق الكتاب والسنّة (١) ، ومن الواضح أنّها تدلّ على أنّها في فرض التعارض يجب أوّلا الأخذ بالمشهور ، سواء كان موافقا للكتاب والسنّة أو مخالفا لهما ، ثمّ بعد ذلك الأخذ بما كان راويه أعدل أو غير ذلك ، سواء كان موافقا للكتاب والسنّة أم لا ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى الأخذ بالموافق لهما وطرح المخالف ، فالمخالف للكتاب من الخبرين المتعارضين قبل وصول العلاج إلى الموافقة والمخالفة يكون حجّة بحكم هذا الخبر إذا كانت روايته مشهورة أو راويه أعدل ، نعم بعد وصول النوبة إلى ذلك لا بدّ من الأخذ بالموافق دون المخالف ، فالأخبار المانعة عن العمل بالمخالف أو غير الموافق لهما إنّما تحمل على صورة التعارض ، كما ذكرنا ، فلا تدلّ على عدم الحجّيّة حتى في فرض عدم التعارض أو في بعض فروض المعارضة.

ومن الوجوه : الّذي يجري في أكثر تلك الأخبار ، وهو : الجمع بينهما دلالة ، فإنّه لو تنزّلنا عن جميع تلك الوجوه ، فنقول : إنّ الأخبار المانعة بعموماتها تدلّ على المنع عن العمل بالأخبار مطلقا ، كان راويها ثقة أو غير ثقة ، وأمّا الأخبار المجوّزة فتدلّ على حجّيّة خصوص خبر الثقة ، فهي أخصّ ، فتخصّص الأخبار المانعة بما إذا لم يكن الراوي ثقة ، وهذا أحسن الوجوه ويجري في أغلب الأخبار.

وتوهّم أنّ الأخبار المجوّزة أيضا أعمّ ، لشمولها لما كان له شاهد من الكتاب أو لم يكن ، فهي أعمّ من هذه الجهة من الأخبار المانعة ، مدفوع : بأنّ الموافق يجب العمل به لكن لا من جهة هذا الخبر ، بل من جهة موافقته للكتاب ، فما تشمله تلك الأخبار ليس إلّا خصوص المخالف لا الأعمّ ، فالنسبة

__________________

(١) غوالي اللئالي ٤ : ١٣٣ ـ ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

١٧٤

عموم مطلق ، ولا بدّ من تخصيص الأخبار المانعة بالأخبار المجوّزة ، كما لا يخفى ، فلا بدّ في مقام الجمع بين الأخبار المانعة والمجوّزة من حمل المانعة على أحد هذه المحامل على سبيل منع الخلوّ ، كما ذكرنا.

واستدلّ لعدم حجّيّة خبر الواحد بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم والعمل بالظنّ.

والجواب عنها أوّلا : أنّ مقتضى حكومة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على الآيات هو : خروج العمل به عن كونه عملا بغير علم موضوعا ، لأنّ الشارع بمقتضى تلك الأدلّة اعتبر الخبر الواحد علما ، فيكون خارجا عنه موضوعا ، ولا تشمله الآيات وإن كان لو لا التعبّد تشمله تلك الآيات ، كما في البيّنة واليد بعينهما.

وثانيا : أنّه لو سلّم عدم حكومتها عليها ، فنقول : إنّ تلك الآيات عامّة من وجهين ، وتلك الأخبار خاصّة ، فتخصّص الآيات بتلك الأدلّة ، وذلك لأنّ الآيات كما تشمل الخبر الواحد كذلك تشمل غيره من الظنون ، وكذلك تشمل خبر الثقة وغير الثقة ، فيخصّص الكتاب بالأدلّة الواردة في حجّيّة الخبر.

وثالثا : لو تنزّلنا عن ذلك أيضا ، فنقول : إنّ الآيات تشمل أصول الدين وفروعه ، فيخصّصها الأخبار بأصول الدين.

ثمّ إنّه ذكر شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ أنّ للخبر الواحد اصطلاحين :

أحدهما : ما نحن فيه ، وهو في مقابل المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعيّة.

الثاني : الخبر الضعيف (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٠٣.

١٧٥

ولا يبعد أن يكون معقد الإجماع الّذي ادّعاه السيّد ـ قدس‌سره ـ وغيره على عدم حجّيّة الخبر الواحد هو المعنى الثاني ، وإلّا فلم يعهد من واحد عدم العمل بأخبار الآحاد إذا كانت موثوقا بها ، فدعواهم الإجماع على عدم الحجّيّة لا تنافي عملهم بالأخبار ، لأنّ معقد الإجماع هو المعنى الثاني ، والمعمول به هو الخبر بالمعنى الأوّل ، وحينئذ يرتفع النزاع من البين.

والشاهد على ذلك أنّ الشيخ قدس‌سره ـ الّذي ادّعى الإجماع على حجّيّة خبر الواحد (١) ـ كثيرا ما يقول في كتاب الاستبصار في مقام الاعتذار عن عدم العمل بخبر : إنّما لم نعمل به ، لأنّه خبر واحد (٢). والمراد هو المعنى الثاني ، وإلّا فخبر الموثوق به أو العادل تكون حجّيّته عنده مسلّمة ، فدعواهم الإجماع على عدم العمل محمولة على ما ذكرنا ، فلا منافاة بينها وبين عملهم بالأخبار.

وما استدلّ [به] المثبتون وجوه :

أحدها : مفهوم آية النبأ (٣) ، وهو من وجوه :

أحدها : التمسّك بمفهوم الوصف ، وهو الفاسق ، فإنّ مفهومه يدلّ على حجّيّة خبر غير الفاسق ، حيث إنّ المنطوق يدلّ على وجوب التبيّن إذا كان الجائي بالخبر فاسقا ، ومعلوم أنّ وجوب التبيّن إنّما هو وجوب طريقي ، بمعنى أنّه يجب التبيّن عند مجيء الفاسق بنبإ إذا أريد أن يعمل بخبره ، وإلّا فمع عدم إرادة العمل لا يجب التبيّن ، فإذا أخبر الفاسق بقيام زيد مثلا ، فمن جهة عدم ربطه بالعمل لا يجب تبيّنه.

وممّا يدلّ على أنّ وجوب التبيّن إنّما هو وجوب طريقي ـ بمعنى أنّه

__________________

(١) عدّة الأصول : ٤٧.

(٢) انظر على سبيل المثال : الاستبصار ١ : ٣٦ ذيل الحديث ٩٦.

(٣) الحجرات : ٦.

١٧٦

يجب التبيّن عند مجيء الفاسق بنبإ إذا أريد أن يعمل بخبره ـ هو التعليل الوارد في الآية ، وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)(١) إذ من المعلوم أنّ ترك التبيّن مع عدم العمل لا يوجب إصابة القوم بجهالة ، بل الموجب لتلك إنّما هو العمل بخبره من دون تبيّن ، فالمنطوق يدلّ على أنّ العمل بخبر الفاسق مشروط بالتبيّن قبله ، وهذا يدلّ بمفهومه على أنّ الجائي بالخبر إذا كان عادلا لا يجب التبيّن عند إرادة العمل بخبره ، بل يجوز من دون تبيّن.

وجوابه : أنّ مفهوم الوصف لا يكون حجّة ، كما ذكرنا في محلّه ، سيّما إذا لم يكن معتمدا على الموصوف ، كما في الآية ، فإنّه حينئذ يلحق باللقب ، فإنّ الأوصاف إذا أخذت في موضوع حكم ، لا تدلّ على انتفاء ذلك الحكم عند انتفائها ، سواء كانت تلك الأوصاف من الأوصاف الذاتيّة ، كما في الجوامد ، أو العرضيّة ، كما في المشتقّات ، فلا فرق في عدم الدلالة على المفهوم بين قولنا : «أكرم زيدا» أو «أكرم عالما».

ثانيها : ما ذكره الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ التعليل بأمر عرضيّ عند وجود علّة ذاتيّة أمر قبيح عند العقلاء ، فإذا كان هناك وصفان : أحدهما ذاتيّ والآخر عرضيّ وكان الوصف الذاتيّ علّة لثبوت حكم ، فلا يجوز أن يعلّل ذلك الحكم بذلك الوصف العرضي ، عند وجود ذلك الوصف الذاتيّ ، لأنّه قبيح عند العقلاء ، فلا يجوز أن يقال : «اجتنب عن الدم لأنّه لاقى نجسا» لأنّ كونه دما من الأوصاف الذاتيّة للدم والمفروض أنّه علّة لوجوب الاجتناب لكونه من النجاسات العينيّة ، فلا يجوز معه التعليل لوجوب الاجتناب بملاقاة النجس ، التي هي من الأوصاف العرضيّة ، بل لا بدّ من التعليل بتلك الصفة الذاتيّة ،

__________________

(١) الحجرات : ٦.

١٧٧

والموجود في خبر الفاسق جهتان : إحداهما : ذاتيّة ، وهي كونه خبر واحد ، والثانية : عرضيّة، وهي كون مخبره فاسقا ، فإذا كانت علّة وجوب التبيّن في خبر الفاسق هي كونه خبر واحد ، فلا يجوز التعليل لذلك بكون مخبره فاسقا ، لأنّ الفسق جهة عرضيّة للخبر ، فلا يمكن التعليل بها لوجوب التبيّن مع أنّ له علّة ذاتيّة ، وهي كون الخبر خبرا واحدا ، فحيث علّل في الآية لوجوب التبيّن بالفسق فيفهم من ذلك أنّ العلّة لوجوبه إنّما هي الفسق لا الجهة الذاتيّة ، فعلى هذا إذا كان المخبر عادلا ، وجب قبول خبره بلا تبيّن (١).

وأشكل عليه بعض الأعاظم بأنّ الموجود في خبر الفاسق وإن كان جهتين إلّا أنّ كون إحداهما ذاتيّة والأخرى عرضيّة ممنوع ، بل كلتاهما جهة عرضيّة ، فليس المقام من اجتماع جهتين حتى يقال بأنّ التعليل بالجهة العرضيّة مع وجود الجهة الذاتيّة يدلّ على أنّها العلّة لا الجهة الذاتيّة.

والجواب عنه : أنّ المراد بالذاتي في كلام الشيخ ـ قدس‌سره ـ ليس هو الذاتيّ في باب الكلّيّات الخمس قطعا ، لأنّه عبارة عن الجنس والفصل في مقابل العرضيّ ، وهو العرض العامّ والخاصّ ، بل المراد هو الذاتيّ في باب البرهان ، الّذي هو عبارة عن العرض اللازم الّذي لا يحتاج في حمله على الذات إلى تصوّر أمر وراء تصوّر نفس الذات ، بل يحمل عليه عند وضع نفس الذات بلا احتياج إلى تصوّر أمر زائد على تصوّر مقام ذاته ، كالزوجيّة للأربعة ، وكالإمكان للذوات الممكنة ، وفي مقابله العرض الّذي يحتاج إلى ذلك ، كالعلم والعدالة للإنسان ، ومن الواضح أنّ كون الخبر خبر واحد ذاتيّ بهذا المعنى ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٧١.

١٧٨

وذلك لأنّه ليس المراد بالواحد هو الواحد في مقابل المتعدّد حتى يقال بأنّه وصف عرضيّ ، كالفسق ، بل المراد هو كونه غير مفيد للقطع في قبال المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعيّة ، فإنّهما يفيدان القطع ، فالخبر الواحد هو الّذي لا يفيد القطع وكونه ممّا يحتمل الصدق والكذب في قبال ما لا يحتمل ذلك ، بل يكون مفيدا للقطع ، ومن المعلوم أنّ كون الخبر ممّا يحتمل الصدق والكذب من اللوازم الذاتيّة ، ولا يحتاج في حمله عليه إلى تصوّر أمر زائد على تصوّر نفس الخبر.

هذا ، وقد أشكل عليه ثانيا بأنّ الموضوع لوجوب التبيّن ليس ذات الخبر مطلقا ، أي سواء قلنا بالحجّيّة أم لا ، وذلك لأنّ القائل بالحجّيّة يقول بأنّ وجوب التبيّن إنّما هو في الخبر المضاف إلى الفاسق ، فقد أخذ في الموضوع جهة الفسق ، فموضوع الحجّيّة إنّما هو الخبر المضاف إلى العادل ، والقائل بعدم الحجّيّة لا يقول بعدم حجّيّة ذات الخبر ، بل يقول بعدم حجّيّة الخبر المضاف إلى شخص عادلا كان أو فاسقا ، الجامع بين خبر العادل والفاسق ، فالموضوع على أيّ حال قد أخذ فيه جهة عرضيّة ، وهي الإضافة إلى العادل ، أو الإضافة إلى شخص ما وليس هو ذات الخبر مطلقا ، فليس هذا من موارد التعليل بجهة عرضيّة مع وجود الجهة الذاتيّة حتى يقال بأنّه قبيح ، فتكون العلّة هي تلك الجهة العرضيّة ، بل الموضوع على أيّ حال قد أخذ فيه جهة عرضيّة.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّه ليس المراد من كون الموضوع ذات الخبر الواحد هو الطبيعة المهملة التي هي موضوع لها أسماء الأجناس ، إذ الموضوع للحكم لا يمكن أن يكون طبيعة مهملة ، إذ كما ذكرنا سابقا أنّ الإهمال في موضوع حكم الحاكم غير معقول بأن لا يدري أنّ موضوع حكمه ما ذا؟ وأنّه أخذ بشرط شيء أو لا بشرط ، فالمراد بكون الموضوع هو ذات الخبر

١٧٩

ليس هو طبيعة الخبر مهملة حتى يقال بأنّه على كلا القولين ليس الموضوع ذات الخبر ، بل الموضوع في المقام كسائر المقامات قد أخذ طبيعة مطلقة ، وهي الطبيعة الملغاة عنها جميع الخصوصيّات ، السارية في جميع تلك الخصوصيّات ، الجامعة بين جميعها ، وكما أنّ الموضوع لقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ليس هو طبيعة البيع مهملة ، بل هو طبيعة البيع مطلقا بمعنى كونها سارية في جميع أفراده ، سواء كانت الصيغة فيه عربيّة أو غيرها ، مقدّما إيجابه على القبول أو مؤخّرا ، بالغا موجبه أو غير بالغ وهكذا ، كذلك في المقام يكون الموضوع هو ذات الخبر الواحد مطلقا ، أي ملغاة عنها جميع الخصوصيّات ، سارية في ضمن خبر العادل والفاسق والكبير والصغير والحرّ والعبد وغيرهم ، فعلى هذا ، الاستدلال تامّ من هذه الجهة أيضا لا يرد عليه هذا الإشكال.

نعم يبقى شيء آخر ، وهو : أنّه حينئذ تثبت حجّيّة الخبر الّذي لا يكون الجائي به فاسقا مطلقا ، عادلا كان أو غير عادل ، فعلى القول بثبوت الواسطة تثبت حجّيّة خبر من لا يكون عادلا ولا فاسقا ، كالصغير والمجنون وأمثالهما ، مع أنّه لم يلتزم به أحد.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال مشترك الورود حتى عند من يقول بدلالة الآية على حجّيّة خبر العادل بمفهوم الشرط أيضا ، فإنّ مفهومها أنّه إن لم يجئ الفاسق بالخبر ـ سواء كان الجائي به عادلا أو غيره ـ لا يجب التبيّن.

فالحقّ أن يقال : إنّ اعتبار العدالة إنّما ثبت بدليل خارجي ، ولو لم يكن في المقام إلّا الآية ، لكان الأمر كما ذكر.

نعم ، يرد على الاستدلال إشكال آخر ، وهو أنّ هذا التقريب الّذي ذكرتم

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

١٨٠