الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

طبقها ، ففي جميع الآنات ـ التي لو سئل عن وجه الاكتفاء بصلاة الجمعة ، أجاب بأنّي استندت إلى الأمارة التي أمرني الشارع باتّباعها ـ يتدارك ما فات عنه من المصلحة ، فإن كان استناده في وقت الفضيلة فقط وبعد خروجه تبيّن وجوب صلاة الظهر وأنّ الأمارة لم تصادف الواقع ، فيجب عليه صلاة الظهر في الوقت ، ويتدارك ما فات عنه من مصلحة إدراك وقت الفضيلة ، وإن كان استناده إلى أن خرج الوقت وبعد ذلك تبيّن مخالفة الأمارة للواقع ، فيجب عليه قضاء صلاة الظهر ، فإنّ المتدارك حينئذ هو مصلحة الوقت فقط لا مصلحة أصل الصلاة ، وإن استند إليها إلى أن مات ، فالمتدارك مصلحة أصل الصلاة.

والحاصل : أنّ التدارك إنّما يكون بمقدار فات عنه مصلحة الواقع من ناحية الأمارة ووقع في خلاف الواقع بسبب العمل بها بمقتضى أمر الشارع باتّباعها ما دام المكلّف بقايا على صفة الجهل ولم ينكشف له الخلاف ، فعلى هذا ما يفوت عن المكلّف بواسطة التعبّد بالأمارة يتدارك ، والباقي لا بدّ للمكلّف من إدراكه ، ولو فات فليس إلّا بتفويت نفس المكلّف لا من ناحية التعبّد بالأمارة ، فأين هناك (١) تفويت مصلحة أو الإلقاء في مفسدة؟

هذا كلّه بناء على السببيّة ، أمّا بناء على الطريقيّة المحضة وأنّ قيام الأمارة

__________________

(١) أقول : نعم ، إن كان القول بالمصلحة السلوكية صحيحا ، فالإشكال مندفع ، لكنّ الحقّ أنّ المصلحة السلوكية ترجع إلى التصويب المعتزلي ، وحيث إنّه باطل ، فلا يدفع الإشكال بها أيضا ، وذلك أنّ الواجب إذا كان هو الظهر في الواقع وقامت الأمارة على الجمعة ، فإن كان في السلوك على طبق الأمارة ـ وهو ليس إلّا إتيان الجمعة ـ مصلحة ملزمة بحيث تتدارك الفائتة الموجودة في الظهر ، فجعل الوجوب التعييني للظهر ، المشترك بين العالم والجاهل جزاف وترجيح بلا مرجّح ، فإنّ اللازم هو جعل الوجوب التعييني ، للعالم بالظهر والتخييري لمن قامت عنده الأمارة ، وهذا هو التصويب المعتزلي ، فإنّ التعيين تغيّر بقاء إلى التخيير ، فالتصويب منحصر في الاثنين لا ثالث لهما. (م).

١٠١

لا يوجب حدوث مصلحة أصلا لا في المؤدّى ولا في السلوك : فالتعبّد بالأمارة ـ مع تمكّن المكلّف من الوصول إلى الواقعيّات على ما هي عليها وعلم الشارع بأنّه يصل إليها خارجا لو لم يتعبّده بالأمارة غير العلميّة ـ وإن كان موجبا لتفويت المصالح الواقعيّة والإلقاء في المفاسد الواقعيّة أحيانا ، ويكون لهذا الإشكال وجه بحسب الظاهر ، إلّا أنّ التحقيق أنّه مندفع على هذا المبنى أيضا ، فإنّ تحصيل العلم بالواقعيّات ، فيه عسر نوعيّ ينافي غرض التسهيل على المكلّفين ، وكون الشريعة شريعة سهلة سمحاء ، ففوات المصلحة والوقوع في المفسدة بواسطة التعبّد بالأمارة لا يزاحم المصلحة النوعيّة التي هي عدم التشديد على المكلّفين ، والتسهيل عليهم ، فللشارع التعبّد بالأمارة لمكان العسر في تحصيل العلم على نوع الناس ، أي العسر الّذي لا يريد الشارع إيقاع المكلّفين فيه ، مراعاة لهذه المصلحة النوعيّة ، ونظيره كثير في أحكام الشريعة.

منها : مسألة نجاسة الحديد ، التي رفعت ـ بمقتضى بعض الأخبار (١) ـ عن الأمّة ، لمكان العسر الشديد في الاجتناب عنه ، فإنّه محتاج إليه غالبا.

ومنها : مسألة السواك ، فإنّه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك» (٢) وغير ذلك من الموارد التي رفع التكليف ـ الّذي فيه عسر لنوع الناس ـ فيها ولو كان موجبا لتفويت المصلحة أو الإيقاع في المفسدة ، لمعارضتها لما هو أقوى منها ، وهي مصلحة التسهيل ، ومن الضروري أنّه لا قبح في مثله أصلا ، فليكن التعبّد بالأمارة حال انفتاح باب العلم ـ مع علم الشارع بأنّ المكلّف يصل إلى الواقع لولاه ـ من هذا القبيل. هذا مضافا

__________________

(١) انظر الفقيه ١ : ٣٨ ـ ١٤٠ ، والتهذيب ١ : ٣٤٦ ـ ١٠١٢ و ١٠١٣ ، والاستبصار ١ : ٩٥ ـ ٣٠٨ و ٣٠٩ ، والوسائل ٣ : ٢٨٥ ، الباب ٨٣ من أبواب النجاسات ، الحديث ١ و ٢.

(٢) الفقيه ١ : ٣٤ ـ ١٢٣ ، الوسائل ٢ : ١٧ ، الباب ٣ من أبواب السواك ، الحديث ٤.

١٠٢

إلى أنّ ما بأيدينا من الأمارات غير العلميّة كلّها طرق عقلائيّة زاد فيها أو نقص عنها الشارع شيئا ، وليست ممّا اخترعها الشارع من عند نفسه.

هذا كلّه في المحذور الملاكي. أمّا المحذور الخطابي ـ الّذي هو اجتماع المثلين في صورة المصادفة ، والضدّين في صورة المخالفة ـ فالجواب عنه ـ فيما إذا أصابت الأمارة الواقع بأن كان الواقع واجبا مثلا وقامت الأمارة على وجوبه أيضا ـ واضح ، إذ تارة ليس في البين إلّا مصلحة واحدة ، وهي مصلحة الواقع ، وحينئذ تكون الأمارة كاشفة عن الواقع ومظهرة له ، وليس مؤدّاها إلّا نفس الحكم الواقعي ، غاية الأمر أنّه لم يصل إلى المكلّف بنفس خطاب المولى ، ووصل إليه بالأمارة ، فالتعدّد في الإنشاء وفي الموصل لا في نفس الحكم ، وهذا كما إذا قال المولى : «أكرم زيدا» ولم يعرف العبد أنّه من هو؟ فقال : «أكرم أبا عمرو» فلم يعرفه أيضا ، فقال : «أكرم أخا خالد» فقد جعل المولى وجوب الإكرام على ذمّة عبده لكنّه حيث لم يصل إليه بالخطاب الأوّل أراد إيصاله بخطاب آخر وهكذا ، فليس في هذا الفرض إلّا حكم واحد ، وهو الحكم الواقعي ، فأين اجتماع المثلين؟

وأخرى تكون المصلحة متعدّدة ، وحينئذ وإن كان الحكم أيضا متعدّدا بحسب الظاهر ، فإنّ المصلحة الملزمة التي تكون في الواقع دعت المولى إلى جعل الوجوب له ، وهكذا المصلحة الملزمة التي تكون في العمل بالأمارة أيضا دعت المولى إلى إيجابه ، إلّا أنّه لا مناص من الالتزام بتأكّد الحكم ، وهذا كما في العامّين من وجه أو العامّ والخاصّ المطلقين ، المحكومين بحكم واحد ، فإنّ مورد الاجتماع أو الخاصّ يتأكّد الحكم فيه ، ومثّلنا له سابقا بما إذا قال : «أكرم العلماء» ثم قال : «أكرم العدول» فإنّ العالم العادل يتأكّد وجوب إكرامه ، و «أكرم العالم بالعلوم الشرعيّة» و «أكرم الفقيه» فإنّ الفقيه حيث إنّه ينطبق عليه كلا

١٠٣

العنوانين يتأكّد وجوب إكرامه.

فاتّضح أنّ صورة إصابة الأمارة للواقع ليس فيها كثيرة إشكال ، وإنّما الإشكال في صورة المخالفة بأن كان حكم صلاة الظهر مثلا في الواقع هو الوجوب وقامت الأمارة على حرمتها ووجوب صلاة الجمعة ، فإنّ أمر الشارع باتّباع الأمارة حينئذ جعل للحكم المضادّ للواقع ، ولا ريب في استحالة اجتماع الضدّين.

وقد ذكر لدفع هذه الشبهة وجوه :

منها : ما أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ في أوّل بحث البراءة من أنّ اجتماع الضدّين يعتبر فيه ما يعتبر في اجتماع المتناقضين من الوحدات الثمانية أو التسعة ، فإنّ الضدّين بما هما ضدان لا استحالة فيهما ، بل استحالتهما من حيث إنّهما يرجعان إلى اجتماع المتناقضين ، إذ وجود أحد الضدّين مستلزم لعدم الآخر ، ففرض وجود السواد مع وجود البياض مستلزم لفرض وجود البياض مع عدمه ، وهو من اجتماع المتناقضين ، فإذا كان كذلك ، فكما أنّ وحدة الموضوع ، التي هي شرط في تحقّق اجتماع المتناقضين وبدونها لا تناقض في البين كذلك في اجتماع الضدّين ، فوجود السواد في موضوع مضادّ لوجود البياض في ذلك الموضوع لا في غيره.

وعلى هذا لو كان موضوع الحكم الواقعي والظاهري واحدا ، فالأمر كما ذكر ، ولكنّه ليس كذلك ، فإنّ الموضوع في الحكم الواقعي هو ذات المكلّف به والفعل ، وفي الحكم الظاهري هو عنوان المشكوك وما لا يعلم حكمه الواقعي ، فاجتماعهما ليس من اجتماع الضدّين في شيء (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٩٠ ـ ١٩١.

١٠٤

وقد أورد عليه أوّلا : بأنّه على تقدير تماميّته مختصّ بالأصول العمليّة ، التي أخذ في موضوعها الشكّ ، لا الأمارات التي حاكية عن حكم نفس الواقع ، ومؤدّاها هو الحكم الثابت لذات الفعل بعنوانه الأوّلي لا بعنوان أنّه مشكوك الحكم ، كما هو ظاهر.

وثانيا : بأنّه لا يتمّ في الأصول أيضا ، إذ لازمه التصويب ، وأنّ الواقع في ظرف الشكّ خال عن الحكم الواقعي ، وهو باطل جزما ، بل الخطابات عامّة وشاملة للعالمين بها والجاهلين إمّا بالإجماع والضرورة ، كما هو الّذي اختاره قدس‌سره ، أو بنتيجة الإطلاق ، كما هو مسلك شيخنا (١) ، أو بالإطلاق اللحاظي ، كما اخترناه سابقا ، وبعد ما كان الحكم الواقعي مطلقا غير مقيّد بالعلم والجهل ، وشاملا للمشكوك أيضا ، فهو محكوم بحكمين متضادّين : الواقعي ، والظاهري لا محالة ، فلا تندفع الشبهة بهذا الجواب أصلا لا في الأصول ولا في غيرها من الأمارات.

ومنها : ما أفاده صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ فيها وفي حاشيته على الرسائل ، وهو : أنّ الأحكام الواقعيّة أحكام شأنيّة ـ وفي بعض تعبيراته أحكام إنشائيّة ـ وربّما يعبّر عنها بأحكام فعليّة من بعض الجهات ، بمعنى أنّها لو علم بها لتنجّزت ، بخلاف الأحكام الظاهريّة ، فإنّها أحكام بعثيّة أو زجريّة ، ومن المعلوم أنّه لا مضادّة بين الحكم الفعلي البعثي و [الإنشائيّ] الزجري ، وإنّما المضادّة تكون بين الحكمين الفعليّين (٢).

وهذا الجواب ممّا لا يفيد شيئا ، فإنّ المراد من الحكم الشأني إن كان الحكم الاقتضائي ، بمعنى أنّ شرب التتن ـ مثلا ـ فيه ملاك الحرمة ومقتضيها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٢.

(٢) كفاية الأصول : ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، حاشية فرائد الأصول : ٣٦.

١٠٥

ولكنّه لا يكون حراما واقعا ، لقيام الأمارة على الخلاف بل يكون فيه شأنيّة الحرمة واقتضاؤها. فلازمه التصويب برأي الأشعري ، المستحيل وأنّ الواقع خال عن الحكم.

وإن كان المراد منه أنّ الواقع محكوم بالحرمة طبعا ، وبقيام الأمارة على الخلاف يزول ذلك الحكم الثابت له في طبعه ويصير مباحا فعليّا ـ نظير جواز الصلاة في أجزاء ما يؤكل لحمه ، وعدم جوازها في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فإنّ ما يحلّ أكله في طبعه تجوز الصلاة في أجزائه وإن كان حراما له لعارض ، مثل كونه في نهار رمضان ، أو إن نذر أن لا يأكل أو غير ذلك ، وهكذا ما لا يحلّ أكله في طبعه لا تجوز الصلاة في أجزائه وإن كان حلالا أكله لعارض من ضرورة أو مرض ـ فلازمه التصويب برأي المعتزلي ، المجمع على بطلانه ، وأنّ الواقع خال عن الحكم بقاء.

وإن كان المراد منه أنّ الواقع محكوم بالحكم الواقعي مع قطع النّظر عن الخصوصيّات وصرف الملاحظة عن قيام الأمارة على الخلاف وعدمه : فحينئذ تارة يراد به تعلّق الحكم الواقعي بالفعل غير مقيّد بعدم قيام الأمارة على الخلاف ورفض القيود وإلغائها في مقام الثبوت ، فإن كان هو المراد ، فهو عين الإطلاق ، ولازمه ثبوت الحكم الواقعي لمن قام عنده الأمارة على الخلاف أيضا ، فالفعل حرام واقعا وجائز ومباح بمقتضى دليل الأمارة فعاد الإشكال.

وأخرى يراد به عدم كون الحكم الواقعي مطلقا من حيث قيام الأمارة على الخلاف ولا مقيّدا ، أو أنّه مهمل بالقياس إليه لا مطلق ولا مقيّد ، وحينئذ يرد عليه ما ذكرنا في الواجب المشروط من أنّ الإهمال في الواقعيّات غير معقول بالنسبة إلى الآمر الملتفت إلى الانقسامات اللاحقة إلى متعلّق أمره ، ولا معنى لجعل الحكم على موضوع مهمل من حيث الإطلاق والتقييد.

١٠٦

وأمّا تعبيره عن الأحكام الواقعيّة بالأحكام الإنشائية : فإن كان المراد من الحكم الإنشائيّ أنّه ما ليس بداعي البعث أو الزجر ، بل كان بداع آخر من الدواعي من الامتحان أو الإرشاد أو غير ذلك ، فالقول به مساوق لإنكار الحكم الواقعي من رأس ، فإنّ الإنشاء لو لم يكن بداعي البعث لم يكن طلبا في الواقع ، إذ الإنشاء بأيّ داع تحقّق يكون مصداقا لذلك الداعي ، فالإنشاء بداعي الامتحان مصداق للامتحان ، وبداعي الإرشاد مصداق للإرشاد ، وبداعي الاستهزاء مصداق للاستهزاء ، وهكذا.

وإن كان المراد منه ما يكون بداعي البعث أو الزجر ولكن لم يصل إلى المرتبة الفعليّة ـ كما هو الظاهر من تعبيره الثالث بأنّها أحكام فعليّة من بعض الجهات بمعنى أنّه لو علم بها لتنجّزت ـ فقد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ فعليّة الحكم تدور مدار فعليّة موضوعه وجودا وعدما ، وأنّ عدم فعليّة وجوب الحجّ بعد تحقّق موضوعه وفعليّته ـ وهو المستطيع ـ خلف ومناقضة ، كما أنّ فعليّة وجوب الحجّ بالنسبة إلى فاقد الاستطاعة ومن لم يتحقّق له زاد وراحلة خلف ومناقضة ، وقلنا : إنّ الحكم وموضوعه أشبه شيء بالمعلول وعلّته في عدم انفكاك أحدهما عن الآخر.

وعلى هذا فبعد ما جعل الشارع الحكم الواقعي على الموضوع المقدّر وجوده ، فإن كان عدم فعليّة هذا المجعول من جهة عدم وجود موضوعه بماله من الأجزاء والقيود التي من جملتها عدم قيام الأمارة على الخلاف ، فمعناه أنّ الأحكام الواقعيّة مختصّة بالعالمين بها ، وإن لم يكن ذلك دخيلا في موضوعه ومع ذلك لم يصر الحكم فعليّا عند قيام الأمارة ، فقد عرفت أنّه خلف ومناقضة.

١٠٧

ومنها : ما أفاده شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره. وملخّص ما أفاده بحذف زوائده : أنّ الأحكام الظاهريّة لا تخلو من أحد أقسام ثلاثة : فإنّها إمّا تستفاد من الأمارات التي تكون لها كاشفيّة عن الواقع ، أو من الأصول التنزيليّة المحرزة التي أخذ في موضوعها الشكّ وحكم الشارع بإلغائه ، كما في موارد الاستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز ، أو من الأصول غير المحرزة التي أخذ في موضوعها الشكّ أيضا ولم يلغه الشارع ، بل حكم حكما على المشكوك وعيّن وظيفة للشاكّ في ظرف الشكّ ، كما في موارد أصالة الطهارة والإباحة ، وحينئذ نقول : إنّ المجعول في باب الأمارات ليس إلّا الوسطيّة في الإثبات والطريقيّة.

بيانه : أنّ الأحكام الوضعيّة من الملكيّة والزوجيّة وغيرهما بأنفسها مجعولة ، والقول بأنّها منتزعة من أحكام تكليفيّة ، فاسد ، فالملكيّة مثلا لها مصداقان : مصداق حقيقي ، وهو ما يكون الشيء تحت يد المالك وسلطنته حقيقة. والآخر : مصداق تشريعي اعتباري باعتبار أو بنائي ببناء العقلاء وأمضاه الشارع ، وهو ما يكون تحت يد الغاصب وسلطنته ، فإنّ الملكيّة الحقيقيّة وإن كانت مفقودة ، فإنّ السلطنة الخارجيّة في الفرض للغاصب لا للمالك إلّا أنّ الشارع يراه مالكا ومسلّطا عليه ، أو العقلاء يعتبرون الملكيّة له ويرونه واجدا له ومسلّطا عليه ، وكما أن الملكيّة لها مصداقان : حقيقي واعتباري كذلك الكاشفيّة والمحرزيّة والوسطيّة في الإثبات والعلم وكلّ ما يرادف ذلك ، له مصداقان : حقيقي ، وهو القطع الوجداني ، واعتباري جعلي ، وهو الأمارة ، فإنّها وإن لم تكن علما وجدانيّا إلّا أنّ الشارع جعل لها الكاشفيّة ، فكانت علما في نظر الشارع ، وهذا المعنى ممكن ، أي جعل الكاشفيّة للأمارة واعتبارها لها ، كاعتبار

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٤.

١٠٨

الملكيّة ، ومن الممكن أن يكون المجعول في باب الأمارات هو نفس العلم والإحراز لا الحكم التكليفي حتى يكون هناك حكمان يكون أحدهما مضادّا للآخر ، فحال الأمارة حال القطع الوجداني في انكشاف الواقع به ليس إلّا ، إلّا أنّ القطع طريقيّته وكاشفيّته ذاتيّة غير قابلة للجعل ، بخلاف الأمارة ، فإنّ كاشفيّتها جعليّة اعتباريّة.

هذا ، مضافا إلى أنّه لا بدّ من الالتزام بذلك ـ أي بأنّ المجعول هو نفس الكاشفيّة والطريقيّة في باب الأمارات ـ لا أنّه ممكن فقط وإن كان مجرّد الإمكان كافيا في اندفاع شبهة ابن قبة ، إذ مبنى إشكاله على ثبوت الحكمين المتضادّين : الواقعي والظاهري ، فإذا أنكرنا مجعوليّة الحكم في باب الأمارات ، تكون القضيّة سالبة بانتفاء الموضوع ، فإنّه ليس حكمان في البين حتى يستلزم اجتماع الضدّين.

ووجه لزوم الالتزام بأنّ المجعول هو نفس العلم والكاشفيّة في باب الأمارات هو : أنّ الأمارات كلّها طرق عقلائيّة لم يتصرّف فيها الشارع إلّا في بعض الموارد وزاد أو نقص عنها شيئا ، لا أنّها ممّا اخترعها الشارع من عند نفسه ، ومن المعلوم أنّ هذه الطرق عند العقلاء ليست إلّا بحكم العلم ، ويعاملون معها معاملة العلم الوجداني ، وليس عندهم أحكام عند قيام هذه الطرق ، فهي بعينها ممضاة للشارع.

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام صاحب الكفاية من أنّ المجعول في باب الأمارات هو التنجيز والتعذير (١) ، فإنّه مع أنّه خلاف الواقع كما ذكرنا غير معقول أيضا ، إذ المنجّزيّة عند الإصابة والمعذّرية عند المخالفة من الأحكام العقليّة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٩.

١٠٩

التي موضوعها البيان واللابيان ، والأحكام العقليّة غير قابلية للتخصيص ، فإذا حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فلا يمكن للشارع العقاب مع عدم البيان إلّا أن يقلبه بالبيان تعبّدا ، أو أخرج المورد عن موضوع حكم العقل ، فجعل المنجّزيّة للأمارة بدون أن يجعلها بيانا وعلما تعبّدا مع عدم البيان وجدانا تخصيص للحكم العقلي ، وأنّ العقاب بلا بيان قبيح في كلّ مورد إلّا عند قيام الأمارة التي لا تكون بيانا لا وجدانا ولا تعبّدا على الفرض ، فإنّه غير قبيح بحكم الشرع ، وجعله المنجّزيّة لها ، بمعنى صحّة احتجاج المولى على العبد وحسن عقابه على مخالفتها ، وهو باطل بالضرورة.

والحاصل : أنّه لا مناص عن الالتزام بأنّ المجعول في باب الأمارات هو نفس العلم والإحراز والبيان ، وأمّا المنجّزيّة والمعذوريّة من الآثار العقليّة التي تترتّب عليه قهرا ولا تكون قابلة للجعل. هذا في الأمارات.

وهكذا الكلام في الأصول المحرزة ، فإنّها أيضا مشتركة مع الأمارات فيما نحن بصدده ، وهو اعتبار الشارع المكلّف عالما بالحكم ، وإلغاء شكّه في مواردها ، والحكم بفرضه عالما ـ مع كونه شاكّا ـ وعمله عمل العالم والمتيقّن وإن كان بينهما فرق من جهة أخذ الشكّ في موضوعها ، ولذا تقدّم الأمارات عليها مع أنّها أيضا ـ كالأمارات ـ طرق عقلائيّة أمضاها الشارع وزاد بها أو نقص عنها شيئا.

فاتّضح أنّ المجعول في باب الأمارات والأصول المحرزة ليس حكما تكليفيّاً حتى يتوهّم التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي. وهذا كله ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في الأصول غير المحرزة ، فإنّه ربما يتوهّم اجتماع الضدّين في صورة مخالفة الأصل للواقع ، كما إذا كان الفعل في الواقع محكوما

١١٠

بحكم إلزاميّ ورخّص الشارع في فعله أو تركه ، أو كان الواقع حكما ترخيصيّا واقتضى الأصل الاحتياط ، فإنّ الإلزام المجعول في أصالة الاحتياط يضادّ الترخيص الواقعي ، والترخيص المجعول في أصالة البراءة يضادّ الإلزام الواقعي.

ولكنّ التحقيق عدم التضادّ. بيانه : أنّ الأحكام الواقعيّة في ظرف الجهل بها حيث لا يمكن ـ لعدم وصولها إلى المكلّف ـ كونها محرّكة له وإن بلغت من الشدّة والقوّة ما بلغ ، فللشارع في هذه المرتبة ـ وهي مرتبة التنجّز والوصول ـ أن يوكل المكلّف إلى عقله وما يدركه من قبح العقاب بلا بيان ، كما في موارد الشكّ في التكليف ، فيحكم بجواز الاقتحام ، ووجوب دفع الضرر المحتمل ، كما في موارد الشكّ في المكلّف به ، فيحكم بوجوب الاحتياط بلا لزوم محذور أصلا ، فإنّ الشارع عمل بوظيفته وبيّن الأحكام ، فوظيفة المولويّة تمّت بجعل الأحكام الواقعيّة ، وأمّا الوصول فلا ربط له بمقام الجعل ، بل إنّما هو في مرتبة حكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة ، فإذا أحاله الشارع على ما يدركه عقله وحكم العقل بجواز الاقتحام أو وجوب الاحتياط ، يكون [عدم] اجتماع الضدّين من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فإنّه ليس في البين حكمان مولويّان حتى يستلزم اجتماع الضدّين ، لكون أحدهما مضادّا للآخر ، وله أن يجعل حكما مخالفا لما يحكم به العقل ، فيحكم بوجوب الاحتياط في مورد قبح العقاب بلا بيان ويخرجه عن موضوع «لا بيان» كما إذا كانت الملاكات الواقعيّة في نظره بمكان من الأهمّيّة يوجب إيجاب الاحتياط مراعاة لها ، أو يحكم بجواز الاقتحام في مورد حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، ويخرجه عن موضوع حكم العقل ، كما إذا لم تكن الملاكات النّفس الأمريّة بهذه المثابة من الأهمّيّة بحيث يلزم للشارع مراعاتها ، وذلك لأنّ هذه المرتبة ـ وهي مرتبة

١١١

التنجّز ـ متأخّرة عن مرتبة وجود الحكم الواقعي وفي طوله ، وإذا كان كذلك فالترخيص في هذه المرتبة لا يضادّ ولا ينافي الإلزام الواقعي المتقدّم عليه رتبة ، وكذا العكس ، فإنّ الموضوع فيه هو الجهل بالحكم الواقعي من حيث كونه موجبا لعدم التمكّن من الامتثال وعدم كونه ، منجّزا له ، فقد لوحظ وجود الحكم الواقعي في الترخيص الظاهري ، ومع ذلك كيف يمكن أن يكون أحدهما مضادّا للآخر حتى يلزم من اجتماعهما اجتماع الضدّين ولا بدّ في اجتماع الضدّين أن يكون وجود أحدهما رافعا للآخر لا أن يكون أحدهما مقتضيا لوجود الآخر ، كما هو المفروض في المقام!؟ فترخيص الشارع في هذه المرتبة بمنزلة الترخيص في مورد حكمه بقبح العقاب بلا بيان ، فكما أنّه ليس مضادّا للحكم الواقعي الإلزاميّ فكذلك ترخيص الشارع ليس مضادّا له.

وكذلك إيجاب الاحتياط لا يكون مضادّا للحكم الواقعي الترخيصي ، إذ ملاكه ليس إلّا مراعاة الملاكات النفسيّة والمصالح الواقعيّة ، فيدور مدار الواقع ، والمفروض أنّ الواقع هو الحكم الترخيصي ، وليس فيه مصلحة ملزمة تجب مراعاتها ، وهي التي دعت المولى إلى إيجابه ، فإذا انتفت انتفى الوجوب أيضا ، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبه من جهة جهله بحال المشتبه ، فإذا كان إيجاب الاحتياط دائرا مدار الوجوب الواقعي ، فلا تضادّ بين الحكمين ، لعدم الحكم الظاهري حقيقة في هذه الصورة ، أي صورة مخالفته للواقع ، وكون الواقع حكما ترخيصيّا ، بل إنّما هو حكم صوريّ لا حقيقة له ، ولا كلام لنا في صورة المصادفة ، فإنّ وجوب الاحتياط وإن كان حكما حقيقيّا إلّا أنّه متّحد مع الحكم الواقعي.

والحاصل : أنّ الحكم الظاهري في موارد الأصول غير المحرزة ـ حيث

١١٢

إنّه أخذ في موضوعه الشكّ من جهة كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه منجّزا له ـ لا يضادّ الحكم الواقعي ، بخلاف ما إذا أخذ الشكّ في موضوعه من جهة كونه صفة نفسانيّة ، فإنّه لانحفاظ الحكم الواقعي عنده لا يرتفع به غائلة التضادّ ، وكما أنّ للعلم جهتين : إحداهما : جهة كونه صفة نفسانيّة ، والأخرى : جهة كونه موجبا لرفع التحيّر كذلك للشكّ في الحكم الواقعي أيضا جهتان : جهة كونه صفة نفسانيّة ، وجهة كونه موجبا للحيرة وعدم كونه واصلا إليه. وهذا ممّا لا ريب فيه (١). هذا خلاصة ما أفاده ـ قدس‌سره ـ بحذف زوائده.

وهو في موارد الأمارات والأصول المحرزة تامّ غير قابل للإنكار ، لكنّه في موارد الأصول غير المحرزة ـ كأصالة الاحتياط والبراءة ـ لا يمكن المساعدة عليه.

أمّا ما ذكره من كون إيجاب الاحتياط في صورة المخالفة حكما صوريّا لا حقيقة له ، ففيه أوّلا : أنّه مناف لإطلاقات أدلة الاحتياط مثل : (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢) «وقف عند الشبهة» (٣) وغير ذلك ممّا استدلّ به على وجوب الاحتياط.

وثانيا : لازمه أن لا يصير فعليّا أبدا ، فإنّ الحكم الصوري الخيالي لا يجب امتثاله ، وما يجب امتثاله ـ وهو الحقيقي ـ مشتبه بين الشبهات من حيث الشكّ في كونه مصادفا للواقع أم لا ، والشبهة موضوعيّة ، أي مورد اشتباه وجوب الاحتياط بين كونه مصادفا واجب الامتثال أو مصادف لا يجب امتثاله.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٤ ـ ٧٩.

(٢) الإسراء : ٣٦.

(٣) الوسائل ٢٠ : ٢٩٥ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث ٢ ، وفيها : «قفوا ...».

١١٣

وأمّا ما ذكره من كون الترخيص الظاهري حيث أخذ في موضوعه الشكّ باعتبار كونه موجبا للحيرة له لا يكون مضادّا للحكم الواقعي ، وإنّما هو نظير حكم العقل بالترخيص في مورد حكمه بقبح العقاب بلا بيان ، ففيه : أنّ العقل في مورد عدم البيان لا يحكم إلّا بالمعذّرية والمنجّزيّة ، وأنّ العقاب قبيح مع عدم البيان ، لا أنّه يحكم بالترخيص حتى يتوهّم التضادّ ، بخلاف الشارع ، فإنّه حكم بالترخيص حقيقة مع أنّه في الواقع حرام ، فكيف يجتمعان!؟

وما أفاده من اختلاف الرتبة لا يفيد في رفع غائلة التضادّ ، إذ لا ريب في أنّ الحكم الواقعي مطلق بالقياس إلى الشاكّ إمّا بالإطلاق اللحاظي ، كما هو المختار ، أو بنتيجة الإطلاق ، كما هو مختاره قدس‌سره ، ولا فرق في ذلك بين أخذ الشكّ في موضوع الحكم الترخيصي الظاهري من حيث صفتيّته ، أو من حيث كونه موجبا للحيرة ، وإذا كان الحكم الإلزاميّ الواقعي مطلقا ومحفوظا في هذه المرتبة أيضا فكيف يجتمع مع الترخيص الظاهري!؟

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الحكم المجعول حقيقته ليست إلّا الاعتبار النفسانيّ إمّا اعتبار اللابدّية وجعل الفعل على ذمّة العبد وعهدته ، كما في الحكم الإيجابي ، أو نقيضه كما في الحكم التحريمي ، أو كون اختيار الفعل والترك بيده ، كما في الحكم الترخيصي ، وهذا المعنى ممكن ومحقّق في العرف ، فيعتبر المال على الذمّة ، ويجعل الواجب على الذمّة بالنذر ويقال : «لله عليّ كذا» ففي الحقيقة الواجب دين لله تبارك وتعالى على ذمّة العبد ، ولذا أطلق الدّين على الواجبات في بعض الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «دين الله أحقّ بأن يقضي» (١) على المسموع.

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٢٩٤ ـ ١٩٥٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٠٤ ـ ١٥٥ ، سنن البيهقي ٤ : ٢٥٥.

١١٤

وبالجملة ، حقيقة الحكم إنّما هي الاعتبار لا غير ، وهو مسبوق بشيئين : الشوق ، والعلم بالصلاح ، وملحوق بشيئين أيضا : الإظهار الخارجي ، والوصول إلى المكلّف ، وذلك لأنّ اعتبار اللابدّيّة ـ مثلا ـ فعل من أفعال المولى ناشئ عن اشتياقه بما يعتبره على ذمّة العبد ، واشتياقه مسبّب عن علمه بوجود المصلحة الملزمة فيه ، ولا بدّ للمولى ـ بعد علمه بصلاح شيء واشتياقه به السابقين على الاعتبار وبعد الاعتبار ـ من الإظهار خارجا بلفظ ، مثل قوله : «افعل» أو كتابة أو إشارة أو غير ذلك ، وبعد إظهاره يتحقّق الوصول ، فهناك مراتب خمس ، ومن المعلوم أنّ الاعتبارين بما هما اعتباران لا تضادّ بينهما ذاتا ، إذ لا مانع من اعتبار كون الفعل والترك معا على ذمّة أحد ، ولا استحالة في الاعتبار ذاتا ، وإنّما التضادّ والاستحالة عرضيّ ناش من [التضادّ من] المرتبتين المتقدّمتين أو مرتبة الوصول ، إذ لا استحالة في مرتبة الإظهار الخارجي أيضا في نفسه ، ضرورة أنّه لا محذور في قوله : «افعل» و «لا تفعل».

ووجه الاستحالة في مرتبة العلم بالصلاح والاشتياق واضح ، إذ لا يمكن أن يكون لشيء واحد مصلحة ملزمة ومفسدة ملزمة مثلا ، ولا يعقل أن يكون الشيء مشتاقا إليه لأحد ومبغوضا له أيضا من جهة واحدة ، فالمولى إمّا أن يشتاق إلى شيء لمصلحة تكون فيه ، راجعة إلى نفسه أو إلى المأمور فيأمر به ، أو لا فلا.

وهكذا في مرتبة الوصول ، فإنّ النتيجة المرغوبة من الاعتبارين ـ وهي الانبعاث والانزجار ـ لا يمكن حصولها حيث إنّ المكلّف لا يقدر على الانبعاث والانزجار عن شيء بعثه المولى إليه وزجره عنه في زمان واحد ، بل الممكن له إمّا الانبعاث أو الانزجار.

وبذلك ظهر أنّ التضادّ العرضيّ ليس إلّا بين الحكمين الواقعيّين

١١٥

المختلفين أو الحكمين الظاهريّين المختلفين ، أمّا الحكمان اللذان أحدهما ظاهري والآخر واقعي فلا تضادّ بينهما أصلا ، لأنّ المفروض أنّ الحكمين بما هما حكمان لا تضادّ بينهما ، بل هو ناش من التضادّ في المرتبتين السابقتين عليهما ، وهو مفقود في المقام ، إذ الحكم الظاهري لا يكون تابعا للملاك الّذي في متعلّقه ، بل إنّما هو تابع للملاك الّذي يكون في نفس الحكم ، والمولى ربّما يكرهه غاية الكراهة ولا يرضى به أصلا لكنّه يجعله لمصلحة تكون في نفس الحكم لا في متعلّقه ، ففي الفعل ليس إلّا مصلحة واحدة ملزمة موجبة لاشتياق المولى إليه وجعله على ذمّة عبده في الواقع ، ولا مصلحة في تركه أصلا ، ولا يرضى بتركه المولى أبدا ولكنّه يرخّص في تركه مع ذلك في ظرف جهل المكلّف به لمصلحة تكون في نفس ترخيصه لا في المرخّص به ، فأين التضادّ؟

أو ناش من التضادّ في مرتبة الوصول اللاحقة لهما ، وهو أيضا مفقود في المقام ، إذ الحكم الظاهري حيث إنّه أخذ في موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي يكون بنحو لا يمكن وصوله مع وصول الحكم الواقعي ، إذ في ظرف الجهل بالحكم الواقعي لم يصل إليه إلّا حكم واحد ، وهو الحكم الظاهري ، وفي ظرف العلم به لا حكم ظاهري في البين حتى يضادّ مع الحكم الواقعي الواصل إليه ، فالواصل دائما أحد الحكمين ، فلا يقع المكلّف في حيرة في مقام الامتثال ، ولا يلزمه الانبعاث والانزجار معا حتى يحصل التضادّ في هذه المرتبة.

فاتّضح أنّ التضادّ الذاتي ليس بين الحكمين بوجه من الوجوه ، والعرضيّ منه وإن كان قد يتحقّق إلّا أنّه في المقام مفقود ، بل المتصوّر في المقام هو التضادّ بين الحكمين الواقعيّين أو الظاهريّين ، لا فيما كان أحدهما ظاهريّا والآخر واقعيّا ، لما عرفت أنّه سنخ الحكم الظاهري مغاير للحكم الواقعي ،

١١٦

ولعلّ شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ أراد هذا المعنى من اختلاف المرتبتين الّذي ادّعى أنّه لرفع التضادّ. هذا تمام الكلام في الجميع بين الحكم الظاهري والواقعي.

وبعد ذلك يقع الكلام في مقتضى الأصل عند الشكّ في الحجّيّة ، والمراد من الأصل أعمّ من اللفظي والعملي ، عقليّا كان أو شرعيّا.

فنقول : ذكر الشيخ ـ قدس‌سره ـ في المقام أنّ الأصل حرمة التعبّد بما لم يقم على حجّيّته دليل ، لكونه تشريعا ، ويدلّ على حرمته قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) وغير ذلك من الأدلّة (٢).

وأورد عليه في الكفاية (٣) بأنّ الحجّيّة لا تلازم التشريع شرعا وعقلا ، إذ يمكن أن يكون الشيء حجّة ولم يكن إسناده مؤدّاه إلى الشارع صحيحا ، كالظنّ الانسدادي على الحكومة ، فإنّه حجّة ولكن لا يصحّ إسناده إلى الشارع ، كما لا يمكن أن يكون الأمر بالعكس وإن كان ذلك مجرّد فرض لا واقع له ، فلا وجه للاستدلال على حرمة التعبّد وعدم حجّيّة ما هو مشكوك الحجّيّة : بعدم جواز الإسناد إليه تعالى ، وعدم صحّة الالتزام به.

والحاصل : أنّه لا وجه لاستدلال الشيخ رحمه‌الله ، ولعدم الملازمة بين الأمرين.

ولكنّ التحقيق عدم ورود الإشكال ، إذ إطلاق الحجّة على الظنّ الانسدادي على الحكومة مسامحة (١) ، لأنّ المراد من الحجّة ما يقع وسطا لإثبات أحكام متعلّقه ، وليس الظنّ الانسدادي على الحكومة هكذا ، بل المراد من

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) فرائد الأصول : ٣٠ وما بعدها.

(٣) كفاية الأصول : ٣٢٣.

(٤) أقول : هذا صحيح ولكنّه لا يوجب عدم صحّة الاستناد إليه ، بل كما يصحّ الاستناد والإسناد في مورد القطع كذلك يصحّ الاستناد ـ دون الإسناد ـ في مقام العمل إلى الظنّ الانسدادي على الحكومة. نعم ، إسناد المظنون إلى الشارع غير صحيح. (م).

١١٧

حجّيّته ليس إلّا حكم العقل بالتبعيض في الاحتياط بعد عدم التمكّن من الاحتياط التامّ ، والأخذ بالمظنونات فقط دون الموهومات والمشكوكات ، ولذا لو لم يتمكّن المكلّف من الأخذ بالمظنونات في الفرض المذكور ، يحكم العقل بالامتثال الشكّي والاحتمالي مع أنّه من الضروري أنّ الشكّ والاحتمال لا يكونان قابلين للحجّيّة ، فليس هذا إلّا من باب حكمه بالتبعيض في الاحتياط بعد عدم التمكّن من الاحتياط التامّ.

ونظير ذلك في الشبهات الموضوعيّة ما لو تردّد القبلة بين أطراف لا يتمكّن المكلّف من الاحتياط في جميعها ، فإنّه لا بدّ من الأخذ بالطرف الّذي يظنّ أنّه القبلة ولكن ليس ذلك من باب حجّيّة الظنّ بمعنى كونه وسطا في مقام الإثبات ، بل يكون من باب التبعيض في الاحتياط.

وبالجملة ، الحجّة الحقيقيّة ـ أي الوسط في الإثبات ـ ملازمة لصحّة الاستناد في مقام العمل ولصحّة إسناد مؤدّاها إلى الشارع ، أي التعبّد بمقتضاه ، والأمارة بعد جعل الحجّيّة لها تكون من أفراد العلم تعبّدا ، وكما يترتّب على الحجّة الوجدانيّة صحّة الاستناد في مقام العمل وصحّة إسناد المعلوم إلى الشارع كذلك يترتّب على الحجّة التعبّديّة ذلك.

وبالجملة ، الشكّ في حجّيّة أمارة ملازم للقطع بعدم حجّيّتها ، كما هو المشهور ، لا بمعنى أنّ الشكّ في جعل الحجّيّة وإنشائها لها ملازم للقطع بعدم جعلها وإنشائها ، فإنّ فساد ذلك واضح ، لأنّ الشيء لا ينقلب إلى ضدّه أو نقيضه ، بل بمعنى أنّ الشكّ في جعل الحجّيّة وإنشائها لشيء ـ كالشكّ في كونه حجّة واقعا ـ مساوق للقطع بعدم حجّيّته فعلا ، بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليه ، إذ الحجّيّة ، لها فائدتان وأثران :

أحدهما : صحّة الاستناد إليها في مقام العمل ، بمعنى جواز الاكتفاء

١١٨

بمؤدّاها وكونها مؤمّنا. مثلا : قيام خبر العدل على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ يكون مؤمّنا للمكلّف عن العقاب المترتّب على ترك الظهر لو كان هو الواجب في الواقع ، ويصحّ استناد المكلّف إليه في مقام العمل.

ثانيهما : صحّة إسناد مؤدّاها إلى الشارع ، فلا مانع للمكلّف أن يلتزم بوجوب الجمعة في الفرض المذكور ويسند وجوبها إلى الشارع.

وهذان الأثران إنّما يترتّبان على الحجّة الواصلة لا على مجرّد جعل الحجّة واقعا ، فوجودها الواقعي وإنشاؤها لا يترتّب عليه أثر ، بل الأثران المذكوران مترتّبان عند إحرازها صغرى وكبرى ، وما لم يعلم بها كذلك لا يترتّب عليها أثر ، وليس ذلك من جهة أخذ العلم في موضوعها حتى يقال بعدم اختصاصها ـ كسائر الأحكام ـ بالعالمين ، للزوم الدور ، أو لما دلّ على اشتراك الأحكام بين الجميع ، بل من جهة أنّ الأثرين المذكورين من الآثار العقليّة المترتّبة على الحجّة ، والعقل لا يحكم بترتّبها إلّا على الحجّة الواصلة ، فلا فرق بين الحجّيّة وسائر الأحكام الشرعيّة إلّا من جهة أنّ سائر الأحكام قد يترتّب عليها بعض الآثار لوجوداتها الواقعيّة ولو لم تصل ، كالقضاء والإعادة ، بخلاف الحجّيّة ، فإنّ الأثر المترتّب عليها لا يترتّب على وجودها الواقعي ، إذ الآثار المرغوبة منها منحصرة في ثلاثة :

الأوّل : منجّزيّتها للأحكام الواقعيّة ، ومن الواضح أنّها أجنبيّة عن جعل الحجّيّة ، بل الأحكام الواقعيّة منجّزة مع قطع النّظر عن جعل الحجّيّة أيضا إمّا بسبب العلم الإجمالي بوجودها أو بسبب الاحتمال قبل الفحص ، فليست هي من آثار جعل الحجّيّة.

والثاني : صحّة الاستناد إليها في مقام العمل ، أي المعذّريّة.

والثالث : صحّة إسناد مؤدّى الحجّة إلى الشارع.

١١٩

وقد عرفت أنّهما من الآثار العقليّة المترتّبة بحكم العقل على الحجّة الواصلة صغرى وكبرى ، لا على مجرّد جعلها ، فعلى هذا ليس لمجرّد جعل الحجّيّة أثر ، بل الأثر إنّما هو للعلم بالحجّيّة ، فلا يقال : إنّ الشكّ في حجّيّة شيء ملازم للقطع بعدمها بمعنى عدم ترتّب آثار الحجّة عليه قطعا ، وهذا هو المراد من عدم الحجّة الفعليّة.

فتحصّل ممّا ذكر : أنّه ما لم تصل حجّيّة شيء لا يمكن الاستناد إليه في مقام العمل ، ويكون إسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريعا محرّما ، لأنّهما بحكم العقل يترتّبان على الحجّة الواصلة ، وقد ذكرنا أنّ التنجّز ليس من آثار جعل الحجّيّة ، بل هو من آثار العلم الإجمالي بوجود الأحكام أو الاحتمال قبل الفحص ، فشيء من الآثار لا يترتّب على مشكوك الحجّيّة ، فالشكّ في حجّيّة أمارة ملازم للقطع بعدم ترتّب آثار الحجّة عليها. هذا واضح لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في أنّه هل للشارع أن يمنع عن العمل بأمارة مع هذا الحكم العقلي؟ الظاهر أنّه لا إشكال فيه ، وليس ذلك الحكم العقلي مانعا عنه ، لأنّ الدليل الخاصّ يخرج تلك الأمارة عن موضوع حكم العقل ، لأنّ موضوع حكمه هو مشكوك الحجّيّة ، والتعبّد بحرمة العمل بها يخرجها عن كونها مشكوكة الحجّيّة ، ويصيّر حجّيّتها مقطوعة العدم ، ولذا ورد المنع عن العمل بالقياس (١) ، فلا تنافي بين منع الشارع وهذا الحكم العقلي.

بقي الكلام في أمرين :

أحدهما : هل يمكن التمسّك بالأدلّة العامّة المانعة عن العمل بغير العلم لإثبات حرمة العمل على طبق ما هو مشكوك الحجّيّة أم لا؟

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ٥٧ ـ ١٥ و ١٧ ، الوسائل ٢٧ : ٤١ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠ و ١١.

١٢٠