الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء لإثبات النفسيّة لوجوب الوضوء ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (١) ، إذ هذا الأصل معارض (١) بأصالة عدم النفسيّة ، وعدم كون

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧١.

(٢) أقول : إنّ ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ من عدم المعارض لأصالة البراءة ، وانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء ، المردّد بين الغيري والنفسيّ حكما ـ هو الحقّ.

توضيحه : أنّ جريان البراءة الشرعيّة يحتاج ـ مضافا إلى كون المجرى مشكوك الوجود ـ إلى أمرين آخرين: أحدهما : لزوم التوسعة على العبد ، لأنّها صدرت امتنانا. والآخر : أنّها لمّا كانت أصلا تأمينيّا يؤمّن من العقاب ، فلا بدّ من وجود احتمال العقاب ، فإذا كان العقاب معلوما وجودا أو عدما ، فلا مجال لجريان أصالة البراءة ، وكلا الأمرين مفقود فيما نحن فيه.

أمّا الأوّل : فلأنّ النفسيّة وإن كانت مشكوكة على الفرض إلّا أنّ رفعها يوجب الضيق على المكلّف ، بخلاف رفع الغيرية.

وذلك أنّ وجوب الوضوء إذا كان غيريّا ، فلا بدّ أوّلا من لزوم إيقاعه قبل ذلك الواجب المحتمل تقيّده به. وثانيا لزوم عدم إبطاله حتى يأتي بذلك الواجب ، وأمّا إذا كان نفسيّا فالمكلّف في سعة من هذا ، سواء أتى به قبل ذلك الواجب أم لا ، وسواء أبطله أم لا ، فرفع النفسيّة خلاف الامتنان فلا تجري البراءة.

وأمّا الثاني : فلأنّ العقاب على ترك الوضوء قطعيّ إمّا لترك نفسه إذا كان نفسيّا أو ترك ذلك الواجب إذا كان مقدّمة له ، فجريان البراءة عن وجوبه النفسيّ لا يوجب التأمين من العقاب.

هذا ، مضافا إلى عدم الفرق بين هذا القسم والقسم الثاني ، فلما ذا لم يقل هناك بالاحتياط؟

وبالجملة يرد عليه النقض أولا : بما ذكر من القسم الثاني. والحلّ ثانيا : بعدم توفّر شرط جريان الأصل في جانب نفسيّة وجوب الوضوء ، فتجري البراءة في جانب تقيّد الواجب بالوضوء ، فينحلّ العلم الإجمالي حكما ، فيحكم بوجوبه النفسيّ.

إن قيل : يرد على النائيني أيضا أنّ إجراء البراءة عن تقيّد الواجب بالوضوء لنفي وجوبه الغيري مثبت ، لأنّ لازم عدم التقيّد عقلا عدم وجوبه الغيري ، فلا مجال لجريان البراءة عن التقيّد أيضا.

قيل : لا ، بل تقيّد الواجب بالوضوء نفس غيريّة وجوبه لا أن يكون أحدهما لازما ـ

٨١

المكلّف معاقبا من ناحية ترك الوضوء ، ونحن نعلم بالمخالفة العملية إذا تركنا الوضوء ، فلا مورد لإجراء البراءة ، بل مقتضى القاعدة الاحتياط وترتيب آثار النفسيّة والغيريّة بأن أتى المكلّف بالوضوء سواء أتى بالصلاة أو لم يأت بها عصيانا مثلا.

الثاني : فيما إذا كان هناك أمران علم بوجوب أحدهما إمّا نفسيّا أو غيريّا واحتمل وجوب الآخر فعليّا مقيّدا بهذا الوجوب ، كما إذا علمنا بوجوب الوضوء إمّا نفسا أو مقدّمة للصلاة التي نحتمل وجوبها ولم يصل وجوبها إلينا ، ومقتضى القاعدة هنا إجراء البراءة بالقياس إلى الصلاة حيث إنّ الشكّ بدويّ ، والحكم بالاشتغال بالقياس إلى الوضوء ، إذ نحن نعلم بمخالفة المولى إذا تركنا الوضوء إمّا من ناحية نفسه إن كان وجوبه نفسيّا ، أو من ناحية الصلاة إن كان غيريّا.

وبعبارة أخرى : إنّا نعلم باستحقاق العقاب على ترك الوضوء إمّا لنفسه أو لكونه مقدّمة للصلاة التي تكون واجبة فعلا قطعا على هذا الفرض.

والبناء على التفكيك في التنجّز في بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين والحكم بوجوب غير السورة ممّا علم بوجوبه إمّا نفسا أو مقدّمة لواجب فعلي ، وهو الصلاة ، وعدم وجوبها يوجب التفكيك في المقام أيضا ، حيث إنّ المقام صغرى من صغريات هذه القاعدة الكلّيّة التي أثبتت هناك من وجوب الإتيان بما علم وجوبه إمّا لنفسه أو لتوقّف واجب فعليّ عليه ، للعلم باستحقاق العقاب على تركه.

__________________

ـ والآخر ملزوما عقلا حتى يلزم الإثبات ، بل هذان كما يقال عندنا : «چه على خواجه چه خواجه على» فهما عبارتان عن واقع واحد ، فالأصل في أحدهما عين الأصل في الآخر. (م).

٨٢

الثالث : فيما إذا علمنا بوجوب الوضوء إمّا نفسا أو مقدّمة للصلاة التي لم يكن وجوبها فعليّا لحيض أو نفاس ، ومقتضى القاعدة فيه البراءة ، وذلك واضح (١).

بقي أمران :

الأوّل : أنّ المشهور أنّ ترتّب الثواب على الواجبات النفسيّة يكون بالاستحقاق لا بالتفضّل.

وخالف في ذلك المفيد (١) قدس‌سره ، وتبعه شيخنا الأستاذ (٢) وجماعة من المحقّقين ، فالتزموا بأنّه بالتفضّل لا بالاستحقاق ، نظرا إلى أنّ وجوب إطاعته وترك مخالفته ممّا يحكم به العقل قطعا ، والعبد ليس أجيرا في العمل على وفق العبوديّة حتى يستحقّ منه شيئا ، ويكون له مطالبته ، وهكذا التائب لا يستحقّ العفو ، فإنّ التوبة واجبة عليه بحكم العقل فورا ، فإذا تاب عمل بوظيفته ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يوجب العفو وسقوط معاصيه السابقة ، فإعطاء الثواب وعفو التائب وكونه كمن لا ذنب له من باب التفضّل لا غيره.

أقول : والحقّ أنّ النزاع بين الفريقين لفظي ، حيث لا يظنّ بأحد أن يلتزم

__________________

(١) أقول : إجراء البراءة عن وجوب الوضوء ، النفسيّ في هذا القسم صحيح لا إشكال فيه إلّا أنّ المسألة ليست ممّا نحن فيه ، وأنّها خلف الفرض.

توضيحه : أنّ وجوب الوضوء ، الغيري ليس من أطراف المعلوم بالإجمال في هذا الفرض ، لكون المرأة حائضا ومع كونها حائضا لم تكن الصلاة واجبة قطعا ، فلم تكن مقدّمتها أيضا واجبة ، فيبقى في البين احتمال وجوبه النفسيّ ، وهو شبهة بدوية ، فليس لنا العلم بأنّ الوضوء إمّا واجب نفسا ، وإمّا واجب غيرا ، كما هو المدّعى والمفروض ، فإنّا نعلم بعدم وجوبه الغيري ، ونشكّ في وجوبه النفسيّ. وبعبارة أخرى : أصل الوجوب ليس معلوما ، بل هو محتمل. (م).

(٢) انظر أوائل المقالات (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد) ٤ : ١١١.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٧٢.

٨٣

باستحقاق العبد بمعنى أنّ له مطالبة الثواب ، ويجب على المولى إعطاؤه ، كما في المعاوضات كيف لا ولا يقدر العبد ـ ولو أطاع الدهر ـ على شكر نعمة من نعمه تعالى ، وإنّما معنى استحقاق الثواب أنّه إذا أثيب العبد المطيع عند العقلاء هذه الإثابة ، وقعت في محلّها وينبغي له ، بخلاف إثابة العاصي ، فإنّها ليست إلّا تفضّلا صرفا.

وبعد ذلك نقول : لا كلام في ترتّب الثواب على الواجبات النفسيّة ، وإنّما الكلام في الواجبات الغيريّة ، والأقوال المعروفة ثلاثة : ترتّب الثواب مطلقا ، وعدمه كذلك ، والتفصيل ـ المنسوب إلى المحقّق القمّي (١) ـ بين كون الواجب الغيري أصليّا ، أي مدلولا لخطاب مستقلّ ، كما في (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(٢) إلى آخره ، وبين أن يكون تبعيّا ، أي غير مدلول لخطاب مستقلّ ، كما في تحصيل الماء للطهارة مثلا.

والتحقيق : أنّ الواجب الغيري إن أتى [به] بداعي امتثال الأمر النفسيّ يثاب عليه مطلقا وإلّا فلا. وذلك لأنّ العبد الآتي بمقدّمات المأمور به مضافا إلى مولاه وانقيادا له وطالبا رضاه واحترازا عن مخالفته لا يكون مساويا (١) عند العقل

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ١٠١.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) أقول : هذا استدلال بالأعمّ على الأخصّ وليس في العامّ دلالة على الخاصّ.

توضيحه : أنّ المدّعى والمتنازع فيه بين صاحب الكفاية والنائيني ـ رحمهما‌الله ـ من ناحية وسيّدنا الأستاذ من أخرى هو استحقاق العبد الثواب بامتثال الأمر الغيري ، وأمّا وجود الثواب في المورد المفروض فهو ممّا لا إشكال فيه إلّا أنّه كما يمكن أن يكون على الامتثال كذلك يمكن أن يكون على الانقياد ، بل نقول : هو على الانقياد ، ويشهد له أنّ المكلّف لو اشتغل بالواجب النفسيّ ثمّ مات أثناء العمل فإنّه بالموت يكشف عدم الأمر النفسيّ مع أنّه مثاب ، وهذا الثواب لا يمكن إلّا على الانقياد ، لأنّ الامتثال معدوم بعدم الأمر ـ

٨٤

للعبد الآتي بها بدواعيه النفسانيّة في الثواب وإن أتيا كلاهما بالمأمور به ، بل للأوّل في كلّ مقدّمة ثواب ليس للثاني وإن أتى بها أيضا بعين هذا البيان ، ولا إشكال في تعدّد الثواب.

وبهذا يظهر أنّ ما ورد في الأخبار من الثواب على المقدّمات لا يحتاج إلى التأويل أصلا.

هذا كلّه في الثواب ، وأمّا العقاب فلا يكون إلّا على تقدير مخالفة الأمر.

والفرق : أنّ ترك المقدّمات هنا لا يعدّ مخالفة ما لم ينجرّ إلى ترك ذيها ، وإذا انجرّ ، فلا يكون هناك إلّا طغيان واحد ومخالفة واحدة (١).

وبما ذكرنا ظهر أنّ حكم الواجبات الغيريّة بعينه حكم الواجبات التوصّليّة في استحقاق الثواب والعقاب.

ثمّ لا فرق في ذلك بين الالتزام بوجوب المقدّمة أو عدمه ، كان الوجوب أصليّا أو تبعيّا ، لأنّ المناط في استحقاق الثواب إتيان المقدّمة بقصد الأمر النفسيّ ومضافا إلى المولى ، سواء تعلّق به الأمر أو لا ، وسواء كان مدلولا للخطاب أم لم يكن ، فإنّ العقل يستقلّ باستحقاق الثواب بالمعنى الّذي ذكرنا للعبد الّذي مشى في طريق رضى مولاه وأتى بما لا يكون مأمورا به ممّا يتوقّف المأمور به عليه توصّلا إلى ما يكون مأمورا به وانقيادا لسيّده.

وهنا إشكالان :

الأوّل : أنّه لا ريب في ترتّب الثواب على الطهارات الثلاث مع أنّ الأمر المتعلّق بها غيريّ وهو توصّليّ لا يترتّب على امتثاله الثواب وعلى مخالفته

__________________

ـ النفسيّ ، وهذا دليل على أنّ الثواب في المورد المفروض على الانقياد ولا أقلّ من الاحتمال. (م).

(١) فتأمّل ، فإنّ هذا الفرق غير فارق. (م).

٨٥

العقاب.

وبما ذكرنا من استحقاق الثواب على المقدّمة إذا أتى [بها] بداعي امتثال الأمر النفسيّ يندفع هذا الإشكال.

الثاني : أنّه لا شكّ في أنّ الطهارات الثلاث لا يكفي إتيانها كيف ما اتّفق ، كغسل الثوب ونحوه ، وإنّما تكون مقدّمة للصلاة ونحوها بما أنّها عبادة ، مع أنّ الواجب الغيري لا يعتبر في سقوطه قصد القربة وإن كان معتبرا في استحقاق الثواب.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة :

منها : ما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ من أنّ المقدّمة فيها عبادة بنفسها ، والصلاة ونحوها من الغايات تتوقّف على إحدى هذه المستحبّات والعبادات ، فلا بدّ في سقوط أوامرها من إتيانها عبادة لأجل أنّها بأنفسها عبادات ، لا أنّها مقدّمات للعبادة.

وقد أورد عليه بأمور :

الأوّل : أنّه يلزم منه اجتماع الحكمين المتضادّين في أمر واحد.

أقول : هذا ليس كثير إشكال ولا يختصّ بها ، بل لها نظائر في الفقه ، كما إذا نذر أن يصلّي صلاة الليل أو حلف أن يبني المسجد ، فإنّه في صلاة الليل أو بناء المسجد يجتمع حكمان متضادّان.

وحلّه : بأنّ الوضوء مثلا يكتسب العباديّة من أمره النفسيّ المتعلّق به ، ويكتسب الإلزام من أمره الغيري ، وبالأمر الغيري يزيد ويتأكّد مصلحته غير الملزمة ، ويصل إلى حدّ الإلزام ، لا أنّه بعد مجيء الأمر الغيري يكون ذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٩.

٨٦

مصلحتين : إحداهما ملزمة ، والأخرى غير ملزمة حتى يحكم بحكمين متضادّين لوجود ملاكهما.

الثاني : أنّه لا يتمّ في التيمّم حيث لم يثبت استحبابه النفسيّ في الشريعة.

وأجيب أوّلا : بأنّه مستحبّ نفسي ، لما ورد من أنّه أحد الطهورين.

وثانيا : يكفي في دفع المحذور احتمال استحبابه النفسيّ وإمكانه وإن لا يساعده الدليل في مقام الإثبات.

أقول : وهذان الجوابان كلاهما ساقطان.

أمّا الأوّل : فلأنّه لم ترد رواية دالّة على أنّ التيمّم مستحبّ نفسي ، والوارد هو رواية «التراب أحد الطهورين ، يكفيك عشر سنين» (١) وهي أجنبيّة عن المقام ، كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فلأنّه هذا الاحتمال يكفي إذا لم يكن هنا جواب آخر قطعي يدفع المحذور ، ويأتي الجواب الّذي يغنينا عن هذه التكلّفات إن شاء الله.

الثالث من الإشكالات : ما أورده على نفسه (٢) ـ قدس‌سره ـ بأنّ مقتضى القول بأنّ الطهارات الثلاث مستحبّات نفسيّة ، وغاياتها متوقّفة على إحدى هذه المستحبّات والعبادات : أن لا يكفي إتيانها بقصد أمرها الغيري وأن يشترط إتيانها بداعي امتثال أمرها النفسيّ حيث لا يكون قصد الأمر الغيري مقرّبا ولا يجعلها عبادة مع أنّه لا خلاف في كفايته.

__________________

(١) هذه الجملة ليست من رواية واحدة ، وإنّما هي من روايتين وبتفاوت يسير ، انظر : الكافي ٣ : ٦٣ ـ ٦٤ ـ ٤ ، الفقيه ١ : ٥٩ ـ ٢٢١ ، التهذيب ١ : ١٩٤ ـ ٥٦١ و ٢٠٠ ـ ٥٨٠ ، الوسائل ٣ : ٣٦٩ و ٣٨١ ، الباب ١٤ و ٢١ من أبواب التيمّم ، الحديث ١٢ و ١.

(٢) كفاية الأصول : ١٤٠.

٨٧

ثمّ أجاب عنه بأنّ الاكتفاء بقصد الأمر الغيري من جهة أنّه يدعو إلى ما يتعلّق به ، وهو عبادة ، فقصد الأمر الغيري طريق إلى قصد الأمر النفسيّ ، فيقصد تبعا وضمنا.

أقول : هذا الجواب لا يفيده شيئا ، لأنّا نفرض ما إذا غفل عن أمره النفسيّ أو قطع بعدمه ولم يقصده ، فهل يعقل قصده تبعا وضمنا؟ وهل يمكن الالتزام بأنّ المغفول عنه وغير المقصود يكون داعيا له أيضا؟

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ العباديّة تحصل بمجرد إضافة الفعل إلى المولى ، ولا يعتبر في المقرّبيّة والعباديّة أزيد من استناد الفعل إلى الله تعالى بنحو من أنحاء الاستناد ومنها إتيانه بداعي امتثال أمره الغيري ، فلا يبقى محذور في جوابه عن الإشكال إلّا النقض بالتيمّم ، وهو وارد لا يمكن دفعه.

ومنها : ما أفاده شيخنا الأستاذ (١) من أنّ مبنى الإشكال على حصر منشأ العباديّة في أمرها الغيري والنفسيّ وليس كذلك ، وهذا الحصر غير حاصر ، بل هناك شقّ ثالث ، وهو تعلّق الأمر النفسيّ المتعلّق بالصلاة بها أيضا ، فإنّه ينحلّ وينبسط إلى جميع الأجزاء والشرائط ، ولا فرق بينهما أصلا.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه ما الفرق بين الطهارات الثلاث وسائر المقدّمات التي لا يعتبر فيها إتيانها عبادة مع أنّ الأمر واحد ، وتعلّقه أيضا على نحو واحد؟

ثمّ أجاب : بأنّ الغرض المتعلّق بالطهارات لا يحصل إلّا بإتيانها عبادة ، بخلاف بقية المقدّمات ، ولا محذور في اختلاف الشرائط من هذه الجهة ، بل لا مانع في اختلاف الأجزاء أيضا وإن لم تكن كذلك.

أقول : وقد ذكرنا سابقا مثالا لتعلّق الأمر الواحد بمركّب من أمرين

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧٥.

٨٨

ارتباطيّين أحدهما تعبّدي ، والآخر توصّليّ ، كما إذا نذر شخص أن يصلّي ركعتين ، ويكرم عالما في هذا اليوم مثلا بنحو الارتباط ، فإنّ الأمر بوفاء النذر واحد تعلّق بمجموع الصلاة والإكرام اللذين أحدهما تعبّديّ والآخر توصّليّ.

ولكن مع ذلك هذا الجواب غير تامّ ، لما عرفت في البحث [عن أقسام المقدّمة](١) من أنّ الطهارات الثلاث من المتوسّطات التي تكون بأنفسها خارجة عن المأمور به وبتقيّداتها داخلة فيه ، فما يكون تحت الأمر النفسيّ المتعلّق بالطهارات هو تقيّد الصلاة بإحداها ، لا نفس الوضوء والغسل والتيمّم والحركات الخاصّة ، وإلّا فلا يعقل تعلّق الأمر الغيري بها أيضا ، ويكون البحث عن وجوب مقدّمة الواجب لغوا محضا لا يترتّب عليه أثر إلّا مجرّد إتعاب النّفس وإتلاف العمر ، إذ على هذا يكون جميع المقدّمات واجبة نفسيّة ، كالأجزاء ، والفرق بينها وبين الأجزاء لا يكون إلّا بالعباديّة وغيرها. وبعبارة أخرى : بالتعبّديّة والتوصّليّة.

ومنها (٢) : ما أفاده العلّامة الأنصاري (٣) من أنّ النّفس الغسلتين والمسحتين ـ من حيث هي ـ حيث إنّها لا تكون مقدّمة ، بل بما أنّ هذه الحركات معنونة بعنوان خاصّ مجهول لنا ، فلا بدّ في إتيانها بهذا العنوان الخاصّ من قصد أمرها الّذي يدعو إلى ما هو المقدّمة واقعا ، فيكون قصد الأمر الغيري إشارة إجمالية ، وطريقا إلى إتيان ما هو مقدّمة واقعا إجمالا ، لا موجبا لعباديّة نفس الحركات حتى يعود الإشكال.

وفيه : أوّلا : منع كونها معنونة بعنوان مجهول لنا ، بل ظاهر الآية في قوله

__________________

(١) مكان ما بين المعقوفين في الأصل بياض.

(٢) أي من الأجوبة التي أجيب بها عن الإشكالين. (م).

(٣) مطارح الأنظار : ٧١.

٨٩

تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)(١) إلى آخره ، خلاف ذلك.

وثانيا : إمكان إتيانها بعناوينها بنحو آخر ، مثل قصد أمرها وصفا لا غاية بحيث لا يكون الداعي هو أمرها الغيري بل شيئا آخر.

وثالثا : عدم دفعه المحذور الأوّل ، وهو إشكال ترتّب الثواب عليها.

ومنها : ما أفاده أيضا العلّامة الأنصاري (٢) وهو أنّه من الممكن أنّ لزوم إتيانها عبادة يكون لأجل أنّ الغرض من غاياتها لا يحصل إلّا بإتيانها عبادة ، لا أنّ العباديّة فيها كانت من ناحية الأمر الغيري.

وفيه أيضا : أنّه لا يدفع إشكال ترتّب الثواب.

ومنها : ما أفيد في بحث التعبّدي والتوصّليّ لتصحيح قصد الأمر في العبادات من الالتزام بأمرين : أحدهما متعلّق بذات الصلاة مثلا ، والآخر بإتيانها بداعي امتثال أمره الأوّل ، فكذا في المقام نلتزم بأمرين : أحدهما متعلّق بذات الوضوء ، والآخر بإتيانه بداعي هذا الأمر المتعلّق بذوات الحركات.

وهذا الجواب أيضا غير تامّ في المقام وإن قلنا بصحّته هناك.

وذلك لأنّ ذات الوضوء ليست مقدّمة حتى يتعلّق بها أمر غيري ، وإلّا لوجب سقوط الأمر الغيري بمجرّد إتيانها من غير قصد غاية من الغايات.

والتزم بعض (٣) مشايخنا ـ قدّس أسرارهم ـ بعدم ورود هذا الإشكال بدعوى أنّ المقدّمة إذا كانت الوضوء المقيّد بداعي الأمر ، يكون الوضوء المطلق أيضا مقدّمة للصلاة ، إذ مقدّمة المقدّمة لشيء مقدّمة لذلك الشيء

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) مطارح الأنظار : ٧١.

(٣) هو المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ، انظر : نهاية الدراية ٢ : ١٢٢.

٩٠

أيضا ، فيترشّح من الأمر بالمقيّد أمر بالمطلق أيضا.

أقول : سيجيء مفصّلا في بحث الأقلّ والأكثر أنّ الأجزاء العقليّة لا تكون متعلّقة للأمر ، والأمر لا ينحلّ ولا ينبسط إلّا إلى الأجزاء الخارجيّة ، مثلا : لا ينحلّ الأمر في «أكرم عالما» إلى أوامر أحدها متعلّق بجوهريته ، والآخر بجسميّته ، والثالث بناميّته ، والرابع بحيوانيّته ، وهكذا ، بخلاف المركّب الخارجي ، فإذا تعلّق أمر بعتق رقبة مقيّدا بكونها مؤمنة ، لا يقبل الانحلال إلى أمرين : أحدهما بذات الرقبة ، والآخر بكونها مؤمنة ، وهكذا في المقام لا يمكن انحلال الأمر الوضوئي إلى أمرين : أحدهما بذات الوضوء ، والآخر بتقيّده. فظهر أنّ هذا الجواب أيضا غير سديد.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الطهارات مقدّمة لغاياتها بما أنّها مضافة إلى المولى بنحو إضافة ، لا أنّها مستحبّات نفسيّة ـ كما أفاده في الكفاية (١) ـ حتى ينتقض بالتيمّم ، ولا أنّها بذواتها مقدّمة ، ويجب إتيانها عبادة حتى يعود الإشكال ، بل لأجل أنّه من الإجماع والروايات الواردة في الباب ، الدالّة على وجوب إتيانها عبادة يستكشف أنّ ما هو مقدّمة هذه الحركات الخاصّة إذا أضيفت إلى المولى ، وإلّا فلا تكون بمقدّمة أصلا ، وحينئذ فيكفي إتيانها بداعي غاية من الغايات ، لما عرفت من تحقّق الإضافة والعبادية بمجرّد قصد الأمر الغيري في إتيانها ، وعرفت أنّ الثواب أيضا يترتّب عليه لما يكون المكلّف في مقام الانقياد والإطاعة عند إتيانها إذا قصد التوصّل إلى الصلاة مثلا ، وذلك يوجب استحقاقه الثواب بالمعنى الّذي ذكرنا ، فعلى هذا إذا ثبت الاستحباب النفسيّ في الوضوء ، لا إشكال في عدم لزوم الإتيان بداعي غاية من

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٩.

٩١

الغايات ، بل يكفي الإتيان بداعي المحبوبية للمولى ، وإلّا لا أثر له إلّا بداعي إحدى الغايات.

والظاهر أنّه لا إشكال في استحباب الغسل نفسا ، وكذا لا إشكال في عدم محبوبية التيمّم كذلك (١) ، وفي الوضوء خلاف ليس هنا محلّ ذكره وبيان ما هو الحقّ فيه ، فارتفع الإشكال بأسره.

أمّا استحقاق الثواب : فلما عرفت من أنّها مضافة إلى المولى تكون مقدّمة ، ولا يعتبر في استحقاق الثواب إلّا الإضافة إلى المولى فيما يكون قابلا للإضافة إمّا بنفسه ، كالصلاة والصوم ، أو بواسطة أمر كذلك ، كغسل الثوب ، فسواء أتى بالطهارات بداعي المحبوبية فيما يكون كذلك ، أو بداعي أمرها الغيري ، تتحقّق الإضافة ، ويوجب استحقاق الثواب.

وأمّا إشكال قربيّتها وعدم سقوطها بدون إتيانها عبادة مع كونها توصّليّة فهو أيضا ظهر ممّا ذكرنا من أنّ متعلّق الأمر يكون هذه الحركات الخاصّة مضافة إلى المولى لا ذواتها مجرّدة عن هذه الإضافة.

هذا ، ولو فرض عدم تماميّة هذا الجواب ، يمكن الجواب عنه بالالتزام بتعدّد الأمر ، ولا محذور فيه على ما هو المختار في بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين من جريان البراءة العقلية فيما إذا شكّ في شرطيّة شيء للصلاة.

بيان ذلك بنحو الإجمال هو : أنّ المركّبات على قسمين : حقيقيّة واعتباريّة.

أمّا الحقيقيّة منها ك «زيد» فإنّه مركّب من الجوهرية والجسمية والحيوانية والناطقية ، فلا يكون الأمر المتعلّق بها قابلا للانحلال ، فإذا قيل : «أكرم زيدا»

__________________

(١) أي : نفسا. (م).

٩٢

ليس هناك إلّا أمر واحد متعلّق بموجود واحد ، فالمطلوب أيضا شيء واحد.

وأمّا الاعتبارية منها ـ وهي ما تكون مركّبة من أجزاء يكون كلّ واحد منها دخيلا في غرض واحد ، ولذا اعتبرها المعتبر شيئا واحدا ، وأمر بها أمرا واحدا ، كالصلاة ـ فقد قيل بجريان البراءة العقليّة في الأجزاء فقط دون الشرائط حيث ينحلّ الأمر إلى الأجزاء ، لأنّها وجودات متعدّدة في الخارج كلّ واحد منها قابل لتعلّق الأمر به.

وأمّا الشرائط : فحيث ليس بإزائها شيء في الخارج ، بل هناك وجود واحد ذو إضافات متعدّدة ، ولا يتكثّر الواحد بتكثّر الإضافات ، فلا تقبل إلّا تعلّق أمر واحد بالمشروط بها ، ولا ينحلّ الأمر بالمشروط من ناحيتها وإن كان لا مانع من انحلاله من ناحية الأجزاء ، فحينئذ لا تجري البراءة العقليّة عند الشكّ في شرطيّة شيء لشيء.

أقول : لا مانع من الانحلال من ناحية الشرائط أيضا ، فإنّ الإضافات وإن كانت لا توجب الكثرة في المشروط ، إلّا أنّها كلّها مئونة زائدة لا بدّ للمولى من لحاظها ، والتكليف بإيجادها في ضمن متعلّقاتها ، فلا محالة ينحلّ الأمر بالنسبة إليها أيضا ، فتجري البراءة في مقام الشكّ بالنسبة إليها أيضا.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه لا مانع من الالتزام بأمرين ، وذلك لانحلال الأمر الغيري ـ المتعلّق بالوضوء المقيّد بكونه مضافا إلى أمر المولى وبداعي الأمر ، ـ إلى أمرين : أحدهما متعلّق بذات الوضوء والآخر بإتيانه بداعي الأمر ، إذ ملاك الأمر الغيري ـ وهو المقدّميّة ـ موجود ، فإنّ إتيان ذات الوضوء ممّا يتوقف عليه الوضوء المقيّد بداعي الأمر قطعا ، ضرورة أنّ المطلق ما يتوقّف عليه وجود المقيّد.

٩٣

وقد ظهر أنّه لا مانع من انحلال الأمر المتعلق بالمقيّد إلى أمرين : أحدهما تعلّق بذات المقيّد ، والآخر بإيجادها مقيّدة بكذا ، فإذا أتى بالوضوء بداعي الأمر المتعلّق بذاته ، فقد تحقّق العبادية ، وامتثل الأمر الغيري المتعلّق بالمقيّد ، ويندفع كلا المحذورين ، كما لا يخفى.

الأمر الخامس : لا ريب في أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط حيث إنّ وجوبها ترشّحيّ تبعيّ ، فالتخلّف خلف محض بعد الالتزام بالملازمة العقليّة بين الوجوبين.

فظهر فساد ما في المعالم (١) في بحث الضدّ من أنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، إذ بعد ما تبيّن أنّ وجوب المقدّمة من تبعات وجوب ذيها ورشحاته لا يعقل الانفكاك ، ففي صورة عدم إرادة المكلّف إتيان ذي المقدّمة ، كما لا يعقل عدم وجوب ذيها واشتراطه بالإرادة ، ضرورة أنّ لازمه التخلّف وعدم الوجوب ، والإباحة ، كذلك لا يعقل عدم وجوب المقدّمة بناء على الملازمة والتبعيّة.

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ المقدّمة هل تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة فيما إذا لم يقصد التوصّل إلى ذيها ولم يترتّب عليها ، ولا يشترط شيء من الأمرين في اتّصافها بالوجوب ، كما هو مختار صاحب الكفاية (٢) ، أو يشترط كلا الأمرين في ذلك ، كما ... (٣). أو يشترط الأوّل دون الثاني ، كما عن شيخنا

__________________

(١) المعالم : ٢٨٩.

(٢) كفاية الأصول : ١٤٣ و ١٤٧.

(٣) مكان النقاط بياض في الأصل.

٩٤

العلّامة الأنصاري (١) قدس‌سره ، أو يشترط الثاني ، كما عن صاحب الفصول (٢) قدس‌سره؟ وجوه في المقام. والكلام في جهتين :

الأولى : في اعتبار قصد التوصّل وعدمه.

وحاصل ما أفاده صاحب الكفاية (٣) في تحقيق مرامه : أنّ وجوب المقدّمة ، الّذي يكون بحكم العقل ليس إلّا لتوقّف إتيان ذيها عليها ، ومن المعلوم عدم مدخليّة قصد التوصّل فيما هو ملاك الوجوب ، وهو التوقّف والمقدّميّة ، فتتّصف المقدّمة بالوجوب والمطلوبيّة ، كما في بقية الواجبات التوصّليّة عدا الطهارات الثلاث ، ولا يبقى على حكمه السابق من الحرمة أو غير ذلك ، فيتفرّع على هذا أنّ الدخول في ملك الغير فيما إذا توقّف إنقاذ غريق عليه ، واجب لا حرام ولو لم يقصد التوصّل به إليه ، بل كان الداعي له التفرّج ، كما أنّ غسل الثوب واجب ولو غسل بداعي التنظيف دون التوصّل ، فالتخصيص بخصوص ما قصد به التوصّل يكون بلا مخصّص.

والحاصل : أنّ الواجب هو نفس المقدّمة لا هي بعنوان المقدّميّة ، لعدم دخل العنوان في ملاك الوجوب وحصول الغرض ، وإلّا لوجب إتيانها ثانيا إن أتى بدون قصد التوصّل حيث لم يأت بما هو واجب.

لا يقال : أتى بشيء يسقط الوجوب ، لحصول الغرض وإن لم يأت بالواجب ، كما إذا أتى بالفرد المحرّم منها.

فإنّه يقال : سقوط الواجب به من جهة أنّه يحصل به الغرض ، كغيره ، والحرمة مانعة من اتّصافها بالوجوب ، والمانع هنا مفقود ، فيؤثّر المقتضي

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٧٢.

(٢) الفصول : ٨٦.

(٣) كفاية الأصول : ١٤٣.

٩٥

أثره ، وهو سقوط الواجب ، واتّصافها بالمطلوبيّة.

ولبعض مشايخنا (١) المحقّقين ـ قدّس الله أسرارهم ـ كلام حاصله بتوضيح منّا : أنّ قصد التوصّل دخيل في اتّصاف المقدّمة بالوجوب. ويتّضح ذلك بمقدّمتين :

الأولى : أنّ الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع إلى الحيثيّات التقييديّة وإن لم تكن في الأحكام الشرعيّة كذلك ، وذلك لأنّ الأحكام العقليّة كلّها ترجع إلى حسن العدل وقبح الظلم ، فمتى ما تحقّق عنوان العدل يستقلّ العقل بحسنه ، كما في ضرب اليتيم للتأديب ، فإنّه لغاية التأديب عدل ، فيحكم بحسنه لا مطلقا ، فالغايات دخيلة في موضوعات الأحكام العقليّة وعناوين لها بحيث لو ضرب اليتيم لا لغاية التأديب بل ظلما ، لا يحكم العقل بحسنه ولو ترتّب عليه التأديب قهرا حيث لا ينطبق عليه بدونها عنوان العدل ، فلا يتحقّق موضوعه ، فلا يكون له حكم.

الثانية : أنّ الفعل لا يقع على صفة الوجوب ومصداقا للواجب إلّا إذا أتى به عن قصد وعمد ، ضرورة أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بالفعل الاختياري ، فالغسل الصادر لا عن اختيار لا يمكن أن يكون مصداقا للواجب وإن كان مسقطا له ومحصّلا لغرضه.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ وجوب المقدّمة حيث إنّه بحكم العقل لأجل التوصّل بها إلى الواجب ومقدّميّتها له ، فالواجب بمقتضى المقدّمة الأولى هو : عنوان المقدّمة ، لا ذاتها ، فإذا كان المطلوب والواجب هو العنوان ، فلا بدّ في مقام الامتثال من إتيان ذات المقدّمة بقصد التوصّل وبعنوان المقدّميّة بمقتضى

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٣٣.

٩٦

المقدّمة الثانية ، فإذا أتى [بها] لا بقصد التوصّل ولا بعنوان المقدّميّة ، لم يأت بما هو واجب ، إذ لم يقصده ، وما قصده وأتى به لا يكون مصداقا للواجب ، ومسقطيّته للواجب وكونه محصّلا للغرض لا دخل له فيما نحن بصدده ، وهو الوقوع على صفة الوجوب ، فلا يكون تخصيص الوجوب بما قصد به التوصّل لا بمخصّص.

أقول : ما أفاده ـ قدس‌سره ـ متين لا شبهة فيه من حيث الكبرى (١) ، لكنّه لا ينطبق على المقام ، إذ الوجوب في المقام ليس ممّا حكم به العقل مستقلّا حتى يجري فيه ما ذكر ، بل هو ممّا حكم به الشرع ، وإنّما العقل ـ على مسلك ـ أو العقلاء ـ على مسلك آخر ـ يدركه ويستكشفه ، نظير حجيّة الظنّ عند الانسداد على القول بالكشف ، فإنّ العقل على هذا القول يكشف عن حكم الشارع بالحجّيّة عند ذلك ، ويدرك هذا الحكم الشرعي ، لا أنّه نفسه يحكم بذلك.

نعم يتمّ ما أفاده في الأحكام العقليّة العلميّة النظريّة التي كلّها راجعة إلى اجتماع النقيضين وارتفاعهما والعمليّة التي كلّها راجعة إلى حسن العدل وقبح الظلم ، ومن المعلوم المفروض أنّ المقام ليس من قبيل شيء منهما ، كما أنّ النزاع بين الأخباري والأصولي يكون في القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة ،

__________________

(١) كلام المحقّق الأصفهاني ـ قدس‌سره ـ من حيث الكبرى مخدوش.

توضيحه : أنّه إذا علم حيثيّة الحكم الشرعي ، التعليليّة ، نحكم بأنّه المتعلّق والحيثيّة التقييدية ، نحو : الخمر حرام لإسكاره ، لأنّه نحكم بحرمة المسكر ، ونقول : إنّ الخمر حرّمت ، لأنّها مصداق المسكر ، وأمّا الملاكات فلا نعلم كونها حيثيّات تعليليّة ، فلا فرق بين الحكم العقلي والشرعي في أنّ كلّ حيثيّة تعليليّة ترجع إلى التقييديّة ، والفرق أنّ العلم بالحيثيّة التعليليّة في مورد حكم العقل سهل ، وفي مورد الحكم الشرعي لا يمكن ذلك إلّا إذا بيّنه الشارع ، وهذا يرجع إلى الصغرى. (م).

٩٧

لا الأخيرين.

فظهر أن لا وجه لاعتبار قصد التوصّل في اتّصاف المقدّمة على صفة الوجوب ، فما يقصد التوصّل به وما لا يقصد من المقدّمات سواء في ذلك.

الجهة الثانية : في اشتراط ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة وإيصالها إليه في وقوعها على صفة الوجوب وعدمه.

وقد استدلّ صاحب الكفاية (١) لعدم الاشتراط بوجوه ثلاثة.

الأوّل : أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس إلّا إمكان حصول ذي المقدّمة ، ولا تفاوت في ذلك الغرض بين الموصلة منها وغيرها ، ولا يمكن أن يكون ترتّب الواجب والوصول إليه غرضا من الإيجاب ، ضرورة أنّه ليس أثر تمام المقدّمات فضلا عن بعضها ، إذ بعد إتيان جميع المقدّمات يختار المكلّف تارة إتيان الواجب وأخرى عدم إتيانه في غير الأفعال التسبيبيّة والتوليديّة ، إلى آخر ما أفاده.

الثاني : أنّه لا ريب في سقوط الواجب الغيري بمجرّد إتيان المقدّمة من دون توقّع وانتظار لحصول ذيها ، وليس علّة السقوط إلّا الموافقة ، أو العصيان أو انعدام الموضوع ، ولا شكّ أنّ إتيان المقدّمة ليس من قبيل الثاني والثالث ، فيتعين الأوّل وأنّ علّة السقوط هي الموافقة بمعنى إتيان ما هو واجب ومطلوب للمولى ، وهذا هو المطلوب.

الثالث : ما أفاده (٢) تطفّلا في ضمن أجوبة صاحب الفصول من أنّ الإيصال وصف منتزع عن الإتيان بذي المقدّمة بعد إتيان المقدّمة ، فلو أخذ هذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٤٥.

(٢) كفاية الأصول : ١٤٩ ، قوله : كيف!؟ ... وهو كما ترى.

٩٨

القيد في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، لزم لا محالة قيديّة الواجب النفسيّ لوقوع المقدّمة على صفة الوجوب ولاتّصافها بالوجوب ، فيلزم أن يكون الواجب النفسيّ مقدّمة للمقدّمة وواجبا لوجوب ناش عن وجوب المقدّمة ، والمفروض أنّ وجوب المقدّمة أيضا ناش عن وجوب ذيها ، وهذا دور صريح.

والتزم شيخنا الأستاذ (١) بإهمال المقدّمة من حيث الإيصال وعدمه ، بدعوى أنّ التقييد حيث إنّه مستحيل ، فيكون الإطلاق أيضا مستحيلا ، إذ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب حتى يوجب استحالة التقييد في أحدهما ضروريّة الإطلاق في الآخر ، فتكون النتيجة هو إهمال وجوب المقدّمة من حيث التقييد بالإيصال وعدمه.

أقول : قد مرّ في بحث التعبّدي والتوصّلي أنّ استحالة التقييد مطلقا لا تكون موجبة لاستحالة الإطلاق ، بل إن كانت الاستحالة نشأت من ثبوت الحكم للمقيّد ، كتكليف العاجز عن القيام ، به ، فلا محالة توجب استحالة الإطلاق أيضا ، إذ كما يستحيل ثبوت الحكم لفرد يستحيل شموله له بالإطلاق أيضا ، أمّا لو نشأت من ناحية التقييد فربما توجب ضرورية الإطلاق ، وربما توجب جواز الإطلاق والتقييد بطرف العدم ، وربما توجب التقييد بجانب عدم القيد ، كما مرّ مفصّلا.

وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا يوجب ذلك ، إذ ليس الفرق بينه وبين تقابل السلب والإيجاب إلّا أنّه في الأوّل يمكن ارتفاع كلا المتقابلين ، بأن يقال : إنّ الجدار ليس ببصير ولا أعمى ، ولا يمكن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤١.

٩٩

ذلك في الثاني بأن يقال : لا قائم هذا ولا لا قائم ، ومن المعلوم أنّ هذا الفرق لا يوجب ما ذكر ، كيف لا!؟ وبين العلم والجهل والقدرة والعجز والغنى والفقر تقابل العدم والملكة ، ويستحيل اتّصافه ـ تبارك وتعالى ـ بالجهل والعجز والفقر مع أنّ اتّصافه بالعلم والقدرة والغنى ضروريّ له ، وفي الممكن بالعكس.

ويكفي في تقابل العدم والملكة أن يكون أحد الأمرين له شأنيّة الوجود ولو باعتبار نوعه أو جنسه ، كما في العقرب ، فإنّه ـ على ما هو المعروف ـ ليس من شأن نوعه أن يكون بصيرا لكن يكون من شأن جنسه ذلك.

هذا كلّه ما يرجع إلى كلام شيخنا الأستاذ.

وأمّا الجواب عمّا أفاده في الكفاية من الوجوه الثلاثة :

فعن الأوّل : أنّ المراد من إمكان حصول ذي المقدّمة إن كان الإمكان الذاتي ، فلا يفرق بين إتيان المقدّمات وعدمه في إمكان حصول ذي المقدّمة ذاتا ، فهو ممكن قبل إتيان مقدّماته وبعده ، كما أنّ القدرة عليه حاصلة ، سواء أتى بمقدّماته أو لم يأت ، غاية الأمر تكون القدرة في صورة عدم الإتيان بالواسطة وفي صورة الإتيان بلا واسطة.

وإن كان المراد منه الإمكان القياسي بمعنى الإمكان بالقياس إلى عدم هذه المقدّمة. وبعبارة أخرى : يكون الغرض من الإيجاب تمكّن الوصول من ناحية هذه المقدّمة ، فأيّ غرض يترتّب على إيجاب هذه المقدّمة ، وأيّ فائدة تحصل من إتيانها مع عدم حصول الواجب وترتّبه على إتيان ما يكون واجبا حيث إنّ الاختيار من المقدّمات؟ وعلى مسلكه لا يمكن تعلّق التكليف به ، وإنّما هو لغو محض.

فالإنصاف أنّ إمكان الحصول ليس غرضا ، بل الغرض هو إمكان

١٠٠