الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

إذ القسم الثاني قد عرفت أنّه لا نزاع فيه ، ولا يتصوّر في المقام قسم ثالث أصلا.

الأمر الثاني : أنّه أورد صاحب الكفاية (١) على نفسه بأنّ لازم القول بالوجوب التعليقي وجوب جميع المقدّمات ـ غير ما دلّ دليل على عدم وجوبه ـ فيما إذا ثبت من الشرع وجوب واحد منها ، مثل : وجوب إبقاء الماء قبل الوقت لمن يعلم أنّه لا يكون واجدا له بعد الوقت إن أهرقه ، حيث يستكشف لمّا أنّ الوجوب معلّق وفعليّ ، فيجب سائر مقدّمات الصلاة ، فيجب الوضوء أيضا قبل الوقت إمّا موسّعا إن كان بعد الوقت أيضا مقدورا له ، وإمّا مضيّقا إن لم يكن كذلك. وأيضا لازمه جواز الوضوء بداعي الوجوب قبل الوقت.

ثمّ أجاب عنه بأنّه لا بدّ من الالتزام بذلك إلّا إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب بالنسبة إلى سائر المقدّمات قدرة خاصّة ، أي : القدرة في ظرف الواجب لا القدرة مطلقا ، أي : في ظرف الوجوب.

أقول : توضيحه أنّ القدرة الدخيلة في الملاك إمّا أن تكون القدرة المطلقة أو القدرة في ظرف الامتثال ، فإن كان في الواقع ، الأولى ، فيجب المقدور قبل الوقت كما ذكر ، وإن كانت الثانية ، فلا يجب على المكلّف أن يعمل عملا به يصير الفعل ذا ملاك ملزم في حقّه ، فحرمة إهراق الماء من جهة أنّه مقدور فعلا ، والدخيل في الملاك بالنسبة إليه هي القدرة المطلقة ، فلا يجوز سلب القدرة عن نفسه ، لأنّه مستلزم لتفويت الملاك الملزم.

وأمّا عدم وجوب الوضوء لمن لا يتمكّن بعد الوقت : فمن جهة أنّ التمكّن من الوضوء في ظرف العمل دخيل في الملاك لا مطلقا ، والمفروض

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٢.

٦١

أنّه لا يتمكّن بعد دخول الوقت ، فلا يجب لا بعده ، لعدم تمكّنه ، ولا قبله ، لأنّه وإن كان مقدورا له إلّا أنّه لا يجب عليه إعمال هذه القدرة ، لعدم دخلها في الملاك.

وبعبارة أخرى : الصلاة المتقيّدة بالطهارة المتمكّن منها بعد دخول الوقت لها ملاك ملزم ، فإذا فرض أنّه لا يتمكّن من تحصيل الطهارة بعد دخول الوقت ، فلا تكون الصلاة مع الطهارة واجبة عليه حتى تجب مقدّمتها ، وإن فرض أنّه تمكّن منها كذلك ، فيجب جميع مقدّماتها ومنها إبقاء الماء.

ولا يخفى أنّ هذا الإيراد كجوابه أمر وهميّ لا واقع له ، ولا مصداق في الشريعة.

وأجيب عن الإشكال الثاني وهكذا الأوّل ـ وهو جواز الوضوء بقصد الوجوب قبل الوقت ـ بجواب وهميّ فرضيّ آخر ـ وإن صدر عن بعض الأكابر ـ وهو : أنّ الطهارة تكون بعد دخول الوقت مقدّمة للصلاة ، وأمّا قبله فلا تتّصف بالمقدّميّة شرعا ، فلا تجب ، ولا يجوز إتيانها بقصد الوجوب أيضا قبل الوقت.

وهذا الجواب ـ مضافا إلى أنّه فرض محض ودعوى صرف ـ لازمه عدم جواز الصلاة مع الوضوء الّذي أتى به قبل الوقت بقصد الاستحباب حيث إنّه على ذلك لم يأت بمقدّمة الصلاة.

ثمّ إنّه ادّعى شيخنا الأستاذ (١) ورود رواية صحيحة دالّة على وجوب إبقاء الماء قبل الوقت ، ونحن تتبّعنا كتب الأخبار ، ولم نجدها في شيء منها ، فراجعناه فانكشف أنّه كان اشتباها منه قدس‌سره.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٤.

٦٢

الكلام في تأسيس الأصل.

قد عرفت أنّ القيد يمكن أن يكون راجعا إلى الهيئة ، كما يمكن أن يكون راجعا إلى المادّة ، وأنّ الميزان في تشخيصه لسان الدليل ، فإن علم أنّه راجع إلى الهيئة بنحو الشرط المتأخّر أو المقارن ، أو علم أنّه راجع إلى المادّة بنحو يجب تحصيله أو لا يجب تحصيله ، فهو ، وإلّا فيقع الكلام في أنّه هل يكون أصل أوّلي في البين يقتضي إرجاعه إلى الهيئة أو إلى المادّة أم لا؟

ولا يخفى أنّ من يقول باستحالة رجوع القيد إلى الهيئة ـ كالشيخ أعلى الله مقامه ـ في مقام الثبوت يكون في سعة من ذلك ، ولا بدّ له من إرجاعه في مقام الإثبات أيضا إلى المادّة ، ولا يتصوّر له شكّ ، ولا معنى لنزاعه إلّا على سبيل التنزيل ، كما أنّ من يقول باستحالة الشرط المتأخّر والوجوب التعليقي ـ كشيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ لا بدّ له من إرجاعه إلى الهيئة بنحو الشرط المقارن.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ القيد تارة يعلم رجوعه إلى الهيئة والشكّ في أنّه على نحو الشرط المقارن أو المتأخّر ، وأخرى يعلم رجوعه إلى المادّة ولا يتصوّر الشكّ في أنّه على نحو يجب تحصيله أو لا في هذا القسم ، كما سيجيء ، وثالثة يشكّ في أصل رجوعه إلى الهيئة أو المادّة ، ولا تخلو الصور من هذه الثلاث.

فإن علمنا بوجوب الصلاة عن الطهارة مثلا أو وجوب الصوم عند طلوع الفجر بحيث تكون الطهارة والطلوع قيدين للواجب لا الوجوب ، فلا يعقل الشكّ ، إذ القيد إمّا أن يكون اختياريّا أو غير اختياري ، فالأوّل لا ريب في وجوب تحصيله ، كما في المثال الأوّل ، إذ المفروض أنّه دخيل في الواجب

٦٣

وفي وجود المصلحة ، والثاني لا ريب في عدم وجوب تحصيله ، بل لا يعقل كونه تحت التكليف حيث إنّه غير مقدور للمكلّف ، وكيف يعقل التكليف بإيجاد طلوع الفجر!؟

وإن علمنا برجوعه إلى الهيئة وشككنا في أنّه على نحو الشرط المقارن حتى يكون الوجوب مشروطا ، أو المتأخّر حتى يكون الوجوب فعليّا ، ومرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في أنّ الوجوب والإلزام فعليّ أو مشروط ولا يكون إلّا بعد وجود القيد المتأخّر ، فمقتضى أدلّة البراءة من العقليّة والشرعيّة : البراءة حتى يتحقّق القيد ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون القيد اختياريّا أم لا.

وإن لم نعلم بأنّ القيد راجع إلى أيّتهما وشككنا في أنّه راجع إلى الهيئة على نحو الشرط المقارن حتى يكون الوجوب مشروطا ، والقيد غير واجب التحصيل ، أو على نحو الشرط المتأخّر حتى يكون فعليّا ، والقيد أيضا غير واجب التحصيل مطلقا ، أو أنّه راجع إلى المادّة حتى يكون الوجوب فعليّا و [القيد] واجب التحصيل إن كان اختياريّا ، وغير واجب التحصيل إن لم يكن ، ففي جميع الصور تجري البراءة ، إذ يترتّب على هذا الشكّ أمران : الأوّل : الشك في الإلزام والتكليف الفعلي ، والثاني : الشكّ في وجوب تحصيل القيد ، وحديث الرفع وقاعدة قبح العقاب يرفعان كليهما ، ففي جميع صور الشكّ تجري البراءة ويكون في النتيجة كالواجب المشروط ، وأن يكون القيد قيدا للهيئة وإن لم يثبت كونه واجبا مشروطا بذلك.

هذا ، وللشيخ الأنصاري (١) ـ أعلى الله مقامه ـ تقريبان في استظهار تقييد المادّة دون الهيئة :

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٩.

٦٤

أحدهما : أنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي ، وكلّما دار أمر التقييد بين الإطلاق الشمولي والبدلي تقدّم البدلي.

أمّا شموليّة إطلاق الهيئة : فلأنّ مفادها ـ بمقتضى مقدّمات الحكمة ـ وجوب الإمساك مثلا في أيّ زمان كان طلع الفجر أم لا بحيث تكون هناك عند الانحلال أحكام ووجوبات متعدّدة متعلّقة بموضوعات متعدّدة ، كما أنّ حرمة الإكرام في «لا تكرم الفاسق» تنحلّ بأحكام عديدة للموضوعات المتعدّدة ، فوجوب الإمساك ثابت لكلّ زمان من الأزمنة ، كما أنّ حرمة الإكرام ثابتة لكلّ فرد من الأفراد.

وأمّا بدليّة إطلاق المادّة : فلأنّ الإمساك وإن كان مطلقا بالقياس إلى هذا الزمان وذاك الزمان وهكذا إلّا أنّ المأمور به حيث إنّه طبيعة الإمساك ، وامتثالها يتحقّق بإتيان فرد من الأفراد في ضمن زمان من الأزمنة ، فالمأمور به في الحقيقة هو الفرد المنتشر المطلق من حيث هذا الزمان وذلك الزمان لا كلّ فرد ، كما أنّ المأمور به في «أكرم العالم» هو الفرد المنتشر المطلق من حيث الكبر والصغر ، والعدالة والفسق ، وغير ذلك.

وأمّا الكبرى ـ وهي تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي ـ فلما أفاده ـ قدس‌سره ـ في بحث تعارض الأحوال (١) من أنّ حرمة الإكرام في «لا تكرم الفاسق» بمقتضى مقدّمات الحكمة ثابتة لكلّ فرد من أفراده بحيث يكون كلّ فرد محكوما بهذا الحكم ، سواء تساوت الأفراد أم لا ، والتقييد في الواقع تخصيص بصورة ، كما أنّ «لا تصلّ في النجس» يقتضي النهي عن الصلاة سواء كانت النجاسة هي البول أو الدم أو الملاقي لأحدهما ، مع أنّها متفاوتة من حيث

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٥٧.

٦٥

الشدّة والضعف بالضرورة.

وأمّا وجوب الإكرام في «أكرم عالما» لا يثبت بمقدّمات الحكمة إلّا تعلّقه بفرد من الأفراد ، لا كلّ فرد ، فالمأمور به هو الفرد الواحد المنتشر المطلق من هذا القيد وذاك القيد ، وأمّا تطبيق الفرد المأمور به على كلّ من العادل والفاسق ، وتخيير المكلّف في اختيار أيّ ما شاء في مقام الامتثال فإنّما هو بمقدّمة أخرى عقلية غير مقدّمات الحكمة ، وهي أنّه كلّما تساوت أقدام أفراد المأمور به عند المولى فالمكلّف مخيّر في اختيار كلّ ما شاء منها ، فمتى أحرز العقل تساويها يحكم بالتخيير ، وإلّا فلا ، وإذا فرض وجود دليل دالّ على حرمة إكرام الفاسق من العلماء فكيف يحرز العقل تساوي العالم الفاسق وغير الفاسق في وجوب الإكرام ، ويحكم بالتخيير في مقام الامتثال!؟ فحجّيّة الإطلاق البدلي متوقّفة على إثبات تساوي الأفراد بالقياس إلى غرض المولى وبالنسبة إلى الملاك الملزم الكائن فيه ، وتساوي الأفراد كذلك متوقّف على عدم ورود دليل دالّ على الخلاف ، فمع ورود الدليل كما في «لا تكرم الفاسق» لا يمكن القول بحجّيّة ظهور إطلاق «أكرم العالم» بالنسبة إلى العادل والفاسق ، ولا تتوقّف حجّيّة «لا تكرم الفاسق» على عدم حجّيّة «أكرم العادل» أيضا ، فإنّه دور واضح.

فظهر أنّ الإطلاق الشمولي مقدّم على الإطلاق البدلي وأنّ المطلق البدلي يسقط عن الحجّيّة في مورد التعارض بحكم العقل.

هذا كلّه في المنفصلين ، وأمّا في المتّصلين ، فحيث إنّ الميزان في سقوط العامّ عن الحجّيّة في العموم احتفاف الكلام بما يصلح للمانعيّة والقرينيّة ، وكلّ ما لا يصلح للقرينية إذا كان منفصلا لا يصلح إذا كان متّصلا

٦٦

أيضا ، فمقتضى القاعدة هو : تقديم الإطلاق الشمولي في المتّصلين أيضا.

فإذا ثبتت هذه الكبرى الكلّية يثبت مدّعاه قدس‌سره ، وهو : تقديم إطلاق الهيئة.

أقول : الظاهر ـ والله العالم ـ أنّ غرضه ـ قدس‌سره ـ من التقديم هذا ، ونظره بما ذكرنا وإن لم تكن عبارته في الرسائل (١) وافية بذلك بحسب الظاهر ، إلّا أنّه يظهر منه ذلك بعد التأمّل والدقّة ، ومن هنا عبّر عن حجّيّة الإطلاق الشمولي بأنّها تنجيزيّة ، وعن البدلي بأنّها تعليقيّة.

وما ذكره ـ قدس‌سره ـ حقّ في الكبرى ، وهو كما أفاده فيها ، لكنّ المقام ليس من صغرياتها ، حيث إنّ هذه القاعدة جارية في موارد التعارض والتزاحم بين الدليلين لا فيما لا تعارض بين الدليلين أصلا لكن علم بتقييد أحدهما إجمالا ولو كان عموم أحدهما بالوضع وفي أعلى مراتب الظهور ، والآخر بمقدّمات الحكمة وفي أدنى مراتبه.

مثلا : لو ورد «لا تصلّ في النجس» و «الفقّاع خمر استصغره الناس» وعلمنا إجمالا بكذب أحدهما وأنّ أحدهما مقيّد يقينا ، فمقتضى القاعدة : الرجوع إلى المرجّحات السندية ، ولو لا المرجّح [تعيّن] سقوط كليهما عن الحجّيّة ، لأنّ العلم الإجمالي بالنسبة إلى كلّ منهما على حدّ سواء ، فترجيح أحدهما على الآخر يكون بلا مرجّح ، ولا معنى للتقيّد ، إذ لا تعارض حيث إنّ التعارض يكون فيما إذا كان كلّ منهما يثبت ما ينفيه الآخر ، وليس كذلك في المقام ، فإنّ وجوب الإمساك في كلّ زمان مثلا ـ الّذي هو مفاد الهيئة ـ لا يعارض إطلاق الإمساك في كلّ زمان بالضرورة ، غاية الأمر أنّا نعلم بتقييد أحدهما

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٥٧.

٦٧

إجمالا ، فلا يحكم بالتقييد لا بالنسبة إلى الهيئة ولا بالنسبة إلى المادّة ، بل اللازم الرجوع إلى الأصول العملية ، وقد عرفت أنّ مقتضاها هو البراءة في جميع الصور.

هذا ، واعترض عليه ـ قدس‌سره ـ في الكفاية (١) بأنّ المناط في تقديم أحد الإطلاقين هو أقوائيّة الظهور بأن يكون أحدهما بالوضع والآخر بمقدّمات الحكمة ، وشمولية الإطلاق لا توجب التقديم ، وقد عرفت أنّ الإطلاق الشمولي موجب لسقوط حجّيّة البدلي على الإطلاق ، وأنّه أقوى ظهورا من البدلي في المتعارضين وإن كان المقام ليس من هذا القبيل ، أي من المتعارضين. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ (٢) في المقام.

ولكنّ التحقيق أنّ الإطلاق سواء كان شموليّا أو بدليّا لا يعارض العموم كذلك ، بداهة أنّ ظهور العموم شمولا أو بدلا في العموم كذلك فعليّ غير مشروط بشيء ، ولكن ظهور الإطلاق مطلقا في الإطلاق كذلك مشروط بعدم وجود القرينة على التقييد ، وهو أحد مقدّمات الحكمة ، فبدونه لا يكون هناك ظهور في الإطلاق أصلا ، ومن المعلوم أنّ العامّ يصلح للقرينيّة دون العكس ، إذ ظهور العامّ غير مشروط بعدم وجود مطلق على الخلاف ، وإلّا يلزم الدور.

وهذا كثيرا ما يقع موردا للابتلاء في الفقه ، كما في «كلّ ما يراه ماء المطر فقد طهر» فإنّه مقدّم على «اغسله مرّتين».

وأمّا الإطلاقان سواء كانا شموليّين أو بدليّين فيتعارضان ، ويسقطان كلاهما عن الحجّيّة ، فالكبرى ـ وهي تقدّم الإطلاق الشمولي على البدلي ـ أيضا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٤.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦١ ـ ١٦٤.

٦٨

ممنوعة.

توضيح ذلك : أنّ تماميّة الإطلاق البدلي ليست من ناحية مقدّمة زائدة على مقدّمات الحكمة ، وهي إحراز العقل تساوي أقدام أفراد المأمور به بالقياس إلى غرض المولى ، وإلّا لوجب حكم العقل بالتخيير فيما إذا احتمل أهميّة إنقاذ أحد الغريقين اللذين لا يمكن إنقاذ كليهما ، أو فيما احتمل أعلميّة أحد المجتهدين ، ولزم عدم توقّفه في الحكم بالتخيير إلّا في صورة العلم بعدم التساوي ، ومن المعلوم خلافه ، بل التماميّة في الإطلاق البدلي أيضا بنفس مقدّمات الحكمة ، كما في الشمولي ، إذ القيد في مقام الثبوت إمّا لا يكون دخيلا في الغرض لا وجودا ولا عدما ، وإمّا يكون دخيلا فيه وجودا أو عدما.

وأمّا في مقام الإثبات : فإمّا أنّ يقيّد المولى أولا ، وعلى الثاني إمّا أن يكون في مقام البيان أولا ، لا كلام في الأوّل والثالث.

وأمّا الثاني : فيثبت الإطلاق وعدم التقييد بالوجود والعدم بنفس مقدّمات الحكمة ، التي منها كون المولى في مقام البيان ، فحيث لم يبيّن أنّ العدالة لها دخل في الغرض أو عدم الفسق كذلك وكان في مقام البيان ، فيحكم العقل بالتخيير في مقام الامتثال.

فإذا كان هناك إطلاقان : أحدهما شمولي ، والآخر بدلي ـ حيث إنّ كلا الإطلاقين يثبت بمقدّمات الحكمة بدون تفاوت بينهما أصلا ، فيتعارضان ، ويسقطان عن الحجّيّة ، كما إذا كانا شموليّين أو بدليّين ـ فالمرجع في مقام الشكّ على كلّ حال هو الرجوع إلى الأصل العملي ، وهو البراءة ، كما عرفت ، وهذه القاعدة لا محصّل لها لا صغرى ولا كبرى.

التقريب الثاني الّذي استظهر به رجوع القيد إلى المادّة دون الهيئة : أنّ

٦٩

تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادّة أيضا ـ بمعنى بطلان محلّ إطلاقها ، لعدم صحّة الصلاة بدون الطهارة من جهة عدم وجوبها بدون الطهارة ـ ولا عكس ، وكلّما دار الأمر بين تقييد أمر مستلزم لبطلان محلّ الإطلاق في الآخر وتقييد أمر غير مستلزم لذلك ، كان الثاني أولى ، لأنّ التقييد خلاف الأصل ، ولا فرق بين التقييد وبين أن يعمل عملا يوجب بطلان محلّ الإطلاق في النتيجة ، فبهذه الصغرى ـ أعني استلزام تقييد الهيئة لتقييد المادّة أيضا دون العكس ـ وبتلك الكبرى ـ أعني أولوية تقييد ما لا يستلزم بطلان محلّ الإطلاق في الآخر ـ يثبت المدّعى ، وهو وجوب رجوع القيد إلى المادّة دون الهيئة.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ بأنّه لا يتمّ في المتّصل ، كما في «صلّ عن طهارة» مثلا ، إذ القرينة المتّصلة مانعة عن انعقاد الظهور في الإطلاق ، فلا يكون هناك ظهور في الإطلاق لا في المادّة ، ولا في الهيئة ، لعدم تمامية مقدّمات الحكمة حتى يكون التقييد في الهيئة ، الموجب لبطلان محلّ الإطلاق في المادّة خلاف الأصل ، وتقييد المادّة غير الموجب لذلك أولى ، إذ لا إطلاق كي يبطل بذلك محلّه ، فالقضية سالبة بانتفاء الموضوع.

نعم ، في القيد المنفصل حيث ينعقد الظهور لكلا الإطلاقين يمكن القول بذلك.

أقول : هذا التقريب أيضا ـ كسابقه ـ غير تامّ.

أمّا في المتّصل : فكما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره.

وأمّا في القيد المنفصل : فلأنّ هناك أمرا متيقّنا ، وهو بطلان الصلاة مثلا بدون الطهارة إمّا لعدم تعلّق الطلب بها إن كان القيد راجعا إلى الهيئة ، أو لعدم

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٤.

٧٠

كونها مأمورا بها إن رجع إلى المادّة ، وأمرا مشكوكا ، وهو وجوب تحصيل القيد وعدمه ، ومرجع الشكّ إلى أنّ الطهارة هل أخذت مفروضة الوجود ، كالاستطاعة بالقياس إلى الحجّ حتى لا تكون واجبة التحصيل ، أو لم تؤخذ كذلك ، أي مفروضة الوجود ، بل أخذت في الواجب ووقعت في حيّز الخطاب حتى تكون واجبة التحصيل؟ ومن المعلوم أنّ بين وجوب التحصيل وعدمه تناقضا وتباينا ، ولا يكون قدر متيقّن في البين حتى يؤخذ ، ويدفع الزائد بالإطلاق.

مضافا إلى أنّه في القيد غير الاختياري لا نشكّ في ذلك أيضا ، حيث إنّه غير واجب التحصيل يقينا ، فلا معنى للنزاع فيه (١).

ولشيخنا الأستاذ في المقام كلام (٢) ، وهو : أنّ ما أفاده الشيخ من رجوع القيد إلى المادّة دون الهيئة في محلّه ، وأنّ التعبير عنه بدوران الأمر بين تقييد وتقييدين في غير محلّه.

توضيحه : أنّه قد مرّ أنّ القيد في الواجب المشروط راجع إلى المادّة المنتسبة لا الهيئة ولا ذات المادة ، فالشكّ في المقام راجع إلى أنّ القيد راجع إلى نفس المادّة أو إلى المادّة حال انتسابها إلى الهيئة ، فرجوعه إلى نفس المادة متيقّن ، وأمّا رجوعه إلى المادّة في حال الانتساب مشكوك يحتاج إلى مئونة زائدة يدفعها الإطلاق.

__________________

(١) أقول : هذا غريب منه ـ دام بقاؤه ـ ، إذ لا فرق بين الاختياري وغير الاختياري أصلا ، إذ القيد خارج عن حيّز الطلب على كلّ حال ، وإنّما التقيّد وإضافة الفعل إلى القيد يكون في حيّز الطلب ، وهو أمر اختياري ، فيقع النزاع فيه من هذه الجهة ، وأوضح من ذلك وقوع النزاع في وجوب تحصيل سائر المقدّمات. (م).

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٠ و ١٦٤.

٧١

وأيضا رجوع القيد إلى المادّة حال الانتساب موجب لأخذه مفروض الوجود ، وهذا أيضا مئونة أخرى زائدة يدفعها إطلاق القيد.

أقول : يرد عليه أمران :

الأوّل : ما تقدّم من [أنّ] القيد يمكن أن يكون راجعا إلى الهيئة ، ولا معنى لرجوعه إلى المادّة المنتسبة بالتقريب المتقدّم.

الثاني : أنّ الواجب المطلق والمشروط قسمان لمطلق الواجب ، كما أنّ الماء المطلق والماء المضاف يكونان قسمين لمطلق الماء ، فيكون بينهما التباين ، لا أنّ الواجب المشروط عين الواجب المطلق مع الزيادة حتى يتصوّر قدر متيقّن في البين ، ويدفع الزائد بالتمسّك بالإطلاق.

وهكذا أخذ القيد مفروض الوجود في الواجب المشروط ليس مئونة زائدة حتى يتمسّك بإطلاق القيد ، ويدفع الزائد ، إذ في الواجب المطلق أيضا يحتاج إلى مئونة ، وهي : أخذ القيد في متعلّق التكليف وفي حيّز الخطاب بحيث يجب تحصيله ، فأيّ قدر متيقّن بين ما أخذ إمّا مفروض الوجود أو في متعلّق التكليف؟

فانقدح أن لا أصل لفظي في البين يقتضي تقييد المادّة ، وأنّ ما ذكره الشيخ وشيخنا الأستاذ ـ قدس‌سرهما ـ لإثبات ذلك غير تامّ.

نعم لشيخنا الأستاذ (١) كلام متين ، وهو : أنّه لا مورد للشكّ في رجوع القيد إلى المادّة أو الهيئة ، لأنّ جميع ملابسات الفعل حتى الحال ظاهر في رجوع القيد إلى المادّة لا الهيئة ، كما في «صلّ عن طهارة» و «صلّ متطهّرا» وأمثال ذلك.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٦.

٧٢

ومن التقسيمات : تقسيم الواجب إلى النفسيّ والغيري ، والكلام في مقامين :

الأول : تعريفهما.

الثاني : أنّه إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري ، كما في غسل الجنابة ، فإنّه على قول جماعة من الفقهاء واجب نفسي ، الأصل اللفظي أو العملي ما يقتضي في المقام؟

أمّا المقام الأوّل : فالمشهور في تعريفهما أنّ الواجب النفسيّ ما يكون واجبا لا لواجب آخر ، والواجب الغيري ما هو واجب لواجب آخر.

وأورد (١) على ذلك بأنّه لا يتمّ على مسلك العدلية القائلين بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، حيث إنّ جلّ الواجبات على هذا المسلك واجبة ، لما فيها من المصلحة الواجب تحصيلها ، فلازمه الالتزام بأنّ جميع الواجبات غيريّة.

وأجيب (٢) عن هذا الإشكال بأنّ الواجب النفسيّ ما هو واجب لا لواجب آخر ، لا أنّه ما يكون واجبا لا لشيء آخر ، والمصلحة المترتّبة على الأفعال حيث إنّها ليست تحت اختيار المكلّف وقدرته فليست بواجبة ، فلا يكون الفعل واجبا لواجب آخر حتى يكون غيريّا.

وأجاب في الكفاية (٣) عن هذا الجواب بأنّه يكفي في تعلّق التكليف وجوازه بشيء أن يكون مقدورا ولو بالواسطة ، وإلّا لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج وغير ذلك من المسبّبات التوليدية موردا للحكم الشرعي.

__________________

(١) المورد هو صاحب الكفاية فيها : ١٣٥.

(٢) انظر : كفاية الأصول : ١٣٥.

(٣) كفاية الأصول : ١٣٦.

٧٣

ثمّ عدل قدس‌سره ـ فرارا عن هذا الإشكال ـ عنه إلى تعريف آخر (١) ، وهو أنّ الفعل إذا كان معنونا بعنوان حسن به يصير واجبا ، فهو واجب نفسي وإن كان مقدّمة لأمر مطلوب وواجب تحصيله واقعا ، وإذا كان وجوبه لأجل المقدّميّة فهو واجب غيريّ وإن كان معنونا بعنوان حسن أيضا ، كما في الوضوء ، حيث قيل : «إنّه نور وتجديده نور على نور».

واعترض عليه شيخنا الأستاذ (٢) بأنّ حسن الفعل إن كان ناشئا من الفائدة التي تكون فيها ، فهو عين الوجوب الغيري ، وإن كان هذا الحسن ذاتيّا ناشئا من مقدّميّتها لتلك الفائدة المترتّبة عليها ، فلازمه ثبوت ملاك الوجوب النفسيّ والغيري في هذا الفعل كما في صلاة الظهر ، فإنّه باعتبار أنّها مقدّمة لصحّة صلاة العصر فيها ملاك الوجوب الغيري ، وباعتبار أنّها معنونة بعنوان حسن لها ملاك النفسيّ ، فلا يصحّ التقسيم ، إذ الواجب حينئذ ينقسم إلى الغيري وما يكون نفسيّا وغيريّا باعتبارين.

هذا ، مضافا إلى أنّا نسأل أنّه هل وردت آية أو رواية دالّة على حسن الأفعال ذاتا؟ ومن أخبرنا بذلك؟ ومن أين يستكشف ذلك؟

نعم ، هذا حسن في مثل الركوع والسجود ومطلق الخضوع والخشوع والتعظيم للمولى.

ثمّ ذكر ـ قدس‌سره ـ أنّ الفائدة والمصلحة المترتّبة على الأفعال غير مقدورة لا بدون الواسطة ولا بالواسطة ، حيث إنّ ترتّبها كترتّب المعلول على علله المعدّة ، لا كترتّب المسبّبات التوليديّة على أسبابها ، وذلك لما ذكرنا سابقا من

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٧.

٧٤

أنّ الأفعال يتوسّط بينها وبين ما يترتّب عليها من المصالح أمور غير اختياريّة ، فلا يمكن أن تكون تلك المصالح متعلّقة للتكليف (١) ، فلا إشكال في تعريف المشهور أصلا.

أقول : قد مرّ في بحث الصحيح والأعمّ مفصّلا بيان هذا الكلام والجواب عنه ، وذكرنا أنّ للمولى غرضين (١) : غرضا أقصى ، وهو الّذي يتوسّط بينه وبين الأفعال أمور غير اختياريّة ، وغرضا آخر يترتّب على نفس المأمور به ، كترتّب المعلول على علّته التامّة ، ومثّلنا له مثالا عرفيّا ، وهو : أنّ المولى إذا أراد أن يطبخ الطبيخ ، يأمر أحد عبيده باشتراء الحطب ، والآخر باشتراء التمّن ، والثالث باشتراء الدهن ، وهكذا ، فله غرض أقصى ـ وهو تحصيل الطبيخ ، ومن المعلوم أنّه لا يترتّب على مجرّد فعل العبد الأوّل ، وهو اشتراء الحطب ـ وأغراض أخر مترتّب واحد منها على اشتراء الحطب ، وهو التمكّن من الطبيخ ، والآخر على اشتراء التمّن ، والثالث على اشتراء الدهن ، ولا ريب في أنّ ترتّب التمكّن من الطبخ على اشتراء الحطب ترتّب المعلول على علّته التامّة ، ولا يعقل أن يأمر المولى بفعل لا يترتّب عليه فائدة ، إذ هو لغو محض ، فما يترتّب على الفعل هو المتعلّق للتكليف ، وهو مقدور بالواسطة ، دون الغرض الأقصى ، وهو المعرفة ، فلا يندفع الإشكال.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٧.

(٢) أقول : فيه أوّلا : أنّ العلم بوجود غرضين لكلّ واجب أحدهما : أدنى ، والآخر أقصى يحتاج إلى علم الغيب ، ومن أخبر أنّ لكلّ واجب أثرا آخر أدنى غير الأقصى مترتّبا على الفعل بلا واسطة؟

وثانيا : لو سلّم وجود الغرضين : الأدنى والأقصى ، نقول : إنّ ترتّب الأقصى على الواجبات مع الواسطة خلاف ظواهر الأدلّة ، فإنّ ظاهرها ترتّب الأقصى ـ مثل النهي عن الفحشاء ـ على فعل الصلاة الصحيحة بلا توسّط أمر آخر. (م).

٧٥

ولكنّ الّذي يسهّل الخطب أنّه يشترط في جواز التكليف بشيء أمران :

أحدهما : أن يكون مقدورا ولو مع الواسطة.

والثاني (١) : أن يكون من المفاهيم العرفية ، ومن الأمور التي يفهمها العرف ، والمصالح وإن كانت مقدورة بالواسطة لكن لا تكون ممّا يفهمه العرف ، ضرورة أنّ العرف إذا قيل لهم : «انهوا أنفسكم عن الفحشاء والمنكر» يعدّون المتكلّم بهذا الكلام متكلّما بكلام عبراني ، ولا يفهمون شيئا منه ، فلا يصحّ الأمر بذلك ، بل الأمر تعلّق بنفس الفعل ، فيصحّ تعريف القوم بأنّ الواجب النفسيّ ما يكون واجبا لا لواجب آخر ، والغيري ما يكون واجبا لواجب آخر.

لكن هذا الجواب لا يتمّ في كثير من الواجبات التي تكون ملاكاتها معلومة لنا ، كردّ الأمانة ، الّذي ملاكه حفظ النظام ، وهكذا حفظ النّفس ، والحرف التي يتوقّف حفظ النظام عليها ، ودفن الميّت ، فإنّ ملاكه حفظه عن تغيّر ريحه وهتك حرمته ، وغير ذلك من الواجبات التي تكون المصالح المترتّبة عليها وملاكاتها من المفاهيم التي يفهمها العرف.

__________________

(١) عدم العرفية على نحو الإطلاق ليس مانعا من تعلّق التكليف ، وإلّا يلزم عدم صحّة التكليف بمثل الوضوء والصلاة ونحوهما من الواجبات أيضا ، فإنّ المكلّف وإن يعلم بالأمر بهما أنّهما يؤثّران في الملاك وأمّا أنّ الصلاة ما ذا؟ والوضوء ما ذا؟ فهو عاجز عن فهمه ، فلا بدّ من البيان من ناحية الشارع ، فما لا يفهمه العرف يصحّ الأمر به بشرط البيان من قبل الشارع.

وبعبارة أخرى : عدم عرفية الملاكات كعدم عرفية الواجبات التي لها حقائق شرعية ، وقول الشارع : «اعمل عملا ينهاك عن الفحشاء» كقوله : «صلّ» في أنّ العرف كما لا يفهم ما ذلك العمل الّذي ينهى عن الفحشاء كذلك لا يفهم ما هو الصلاة حتى يفعلها.

نعم إذا كان شيء خارجا عن فهم العرف ولم يمكن للشارع بيانه ، فهو غير قابل للتكليف ، ولكنّ الملاكات ليست كذلك. (م).

٧٦

فالتحقيق في الجواب أنّ المقدّمة السببيّة ـ كما حكاه صاحب المعالم (١) فيه عن السيّد قدس‌سره ـ خارجة عن حريم النزاع في بحث وجوب المقدّمة.

بيان ذلك : أنّ البعث والتحريك لا بدّ وأن يتعلّق بفعل اختياريّ للعبد ، فإن كان هناك فعلان اختياريّان ، يمكن تعلّق الإيجابين بهما وأن يكون المكلّف مبعوثا ببعثين ، وأمّا لو كان أحد الفعلين يترتّب على الآخر قهرا ـ كترتّب المصلحة على الفعل ، وترتّب القتل على ضرب العنق ، والتطهير على الغسل ، وأمثال ذلك من المسبّبات المترتّبة على أسبابها من دون اختيار ـ فلا يمكن أن يكون السبب واجبا بإيجاب غير إيجاب المسبّب ، إذ تعلّق الإيجابين وبعثين وتحريكين عليهما لغو محض ، حيث إنّ الصادر من العبد حركة واحدة وفعل واحد ، كضرب العنق مثلا ، وإنّما يترتّب عليه أمر ليس تحت اختيار المكلّف وهو القتل ، فلا بدّ من البعث الواحد إمّا نحو السبب أو المسبّب. ولا يفهم الفرق بين قولنا : «اضرب عنق زيد» و «اقتله» بل المعنى الواحد عبّر بتعبيرين. ومن هنا كثيرا يقصد معنى واحد من عبارتين كذلك ، كما في «يجب تطهير الثوب» و «يجب غسله» ونحن نعبّر عن أمثال ذلك مسامحة ـ وإن كان خلاف الاصطلاح ـ بالعناوين التوليديّة ، وينتج ذلك نتيجة نتكلّم فيها في آخر البحث إن شاء الله ، وهي حرمة مقدّمة الحرام إن كانت سببيّة بعين هذا التقريب وإن كان المختار عدم حرمة مقدّمة الحرام في غير السببيّة ، فارتفع الإشكال وصحّ تعريف الواجب النفسيّ بما يكون واجبا لا لواجب آخر ، والغيري بما يكون واجبا لواجب آخر ، إذ المصالح حيث إنّها تترتّب على الأفعال قهرا فإيجابها بإيجاب آخر غير إيجاب الأفعال لغو محض ، فلا تكون واجبة حتى تصير

__________________

(١) المعالم : ٢٥٤.

٧٧

الواجبات جلّها غيريّة.

وأجاب عن هذا الإشكال بعض مشايخنا (١) ـ قدس‌سره ـ بما حاصله يرجع إلى ما أفاده شيخنا الأستاذ بتقريب آخر لا يهمّنا ذكره. هذا كلّه في تعريفهما.

المقام الثاني : لا كلام في صورة العلم بأحدهما ، وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري فهل هناك أصل لفظي يقتضي أحدهما أم لا؟ وعلى الثاني مقتضى الأصل العملي ما ذا؟ فيقع الكلام في جهتين :

الأولى : في مقتضى الأصل اللفظي ، فتقول أوّلا : إنّ الواجب النفسيّ قسيم للواجب الغيري ، وكلاهما قسمان لمطلق الواجب.

وظهر ممّا ذكرنا في تعريفهما أنّ كلّ واحد منهما مقيّد بقيد ، ولا إطلاق في مقام الثبوت أصلا ، إذ المفروض أنّ الواجب النفسيّ هو الواجب لا لواجب آخر ، فهو مقيّد بقيد عدمي ، والواجب الغيري هو الواجب لواجب آخر ، فهو مقيّد بقيد وجودي.

وأمّا في مقام الإثبات فيمكن إثبات النفسيّة بأحد وجهين :

الأوّل : بإطلاق دليل هذا الواجب المشكوك النفسيّة والغيريّة ، فإنّ المولى إذا كان في مقام البيان ولم يبيّن مربوطيّة هذا الواجب بشيء وأطلق الدليل بأن قال : «افعل كذا» بدون تقييده بأمر آخر واجب ، فمقتضى الإطلاق هو أن يكون هذا الفعل واجبا ، سواء وجب ذاك الفعل أم لا ، إذ لو كان وجوبه غيريّا مترشّحا من واجب آخر ، لكان عليه البيان والتقييد ، فحيث لم يبيّن ولم يقيّد يثبت أنّ وجوبه نفسي غير مترشّح من وجوب آخر.

الثاني : بإطلاق دليل (٢) ذاك الواجب الّذي يحتمل أن يكون هذا

__________________

(١) هو المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ، انظر نهاية الدراية ٢ : ١٠١.

(٢) مثل : «صلّ». (م).

٧٨

الواجب (١) مقدّمة له ، حيث إنّ مقتضى إطلاق «صلّ» مثلا : أنّ الصلاة واجبة ، سواء أتى بالوضوء أم لا ، فإنّ لازمه العقلي هو عدم مقدّميّة الوضوء للصلاة ، ولازم ذلك عدم كون الوضوء واجبا غيريّا ، وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصول اللفظية لوازمها ومثبتاتها كلّها حجّة ، فعلى هذا تثبت النفسيّة بلازم إطلاق «صلّ» كما تثبت بنفس دليل هذا الواجب ، مثل «توضّأ» مثلا.

وهنا إشكال قد أبداه شيخنا العلّامة الأنصاري ـ على ما أفاده صاحب التقريرات (٢) ـ وهو أنّ مفاد الهيئة حيث إنّه جزئي لا يقبل الإطلاق والتقييد ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق في إثبات النفسيّة.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (٣) ـ قدس‌سره ـ بأنّ مفاد الهيئة ليس هو حقيقة الطلب وواقعه حتى يكون جزئيّا وغير قابل للإطلاق والتقييد ، بل مفادها هو مفهوم الطلب ، إذ لا يعقل إيجاد واقعه الّذي هو الصفة النفسانيّة التي هي الحبّ والشوق. وقد عدّ ـ قدس‌سره ـ هذا من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق.

أقول : قد مرّ مرارا أنّ الجمل الإنشائية مثل : «بعت» و «وهبت» وضعت لإبراز ما في النّفس من اعتبار الملكية بالعوض أو بلا عوض ، والاعتبار النفسانيّ سنخه سنخ الوجود الذهني يمكن تعلّقه بأمر متأخّر ، كما يمكن تصوّر الأمر المتأخّر ، مثلا يمكن اعتبار الملكيّة بعد الموت في حال الحياة ، وهكذا الإيجاب الّذي هو جعل الفعل على ذمّة المكلّف يمكن في مقام الثبوت تعلّقه بأمر على تقدير مجيء زيد ، ويمكن تعلّقه به مطلقا ، والأمر ليس إلّا إبراز هذا الاعتبار النفسانيّ ، فالمولى إذا أراد جعل الفعل على ذمّة عبده واعتبر في نفسه

__________________

(١) مثل : «الوضوء». (م).

(٢) مطارح الأنظار : ٦٧.

(٣) كفاية الأصول : ١٣٧.

٧٩

لا بدّيّة عبده لهذا الفعل ، يقول له : «افعل كذا» ويبرز ما في نفسه بهذا اللفظ أو بمبرز آخر ، فإمّا أن يقيّد ويقول : «افعل كذا على تقدير مجيء زيد» أو يطلق ويقول : «افعل كذا» فانقدح أنّ مفاد الهيئة ليس هو معنى جزئي هو واقع الطلب ، بل هو إظهار الاعتبار النفسانيّ الّذي هو إمّا مطلق أو مقيّد ، فإذا كان في مقام البيان وأطلق كلامه ، يتمسّك بإطلاقه ، ولا إشكال فيه.

هذا ، مضافا إلى أنّه لا ريب في عدم إمكان إنكار الواجب الغيري ، بخلاف الواجب المشروط حيث يمكن إنكاره ، والالتزام بالوجوب التعليقي ، كما نسب إليه قدس‌سره ، فلا محذور في التمسّك بإطلاقه المادّة في المقام ، فتأمّل.

هذا ما يرجع إلى كلام الشيخ قدس‌سره ، وأمّا ما أفاده صاحب الكفاية ـ من أنّ مفاد الهيئة مفهوم الطلب لا واقعه ـ فقد ظهر فساده ممّا ذكرنا سابقا من أنّ الطلب ليس من الصفات النفسانيّة وبمعنى الحبّ ، ولا يقال لمن يحبّ العلم : «طالب العلم» بل هو عبارة عن التصدّي نحو تحصيل المراد ، وإظهار المولى ما في نفسه بقوله : «افعل» نحو من التصدّي وأحد مصاديق الطلب لا مفهومه ، فاشتباه المفهوم بالمصداق منه لا من الشيخقدس‌سرهما.

هذا إذا كان هناك إطلاق ، وأمّا لو لم يكن ـ إمّا من جهة عدم الدليل اللفظي ، أو من جهة عدم كون المتكلّم في مقام البيان ـ وصلت النوبة إلى الأصل العملي ، وينبغي التكلّم في ثلاثة موارد :

الأوّل : فيما إذا كان هناك أمران علم بوجوب كليهما واحتمل كون أحدهما مقدّمة وقيدا للآخر ، كما إذا علمنا بوجوب الصلاة والوضوء وشككنا في أنّ وجوب الوضوء نفسي أو غيري مترشّح من الصلاة ، ومقتضى القاعدة في هذا القسم الاشتغال ـ وترتيب آثار النفسيّة والغيريّة ـ بالوضوء ، لا إجراء

٨٠