الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

أمّا أوّلا : فلأنّه لا معنى للتعبّد العقلائي في مورد من الموارد ، لأنّ العقلاء ليسوا مشرّعين ولا من الأنبياء والأئمّة حتى تجب علينا متابعتهم تعبّدا ، بل متابعتهم إنّما تكون لأجل بنائهم على العمل بالطرق الكاشفة عن المرادات الواقعيّة لا تعبّدا.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو سلّم التعبّد العقلائي في مورد في الجملة ، فليس المقام داخلا فيه قطعا. ولو تنزّلنا وقلنا : إنّه لا قطع بذلك ، فالشكّ في كونه موردا للتعبّد من العقلاء وفي كون أصالة الحقيقة حجّة كاف في عدم حجّيّته ، لما ذكرنا من أنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدم الحجّيّة.

الثالثة : أن يكون عدم إحراز الظهور من جهة عدم إحراز انتفاء المانع أيضا لكن لا من جهة الشكّ في مانعيّة الموجود ، بل من جهة الشكّ في أصل وجود القرينة والمانع ، والمراد هو القرينة المتّصلة ، والشك في وجودها تارة من جهة احتمال غفلة المخاطب عن استماع القرينة مع كونه بصدد التفهّم ، وأخرى من جهة أخرى سيجيء ذكرها.

أمّا الشك من الجهة الأولى ـ وهي احتمال الغفلة ـ فلا ينبغي الإشكال في أنّ العقلاء بنوا على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، فيعملون على طبق المعنى الّذي يكون الكلام ظاهرا فيه لو لا القرينة واقعا ، كما في احتمال الغفلة في المتكلّم أيضا ، فالشكّ في القرينة المتّصلة من جهة احتمال غفلة المخاطب عن استماع القرينة وتفهّمه مع كونها مقرونة بالكلام واقعا لا يوجب الإجمال ، إنّما الكلام في أنّه هل البناء على المعنى الّذي يكون اللفظ ظاهرا فيه لو لا القرينة يكون ابتداء ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) قدس‌سره ـ أو أنّه بعد البناء على عدم

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢٩.

١٤١

الغفلة وعدم القرينة بمقتضى أصالة عدم الغفلة وأصالة عدم القرينة ، التي عليها بناء العقلاء ، كما ذهب إليه الشيخ (١) قدس‌سره؟

الحقّ هو ما ذهب إليه الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّه لا بدّ من إجراء أصالة عدم القرينة أوّلا حتى يحرز عدم القرينة بالأصل ثمّ البناء على المعنى الّذي يكون اللفظ ظاهرا فيه مع عدم القرينة ، وذلك لأنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور ، ومن المعلوم أنّه ما لم تفرض القرينة معدومة لا يتحقق الظهور الّذي هو موضوع الحجّيّة ، إذ نحتمل وجودها ، ومعه لا ينعقد ظهور للكلام ، فلا بدّ من البناء على عدم القرينة أوّلا حتى ينعقد الظهور فتترتّب عليه الحجّيّة ، وإلّا فمع عدم هذا البناء نحتمل وجود القرينة ، فلا ينعقد ظهور للكلام ، ففرق بين احتمال وجود القرينة المتّصلة والمنفصلة ، حيث إنّه في الأولى يكون الأثر مترتّبا على وجودها الواقعي ، لأنّها بوجودها الواقعي توجب عدم انعقاد الظهور ، بخلاف الثانية ، فإنّها بوجودها العلمي ـ تمنع عن الحجّيّة ، فلا بدّ مع احتمال وجود الأولى من البناء على عدمها بمقتضى أصالة عدم القرينة حتى يتحقّق الظهور الّذي هو موضوع الحجّيّة ، وأمّا مع احتمال وجود الثانية فلا فائدة في البناء على عدمها ، لأنّ الظهور مع وجودها أيضا موجود في ذي القرينة ، لعدم منعها عن ظهور ذيها ، بل إنّما تمنع عن حجّيّته ، فلذا لا يجري الأصل فيه. هذا كلّه في احتمال غفلة المخاطب.

أمّا الشكّ في وجود القرينة من جهة غير الغفلة ، كاحتمال سقوط القرينة لأجل كثرة الوسائط أو لأجل التقطيع وغيرهما : فقد ذهبوا فيه أيضا إلى الأخذ بأصالة عدم القرينة ، كما في احتمال الغفلة ، فيحرز بهذا الأصل الظهور ، فيكون

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٢.

١٤٢

حجّة كالشق الأوّل بعينه.

وادّعوا أنّ العقلاء لا يعتنون باحتمال وجود القرينة سواء كان منشأ الاحتمال هو الغفلة أو غيرها ، ولا فرق عندهم ـ في عدم الاعتناء ـ بينهما ليتمسّك في نفي تلك الاحتمالات بالأصل العقلائي فيحرز الظهور ، وتترتّب عليه الحجّيّة ، وليس فيهم من فصّل بين احتمال الغفلة وغيرها إلّا المحقّق القمّي قدس‌سره ، فذهب إلى الفرق بينهما ، وادّعى أنّ احتمال وجود القرينة إن كان منشؤه احتمال الغفلة ، فلا يعتني به العقلاء ، ويبنون على عدمها ، وأمّا إذا كان منشأ الاحتمال غير الغفلة ، فلا بناء لهم على عدمه ، وبذلك حكم بعدم حجّيّة الأخبار ـ كما ذكرنا ـ لأجل عروض التقطيع عليها المحتمل وجود القرينة لكلّ جملة منها في غيرها وقد قطعت وسقطت عنها ووقعت في غيرها ، فحيث إنّ هذا الاحتمال لا دافع له من العقلاء فلا يجوز العمل بظواهر الأخبار (١).

وما أفاده ـ قدس‌سره ـ من التفصيل في غاية المتانة والجودة ، لما نرى بالوجدان من عمل العقلاء بظواهر يحتمل وجود قرينة متّصلة على خلافها وقد سقطت عنها بالتقطيع ونحوه ، فلو أرسل كتاب إلى أحد وقطع في الطريق بعضه وسقط منه ووصل إليه البعض الآخر وكان في ذلك الواصل ظواهر يحتمل إرادة خلافها وكون القرينة على الخلاف في تلك القطعة الساقطة ، فلا يعمل ذلك الشخص بتلك الظواهر.

وكذلك الكلام لو تكلّم المولى مع عبده بكلام فينام العبد بعده واحتمل أنّ المولى تكلّم في حال نومه بقرينة على خلاف ذلك الكلام ولم يسمعه ، لا يعمل العبد بظاهره ، وهكذا في بقيّة الموارد التي يكون منشأ الاحتمال

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٣٩٨ و ٤٥٠.

١٤٣

لوجود القرينة غير الغفلة.

فهذه الكبرى الكلّيّة في غاية المتانة ، وتترتّب عليها ثمرات كثيرة.

لكن ما فرّعه عليها من عدم حجّيّة ظواهر الأخبار غير صحيح ، لما ذكرنا سابقا من أنّ هذا إنّما يصحّ إذا لم يكن المقطّعون من أهل العلم والفهم والورع ـ كالكليني وأضرابه قدس‌سره ـ وإلّا فلا يكون التقطيع مضرّا بالعمل بظواهرها ، وذلك لأنّ كلّ لاحق من الرّواة مقصود بالإفهام بالنسبة إلى سابقه ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى مصنّفي هذه الجوامع الموجودة في أيدينا ، وبالنسبة إلى تلك الكتب يكون جميع المكلّفين مقصودين بالإفهام بالنسبة إليهم ، فكما أنّ كلّ لاحق يعمل بظواهر صدرت من السابق من غير اعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر فكذلك نحن نعمل بظواهر تلك الأخبار ، ولا نعتني باحتمال وجود قرينة على خلاف تلك الظواهر قد سقطت منها ووقعت في غيرها ممّا قطعت عنها ، لأنّ علمهم وورعهم ينافي تقطيعهم من تلك الظواهر ما يكون صارفا عنها ، فلا يعتنى بهذا الاحتمال في حقّ مثلهم.

نعم ، لو كان المقطّع من غير أهل العلم والفهم والفتوى ، لكان لهذا الاحتمال مجال واسع ، ولذا لو أرسل أحد إلى آخر كتابا وكان فيه جملة مربوطة بشخص آخر وقد قرأها وحدها له ، فيعمل ذلك الثالث بظاهر ما قرئ له من غير أن يقول : اقرأ الباقي لعلّ فيه ما يكون صارفا عنه ، نعم ، يقول ذلك إذا لم يكن القارئ من أهل الفهم. هذا كلّه في تعيين موارد العمل بالظواهر.

بقي الكلام في حجّيّة قول اللغوي ، وقد ذكرنا أنّه مع الجهل بالمعنى الموضوع له لا ظهور للكلام حتى يكون حجّة ، وأنّ الظنّ بالوضع من جهة عدم الدليل على اعتباره لا يكون حجّة ، إنّما الكلام في أنّه هل خرج قول اللغوي عن مطلق الظنّ أم لا؟

١٤٤

وقد قيل بخروجه واستدلّ له بوجوه :

الأوّل : أنّ اللغوي من أهل الخبرة لتعيين الوضع ، وقول أهل الخبرة حجّة ببناء العقلاء ، ولا يعتبر فيه التعدّد ولا العدالة ، لأنّه ليس من باب الشهادة حتى يعتبر فيه ذلك ، بل حجّيّة قوله أمر مستقلّ دلّ عليها بناء العقلاء مع عدم ردع الشارع عنه ، وليس بناؤهم مقيّدا بشيء ، كما نرى من رجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى العالم بها ، ورجوع العوامّ إلى المقلّد ، واعتبار العدالة فيه إنّما ثبت بدليل خاصّ لا من جهة كونه من أهل الخبرة.

لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الرجوع إلى قول اللغوي إنّما هو لتعيين موارد الاستعمال ، وهذا ليس من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، بل من باب الرجوع إلى الشاهد ، لأنّ الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما يكون في المأمور الحدسيّة التي تحتاج إلى الرّأي والنّظر ، فلا يطلق ذلك على ما لا يحتاج إلى شيء منهما بأن يكون من الأمور المحسوسة ، فالرجوع إلى أحد في المحسوسات المشاهدة ـ التي لا يختصّ فهمها بطائفة خاصّة بل يعمّ الجميع ـ لا يعدّ من الرجوع إلى أهل الخبرة ، وتعيين موارد الاستعمالات من هذا القبيل ، لأنّه ليس ممّا يحتاج إلى إعمال النّظر والرّأي ، بل إنّما يحتاج إلى استماع من العرب أو ملاحظة الأشعار وغيرها ، كما في سائر موارد الشهادة ، فيعتبر فيه التعدّد ، لأنّ الشهادة في الموضوعات يعتبر فيها التعدّد وإن ذهب بعض إلى عدم اعتباره إلّا في موارد الحكومة والقضاء ، فلو لم نعتبر التعدّد فالعدالة معتبرة قطعا.

وأمّا الرجوع إليه لتمييز الموضوع له عن غيره فغير جائز أصلا ، لأنّ اللغوي حاله حالنا في الجهل بالموضوع له ، فلو سلّم أنّه من أهل الخبرة ، فليس من أهل الخبرة لتعيين المعنى الموضوع له ، بل هو من أهل الخبرة لتعيين موارد الاستعمال ، حيث إنّ همّه ضبط موارد الاستعمال ، فلا يمكن استكشاف

١٤٥

الوضع من قوله.

والحاصل : أنّ ما يمكن أن يحتاج إلى إعمال الرّأي والاجتهاد في بعض الموارد ـ وهو تعيين المعنى الموضوع له وتمييز المعنى الحقيقي عن غيره ـ فكون اللغوي من أهل الخبرة فيه ، ممنوع وإن كان بلحاظه يصح إطلاق أهل الخبرة عليه إلّا أنّ اللغوي ليس أهلا لذلك ، بل حاله كحالنا.

وأمّا ما لا يحتاج إلى إعمال الرّأي والاجتهاد ـ وهو تشخيص موارد الاستعمالات ـ فاللغوي وإن كان من أهل الاطّلاع عليه إلّا أنّ إطلاق أهل الخبرة عليه في غير محلّه ، فحينئذ يدخل في باب الشهادة ، ويعتبر فيه ما يعتبر فيها من العدالة والتعدّد إن قلنا به ، كما ذهب إليه الأكثر ، لرواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» (١).

الثاني من الوجوه التي استدلّ بها على حجّيّة قول اللغوي : دعوى الاتّفاق عن بعض على العمل بقولهم (٢).

وفيه : أنّ حصول الاتّفاق من الكلّ ممنوع ، كيف ولم يتعرّض لذلك كثير منهم!؟ مع أنّ عملهم بقولهم لعلّه لأجل حصول الوثوق والاطمئنان لهم من قولهم بالمعاني ، فكونه حجّة في حقّ من لا يحصل له ذلك ممنوع.

مضافا إلى أنّ هذا الإجماع ـ على تقدير تسليمه ـ غير مفيد ، لأنّه محتمل المدرك ، إذ لعلّ عمل المجمعين لأجل الدليل السابق أو اللاحق أو غيرهما ، فلا يكون حجّة.

وبالجملة : المحصّل من الإجماع ـ على تقدير ثبوته ـ غير مفيد ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣١٤ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) كما في فرائد الأصول : ٤٦.

١٤٦

لاحتمال وجود المدرك ، ونقله لا يكون دليلا ، لعدم كشفه عن دليل معتبر.

الثالث من الوجوه : دعوى انسداد باب العلم والعلمي بمعاني اللغات بخصوصيّاتها وتفاصيلها في السعة والضيق غالبا وإن كان أصلها معلوما في الأغلب ، فحينئذ لا بدّ من الرجوع فيها إلى مطلق الظنّ ، وهو لا يحصل إلّا من قول اللغوي ، فيكون حجّة.

وفيه : ما ذكره الشيخ ـ قدس‌سره ـ وتبعه جملة من المحقّقين ، وهو : أنّ ما يوجب الرجوع إلى مطلق الظنّ ليس إلّا انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعيّة بحيث يكون إجراء الأصول فيها خروجا عن الدين ، والاحتياط فيها موجبا لاختلال النظام أو العطر والحرج ، فيرجع إلى مطلق الظنّ سواء حصل من قول اللغوي أو غيره ولو فرض انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ إلّا في خصوص ذلك المورد الّذي احتجنا في معرفة حكمه الشرعي إلى اللغة ، فلو فرض انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام ووصلت النوبة إلى مطلق الظنّ وفرض أنّا احتجنا في تحصيل الظن بالحكم الشرعي في مورد إلى اللغة ، فلا بدّ لنا من الرجوع إليها ولو فرض انفتاح باب العلم بجميع اللغات غيرها في هذا المورد.

وأمّا إذا فرضنا انفتاح باب العلم والعلمي في معظم الأحكام الشرعيّة بحيث لم يلزم من الرجوع إلى الأصول في غير المعظم منها محذور الخروج من الدين ، فيجري الأصل فيه ، ولا يرجع إلى اللغة ، ولو فرض انسداد باب العلم بمعاني اللغات بأجمعها ، فالمعيار في الرجوع إلى قول اللغوي وغيره إنّما هو انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام الشرعيّة ، فلا أثر للانسداد في اللغات ، وحيث إنّ باب العلمي في الأحكام مفتوح ـ ولو فرض انسداد باب العلم باللغة ـ فلا حاجة في موارد الاحتياج إلى اللغة من الرجوع إلى قول

١٤٧

اللغوي ، بل يجري الأصل ولا محذور (١).

وذهب بعض الأعاظم ـ قدس‌سره ـ إلى حجّيّة قول اللغوي بدعوى أنّ انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعيّة وإن كان لا يوجب العمل بقول اللغوي في موارد الاحتياج إلى اللغة بالتقريب الّذي ذكره الشيخ قدس‌سره ، لإمكان إجراء الأصل في تلك الموارد ، وعدم لزوم محذور الخروج من الدين إلّا أنّه يوجب ذلك بتقريب آخر يسمّى بالانسداد الصغير كما سمّي الأوّل بالانسداد الكبير.

وتوضيحه : أنّ إحدى مقدّمات الانسداد ـ وهي عدم جواز الرجوع إلى الأصول العمليّة في موارد الجهل بالأحكام ـ لها مستندان : أحدهما : لزوم الخروج من الدين. والثاني : لزوم المخالفة القطعيّة.

أمّا على الأوّل : فما ذكره الشيخ ـ قدس‌سره ـ حقّ.

وأمّا على الثاني : فتجري مقدّمات الانسداد وتوجب جواز العمل بقول اللغوي وحجّيّته ، وذلك لأنّ باب العلم والعلمي بالأحكام وإن لم يكن منسدّا بحيث يوجب إجراء الأصل في موارد الاحتياج إلى اللغة الخروج من الدين إلّا أنّه نعلم أنّه لو أجرينا الأصل في جميع موارد الاحتياج إلى اللغة ولم نعمل بقول اللغوي تلزم المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى تلك الموارد خاصة ، وحينئذ لا بدّ من اتّباع قول اللغوي ، فالانسداد في اللغات وإن كان لا يوجب حجّيّة قول اللغوي إلّا أنّ انسداد [باب العلم والعلمي] بالأحكام بما ذكرنا من الانسداد الصغير يوجب اتّباعه.

ولكن لا يخفى ما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّا نمنع الصغرى ، إذ الموارد التي يحصل من قول اللغوي

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٦ ـ ٤٧ ، كفاية الأصول : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

١٤٨

الظنّ بالحكم الشرعي [فيها] ليست إلّا أقلّ قليل ، إذ كثيرا ما يرجع إلى اللغة ولا يحصل الظنّ بالحكم ، لاختلاف اللغويّين وكثرة المعاني التي ذكروها ، فموارد حصول الظنّ لا تلزم من إجراء الأصل فيها مخالفة قطعيّة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو سلّمت كثرة موارد حصول الظنّ بالحكم الشرعي من قول اللغوي ، فكونها بأجمعها من الأحكام الإلزاميّة ممنوع ، بل كثيرا يكون الاحتياج في موارد الأحكام الترخيصيّة ، فلا يلزم من إجراء الأصل في تلك الموارد العلم بالمخالفة.

هذا ، ولو سلّمنا الصغرى ، فنمنع الكبرى ، إذ لا تنحصر مقدّمات الانسداد في هذه المقدّمة ـ وهي عدم جواز إجراء البراءة ـ حتى يقال بأنّ إجراءها في موارد الحاجة إلى اللغة موجب للمخالفة القطعيّة ، بل هناك مقدّمات أخر ، منها : عدم وجوب الاحتياط ، أو عدم جوازه ، وهذه المقدّمة لا تجري في المقام ، إذ لا يلزم من الاحتياط في تلك الموارد لا اختلال النظام ولا العسر والحرج ، لكونها في غاية القلّة ، فعلى هذا لا بدّ من الاحتياط.

نعم ، لو حصل الوثوق والاطمئنان من قول اللغوي بالحكم الشرعي لكان حجّة ، لأنّ الاطمئنان عند العرف بمنزلة القطع ، ويعاملون معه معاملته ، ولم يردع عنه الشارع ، فيكون حجّة لذلك ، لا من جهة أنّه حجّة بنفسه. هذا تمام الكلام في حجّيّة قول اللغوي.

* * *

١٤٩
١٥٠

فصل :

في حجّيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد.

فنقول : قد وقع البحث في أنّه هل الملازمة ثابتة بين حجّيّة الخبر الواحد وحجّيّة الإجماع المنقول به حتى يكون الالتزام بحجّيّة الخبر التزاما بالقول بحجّيّة الإجماع المنقول أيضا ، أو أنّها غير ثابتة ويمكن الالتزام بعدم حجّيّة الإجماع ولو مع القول بحجّيّة الخبر الواحد؟ فالبحث عن حجّيّة الإجماع من فروع البحث عن حجّيّة الخبر ، فينبغي تقديم البحث عنها على البحث عن الإجماع.

ثمّ إنّ الشيخ ـ قدس‌سره ـ قبل الشروع في المقصود مهّد مقدّمة نفيسة لا بدّ من ذكرها ، وهي : أنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد ـ التي عمدتها بناء العقلاء والسيرة القطعيّة ـ تختصّ بما إذا كان المخبر به من الأمور الحسّيّة التي يعرفها كلّ أحد إذا راجع إليها ولو احتمالا بأن احتمل إحساس المخبر للمخبر به ولم يكن عالما ببناء العقلاء على قبول هذا الخبر والعمل به حتى مع الاحتمال ، فلا يحتاج إلى القطع بإحساسه ، أو الأمور الحدسيّة التي تكون قريبة من الحسّ ، كمسائل الحساب ، أو من الأمور الحدسيّة التي أحرز السامع أنّ إخبار المخبر بها مستند إلى إحساسه لمقدّمات وأسباب لو اطّلع عليها بنفسه لقطع بالملازمة بينها وبين المخبر به ، وتكون الملازمة عنده تامّة ، كما لو أخبر أحد بموت زيد لكن إخباره بذلك لم يكن مستندا إلى رؤيته بل إلى مقدّمات قطعيّة ، كصياح ونواح في داره واجتماع الناس على بابها للتشييع وغير ذلك ، فإنّ المستمع يحرز أنّه لو رأى بنفسه تلك الأسباب ، لقطع بالملازمة بينها وبين الموت ، ففي هذه الموارد

١٥١

الثلاثة دلّت الأدلّة على حجّيّة خبر الواحد ، ولا يعبأ باحتمال مخالفة قوله للواقع ، لأنّ منشأ الاحتمال أمران :

أحدهما : احتمال كذبه ، وهو ملغى لأجل اعتبار العدالة فيه.

والثاني : احتمال الغفلة والنسيان والخطأ والسهو ، وهذا الاحتمال ممّا لا يعتني به العقلاء في الأخبار الحسّيّة ونحوها ، ويكون مدفوعا ببناء العقلاء.

وأمّا إذا لم يكن الإخبار كذلك بأن يكون [المخبر به] من الأمور الحدسيّة البعيدة عن الإحساس ، التي لم تحرز تماميّة الملازمة بين الأسباب التي أخبر المخبر لأجلها وبين تلك الأمور عند نفسه ، فلا تدلّ تلك الأدلّة على حجّيّة ذلك الإخبار ، ولا بناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال خطئه ومخالفة قوله للواقع في هذا الفرض ، أي الخبر الّذي بهذا النحو ، فعلى هذا لو علمنا أو احتملنا أنّ مدّعي الإجماع يكون إخباره عن قول المعصوم في ضمن دعواه الإجماع عن حسّ بأن رأى المعصوم عليه‌السلام يقول ذلك ثم ضمّ إلى قوله عليه‌السلام قول العلماء فأخبر بالإجماع ، تكون دعواه الإجماع حجّة بلا إشكال ، لأنّه إخبار عن أمر حسّي لو حصل عندنا أيضا لحصل لنا القطع بقوله عليه‌السلام ، وأمّا إذا لم نحتمل ذلك ، علمنا أنّ إخباره عنه مستند إلى حدسه ، فإن أحرزت تماميّة الملازمة بين المقدّمات التي لأجلها نقل الإجماع وبين المخبر به وهو قول الإمام عليه‌السلام ، فالأمر كما ذكر في حجّيّة نقله بلا إشكال ، وإلّا لو لم يحرز ذلك فلا حجّيّة في نقله الإجماع ، حيث إنّ السبيل إلى دعوى الإجماع على النحو الأوّل منتف في أمثال زماننا ولم يدّعه أحد ، وعلى تقديره لا بدّ من تكذيبه عملا ، كما تدلّ عليه جملة من الأخبار ، ولا تفيد دعواه على النحو الثاني ، لأنّها مبنيّة على تماميّة الملازمة المدّعاة من العقليّة أو العاديّة وغيرهما ، وهي ممنوعة ، والشكّ في تماميّة الملازمة كاف في عدم حجّيّة نقله ، لما ذكرنا من أنّ الأدلّة الدالّة على

١٥٢

حجّيّة الخبر لا تدلّ إلّا على حجّيّة الخبر الحسّي أو الحدسي القريب منه أو الحدسي الّذي أحرزت فيه تماميّة الملازمة بين المقدّمات وبين ما أخبر به عند السامع ، فمع عدم الإحراز والشكّ في تماميّة الملازمة ليس قول المخبر حجّة للسامع ، فعلى هذا ليس نقل الإجماع حجّة(١).

ثمّ إنّه ذكر بعض الأعاظم ـ قدس‌سره ـ أنّ نقل الإجماع وإن لم يكن حجّة في أمثال زماننا ، لما مرّ إلّا أنّ نقله من مثل الطوسي ـ قدس‌سره ـ ومن هو في عهده وسابقه ممّن يكون قريب العهد إلى زمان المعصوم عليه‌السلام ، كالسيّد المرتضى وابن زهرة وأمثالهما ـ قدس‌سره ـ يكون حجّة ، لأنّهم وإن لم يروا المعصوم عليه‌السلام بشخصهم ولم يدّعوا ذلك إلّا أنّه يحتمل ـ لقرب عهدهم إلى زمانه ـ أنّهم نقلوا الحكم ممّن سمعه من الإمام ، فيكون إخبارهم عن حسّ ، ثمّ ضمّوا إلى ذلك قول الغير ، فادّعوا الإجماع ، فيكون نقلهم الإجماع حجّة ، لما ذكرنا من أنّ مجرّد احتمال ذلك يكفي في حجّيّة الخبر ببناء العقلاء.

لكن لا يخفى ما فيه ، لأنّا نعلم أنّ دعواهم الإجماع ليس مستندها الحسّ ولو بذلك النحو بل بالنسبة إلى الشيخ ـ قدس‌سره ـ مستندة إلى قاعدة اللطف وبالنسبة إلى السيد وابن زهرة ـ قدس‌سرهما ـ مستندة إلى أصل أو قاعدة تكون حجّيّتها على نحو الكبرى الكلّيّة مسلّمة عند الكلّ ولكن يكون تطبيقها على مواردها بنظرهم ، فيدّعون الإجماع في مورد طبّقوا تلك القواعد أو الأصل عليه ، لكون أصل القاعدة أو الأصل إجماعيّا عندهم ، ولذلك نرى أنّ السيد ـ قدس‌سره ـ أفتى بجواز الوضوء بالماء المضاف مستندا إلى الإجماع (٢) ، لتخيّله جريان البراءة في أمثال المقام ، ولو سلّم فمجرّد الاحتمال وأنّ استنادهم في مورد إلى الحسّ ـ ولو

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٧.

(٢) المسائل الناصرية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٢١٥ ، المسألة ٤.

١٥٣

بذلك النحو ما لم يكن احتمالا عاديّا ـ غير مفيد ، لأنّ ما ذكرنا سابقا من كفاية احتمال كون المخبر به عن الحسّ إنّما هو فيما إذا كان الاحتمال عاديّا لا موهوما مع أنّه يمكن أن يستكشف من نفس دعواهم الإجماع أنّ مستندها ليس ذلك ، إذ لو كان المستند هو السماع ممّن سمع الحكم من المعصوم عليه‌السلام ثم ضمّ قول الغير إليه ، فأيّ داع إلى نقل الإجماع؟ بل ينقل الحكم عن المعصوم عليه‌السلام بواسطة ذلك البعض بعنوان الخبر ، وهل يكون نقله الإجماع حينئذ إلّا أكلا من القفا؟

بقي في المقام أمر ، وهو : أنّه هل الملازمة ثابتة بين فتاوى العلماء وقول المعصوم عليه‌السلام مطلقا ، أم ليست بثابتة مطلقا ، أم لا بدّ من التفصيل؟

فنقول : الملازمة المدّعاة إمّا أن تكون عقليّة ، بمعنى استحالة انفكاك تلك الفتاوى عن قول المعصوم عليه‌السلام عقلا ، كاستحالة انفكاك المعلول عن علّته ، أو أنّها ليست عقليّة بل تكون عاديّة ، بمعنى استحالة انفكاكهما عادة لا عقلا ، بمعنى أنّ الشخص العادي الّذي لا يكون وسواسيّا ولا مبتلى بما يوجب خروجه عن الطرق المتعارفة يحصل له القطع من تلك الفتاوي برأي المعصوم عليه‌السلام ، للملازمة العاديّة الثابتة بينهما ، أو أنّها اتّفاقيّة بمعنى أنّها ليست عقليّة حتى يستحيل الانفكاك عقلا ، ولا عاديّة حتى يستحيل الانفكاك عادة ، بل اتّفاقيّة قد يتّفق لشخص حصول القطع من تلك الفتاوى برأي المعصوم عليه‌السلام.

ولا يخفى أنّ الملازمة العقليّة ممنوعة ، وذلك لأنّه ليس مبناها إلّا أحد أمرين :

إمّا قاعدة اللطف ، فادّعوا وجوب اللطف عليه تعالى ، بمعنى أنّه يجب عليه تعالى إيصال العباد إلى مراتبهم الكمالية ، ولذا قالوا بوجوب بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام حتى تكمل النفوس البشرية ، فيجب عليه تعالى

١٥٤

تبليغ أحكامه إلى العباد ، لتكمل نفوسهم ، فمتى اجتمعوا على الخطأ يجب عليه تعالى أن يبلغ حكمه إليهم ويلقي الخلاف بينهم بنحو من الأنحاء بوسيلة الخلفاء أو الأوصياء وغيرهم حتى لا يقعوا في مخالفة الواقع ، فوجب انحطاطهم عن رتبتهم وعدم وصولهم إلى تلك المرتبة ، وعلى هذا فمتى اجتمعوا على أمر ولم يكن خلاف بينهم يستكشف من ذلك أنّ الحكم عند المعصوم عليه‌السلام على طبق ما اجتمعوا عليه ، إذ لو كان على خلافه ، يجب عليه تعالى إعلامه وتبليغه ، وحيث لم يوصل يحكم بأنّ التكليف على طبق ما اجتمعوا عليه.

ولا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ قاعدة اللطف ـ على تقدير تسليمها ـ لا تقتضي إلّا تبليغ الأحكام على النحو المتعارف لا على خلافه ، والمفروض أنّه تعالى قد بلّغ أحكامه إلى عباده بالطريق المتعارف ، فأوحى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أمره بتبليغها إلى العباد وإلى أوصيائه حتى يبلّغوها إليهم ، فما هو وظيفته تعالى قد أدّاه ، وإنّما عرض الاختفاء لبعض الأمور الخارجية التي لا ربط لها به تعالى ، كإخفاء الظالمين ، وحينئذ لا دليل على وجوب تبليغه ثانيا بطريق آخر غير متعارف وإلقائه الخلاف بينهم مع أنّه لو وجب ذلك لا يفرّق بين جميع العلماء وعلماء بلد واحد ، فيجب إلقاء الخلاف بينهم إذا اجتمعوا على خلاف الواقع ، بل يجب ذلك فيما إذا انحصر في عصر عالم واحد وكان اجتهاده على خلاف الواقع ، وهذا ممّا لم يتوهّمه أحد.

وأمّا ثانيا : فلأنّه إن كان المراد أنّه يجب على الإمام عليه‌السلام تبليغ الأحكام وإلقاء الخلاف مع إظهار إمامته وبعنوان كونه إماما ، فليس كذلك قطعا.

وإن كان المراد أنّه يجب عليه ذلك حتى مع إخفاء الإمامة ، فهذا ممّا

١٥٥

لا فائدة فيه ، ولا تترتّب عليه ثمرة ، إذ لا يسمع أحد من الشخص المجهول الحال حكما أبدا ، فقاعدة اللطف ـ على تقدير تسليمها ـ ممّا لا يفيد لإثبات الملازمة العقلية.

نعم ، إن صحّ ما أسنده العامّة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه «لا تجتمع أمّتي على خطأ» (١) لكان اتّفاق الأمّة موجبا لحصول القطع بالحكم الواقعي ، إذ لو كان الاجتماع على خلاف الواقع ، لوجب إلقاء الخلاف فيهم حتى لا يجتمعوا على الخطأ ، ولكن صحّة ذلك ممنوعة.

وإمّا أنّ مبنى دعوى الملازمة العقليّة من جهة أنّ تراكم الظنون الحاصلة من تلك الفتاوى يوجب وصولها إلى حدّ يوجب القطع بالحكم حيث إنّ كلّ فتوى يوجب حصول مقدار من الظنّ ، فإذا انضمّ بعضها إلى بعض ، يوجب تقوية الظنّ وضعف احتمال الخلاف ، وهكذا إلى مرتبة لا يبقى معها احتمال الخلاف أصلا ، كما هو الحال في خبر الواحد والمتواتر ، إذ من اجتماع تلك الأخبار يحصل اليقين بالمخبر به إذا وصلت إلى حدّ التواتر.

ولكن لا يخفى أنّ تراكم الظنون إنّما يوجب حصول القطع في مثل التواتر الّذي يكون المخبر به فيه أمرا حسّيّا ، ومتى ما تراكمت الظنون في الأمر الحسّيّ يوجب شدّتها إلى أن تصل إلى حدّ القطع ، وذلك لأنّ احتمال مخالفة خبرهم للواقع مع أنّ المخبر به أمر حسّيّ غير معقول عادة ، لأنّ منشأ هذا الاحتمال إمّا الخطأ أو احتمال التعمّد في الكذب ونحوهما ، وكلّها مستحيل عادة ، ولذلك ترى حصول القطع من الإخبار بالهلال فيما إذا كثرت الأخبار عن الرؤية بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب ، وأمّا في مثل الفتاوى المبنيّة على

__________________

(١) كشف الخفاء ٢ : ٤٧٠ ـ ٢٩٩٩ ، وفيه بدل «خطأ» : «ضلالة».

١٥٦

الحدس والاجتهاد والنّظر فلا يكون اجتماعها وتراكمها موجبا لحصول القطع بالواقع ، إذ كما يحتمل الخطأ في حقّ واحد منهم لأجل الاشتباه في مقدّمات اجتهاده كذلك يحتمل في حقّ الجميع ، فلا توجب كثرة ذلك حصول القطع بالحكم الواقعي ، ولذلك ترى عدم حصول القطع ، من إخبار جميع الحكماء باستحالة إعادة المعدوم ، لأنّه مبنيّ على اجتهادهم ، ويمكن عادة خطأ جميعهم. هذا كلّه في الملازمة العقليّة.

وأمّا دعوى الملازمة العاديّة بين الفتاوى ورأي المعصوم عليه‌السلام بأن تكون تلك الفتاوى الكثيرة من العلماء الحاكين عن قول رئيسهم ـ وهو الإمام عليه‌السلام ـ ملازمة عادة للقطع بفتوى الرئيس بحيث يستحيل انفكاكها عادة عنه ، لأنّ إخبار جماعة كثيرة عن قول رئيسهم أو شيخهم أو ملكهم مع كونهم مرءوسين له أو أصحابه أو أهل مملكته ملازم للقطع بقول ذلك الرئيس أو الشيخ أو الملك لمن يكون متعارفا ولا يكون وسواسيّا ، فالملازمة وإن لم تكن عقليّة لكنّها عاديّة.

ولا يخفى أنّ هذا أيضا غير صحيح ، لأنّ تلك الكبرى ـ وهي حصول القطع بقول الرئيس عادة من حكاية المرءوسين ـ وإن كانت مسلّمة إلّا أنّها فيما إذا كان المرءوسون ممّن أدركوا خدمة الرئيس وأخذوا الكلام عنه أو احتملنا ذلك ، لما ذكرنا من كفاية الاحتمال في هذا المقام ، وأمّا في مثل المقام ممّا لم يدركوا ولا نحتمل ذلك في حقّهم ، فلا يكون إخبارهم عن قوله حجّة ، لأنّه يرجع إلى الإخبار عن أمر حدسيّ وقد ذكرنا أنّه لا يكون حجّة ولا يكون إخبارهم عن ذلك ملازما للقطع بقول رئيسهم.

وأمّا الملازمة الاتّفاقيّة : فهي ممّا لا يقبل الإنكار إلّا أنّها ممّا لا ينضبط ، إذ قد يحصل القطع لأحد من فتوى عشرة من العلماء ولا يحصل ذلك للآخر من مثلها بل من فتوى عشرين ، فحصول القطع بقول المعصوم عليه‌السلام من فتوى

١٥٧

العلماء اتّفاقا ممّا لا يكون تحت قاعدة ، فنقل الإجماع ممّن قطع بقول المعصوم عليه‌السلام من فتوى جماعة لا يكون حجّة لغيره إلّا إذا أحرز الغير أنّ ما قطع بسببه برأي المعصوم عليه‌السلام يكون موجبا لقطعه أيضا وتكون الملازمة بينه وبين القطع ثابتة عنده ، وحيث إنّ إحراز ذلك من المدّعين للإجماع ممّا لا يمكن فلا يكون نقلهم الإجماع حجّة.

ثمّ إنّه بعد ما لم يمكن استكشاف رأي المعصوم عليه‌السلام من اتّفاق العلماء وإجماعهم فهل يمكن استكشاف حجّة معتبرة من ذلك حتى يكون الإجماع حجّة من هذه الجهة أم لا؟

فنقول : تارة يكون في المقام أصل أو قاعدة أو عموم أو إطلاق يمكن اعتماد المجمعين على ذلك في الحكم لكونه مسلّما عندهم ، فلا يكون الاتّفاق حينئذ كاشفا عن وجود حجّة معتبرة غيرها في البين ، إذ لعلّهم اعتمدوا في ذلك الحكم على ذلك الأصل أو القاعدة أو العموم ، فإذا فرضنا عدم حجّيّة ذلك الأصل أو القاعدة أو العموم عندنا ، لا يكون الإجماع كاشفا عن دليل معتبر غيرها.

وأخرى لا يكون في المقام دليل يحتمل اعتمادهم عليه ، وحينئذ إن أحرزنا أنّ اتّفاق المجمعين ليس لأجل تبعيّة اللاحقين منهم لإجماع السابقين بل لأجل أنّ الجميع من السابقين واللاحقين قد استندوا في الفتوى على مدرك معتبر عندهم ، لأنّ عدالتهم مانعة عن الفتوى بغير علم وإن لم نعلم ذلك المستند بعينه وإنّما نعلمه إجمالا ، فيكون إجماعهم كاشفا قطعا بحسب العادة عن اعتبار ذلك المستند عندنا أيضا لو اطّلعنا عليه ، فيكون حجّة ، لاستحالة أن يكون فهم الجميع على خلاف فهمنا في الدلالة على الحكم ليكشف كشفا قطعيّا عن اعتبار ذلك المستند وتماميّة دلالته إجمالا. ولكن إحراز ذلك في

١٥٨

نهاية البعد ، وليست الإجماعات من هذا القبيل.

وأمّا إذا لم يحرز ذلك ، بل يحتمل أنّ فتوى المتقدّمين لأجل أصل أو قاعدة والمتأخّرين قد اعتمدوا في فتواهم على إجماعهم على حسب مبانيهم من قاعدة اللطف وغيرها ، فلا يكون الإجماع كاشفا عن دليل معتبر عندنا ، إذ لعلّ ما استند إليه المتقدّمون لم يكن حجّة ، والمفروض أنّ المتأخّرين لم يعتمدوا في فتواهم إلّا على إجماع السابقين ، فلا يكون إجماع الجميع كاشفا عن وجود الحجّة المعتبرة.

والظاهر أنّ الإجماعات المذكورة في الكتب من هذا القبيل ، والشاهد على ذلك أنّ السابقين على الشيخ ـ قدس‌سره ـ لم يكن الاستدلال متعارفا عندهم ، وإنّما كانوا يذكرون الفتوى مجرّدة ، كما في الرسائل العمليّة ، ويظهر ذلك من ملاحظة كتبهم ، فلعلّ مستند حكمهم ما ذكرنا ، واللاحقين له لم يذكروا في مقام الاستدلال إلّا إجماعات السابقين ، فيكون اتّكالهم على إجماعهم لا على مستندهم ، وإلّا لذكروا ذلك المستند في مقام الاستدلال ، وحينئذ تصير الإجماعات ـ كما ذكرنا غير كاشفة عن الدليل المعتبر ، فقد ظهر عدم حجّيّة نقل الإجماع ، لعدم كشفه عن رأي المعصوم ولا عن وجود حجّة معتبرة ، ولكن مع ذلك مخالفة الإجماع في غاية الإشكال ، فلا بدّ في موارده من التأمّل والتدبّر التامّ. هذا تمام الكلام في الإجماع المنقول.

* * *

١٥٩
١٦٠