الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

أيضا ، أي حكمه حكم القدرة العقليّة ، فيجب التعلّم قبل حضور وقت الصلاة لمن يكون قادرا عليه ، ويعلم بعدم تمكّنه منه بعد ذلك حتى ينجرّ تركه في هذا الوقت إلى ترك الصلاة وتفويت المصلحة الصلاتية في وقتها ، إذ المفروض أنّه بمجرّد القدرة في وقت ما يكون الواجب تامّ المصلحة وذا ملاك ملزم ، غاية الأمر لا يكون فعلا (١) واجبا ، لعدم مجيء وقته ، ويكون الوجوب فيه مشروطا بالوقت ، فحينئذ لا بدّ من تهيئة مقدّماته المفوّتة ، لا لوجوبه الفعلي ، لأنّه مفقود على الفرض ، بل لحكم العقل بأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، فلا فرق بين القدرة العقليّة وهذا القسم من القدرة الشرعيّة في وجوب تهيئة مقدّماته المفوّتة ، فيجب التعلّم عقلا الملازم للوجوب شرعا عند التمكّن لمن يعلم بعدم تمكّنه في زمان وجوب الصلاة ، كما يجب كذلك حفظ الماء ويحرم إراقته لمن يعلم بعدم وجدانه للماء في الوقت وأنّه لا يتمكّن من الصلاة عن طهارة فيه وإن لم يكن الوجوب فعليّا حينئذ ، لعدم تحقّق شرطه وهو الوقت ، لما سبق من أنّ الواجبات الموقّتة كلّها مشروطة بالوقت ، ويعاقب على ذلك لو فعل ، لاستناد عدم التمكّن من الصلاة في ظرفها باختياره ، فلا ينافي استحقاقه للعقاب على ترك الصلاة.

وأمّا القسم الثاني منها ، أي : ما كان القدرة المأخوذة فيه هي القدرة الخاصّة والقدرة في ظرف الوجوب وبعد حصول شرائط الوجوب ، كالاستطاعة ، بناء على استقرار الحجّ لو صار مستطيعا في الشوّال مثلا ، فإنّ زمان الواجب بعد شهرين لكنّه استطاع بمعنى أنّه قدر على المسير إلى الحجّ ، وتمكّن من الزاد والراحلة ، ولو ترك المسير ، لعجز عن الحجّ في ظرفه.

__________________

(١) «فعلا» : ظرف.

٤١

فحينئذ نقول : بناء على إمكان الواجب المعلّق فلا شبهة في وجوب تلك المقدّمات بناء على وجوب المقدّمة شرعا والتلازم بين الوجوبين ، أي : وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة ، وأمّا بناء على امتناع الواجب المعلّق تكون تلك المقدّمات واجبة بمقتضى قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

هذا كلّه فيما استقرّ عليه الوجوب بالاستطاعة ، أمّا لو لم يستطع ولم يجب بذلك ، فلا يجب تحصيل الاستطاعة ومقدّماتها وإن كان متمكّنا من ذلك ، بل له أن يخرج نفسه عن موضوع المستطيع ما لم يستقرّ الوجوب عليه بأن وهب أمواله قبل ذلك ، فإنّه لا يجب عليه أن يعمل عملا يصير الحجّ بسببه ذا ملاك ملزم ، كما لا يجب عليه عدم الخروج عن بلده والمسافرة إلى حدّ المسافة آخر شعبان حتى يجب عليه الصوم في رمضان ، بل له أن يسافر ويخرج نفسه عن موضوع الحاضر الّذي يجب عليه الصوم ، ويدخل في موضوع المسافر الّذي لا يجب عليه الصوم.

وأمّا القسم الثالث منها ، وهو ما كان القدرة المأخوذة فيه هي القدرة الخاصّة والقدرة في زمان الواجب ، وفي هذا القسم لا يجب تحصيل المقدّمات الوجوديّة ، كما في الطهارات الثلاث بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّ التمكّن منها شرط في زمان الواجب بحيث لا يجب عليه الوضوء مثلا قبل الوقت لم يعلم بأنّه لا يتمكّن منه بعد حضور الوقت ، بل لو كان متطهّرا ، له أن يجعل نفسه محدثا ، ولا يكون معاقبا بذلك.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ المقدّمات المفوّتة منها ما لا يجب تحصيله ، كما في القسم الرابع ، ومنها ما يجب ، كما في سائر الأقسام.

٤٢

وكيفيّة أخذ القدرة وأنّه على أيّ قسم من هذه الأقسام الأربعة تعلم من لسان الدليل ، فإنّه تارة لا تؤخذ فيه القدرة أصلا ، فمن ذلك يعلم أنّ الملاك تامّ بدونها أيضا ، والقدرة شرط عقلا ، وتارة تؤخذ ، فينظر إلى كيفية أخذها ، فإن أخذت مطلقة ، فهي بالنتيجة كالقدرة العقليّة ، إذ في كليهما يجب تحصيل المقدّمات الوجوديّة بمجرّد القدرة ولكنّها فارقت القدرة المطلقة الشرعية من جهة أخرى ، وهي أنّ الفعل قبل حصول القدرة ـ ولو في وقت ـ لا يكون له ملاك ملزم ، فلو عجز ولم يتمكّن منه ، لم تفت منه مصلحة ، وهذا بخلاف القدرة العقليّة ، إذ لا دخل لها في المصلحة ، فلو عجز يكون كالمريض الّذي لا بدّ أن يشرب الدواء لكنّه لا يقدر على شربه ، فتفوت منه المصلحة ولكن في وجوب حفظ القدرة وتحصيل مقدّمات الواجب ، كلاهما على حدّ سواء بعد حصول القدرة ولو وقتا ما.

وإن أخذت في زمان الوجوب ، فلا يجب تحصيلها قبل زمان الوجوب ، ويجب بعده.

وإن أخذت في زمان الواجب ، فلا يجب تحصيلها إلّا في ظرف الواجب.

ثمّ إنّ هذا الوجوب وإن كان بحكم العقل بمقتضى قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» إلّا أنّه يستكشف منه الحكم الشرعي ، كقصد التقرّب في العبادة.

نعم ، ليس له وجوب نفسي ، بل له وجوب تهيّئيّ لحصول الغرض ، ولذا لا يكون عند تركه عقاب إلّا لترك ذيها.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الواجبات الشرعية أكثرها من قبيل الأوّل

٤٣

والثاني ، ومنها التعلّم الّذي يعلم بترك الواجب في ظرفه عند تركه ، وأمّا ما من قبيل الأخيرين ففي غاية الندرة.

ثمّ إنّ هناك فرقا بين التعلّم وسائر المقدّمات المفوّتة ، فإنّ سائر المقدّمات كلّها يعلم أنّ الواجب يمتنع في ظرفه بالإخلال بها ، ولا يمكن تحصيل الغرض في ظرف العمل بالاحتياط ، وأمّا التعلّم فربما يعلم بإمكان الاحتياط وتحصيل الغرض في مقام الامتثال به ، وحينئذ لا وجه لوجوب التعلّم ، وربما يعلم بعدمه ولا إشكال في وجوبه بمقتضى تلك القاعدة ، وربما يشك في ذلك فيشكل جريان القاعدة فيه ، إذ القاعدة تختصّ بما إذا علم بفوت الملاك الملزم في ظرفه ، وأمّا عند الشكّ في ذلك فلا تجري ، فمن شكّ في ابتلائه بالشكّ في عدد الركعات لا يجب عليه تعلّم مسائل الشكّ قبل الصلاة ، فلا وجه لفتوى جماعة من الأصحاب بذلك. اللهم إلّا أن نلتزم بوجوبه النفسيّ ، كما نفينا البعد عنه سابقا.

وأمّا وجوب دفع الضرر المحتمل فمرفوع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ كما أنّ قاعدة القبح رافعة للتكاليف الشرعيّة كذلك رافعة للأحكام العقليّة ، فلا مانع من جريان البراءة.

تذنيب : يذكر فيه أمران :

الأوّل : أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل زمان الوجوب وقبل حصول شرط الوجوب يكون حقيقة أو مجازا؟ ولا يترتّب على ذلك أثر عملي.

فنقول : بناء على مسلك الشيخ وما نسب إليه في الواجب المشروط ، فلا شبهة في صحّة إطلاق الواجب عليه ، إذ الوجوب حاصل وإن كان ظرف

٤٤

الواجب متأخّرا أو يكون مقيّدا بقيد غير حاصل.

وأمّا على المسلك الصحيح فإطلاقه بحسب زمان حصول الشرط يكون على نحو الحقيقة ، إذ المدار في صحّة إطلاق المشتقّ وكونه حقيقة هو زمان الجري ، فالفعل بعد حصول الشرط يكون واجبا حقيقة ، فيصحّ بعد حصول الشرط أن يقال : هذا الفعل واجب الآن ، وقبله يصحّ أن يقال : سيكون واجبا ، وأمّا قبل حصول الشرط فصحّة إطلاقه وكونه على نحو الحقيقة مشكل ، بل يكون مجازا ، ولا شبهة فيه ، لأنّه من قبيل ما لم يتلبّس بعد بالمبدأ.

نعم ، يصحّ إطلاق المطلوب عليه على نحو الحقيقة ، وذلك لما مرّ في بحث الطلب والإرادة من أنّ الطلب ليس إلّا التصدّي نحو المطلوب ، والتصدّي يكون حاصلا في الواجب المشروط قبل حصول الشرط ، إذ الإنشاء يكون نحوا من التصدّي نحو المطلوب والفعل ، فيتّصف الفعل حقيقة بكونه مطلوبا.

الثاني : أنّه هل يكون استعمال الهيئة في الواجب المشروط حقيقة أو لا ، بل يكون مجازا؟

أمّا بناء على ما نسب إلى الشيخ ـ قدس‌سره ـ فلا شبهة في كونه حقيقة ، لأنّ المفروض أنّ الوجوب حاصل ، والواجب مقيّد ، فاستعمال الهيئة في الوجوب حقيقة قبل حصول الشرط.

وأمّا بناء على المسلك المشهور المنصور ، فالمسألة مبتنية على ما ذكروا في بحث المطلق والمقيّد من أنّ اللفظ إنّما وضع للطبيعة المطلقة ، والاستعمال في المقيّد يكون مجازا.

هذا هو المسلك المشهور قبل سلطان العلماء ولكن قد انقلب الأمر من زمانه إلى الآن ، وذهب جلّ العلماء ـ تبعا له ـ إلى أنّ اللفظ لم يوضع للطبيعة

٤٥

المطلقة ، بل كما لا يكون القيد داخلا في الموضوع له كذلك الإطلاق ، فالإطلاق والتقييد خارجان عن الموضوع له ، بل اللفظ قد وضع للماهيّة اللابشرط حتى من جهة الإطلاق. وبعبارة أخرى لفظ الرقبة إنّما وضع لتلك الماهيّة الخارج عن حقيقتها الإطلاق من جهة المؤمنة ، والتقيّد بها ، وكذلك لفظ الإنسان إنّما وضع للماهيّة الواجدة لذاتها وذاتيّاتها بحيث تكون الكتابة وعدمها بالقياس إليها على حدّ سواء ، وفي جميع الموارد إنّما يراد من اللفظ تلك الماهيّة ، والإطلاق والتقييد إنّما يفهمان من دالّ آخر ، فالإطلاق إنّما يستفاد من مقدّمات الحكمة ، والتقييد يستفاد من قرينة موجودة في الكلام.

نعم ، إذا لم تكن في المقام قرينة ولم يكن المتكلّم في مقام البيان ، تبقى الماهيّة على إجمالها.

إذا عرفت ذلك ، تعرف أنّ الهيئة إنّما وضعت للوجوب ، أي لإبراز الاعتبار النفسانيّ ، والإطلاق والتقييد خارجان عن حقيقة الموضوع له ، وكلّ منهما يعرف بدالّ آخر.

فظهر أنّ استعمال الهيئة في الواجب المشروط يكون بنحو الحقيقة على مذاق المشهور أيضا.

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز ، وهو برزخ بين المطلق والمشروط ، وهذا التقسيم ممّا أفاده صاحب الفصول حيث قسّم الواجب إلى المطلق والمشروط ، والمعلّق والمنجّز (١).

وحقيقة الواجب المعلّق هي أنّه إذا كان الواجب مقيّدا بأمر ، تارة يكون ذاك الأمر هو نفس الزمان أو الزمانيّ على نحو يكون للتقيّد بالزمان مدخليّة في

__________________

(١) الفصول : ٧٩.

٤٦

الواجب ، سواء كان بلا واسطة أو مع الواسطة ، والأوّل كالصوم المقيّد بالغد ، والثاني كالوقوف بالعرفات المقيّد بكونه في يوم عرفة ، وأخرى لا يكون كذلك ، كالاستطاعة والمجيء ، فإنّه وإن كان واقعا في الزمان إلّا أنّ الزمان لم يؤخذ قيدا له.

والواجب المعلّق ـ الّذي ذهب إليه صاحب الفصول ـ هو ما يكون الواجب مقيّدا بزمان أو زمانيّ ، فيقول : إنّ الوجوب قبل مجيء الزمان أو الزمانيّ يكون فعليّا وإن كان الواجب استقباليّا.

والوجه فيما ذهب إليه هو : تصوير ترشّح الوجوب من الأمر بذي المقدّمة إلى المقدّمة ، إذ لو كان الوجوب أيضا استقباليّا ، لما كانت المقدّمة واجبة ، وحيث نرى بالضرورة من الشرع أنّ بعض المقدّمات لبعض الواجبات واجب قبل مجيء وقت الواجب ، كالغسل في الليل بالنسبة إلى الصوم ، وكأخذ الرفقة ، وركوب الدابّة ، والمشي إلى الحجّ مع أنّ الواجب لا يكون إلّا يوم عرفة وما بعده ، وحيث إنّ الوجوب في هذه الأمور مسلّم وقد علم أنّ الوجوب فيها ليس نفسيّا بل يكون مقدّميّا فألجئ صاحب الفصول إلى القول بكون الوجوب فعليّا والواجب استقباليّا وسمّاه بالواجب المعلّق.

وقد أورد في الكفاية (١) على هذا التقسيم بأنّ الغرض يحصل بصرف فعليّة الوجوب لا به وبكون الواجب أيضا استقباليّا.

وبالجملة وجوب المقدّمات ، الداعي إلى هذا الأمر إنّما يحصل بالقول بكون الوجوب فعليّا ، ولا مدخليّة لاستقباليّة الواجب في هذا الأمر.

وصيرورة الوجوب وجعله في هذه الموارد فعليّا كما يمكن بالقول

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٨.

٤٧

بالواجب المعلّق ، يمكن بالقول بالشرط المتأخّر بأن يقال : إنّ القيد الّذي أرجعه صاحب الفصول إلى المادّة وصيّر الواجب استقباليّا يمكن جعله شرطا للوجوب ، فيقال : إنّ الوجوب للصوم مشروط بمجيء الغد بشرط متأخّر ، وقد حقّقنا في محلّه صحّة الشرط المتأخّر.

هذا ، والتحقيق أن يقال : إنّ الالتزام بالشرط المتأخّر ملازم مع القول بالواجب المعلّق ، والقول بالواجب المعلّق أيضا ملازم مع القول بالشرط المتأخّر ، فمن قال بالواجب لا بدّ له من الالتزام بالشرط المتأخّر ، ومن صحّح المقام بالشرط المتأخّر لا بدّ له من الالتزام بالواجب المعلّق.

أمّا الثاني : فلأنّ إرجاع القيد إلى الهيئة ، والالتزام بالشرط المتأخّر لا يدفع غائلة الواجب المعلّق ، إذ يسأل بعد ذلك عن أنّ وجوب الصوم ، المشروط بمجيء الغد بالشرط المتأخّر يكون فعليّا ، فهل الواجب أيضا فعليّ أو يتوقّف على مجيء الغد؟ لا يمكن المصير إلى الأوّل ، إذ لازم ذلك وجوب الصوم والإمساك من أوّل الليل ، فلا بدّ من القول بتقييده بالغد ، وهذا عين الواجب المعلّق ، إذ الوجوب فعليّ على الفرض مشروط بالشرط المتأخّر ، والواجب استقبالي مقيّد بمجيء الغد.

وأمّا الأوّل : فلأنّه يمكن أن يسأل القائل بالوجوب المعلّق عن أنّ القدرة والحياة والعقل هل تكون شروطا للتكليف أم لا؟ لا مجال للمصير إلى عدم الشرطيّة ، فإذا كانت شروطا له ، فهل تكون على نحو الشرط المقارن أو المتأخّر؟ لا سبيل إلى الأوّل ، إذ القدرة والحياة في الغد لا يمكن تقارنهما مع الوجوب الفعلي في الليل ، فلا بدّ من القول بأنّهما شرطان للوجوب متأخّران عنه ، فعلى صاحب الفصول ، القائل بالواجب المعلّق ، المنكر للشرط المتأخّر ،

٤٨

الالتزام به لا محالة.

ثمّ إنّه أورد على الواجب المعلّق أمور ثلاث :

الأوّل : ما حكي عن بعض أهل النّظر (١) ، وهو المعروف المشهور عن السيّد المحقّق السيد محمد الأصفهاني قدس‌سره.

وحاصله : أنّ الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة لا فرق بينهما إلّا في كون الأولى متعلّقة بفعل الغير ، والثانية بفعل نفس المريد ، فكما لا ينفكّ ولا يتخلّف المراد التكويني وتحريك العضلات عن زمان الإرادة التكوينية ويكون تخلّفه عنه من قبيل تخلّف المعلول عن علّته التامّة فكذلك المراد التشريعي وتحريك عضلات العبد نحو الفعل لا ينفكّ عن الإرادة التشريعيّة والبعث ، إذ بعث المولى وتحريكه وطلبه للفعل يكون بمنزلة إرادة العبد ، فالبعث نحو الأمر المتأخّر غير معقول ، كما أنّ تعلّق الإرادة بالأمر المتأخّر كذلك.

وأجاب عنه في الكفاية (٢) بأنّه لا شبهة في تعلّق الإرادة بأمر استقبالي ، لوضوح أنّ تحمّل المشاقّ عند إرادة ما يتوقّف على مقدّمات كثيرة لا يكون إلّا لفعليّة الإرادة المتعلّقة بذيها ، وإلّا ففي تلك المقدّمات لا شوق إليها ، بل قد تكون في كمال الكراهية ، لو لم تكن بلحاظ المقدّمية.

وبالجملة ليس القصور في الإرادة ، وإنّما المراد قاصر في أن يتحقّق في الخارج عاجلا.

هذا ، والتحقيق أنّ مجرد هذا لا يندفع به الإشكال ، وذلك لأنّه لو قلنا

__________________

(١) كما في الكفاية : ١٢٨ ، وهو المحقّق النهاوندي صاحب تشريح الأصول على ما صرّح به المشكيني في حاشيته على الكفاية ١ : ٥١١ الطبعة المحقّقة.

(٢) كفاية الأصول : ١٢٨.

٤٩

بكون الإرادة علّة للفعل الخارجي ـ كما عليه صاحب الكفاية قدس‌سره ، وجميع الحكماء ـ فلا مدفع لهذا الإشكال ، إذ ليس هذا إلّا عين تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

نعم ، لو قلنا بأنّ الإرادة فعلا غير موجودة ، والموجود ليس إلّا الشوق إلى فعل المقدّمات ، وبعد إتيان المقدّمات تتجدّد الإرادة ، فيمكن ، لكنّه عين إنكار الواجب المعلّق ، إذ المفروض فيه أنّ الوجوب فعليّ والإرادة موجودة.

هذا ، مع أنّه لا شبهة في أنّ إتيان المقدّمات إنّما هو الإرادة ذيها.

والحاصل : أنّه بعد فرض علّيّة الإرادة للفعل وأنّه كالصفرة للوجل لا يمكن انفكاك الفعل عن الإرادة ، وعند الانفكاك يعلم عدم العلّيّة ، فلا يكون الوجوب فعليّا.

هذا ، ولكنّه قد سبق في بحث الطلب والإرادة فساد المبنى ، وأنّ كون الأفعال معلولة للإرادة أمر غير واقع بالوجدان والضرورة ، بل الإرادة بالمعنى المعروف ـ الّذي هو الشوق مطلقا ، أو المؤكّد منه ـ هي صفة نفسانيّة لا علّيّة لها ولا مقدّميّة لها بالنسبة إلى الأفعال الخارجيّة ، بل لها شأنيّة لتحريك العضلات ، ولا فعليّة لها لذلك.

وقد تقدّم الكلام في بطلان كون الإرادة بالمعنى المعروف علّة للأفعال الخارجية مستوفى ، فلا إشكال من هذه الجهة في الواجب المعلّق ، إذ هذا الإشكال يبتني على علّيّة الإرادة للفعل الخارجي ، وقد عرفت بطلانها.

الثاني : ما أفاده شيخنا الأستاذ (١) المنكر للشرط المتأخّر من أنّ القول باستقبالية الواجب وفعليّة الوجوب مستلزم للقول بالشرط المتأخّر ، إذ لو قلنا

__________________

(١) أجود التقريرات : ١٤٣ ـ ١٤٤.

٥٠

بأنّ الوجوب فعليّ ، فلا بدّ من القول بكونه مشروطا بالقدرة والحياة والعقل وغيرها من الشرائط العامّة التي هي شرائط حين العمل ومتأخّرة عن الوجوب. والشرط المتأخّر مستحيل ، فما هو مستلزم لذلك أيضا مستحيل ، كما هو واضح.

وهذا الإشكال وارد [بناء] على القول باستحالة الشرط المتأخّر ، ولكنّا حيث صحّحناه وأثبتنا إمكانه ، فلا يرد علينا إشكال من هذه الجهة.

الثالث : ما أفاده أيضا شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ، وهي العويصة في المقام.

وحاصله : أنّ القيود الدخيلة في الواجب على قسمين لا ثالث لهما ، أحدهما : أن تؤخذ مفروضة الوجود ، فيلزم تأخير الحكم عنه ، وهذا هو الواجب المشروط. والآخر : أن تؤخذ في حيّز الخطاب ومتعلّق التكليف بحيث تكون هي أيضا تحت الخطاب ومتعلّقة للتكليف.

وعلى الثاني إمّا أن يكون القيد اختياريّا ، فهو الواجب المطلق والمنجّز ، أو يكون غير اختياريّ كالزمان ، فلا يعقل تعلّق الخطاب بالمقيّد به ، إذ المقيّد بأمر غير اختياري غير اختياري أيضا فكما لا يمكن توجّه التكليف بالأمر غير الاختياري كذلك لا يمكن بالمقيّد بذلك.

وحينئذ لو أخذ الزمان المتأخّر أو الزمانيّ كذلك مفروض الوجود ، فهو خلاف الفرض ، إذ الوجوب يكون مشروطا على ذلك ، ولو أخذ الزمانيّ لا كذلك بل في حيّز الخطاب وتحت التكليف ، فهو أيضا خلاف الفرض ، إذ يكون الوجوب على ذلك مطلقا ومنجّزا لا معلّقا. ولو أخذ الزمان في حيّز الخطاب ومتعلّق التكليف ، فهو وإن كان من المقام ومن الواجب المعلّق إلّا أنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٦ ـ ١٤١.

٥١

مستحيل ، كما عرفت.

ثمّ إنّ كون الصوم في الغد ، أو الصلاة عند الدلوك غير اختياريّ ـ لتقيّده بأمر غير اختياري ـ لا يحتاج إلى البيان.

ولا يدفع هذا الإشكال ما في الكفاية من أنّ القدرة في زمان الواجب كافية في تعلّق التكليف الفعلي به (١) ، لوضوح أنّه بعد حلول الوقت إنّما تكون القدرة على ذات المأمور به لا على قيده.

وبالجملة إنّما يقال : القدرة في زمان الواجب كافية لو قدر على ما كان عاجزا عنه قبلا ، وفي المقام ليس كذلك ، إذ ما كان عاجزا عنه قبلا يكون حين الوقت أيضا عاجزا عنه ، إذ لا يقدر على الصلاة المقيّدة بالدلوك حتى بعد تحقّق الدلوك ، وإنّما يقدر على ذات الصلاة ، فلا يكفي هذا لصحّة التكليف الفعلي ، كما هو واضح.

هذا ، ولكن أصل الشبهة أشبه شيء بالمغالطة ، وذلك لأنّا ننقل الكلام إلى الواجب المشروط بشرط خارج عن تحت الاختيار ، ونقول : إنّه حيث إنّ الوجوب فيه مشروط بالوقت ، فلو حلّ الوقت وطلع الفجر أو دلكت الشمس مثلا ، فهل يكون الصوم والصلاة واجبة مطلقا أو مقيّدة بذاك المبدأ والمنتهى؟ أي : من دلوك الشمس إلى غسق الليل في الثاني ، ومن طلوع الفجر إلى الليل في الأوّل ، فإن كان الواجب مطلقا وليس مقيّدا بشيء ، فلازمه جواز تأخير الصلاة إلى الليل وجواز تأخير الصوم إلى الليل ، إذ ما هو موجود شرط للوجوب وقد تحقّق ، وليس قيدا للواجب حتى يلزم إتيانه ، وذلك لأنّ تقيّد الواجب به يكون تكليفا بما لا يطاق.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٠.

٥٢

وبالجملة ما هو المحذور في الواجب المعلّق بعينه موجود في الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه ، وهو التكليف بالمقيّد بأمر غير اختياريّ.

وحلّ القضيّة : أنّ هناك شقّا ثالثا ، وهو تعلّق الطلب فعلا بالتقيّد بشيء أخذ مفروض الوجود على نحو الشرط المتأخّر.

وبعبارة أخرى : نفس الزمان حيث إنّه غير اختياري لا يكون متعلّقا للطلب ، بل تقيّد الفعل به وإضافته إليه متعلّق للتكليف ، وهو أمر مقدور للمكلّف ، وما هو غير مقدور هو أحد طرفي التقييد والإضافة ، ولا يضرّ بمقدوريّة أصل الإضافة والتقييد ، كما أنّ الطهارة بالماء والصلاة إلى القبلة كذلك.

وهكذا الصلاة في المسجد عندئذ إيقاع الصلاة فيه ، فيكون الواجب وما هو تحت التكليف تقيّد الصلاة بكونها واقعة في المسجد أو إلى القبلة ، وتقيّد الطهارة بكونها بالماء ، وأمّا نفس القيد فهو خارج عن دائرة التكليف ، فحينئذ لا إشكال في تعلّق الوجوب فعلا إلى الصلاة أو الصوم المضاف إلى وقت حاصل بعدا ، كما أنّ في الواجب المشروط أيضا كذلك ، لما عرفت من أنّ متعلّق الطلب هو تقيّد الفعل بالوقت ، وإضافته إليه ، لا نفس الوقت قبل حصول القيد وحلول الوقت أو بعده ، فالأوّل هو الواجب التعليقي ، والثاني هو الواجب المشروط.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ فعلية الوجوب واستقبالية الواجب لا تنافي مع كون القيد المأخوذ في الواجب مفروض الوجود.

بقيت شبهتان أخريان في تصوير الواجب المعلّق :

٥٣

الأولى : ما أفاده شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ أيضا من أنّه بعد تصوير الواجب المعلّق وإمكانه فلا وجه لاختصاصه بالزمان ، بل يعمّ غيره من القيود غير المقدورة ، إذ الإشكال في الواجب المعلّق منحصر في القضايا الحقيقيّة ، وأمّا الخارجيّة منها فلا إشكال فيه ، كما إذا قيل : «يجب عليك فعلا الصلاة غدا» وفي القضايا الحقيقية حيث إنّ فعليّة الحكم فيها متوقّفة على كلّ قيد أخذ في الموضوع مفروض الوجود ، فلا بدّ من تأخّر الحكم عن جميع القيود ، وحينئذ لا فرق بين الزمان وغيره ، إذ المدار في تأخّر الحكم عن موضوعه ، وعدمه هو أخذ الموضوع مفروض الوجود ، وعدمه ، فإمّا لا يؤخذ الزمان وغيره مفروض الوجود ، فلا بدّ من تعلّق الطلب به فعلا ، أو يؤخذ كذلك ، فلا بدّ من تأخّر الطلب عن وجوده بلا فرق بين الزمان وغيره.

أقول : أمّا الفرق بين الزمان وبين البلوغ والعقل وأمثالهما أنّ القيود إذا كانت دخيلة في اتّصاف الفعل بالمصلحة كالبلوغ والعقل ، لا يمكن فعليّة الحكم قبلها ، بخلاف ما كان دخيلا في وجود المصلحة ، كالزمان.

وأمّا الفرق بين سائر القيود الاختيارية وبين الزمان فلا يعلم إلّا من لسان الدليل ، ففي مثل : «إذا تزوّجت فأنفق» يعلم بداهة أنّ الموضوع وما رتّب عليه الحكم هو التزويج ، فلا يمكن أن يصير الحكم فعليّا قبله.

وكذا في مثل «صم للرؤية وأفطر للرؤية» وقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(٢) يعلم أنّ الرؤية موضوع لحكم وجوب الصوم ، وهذا بخلاف الزمان وطلوع الفجر للصوم ، فإنّه لم يترتّب حكم وجوب الصوم عليه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٢.

(٢) البقرة : ١٨٥.

٥٤

في دليل.

الثانية : ما عن بعض (١) مشايخنا العظام من أنّه لا شبهة في أنّ المولى لا بدّ له من غرض في طلبه ، وهو جعل الباعثيّة والمحرّكيّة للعبد ، وأن يجعل ما يمكن أن يكون باعثا ، ومن الواضح أنّ جعل ما يمكن أن يكون باعثا إنّما يعقل في مورد يمكن صيرورة العبد منبعثا ، إذ البعث والانبعاث من قبيل الكسر والانكسار ، فلو استحال انبعاث العبد ، يستحيل بعث المولى ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ الانبعاث والتحرّك فعلا نحو الفعل المتأخّر مستحيل ، لأنّ الفعل مقيّد بزمان متأخّر لا يمكن إيجاده الآن ، فالبعث أيضا تابع للانبعاث في ذلك ، فلا يمكن تعلّق الوجوب الفعلي بالأمر المتأخّر ، إذ الوجوب لا يستفاد إلّا من بعث المولى وطلبه وأمره.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه لا يمكن على ذلك ، البعث نحو الصلاة ولو بعد حضور وقت الصلاة لمن لا يتمكّن فعلا ، لكونه جنبا أو غير ذلك ، لأنّ البعث الفعلي لا يمكن مع عدم إمكان الانبعاث فعلا على الفرض.

وبعبارة أخرى : أنّ هذا منقوض بالواجبات المطلقة المحتاجة إلى المقدّمات أيضا ، كصلاة الظهر ، فإنّها أوّل الظهر إمّا تجب أولا ، لا سبيل إلى الثاني ، وإلّا لم يجب تحصيل مقدّماتها ، فلا محالة تكون واجبة ، وحينئذ ربما لا تكون المقدّمات حاصلة ، فلا يمكن الإتيان بها في أوّل الوقت والانبعاث ببعثها فيه ، مع أنّها واجبة قطعا ، فالوجوب فعليّ والواجب متأخّر.

وأجاب عنه ـ قدس‌سره ـ بأنّه إنّما امتنع هذا الانبعاث لعارض والكلام في الامتناع الذاتي له ، ومن الواضح أنّه يمكن إتيان الصلاة في أوّل الوقت لمن

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٧٦ ـ ٧٧.

٥٥

حصل له المقدّمات ، وهذا بخلاف ما التزموا في الواجب التعليقي ، فإنّه لا يمكن إتيان الفعل في زمان فعليّة الوجوب بوجه من الوجوه ، ومستحيل ذاتا.

وبالجملة ، المراد ممّا سبق أنّ البعث لا بدّ أن يكون نحو ما يمكن أن يكون باعثا ذاتا ، وعدم المعلول لعدم علّته لا ينافي الإمكان الذاتي. هذا خلاصة كلامه.

وفيه أوّلا : أنّ النقض منقوض بالأمر بالطيران في الهواء ، فإنّه ممكن ذاتا وإن كان محالا فعلا ، مع أنّه لا نظنّ أن يلتزم به ، فالمعيار هو الإمكان بالنسبة إلى هذا الشخص ، وأنّه لا بدّ أن يكون إمكان البعث والدعوة ممكنا بالنسبة إلى هذا الشخص المبعوث ، لا فيما يمكن ذاتا ولو استحال بالنسبة إليه ، وإلّا فيكون الأمر بما [يكون] في العادة مستحيلا وممكنا بحسب ذاته غير مستهجن.

وثانيا : أنّ أصل الدعوى ممنوع ، فإنّه قد يكون البعث بمعنى التحريك الخارجي ، فلا شبهة في أنّه إنّما يكون في مورد يمكن الانبعاث ، لأنّه من قبيل الكسر والانكسار ، لكنّه إنّما هو في ظرف الامتثال والإتيان الخارجي ، والكلام فعلا في الإنشاء ، وقد سبق منّا أنّ الإنشاء ليس إلّا إظهار الشوق واللّابدّيّة ، وبعد الإنشاء ينتزع عن المنشئ والمنشأ والموضوع أمور ، كالطالبيّة والمطلوبيّة والمطلوب منهيّة ، وهكذا الباعثيّة والمبعوثيّة والمبعوث إليهيّة ، وليس هذا إلّا بعثا اعتباريّا قبال التحريك الخارجي ، كاعتباريّة الوجوب والإلزام والتكليف المنتزع عن هذا الإنشاء أيضا ، ومن البديهي أنّ مثل هذا البعث والتحريك لا يستتبع الانبعاث الخارجي والتحرّك كذلك.

وبعبارة أخرى : المولى متى اشتاق إلى صدور فعل من عبده عن اختيار منه ، يطلبه منه ، وطلبه منه ليس بأن يوجد الفعل بنفسه ، وإلّا لم يكن فعل

٥٦

العبد ، ولا بإجبار العبد وإلجائه ، وإلّا لم يكن فعلا اختياريّا له ، والمفروض أنّه يشتاق إلى فعله الاختياري ، بل طلبه إظهاره له بأنّه يشتاق إلى هذا الفعل لما يرى أنّ العبد لا يأتي به لو لا ذلك ، لأنّه لا يرى في الفعل المصلحة التي يراها فيه ، فهذا الطلب صدر من المولى لغرض أن يكون داعيا للعبد ، وباعتبار أن يكون باعثا إيّاه إلى المطلوب منه فهو بعث اعتباري لا حقيقي ، ولو كان بعثا حقيقيّا خارجيّا ، لكان مستلزما للانبعاث وتابعا له في الإمكان والاستحالة ، فإنّهما متّحدان خارجا متغايران اعتبارا ، كالكسر والانكسار.

فإذا كان البعث بعثا اعتباريّا لا حقيقيّا ، فلا ينافي استحالة الانبعاث الخارجي الحقيقي ، بل ينافي استحالة الانبعاث الاعتباري ، ومن البديهي أنّ الانبعاث الاعتباري غير مستحيل بل واقع قطعا ، فإذا بعث المولى اعتبارا ، فالعبد منبعث اعتبارا يقينا ، وينتزع عن هذا البعث عناوين كثيرة ، فالمولى يتّصف بأنّه باعث ، وطالب ، وآمر ، ومحرّك اعتبارا ، والعبد يتّصف بأنّه مبعوث ، ومأمور ، ومطلوب منه ، ومنبعث ، ومتحرّك اعتبارا أيضا ، والفعل يتّصف بأنّه مبعوث إليه ، ومأمور به ، ومطلوب ، ومحرّك [إليه] وإذا تحقّق أحد هذه العناوين ، يستلزم تحقّق جميعها ، فإنّها من المتضايفات ، كما أنّه في البعث الحقيقي أيضا كذلك ، ولا يعقل تحقّق أحد هذه العناوين حقيقة بدون تحقّق ما بقيها (١).

وبالجملة حيث إن الوجوب ليس من قبيل البعث الخارجي ، بل هو بعث اعتباريّ وطلب لغرض الداعويّة وباعتبار الباعثيّة فلا إشكال في فعليّته وتأخّر الواجب عنه ، ولا محذور فيه إلّا محذور اللغويّة ، المفقود في المقام.

__________________

(١) أي : ما بقي منها.

٥٧

إن قلت : ما فائدة هذا البعث الاعتباري قبل زمان الواجب مع أنّ العبد لا يمكنه الإتيان به قبله؟ وما يخرجه عن اللغويّة مع ذلك؟

قلت : يكفي في ذلك أن يكون البعث لتهيئة المقدّمات وتوطين النّفس لإتيان الواجب في ذلك الظرف ، الّذي هو مرتبة من الانقياد.

هذا كلّه في إمكان الوجوب التعليقي ، وأمّا الكلام في وقوعه فهو أنّ الواجب ـ بحسب البرهان ـ الالتزام بالواجب التعليقي في جملة من الموارد ، ولا يمكن الفرار عنه ، وذلك في الواجبات المركّبة التدريجية ، فإنّه لا ريب في تعلّق الوجوب الواحد الفعلي بالضرورة بالواجبات التدريجيّة ، كالصلاة والصوم وغير ذلك ، مع أنّ الإمساك في الساعة الحادية عشرة أو الإتيان بالسلام متأخّر عن الإمساك في أوّل الفجر أو الإتيان بالتكبيرة ، ولا يمكن الامتثال في زمان الوجوب ، ففي الواجبات الضمنية كلّها عدا الجزء الأوّل منها يكون وجوبها فعليّا ، والواجب استقباليّا لا يمكن الامتثال في زمان الوجوب ، بل يكون معلّقا على مضيّ زمان الإتيان بسابقه ، فإذا كانت القدرة في ظرف العمل والامتثال كافية في الواجبات الضمنيّة ، فيكون في الواجبات الاستقلالية أيضا كذلك ، إذ العقل لا يفرّق بينهما من حيث الإمكان والاستحالة ، وهو واضح جدّاً.

وأجاب عن هذا الاستدلال بعض (١) الأكابر : بأنّ الامتثال كما أنّه تدريجيّ يحصل آناً فآنا في الصوم والصلاة وأمثال ذلك كذلك الوجوب تكون فعليته تدريجيّة ، فالوجوب المتعلّق بالجزء الأخير لا يصير فعليّا إلّا بعد تحقّق شرطه ، وهو إتيان سائر الأجزاء واستمرار الحياة إلى ذلك الزمان.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٦.

٥٨

أقول : هذا الجواب غير تامّ نقضا وحلّا.

أمّا نقضا : فلأنّ لازمه الالتزام بالوجوبات غير المتناهية ، أو الالتزام بالجزء اللّايتجزّأ ، وكلاهما باطلان.

بيان ذلك : أنّ هذا لا يختصّ بما يسمّى اصطلاحا جزءا ، كالقراءة والركوع والسجود حتى يقال : إنّ وجوب الركوع ليس فعليّا قبل الإتيان بالقراءة واستمرار الحياة ، ولكن وجوب القراءة فعليّ بعد الإتيان بالتكبيرة ، بل ننقل الكلام في آيات القراءة وكلماتها وحروفها ونقول : إنّ للوجوب المتعلّق بتلفّظ ألف التكبيرة مشروط باستمرار الحياة في زمان التلفّظ بها بتمامها ، ففي آن التلفّظ بالألف ، القابل للانقسامات غير المتناهية ـ لبطلان الجزء الّذي لا يتجزّأ ـ تكون وجوبات غير متناهية حسب الانقسامات غير المتناهية كلّ واحد منها مشروط بوجود القسم السابق.

وأمّا حلّه : فبأنّ عنوان الصلاة ، المنطبق على جميع الأجزاء إمّا أن يكون هو متعلّق التكليف ويجب أن يكون إتيانه بداعي أمره أولا ، فإن لم يكن العنوان متعلّقا للتكليف ، فلازمه صحّة الصلاة فيما إذا أتى بالتكبيرة فقط بقصد أمره ثم بدا له أن يلحق بها سائر الأجزاء كلّا بقصد أمره ، إذ المفروض أنّه قبل التكبيرة لا وجوب لسائر الأجزاء حتى يقصدها بتمامها ، وهذا باطل بالضرورة.

وإن كان العنوان متعلّقا للتكليف ويجب قصد هذا العنوان المنطبق على مجموع الأجزاء حين الدخول في الصلاة ، فلا مناص من الالتزام بالوجوب التعليقي وأنّ وجوب سائر الأجزاء فعليّ ، فاتّضح أنّ الوجوب التعليقي غير مستحيل ، بل واقع في الشريعة قطعا.

بقي أمران :

٥٩

الأوّل : أنّه اعترض في الكفاية (١) على صاحب الفصول : بأنّه لا وجه لتخصيص الواجب المعلّق بما يتوقّف وجوده على زمان متأخّر الّذي هو غير مقدور ، بل ينبغي تعميمه إلى ما يتوقّف وجوده على أمر مقدور متأخّر ، كان موردا للتكليف وواجب التحصيل ، كالطهارة بالقياس إلى الصلاة ، أو لم يكن موردا للتكليف ، كالتزويج بالقياس إلى وجوب الإنفاق لو فرض فعليّة وجوب الإنفاق قبل التزويج ، فإنّ إتيان الصلاة المأمور بها أوّل الوقت غير مقدور له ، لاحتياجه إلى صرف مقدار من الزمان في تحصيل الطهارة ، ففي هذا المقدار من الزمان الّذي يحصّل الطهارة ، الوجوب فعلي ، متعلّق بالصلاة الواجب امتثالها بعد تحصيل الطهارة وهكذا وجوب الإنفاق فعليّ تعلّق بمن يتزوّج فيما بعد.

أقول : الحقّ أنّه لا وجه للتعميم ، إذ الأمر المقدور المورد للتكليف حيث إنّه لا نزاع فيه ولا إشكال في وجوب تحصيله لا موجب لذكره في المقام ، إذ الغرض من الالتزام بالوجوب التعليقي الالتزام بوجوب مقدّمات الواجب قبل وقت الامتثال ، وهذا لا يجري فيما هو واجب التحصيل قطعا ، سواء كان الوجوب تعليقيّا أو منجّزا.

وأمّا الأمر المقدور غير المتعلّق للتكليف فإن كان من القيود التي لها دخل في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، فلا بدّ من وجود الوجوب بعد تحقّقه و [كونه] مشروطا بوجوده ، وهذا عين الواجب المشروط ، وإن كان ممّا له دخل في وجود المصلحة فلم لا يكون واجب التحصيل مع أنّه دخيل في وجود المصلحة؟ فالأمر المقدور لا يتصوّر أن يكون غير واجب التحصيل ، ومع ذلك يكون الوجوب فعليّا متعلّقا بالمتأخّر زمانا ، فالأولى ما أفاده صاحب الفصول ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٠.

٦٠