الهداية في الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٦٠٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته ، محمّد وآله أجمعين.

الكلام في الأدلّة العقليّة والشرعيّة التي تقع في طريق الاستنباط.

وقبل الخوض في المقصود ينبغي التكلّم في القطع وأحكامه وإن كان خارجا عن مسائل الأصول ، وذلك لأنّا ذكرنا في صدر مباحث الألفاظ أنّ المناط في كون المسألة أصوليّة أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ واستخراجه.

وبعبارة أخرى : أن يحصل بواسطتها القطع بالحكم الشرعيّ ، وعلى هذا يكون القطع بالحكم الشرعي نتيجة للمسألة الأصوليّة ، فالبحث عن أحكام القطع ـ سواء كان طريقيّا أو موضوعيّا ـ من المنجّزيّة فيما أصاب والمعذّريّة فيما أخطأ وغير ذلك ليس بحثا أصوليّا. وهذا في القطع الطريقي في غاية الوضوح.

وأمّا في القطع الموضوعيّ ، مثل : «إن قطعت بحياة ولدك فتصدّق بكذا» فلأنّ الحكم الشرعيّ مثل وجوب التصدّق في المثال لا يستخرج ولا يستفاد من هذا القطع ، بل هو مستفاد من دليل آخر دالّ على وجوب ذلك عند وجود هذا القطع ، وهو موضوع للحكم ، كالخمر في «لا تشرب الخمر».

والحاصل : أنّ البحث عن أحكام القطع استطراديّ لمجرّد مناسبة كونه نتيجة للمسألة الأصوليّة.

فنقول : إنّ البالغ الّذي وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى حكم شرعيّ ، فإمّا أن يحصل له القطع أو الظنّ أو الشكّ.

٥

والمراد بالحكم هو الحكم الفعليّ الّذي هو ثابت على ذمّة المكلّف وعهدته بالفعل لا ما هو ثابت في الشريعة ولم يتحقّق موضوعه ، كما في وجوب الحجّ ، الثابت على المستطيع في الشريعة بالنسبة إلى من لم يكن مستطيعا ، فإنّه لا أثر لقطعه ولا لظنّه ولا لشكّه بهذا الحكم أصلا ، ولا يترتّب على شيء منها حكم أبدا.

وبالجملة ، المراد بالحكم هو ما يكون في مرتبة المجعول الّذي يعبّر عنه بالحكم الفعلي ، لا ما هو في مرتبة الجعل الّذي يعبّر عنه بالحكم الإنشائيّ.

وأمّا الحكم الإنشائيّ الّذي يدّعيه صاحب الكفاية (١) ـ قدّس سره ـ في مرتبة المجعول ومرحلة وجود الموضوع فسيجيء في أوائل مبحث الظنّ ـ إن شاء الله ـ أنّه لا معنى له.

ثمّ إنّ شيخنا العلّامة الأنصاري ـ أعلى الله مقامه ـ قسّم المكلّف باعتبار حالاته الثلاث إلى أقسام ثلاثة (٢) ـ كما قسّمناه ـ وجعل لكتابه مقاصد ثلاثة ، ثمّ ذيّله بالبحث عن التعادل والتراجيح.

وصاحب الكفاية عدل عن ذلك ، وجعل التقسيم ثنائيّا ، لوجهين :

أحدهما : أنّ متعلّق القطع لا يختصّ بالحكم الواقعي ، بل يعمّ الظاهري أيضا ، فإنّ المكلّف إمّا قاطع بما التفت إليه ـ من حكم واقعي أو ظاهري ـ أولا ، وعلى الثاني يعمل على ظنّه لو حصل له ، وتمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة ، وإلّا يرجع إلى الأصول العقليّة.

الثاني : أن لا يلزم تداخل الأقسام ، فإنّ الظانّ بالظنّ المعتبر ملحق بالقاطع ، وبغير المعتبر ملحق بالشّاك ، وهذا بخلاف ما إذا جعل التقسيم ثلاثيّا ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ و ٣٢٠ ـ ٣٢٢.

(٢) فرائد الأصول : ٢.

٦

فإنّ الظنّ في بعض الموارد يجري عليه حكم الشكّ ، كما في الظنّ غير المعتبر ، والشك ربّما يجري عليه حكم الظنّ ، كما إذا قام أمارة غير مفيدة للظنّ على شيء.

ثمّ قال : وإن أبيت إلّا عن تثليث الأقسام ، فالأولى أن يقال : إنّ المكلّف إمّا قاطع أولا ، وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أولا ، لئلا تتداخل الأقسام (١). هذا خلاصة ما أفاده قدّس سره.

والظاهر أنّه لا وجه للعدول ، وذلك لأنّ المكلّف بعد ما علم أنّه عبد ، وله مولى كلّفه بتكاليف لا بدّ له من تحصيل مؤمّن من تبعات هذه التكاليف ، وهو أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : القطع الوجداني.

الثاني : القطع التنزيلي بالرجوع إلى الطرق الظنّيّة المعتبرة التي نزّلها الشارع منزلة القطع.

الثالث : الرجوع إلى الوظائف التي عيّنت للشاكّ في الحكم الواقعي لو لم يحصل له القطع الوجداني ولا التنزيلي به ، فيصحّ أن يجعل متعلّق القطع خصوص الحكم الواقعي ويقال : إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع الوجداني به ، وهو المؤمّن الأوّل ، أو الظنّ به ، أي الكاشف عنه وما جعله الشارع قطعا تنزيلا وتعبّدا ، وهذا هو المؤمّن الثاني ، أو الشكّ ، فيرجع إلى ما جعله الشارع وظيفة له في ظرف الشكّ.

والحاصل : أنّ العبد لا بدّ له من أن يخرج عن عهدة التكليف الواقعي ويقطع بالأمن من العقاب من ناحيته دائما ، وهو بأحد هذه الأمور ، وتثليث

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

٧

الأقسام بهذا الاعتبار.

ثمّ إنّ المراد من الظنّ في التقسيم هو الطريق المعتبر والكاشف الظنّي من ظهور أو إطلاق أو غير ذلك من الكواشف الظنّيّة المعتبرة ، لا مطلق الظنّ. وقد صرّح بذلك في أوّل البراءة من كتابه (١) قدس‌سره ، فلا يلزم تداخل الأقسام ، فالأنسب هو التقسيم على نهج ما أفاده الشيخ قدس‌سره.

ثمّ إنّ البحث في القطع يقع من جهات ثلاث :

الأولى : في طريقيّته.

الثانية : في حجّيّته.

الثالثة : في جعله موضوعا لحكم من الأحكام.

أمّا الجهة الأولى : فلا ريب أنّ القطع حقيقته هو الانكشاف ورؤية الواقع لا ما يرى به الواقع وما ينظر [به] إليه ، فالتعبير عنه بالمرآة وما ينظر به في غير محلّه ، فإنّه نفس الانكشاف ، لا أنّه شيء من لوازمه وآثاره الانكشاف ، وحيث إنّ الانكشاف ذاتيّ للقطع فهو غير قابل للجعل أصلا ، فإنّه مستحيل في الماهيّات بين الذات والذاتيّات لا بسيطا ولا مركّبا ، مثلا : لا يعقل جعل الحيوانيّة ولا جعل الإنسان حيوانا أو ناطقا.

نعم ، يمكن جعل القطع تكوينا ، بمعنى إيجاده كذلك ، كما يمكن إيجاد ماهيّة الإنسان.

أمّا الجهة الثانية : فالتحقيق فيها أن يقال : إنّ حجّيّة القطع عبارة عن كونه ممّا يصحّ أن يحتجّ به العبد على مولاه ، ويقول في صورة عدم الإصابة : «أنا عملت على طبق ما قطعت به» ويحتجّ المولى على عبده فيما قطع بوجوب

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٩١.

٨

شيء مثلا ولم يأت به ، ويؤاخذه بأنّك لم ما أتيت بما قطعت بوجوبه؟

وليعلم أنّ الحجّيّة بهذا المعنى ليست من لوازم القطع ومعلولاته ، ولا ممّا ثبت ببناء العقلاء ـ ضرورة أنّها ثابتة عند حصول القطع ولو لم يكن في العالم غير القاطع أحد من العقلاء. مضافا إلى أنّ بناءات العقلاء كلّها راجعة إلى حفظ النظام وبقاء النوع ـ كحرمة القتل والظلم وغير ذلك ممّا له دخل في نظام العالم ـ لا إلى ما لا دخل له بذلك ولا ربط له به ، كوجوب الصلاة وغيره من الأحكام الشرعيّة وغير الشرعيّة التي تكون كذلك ، ومن ذلك صحّة المؤاخذة والاحتجاج من المولى على عبده ، وعدمها ، فإنّها لا ربط لها بالنظام أصلا ـ ولا ممّا حكم به العقل ، فإنّ البعث والزجر واعتبار اللابدّيّة ليست من شئون العقل ، بل شأنه ليس إلّا الإدراك والتمييز ، بل الصحيح أن يقال : إنّ صحّة الاحتجاج تكون ممّا يدركها العقل ، وإطلاق الحكم في هذا المورد بل في كلّ مورد ، على ما يدركه العقل مبنيّ على التسامح ، كما يقولون : العقل يحكم باستحالة النقيضين ، فإنّ حكمه بها لا معنى له إلّا إدراكه لها.

نعم ، حيث إنّ حبّ النّفس جبلّيّ للإنسان ، بل لكلّ حيوان ، وهكذا الفرار عن الضرر والعقاب فطريّ له ومقتضى طبيعته ، فإذا أدرك العقل صحّة مؤاخذة المولى على مخالفة العبد القاطع قطعه ، فيبعثه حبّه لنفسه على العمل على طبق قطعه ، ويلزمه على ذلك ، فرارا عن العذاب الأليم الأخروي الّذي هو أعظم بمراتب من العقاب الدنيويّ.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الحجّيّة ليست إلّا ممّا يدركه العقل ، والبعث والزجر من شئون العاقل لا العقل.

هذا كلّه في الجهة الثانية ، ونتكلّم في الجهة الثالثة عند تعرّض صاحب الكفاية لها إن شاء الله.

٩

ثمّ إنّ المقسم لهذه الأقسام الثلاثة ليس خصوص المجتهد فقط ، بل يعمّ المقلّد أيضا ، وذلك لأنّه كما أنّ المجتهد إذا حصل له القطع يعمل على طبق قطعة ويصحّ الاحتجاج به على مولاه كذلك المقلّد لو قطع بحكم من الأحكام يجب أن يعمل على طبق قطعة ، فإنّ طريقيّته ذاتيّة له ، وبعد انكشاف الواقع له يصحّ أن يحتجّ به على مولاه ، وكما أنّ المجتهد لو لم يحصل له القطع وظنّ بالحكم من طريق معتبر من ظهور أو إطلاق أو غيره من الأمارات المعتبرة يأخذ به كذلك المقلّد يأخذ بظهور كلام مجتهده أو إطلاقه ، فإذا رأى في رسالته العمليّة أنّه كتب : إنّ شرائط الصلاة مثلا عشرة ، وشكّ في أنّه هل هناك أمر آخر غير هذه العشرة لم يبيّنه مقلّده في رسالته أو لا ، يتمسّك بالإطلاق المقامي ، ويقول : إنّه كان في مقام بيان الشرائط بتمامها ، فحيث لم يبيّن أزيد منها فهي منحصرة فيها. وهكذا إذا أخبره عدل ثقة بفتوى مجتهده ، يأخذ بقوله ، ولو شكّ في تغيّر فتوى مجتهده وعدمه ، يستصحب فتواه السابقة ويعمل على طبقها ، ولو عرف مواضع الاحتياط ولم يتمكّن من التقليد يجب أن يحتاط ، كلّ ذلك بعد أن استقلّ عقله بحجّيّة ما يرجع إليه أو قطع به أو قلّد مجتهده في ذلك ، فبعد استقلال عقله بحجّيّة الظهور أو الإطلاق ، أو أخذه حجّيّة الاستصحاب وقول الثقة والاكتفاء بالاحتياط في مقام الامتثال عن مجتهده أو قطعه بذلك فحكمه حكم المجتهد ، غاية الأمر أنّ المجتهد يأخذ بظهور كلام الإمام عليه‌السلام ، وهو يأخذ بظهور كلام مجتهده.

وبعبارة أخرى : الاختلاف في مؤدّى الطريق ومورد الاستصحاب ، وإلّا فمناط الأخذ بالطريق وإجراء قاعدة الاحتياط والاستصحاب مشترك بينهما.

نعم ، المقلّد لا يرجع المقلّد قطّ إلى البراءة من الأصول العمليّة من جهة عدم تحقّق شرطه ـ وهو الفحص عن الدليل ، فإنّه دائما لا يتمكّن من ذلك ـ لا

١٠

من جهة عدم شمول أدلّتها ، له ، ضرورة أنّ المجتهد أيضا لو فرض عدم تمكّنه من الفحص ـ كما لو حبس في مكان لا يتمكّن من الرجوع إلى الأدلّة ـ لا يجوز له الرجوع إلى البراءة لا من باب قصور أدلّتها ، فاتّضح أن لا وجه لجعل المقسم خصوص المجتهد.

ثمّ إنّ المجتهد تارة يلتفت إلى حكم نفسه ، الّذي هو مشترك بينه وبين مقلّديه ، وقد عرفت حكمه.

وأخرى يلتفت إلى حكم غيره مع أنّه غير مكلّف به ، لعدم تحقّق موضوعه في حقّه ، كما إذا التفت إلى حكم الحائض أو النفساء أو الخنثى المشكلة ، وحينئذ إمّا أن يحصل له القطع أو الظنّ أو الشكّ ، وعلى هذا يكون الملتفت إليه هو الحكم الثابت في الشريعة المعبّر عنه بالحكم الإنشائيّ ، وفي مرتبة الجعل.

فإن حصل له القطع ، كما إذا قطع بأنّ قراءة سبع آيات مكروهة على الحائض ، فيجوز له الإفتاء بذلك ، ولا معنى لكون قطعه منجّزا ، فإنّه ليس مكلّفا بما قطع به ، فلا أثر لقطعه إلّا جواز الإفتاء والخروج عمّن قضى وهو لا يعلم.

وإن حصل له الظنّ ـ أي الطريق المعتبر ـ فكذلك لا أثر له إلّا جواز الإفتاء بما أدّى إليه الطريق.

وإن حصل له الشكّ ولم يكن عنده طريق معتبر وانتهى الأمر إلى الأصول العمليّة ، فإمّا أن يكون شكّه مسبوقا باليقين أولا ، فإن كان الأوّل ، فيمكن فرضه على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشكّ في بقاء الجعل مع كونه متيقّنا سابقا. وبعبارة أخرى : الشكّ في النسخ وعدمه ، كما إذا شكّ في وجوب صلاة الجمعة وأنّه

١١

هل نسخ وجوبه السابق الثابت في الشريعة قطعا أو لا؟ مع أنّه غير مكلّف بها من جهة أنّه ممّن استثني عنه.

وفي هذا القسم يكون المجتهد هو بنفسه موردا لأخبار الاستصحاب ، فإنّه كان على يقين فشكّ ، فيجري الاستصحاب ، ويفتي بالوجوب وعدم النسخ ، ويكون مدركه لهذا الإفتاء هو الاستصحاب.

الثاني : أن يكون الشكّ في البقاء من جهة الشكّ في سعة دائرة المجعول وضيقها لا من جهة الشكّ في النسخ وعدمه.

ونظيره في الفقه كثير ، ومن جملة موارده الشكّ في نجاسة الماء القليل النجس المتمّم كرّا ، وحرمة وطء الحائض بعد طهرها وقبل تطهيرها بالغسل ، وثبوت الخيار في بعض الموارد وكونه فوريّا.

وفي هذا القسم يمكن أن يكون المجتهد هو بنفسه موردا للاستصحاب بأن فرض ماء نجسا يقينا ، ثمّ تمّم كرّا فشكّ في نجاسته بذلك ، فيجري الاستصحاب ويفتي بنجاسته ، اعتمادا ، عليه ، فيكون كالقسم الأوّل.

ويمكن أن يكون المقلّد موردا للاستصحاب ، متيقّنا لنجاسة الماء قبل التتميم كرّا ، شاكّا فيها بعده ، فيسأل مجتهده عن ذلك ، فيقول في جوابه : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ويفتي بلزوم الاستصحاب عليه ، وهذا بخلاف القسم الأوّل فإنّ المقلّد فيه كان من الأوّل شاكّا ولم يكن على يقين أصلا.

وإن لم يكن مسبوقا بيقين ، فإن كان من قبيل الشبهة قبل الفحص أو كان طرفا للعلم الإجمالي ، فيفتي بالاحتياط.

وإن كان أمره دائرا بين محذورين ، يفتي بالتخيير ، لاستقلال العقل بذلك.

وإن كان موردا للبراءة ، فحيث إنّ موضوع البراءة العقليّة ـ وهو قبح

١٢

العقاب بلا بيان ـ وهكذا الشرعيّة ـ وهو «رفع ما لا يعلمون» ـ هو من كان جاهلا بالحكم ولم يظفر بدليله بعد الفحص ، فحينئذ إذا التفت المجتهد إلى جواز الاجتياز عن المساجد للحائض وعدمه ، وفحص عن الدليل ولم يظفر بدليل المنع فليس له إجراء البراءة والإفتاء بالجواز ، فإنّه ليس بشاكّ في حكم نفسه ، إذ المفروض أنّه التفت إلى حكم الغير ، فلا يكون دليل البراءة شاملا له ، وهكذا ليس للمقلّد (١) أيضا ذلك ، ضرورة أنّه غير متمكّن من الفحص وإن كان جاهلا بحكم نفسه ، بل المجتهد يخبر المقلّد ويعلمه بأنّه ليس دليل على حرمة الاجتياز حتّى يطمئنّ بعدم البيان ، فيتحقّق موضوع البراءة في حقّه ، فيجري هو بنفسه.

فالحقّ في التقسيم أن يقال : إنّ المكلّف ـ سواء كان مجتهدا أو مقلّدا ـ إذا التفت إلى حكم نفسه ، فإن حصل له القطع ، يعمل على طبق قطعه ، وهكذا إذا حصل له طريق معتبر ، يعمل بما أدّى إليه الطريق ، وإلّا ينتهي أمره إلى الأصول العمليّة.

والمجتهد إذا التفت إلى حكم غيره ، فإن حصل له القطع أو قامت أمارة على الحكم ، يجوز له الإفتاء على طبق قطعه ومؤدّى الأمارة ، وإلّا ينتهي أمره إلى الأصول العمليّة على التفصيل السابق.

وهنا أمور لا بدّ من التنبيه عليها :

الأوّل : التجرّي ، ويقع الكلام فيه في جهات :

الأولى ـ وهي جهة فقهيّة ـ : أنّ الفعل المتجرّى به هل هو حرام أم لا؟

الثانية ـ وهي جهة أصوليّة ـ : يبحث فيها في مقامين :

__________________

(١) كذا ، ولعلّه أراد الجنس.

١٣

الأوّل : أنّ إطلاقات الأدلّة مثل : «لا تشرب الخمر» و «لا تكذب» هل هي شاملة لما قطع بخمريته أو اعتقد كذبه ، أو يختصّ الحكم فيها بالخمر الواقعي والكذب الواقعي وغير ذلك ، وليس لها إطلاق حتّى بالنسبة إلى المقطوع على خلاف الواقع؟

الثاني : أنّ كون العبد في مقام الطغيان على مولاه بحسب اعتقاده هل يوجب مبغوضيّة في الفعل المتجرّى به بحيث يتحقّق فيه ملاك الحرمة ـ ولو كان مباحا في نفسه بل مستحبّا أو واجبا ـ أو لا؟

وهذا البحث عامّ يشمل جميع موارد التجرّي ، كان التجرّي من ناحية القطع بالحكم أو اشتباه انطباق الموضوع على ما في الخارج ، كما لو قطع بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وترك ثمّ انكشف خلافه ، أو قطع بخمريّة مائع فشربه عصيانا ثمّ تبيّن أنّه ماء ، وهذا بخلاف البحث في المقام الأوّل ، فإنّه مختصّ بصورة الاشتباه في التطبيق ، إذ في صورة القطع بالوجوب وانكشاف الخلاف بعده ليس لنا إطلاق حتّى نتكلّم في أنّه هل يشمل القطع بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا أم لا؟

الجهة الثالثة ـ وهي جهة كلاميّة ـ : أنّ الفعل المتجرّى به ـ سواء قلنا بحرمته أم لا ـ هل يوجب استحقاق العقاب ـ من جهة خبث نفس فاعله وكونه في مقام الطغيان والعصيان وهتكه لحرمة مولاه وعدم اعتنائه به ـ أو لا؟

ولا يخفى أنّ الجهة الأولى من تبعات البحث عن الجهة الثانية ، فإنّ أثبتنا شمول الإطلاقات أو أثبتنا وجود ملاك الحرمة ، فلا محالة يحكم الفعل المتجرّى به بالحرمة ، حيث إنّ الأحكام تابعة للملاكات الواقعيّة ، فلا تستحقّ للبحث عنها مستقلّا.

وليعلم أنّ البحث عن الجهتين الأخيرتين يعمّ التجرّي على مخالفة

١٤

الظواهر والأمارات الشرعيّة المعتبرة والأصول العمليّة المثبتة للتكليف.

والضابط هو التجرّي على مخالفة كلّ ما يكون منجّزا حتّى العلم الإجمالي ، فلو علم إجمالا بخمريّة أحد المائعين ، فشرب عصيانا أحدهما ، ثمّ انكشف أنّ ما شربه لم يكن بخمر فهو متجر هاتك لحرمة مولاه ، حيث إنّه كان موظّفا بالاجتناب عن كلا المائعين ولم يعمل بوظيفته طغيانا على مولاه.

والحاصل : أنّ البحث غير مختصّ بالتجرّي على مخالفة القطع.

وربّما يتوهّم ـ كما توهّم ـ أنّ البحث لا يجري في الأحكام الظاهريّة ، نظرا إلى أنّ مخالفة القطع في صورة عدم مصادفته للواقع إنّما تكون تجرّيا من جهة أنّه في ظرف القطع ليس للمقطوع حكم غير الحكم الثابت لواقعه ، فإذا شرب الماء باعتقاد خمريّته ، لم يخالف المولى أصلا ، إذ لم يجعل الشارع حكما للمقطوع كونه خمرا ، فالعبد حينئذ لم يكن إلّا متجرّيا وفي مقام العصيان والطغيان ، لا عاصيا وطاغيا ، إذ بعد انكشاف الخلاف وظهور أنّه ماء لا خمر ، يعلم أنّه لم يكن نهي في البين حتّى يعصيه ، وهذا بخلاف مخالفة الحكم الظاهري ، فإنّه لا يتصوّر فيه انكشاف الخلاف ، إذ الحكم الظاهري مجعول في ظرف الجهل بالحكم الواقعي ، وما دام الجهل باقيا يحرم مخالفة هذا الحكم ، وبعد انكشاف الواقع ينقلب الموضوع ، لا أنّه ينكشف أنّ حكم الحرمة لم يكن في ظرف الجهل ، فلو قامت البيّنة مثلا على خمريّة مائع ، يحرم على المكلّف شربه ، ولو شربه ، عصى بذلك ـ ولو انكشف بعد ذلك أنّه ماء يباح شربه له ـ لا أنّه تجرّى بالعصيان وكان بصدد الطغيان.

وهذا مبنيّ على ما نسب إلى القدماء من أنّ المنجّزيّة في الأمارات الشرعيّة من باب السببيّة أو الموضوعيّة.

وسيجيء ـ إن شاء الله ـ أنّ هذا المبنى غير تامّ ، وأنّ حجّيّتها من باب

١٥

جعل الطريقيّة لها وإعطاء صفة الطريقيّة الفاقد لها إيّاها ، وبعد إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة تكون حال الطريق الجعلي حال الطريق الوجداني بلا تفاوت بينهما ، كما لا يخفى.

فظهر أنّ النزاع لا يختصّ بمخالفة القطع غير المصادف للواقع ، بل يعمّ مخالفة كلّ منجّز للحكم على تقدير عدم إصابته للواقع.

أمّا الكلام في المقام الأوّل من الجهة الأصوليّة ـ وهو شمول إطلاقات الأدلّة للمقطوع ، وعدمه ـ فالقائل بالشمول قدّم لإثبات ذلك مقدّمات ثلاثا :

الأولى : أنّ الخطابات ـ التي تكون بنحو القضايا الحقيقيّة وتعلّق الحكم فيها بالموضوعات المقدّر وجودها ـ يكون متعلّق الحكم فيها هو الحصّة الاختياريّة ، فما يكون خارجا عن تحت اختيار المكلّف ـ مثل وجود الخمر والماء ، فما يكون خارجا عن تحت اختيار المكلّف ـ مثل وجود الخمر والماء ، وهكذا خمريّة المائع ومائيّته ـ خارج عن حيّز الخطاب ، ففي قضيّة «لا تشرب الخمر» يكون متعلّق النهي هو الشرب الاختياري ، وأمّا خمريّة المائع وانطباق الخمر وصدقه عليه فلا بدّ وأن يكون مفروض الوجود.

الثانية : أنّ الغرض من البعث والزجر ليس إلّا الانبعاث إلى ما بعث إليه والانزجار عمّا زجر عنه ، ومن المعلوم أنّ المحرّك لإرادة العبد واختياره هو العلم بالموجود الخارجي وحضوره في النّفس ، لا نفس الموجود الخارجي ، ضرورة أنّ العطشان مع كمال ميله ونهاية شوقه إلى الماء لا تتحرّك عضلاته نحو الماء الخارجي ما لم يعلم بوجوده ، بل ربّما يموت عطشا مع حضور الماء عنده ، والإنسان لا يفرّ من الأسد الخارجي ما لم يعلم به بل ربّما يفترسه لذلك.

والحاصل : أنّ العلّة للانبعاث والانزجار هو الوجود العلمي ، كان له مطابق في الخارج أم لم يكن ، ونفس صفة العلم والصورة النفسانيّة ، لها مدخليّة في تحريك إرادة العبد واختياره.

١٦

الثالثة : أنّ طلب المولى وإرادته التشريعيّة هو الّذي يحرّك إرادة العبد ويجعل الداعي له ، فكأنّ المولى في مقام الطلب يفرض أعضاء العبد أعضاء نفسه ويحرّك إرادته نحو مطلوبه.

ويترتّب على هذه المقدّمات أنّ ما هو متعلّق للنهي في مثل «لا تشرب الخمر» هو اختيار ما علم أنّه شرب الخمر ، صادف الواقع أم لم يصادف ، فإنّ وجود الخمر وخمريّة المائع لا يكون تحت اختيار العبد ، والعلم بالملائم والمنافر وإدراكهما موجب للميل إليه أو الميل عنه ، لا وجود الملائم والمنافر في الواقع ونفس الأمر ، فالعلم بخمريّة المائع موجب لانبعاث العبد ، ومصادفة هذا العلم للواقع وعدمها حيث لا يكونان تحت اختياره فهما خارجان عن حيّز التكليف ، وما يكون تحت سلطة العبد وقدرته واختياره ليس إلّا اختيار شرب الخمر المعلوم له ، أي : ما علم أنّه خمر ، وهذا المعنى مشترك بين المتجرّي والعاصي ، فإنّ العاصي كما أنّه يختار شرب ما علم بخمريّته كذلك المتجرّي أيضا يختار شرب ما علم بخمريّته ، غاية الأمر أنّ المتجرّي لم يصادف علمه الواقع ، فمثل «لا تشرب الخمر» وغيره من الإطلاقات الأوليّة يشمل ما قطع بحرمته ولو لم يصادف الواقع.

هذا ، ولا ريب في تماميّة المقدّمة الأولى لكن لا يتفرّع عليها بطلان الواجب التعليقي ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (١) ، وقد أثبتنا ذلك في محلّه.

وهكذا لا شكّ في تماميّة المقدّمة الثانية ، وهي غير قابلة للإنكار ، ولا يرد عليها ما أورده شيخنا الأستاذ من أنّ العلم بما هو طريق إلى الواقع موجب للحركة (٢) ، فإنّه ضروري البطلان ولا يحتاج إلى البيان.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٤.

١٧

وأمّا المقدّمة الثالثة فنجيب عنها نقضا وحلّا (١) :

أمّا نقضا : فهو : أنّ لازمها جريانها في الواجبات أيضا ، والقول بأنّ متعلّق التكليف في الواجبات هو اختيار الصلاة في الوقت أو اختيار الصوم في شهر رمضان مثلا ، فلو علم قبل الظهر بدخول الوقت وصلّى ، أتى بوظيفته ، وهكذا لو علم بأنّ اليوم من أيّام شهر رمضان مع أنّه مع الشوّال وأفطر ، تجب عليه الكفّارة ، ولو صام باعتقاد أنّه من رمضان ، امتثل أمر (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(٢) وهو خلاف الإجماع والضرورة ، إذ لم يقل أحد بالإجزاء في الحكم الواقعي وإن اختلفوا في الأحكام الظاهريّة.

وأمّا حلّا : فهو أنّ ظاهر خطاب «لا تشرب الخمر» وأمثاله هو أنّ شرب الخمر الواقعي متعلّق للنهي ، غاية الأمر أنّه يقيّد بالاختياريّ إمّا من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز أو لأجل اقتضاء نفس الطلب ذلك ، أي تقييد متعلّقه ، فمتعلّق التكليف هو الشرب الاختياري لا اختيار الشرب. وبعبارة أخرى : متعلّق النهي هو الاختيار بنحو المعنى الحرفي لا الاسمي.

والحاصل : أنّ الأحكام تابعة للملاكات والمصالح الواقعيّة النّفس الأمريّة ، والمفسدة قائمة بالشرب الاختياري لا باختيار الشرب ، فكم فرق بين العاصي والمتجرّي ، فإنّ الأوّل بشرب الخمر أتى بما هو مبغوض للمولى وذو مفسدة عن إرادة واختيار ، بخلاف الثاني ، فإنّه أراد ما هو مبغوض للمولى وذو مفسدة ملزمة لكنّه لم يصدر عنه واختار شرب الخمر ولم يشرب.

هذا كلّه لو قلنا بأنّ متعلّق التكليف مقيّد بالاختياريّ والمقدور بأحد الوجهين ، أمّا لو قلنا بما هو المختار ـ كما حقّقناه في بحث التعبّدي والتوصّلي ـ

__________________

(١) كذا ، ولكن ما يأتي يرد على الأولى لا الثالثة.

(٢) البقرة : ١٨٥.

١٨

من أنّ العاجز والقادر ، التكليف بالنسبة إليهما سواء ولا يقيّد بالقدرة كما لا يقيّد بالعلم ، وإنّما العلم والقدرة من شرائط التنجيز ، بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ العاجز والجاهل يكونان في سعة من تكليف المولى ، ولا يستحقّان العقاب بترك ما كلّفا به ، ويقبح على المولى أنّ يؤاخذهما على ذلك ، فالأمر أوضح.

هذا كلّه في المقام الأوّل من الجهة الأصوليّة ، وأمّا الكلام في المقام الثاني منها فيقع في جهات ثلاث :

الأولى : أنّ تعلّق القطع بحرمة شيء أو وجوبه هل يوجب تغيّره عمّا هو عليه من كونه ذا مصلحة أو ذا مفسدة بحيث يصير الفعل الّذي له مصلحة ملزمة ـ كقتل عدوّ المولى مثلا ـ في نفسه بواسطة عروض عنوان القطع بأنّه قتل ابن المولى ذا مفسدة ، وينقلب ملاك محبوبيّته في نفسه بهذا العنوان الطارئ عليه إلى ملاك المبغوضيّة ، أم لا ، وهكذا العكس؟

ولا ريب أنّ المصلحة والمفسدة من الأمور الواقعيّة التي تكون في الفعل ، ومن البديهي أنّه لا يتغيّر الشيء عمّا هو عليه من المصلحة والمفسدة واقعا بالعلم به ، أو عدمه ، ولذا تكون الأحكام مشتركة بين العالمين بها والجاهلين بها ، فهو نظير النّفع والضرر في الشيء حيث إنّ الشيء النافع نافع سواء علم بكونه كذلك أم لا ، وما له ضرر لا يرتفع ضرره ولو قطع بأنّه نافع. وهذا واضح لا سترة عليه.

الجهة الثانية : أنّ التجرّي أو الانقياد هل يستلزم القبح الفاعلي أو حسنه أو لا؟

والظاهر أنّه أيضا ممّا لا ينكر ، فإنّ المتجرّي والعاصي يشتركان في أنّ كلّا منهما مستحقّ للّوم والمذمّة والمؤاخذة والعقوبة ، ضرورة أنّ الفعل المتجرّى به كالمعصية يكشف عن سوء سريرة العبد وخبث طينته وأنّه كان

١٩

بصدد الطغيان وفي مقام العصيان والتعدّي والظلم على مولاه والخروج عن رسوم العبوديّة ، كما أنّ الفعل المنقاد به كاشف عن حسن سريرة الفاعل به وكونه في مقام العدل والعمل بوظيفة العبوديّة.

الجهة الثالثة : في حرمة الفعل المتجرّى به.

والكلام فيها يقع تارة من حيث إنّ الفعل المتجرّى به هل يطرأ عليه عنوان قبيح بواسطة القطع بحرمته شرعا وكونه مبغوضا للمولى أم لا؟ وأخرى من حيث حكمه بعد أن طرأ عليه هذا العنوان.

أمّا الحيثيّة الأولى فقد ادّعى شيخنا الأستاذ القطع بعدم طروّ عنوان قبيح عليه ، وأنّا نجد من أنفسنا أنّ شرب الماء مثلا لا يتّصف بصفة القبح بمجرّد القطع بكونه خمرا ، ولا يصير مبغوضا بصرف العلم بمبغوضيّته ، فهو على ما هو عليه بلا عروض عنوان قبيح عليه (١).

واستدلّ صاحب الكفاية على ذلك ـ مضافا إلى دعوى الضرورة عليه ـ بأنّ الفعل المتجرّى به بعنوان أنّه مقطوع الحرمة لا يؤتى به في الخارج حتّى يكون الإتيان بهذا العنوان موجبا لطروّ عنوان قبيح عليه ـ ولو كان هذا العنوان من العناوين التي بها يكون الفعل قبيحا عقلا ـ إذ الإتيان كذلك لا يكون اختياريّا للعبد المتجرّي ، فإنّه يفعل الفعل بعنوانه الأوّلي الاستقلالي ويشرب الماء بما أنّه خمر ، لا أنّه يفعل بعنوانه الطارئ الآلي ويشربه بما أنّه مقطوع الخمريّة ، بل يكون هذا العنوان مغفولا عنه وغير ملتفت إليه غالبا ، فكيف يمكن أن يكون موجبا للقبح عقلا!؟ (٢).

ونقول في جوابه : إنّه ما المراد من أنّه لا يمكن الإتيان بعنوان أنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥.

(٢) كفاية الأصول : ٢٩٩.

٢٠