الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

ذكره شيخنا الأستاذ (١) من أنّ استحالة التقييد مستلزمة لاستحالة الإطلاق ، لما بينهما من تقابل العدم والملكة ، لأنّا ذكرنا في بحث التعبّدي والتوصّلي أنّ لازمه استحالة العلم له تعالى لاستحالة الجهل في حقّه ، واستحالة الغناء في حقّه لاستحالة الفقر له تعالى ، وذكرنا أنّ استحالة التقييد تستلزم ضروريّة الإطلاق أو التقييد بالطرف المقابل إن كان ممكنا ، بل لأنّ الإطلاق حينئذ لا يكشف عن المنكشف وأنّ غرضه تعلّق بالمطلق ، إذ من المحتمل أنّ الإطلاق نشأ من استحالة التقييد مع أنّ الغرض في الواقع تعلّق بالمقيّد.

هذا كلّه على القول باستحالة أخذ الانقسامات اللاحقة في متعلّق التكليف ، وأمّا على ما هو المختار من جوازه ـ كما حقّقناه مفصّلا في بحث التعبّدي والتوصّليّ ـ فليس لنا حاجة إلى هذه المقدّمة أصلا.

الثانية منها : كون المولى في مقام بيان تمام مراده وجميع ما له دخل في غرضه لا في مقام الإهمال والإجمال ، كقول الطبيب للمريض : «لا بدّ لك من شرب الدواء».

والحقّ أنّ المراد من البيان في المقام هو البيان في قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو ما يكون عن جدّ ، خلافا لصاحب الكفاية (٢) حيث التزم بأنّ البيان في المقام هو مجرّد إظهار تمام مراده ولو لم يكن عن جدّ ، بل كان قاعدة وقانونا ، نظرا إلى أنّ البيان الجدّي والواقعي ـ كما في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ ينافي التقييد من جهة أنّ المقيّد يكشف عن عدم كون المولى في مقام البيان ، فينثلم به الإطلاق ، ولا يمكن التمسّك به بعد ذلك أصلا.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٢٠.

(٢) كفاية الأصول : ٢٨٨.

٤٠١

أقول : قد تقدّم منّا في بحث العامّ والخاصّ أنّه إذا كان للكلام ظهور من جهات وعلمنا بواسطة دليل خارجيّ بخلاف الظاهر من إحدى الجهات ، لا يجوز رفع اليد من ظهوره من سائر الجهات.

مثلا : العالم في «أكرم العالم» بعد ما ظهر بقرينة الحكمة فيمن يتّصف بصفة العلم، سواء كان عادلا أو فاسقا ، وسواء كان هاشميّا أو غيره ، عربيّا أو غيره وهكذا ، فإذا ورد «لا تكرم الفاسق من العلماء» ورفعنا اليد عن ظهوره في التسوية بين الفاسق والعادل بواسطته ، فلا وجه لرفع اليد عن ظهوره في بقيّة السواءات والانقسامات ، وذكرنا هناك أنّ إلقاء الكلام إظهارا لتمام مراده ضربا للقاعدة ليكون ميزانا في ظرف الشكّ لا معنى له ، ولا بدّ من كون المراد الجدّي والواقعي مطابقا لمقام الإظهار والإفهام ، وإلّا لأخلّ بغرضه.

ثمّ لو علمنا بأنّه في مقام البيان ، لا كلام في التمسّك بالإطلاق ، كما إذا أحرز أنّه ليس في مقام البيان ، لا إشكال في عدم جوازه ، إنّما الإشكال فيما شكّ في ذلك.

والظاهر أنّه لا كلام أيضا في جواز التمسّك في هذه الصورة ، وإنّما الكلام في وجه ذلك ، مع أنّ التمسّك بالإطلاق يحتاج إلى جريان مقدّمات الحكمة ، والمفروض أنّ إحداها مشكوكة ، فربما يقال : إنّ الوجه في ذلك أنّ المقيّد حيث إنّه حصّة من المطلق مشتمل عليه لا محالة ويوجد في ضمنه ، فإذا أمر المولى بعتق الرقبة ولم يقيّده بالمؤمنة ، فيدور الأمر بين كون الرقبة واجبا مستقلّا أو واجبا ضمنيّا ، فإنّ غرضه في الواقع إمّا تعلّق بالمقيّد ، فيكون المطلق واجبا ضمنيّا ، وإمّا تعلّق بالمطلق ، فهو واجب مستقلّ ، ولا ريب في ظهور الوجوب في الاستقلالي لا الضمني.

٤٠٢

وفيه : أنّ منشأ الظهور إمّا الوضع أو القرينة ، والمفروض أنّ اللفظ لم يوضع للمطلق ، وليست القرينة في البين إلّا الحكمة التي إحدى مقدّماتها مشكوكة ، فمن أين يكون الظهور؟ وبعبارة أخرى : إنّا نقطع بأنّ الموضوع له اللفظ ـ الّذي هو الطبيعة المهملة ـ لم يكن متعلّقا للحكم ، لما مرّ مرارا من أنّ الإهمال في الواقعيّات غير معقول ، ونقطع بأنّه إمّا لوحظ فيه الإطلاق والسريان أو لوحظ فيه التقييد ، فبأيّ مرجّح يرجّح لحاظ الإطلاق على التقييد.

وقيل وجه ثان له ، وهو : بناء العقلاء في الاحتجاجات والأقارير على الأخذ بالإطلاق ما لم ينصب المتكلّم قرينة على أنّه لا يكون في مقام البيان.

أقول : لا ريب في وجود هذه السيرة العقلائية ، لكنّها هل هي سيرة تعبّديّة بلا بيّنة ولا برهان ، أم ليس الأمر كذلك؟ الظاهر أنّه ليس من باب التعبّد المحض ، بل وجه بنائهم عليه هو : أنّ الإنسان حيث إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ علّمه البيان لإظهار مراداته الواقعيّة بما يكون كاشفا عنها من الألفاظ ولا طريق له إلى ذلك غالبا إلّا هو ، فهو ملتزم بمقتضى تعهّده أنّه متى أتى بلفظ أراد معناه ، وأيضا له التزام آخر ، وهو : جعل الكواشف مطابقة لمراداته الواقعيّة سعة وضيقا ، وهذا هو معنى تبعيّة مقام الثبوت للإثبات ، فعلى هذا ليس للمتكلّم أن يأتي بلفظ مطلق مع أنّه أراد في الواقع المقيّد ، لأنّه خلاف مقتضى تعهّده إلّا إذا نصب قرينة على أنّه لا يكون في مقام البيان ، فالمولى إذا لم ينصب قرينة على ذلك ، يؤخذ بظاهر كلامه ، ويحكم بأنّ مقام الثبوت أيضا موسّع لا تضيّق فيه تبعا لمقام الإثبات الّذي لم يكن فيه تضيّق.

وبعبارة أخرى : حيث إنّ الإطلاق رفض القيود بتمامها وعدم أخذ شيء منها ، بخلاف التقييد ، فالمولى لو تعلّق غرضه بالمقيّد ، فعليه التقييد والأخذ ،

٤٠٣

ولو تعلّق غرضه بالمطلق فليس عليه إلّا عدم أخذ شيء في متعلّق حكمه ، ورفض كلّ قيد يفرض فيه ، فإذا فعل ذلك ، لم يخلّ ببيانه ، وبيّن تمام مراده ، فإنّه ـ كما عرفت ـ ليس في البين إلّا احتمال التقييد ، واحتمال لحاظ بقيّة الاعتبارات خارج عن حريم المعنى ، وبعد ما كان إرادة التقييد محتاجا إلى أخذ القيد في المتعلّق بمقتضى الالتزام الثاني وتبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت يتعيّن الإطلاق بلا شبهة. وهذا واضح لا سترة عليه.

المقدّمة الثالثة : عدم وجود قرينة على التعيين أو ما يحتمل قرينيّته عليه. وبعد تماميّة هذه المقدّمات يتمسّك بالإطلاق فيما إذا شكّ في دخل قيد في متعلّق التكليف.

مثلا : إذا شككنا في صحّة البيع الفارسي وعدمها ، نتمسّك بإطلاق قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) وتماميّة المقدّمات ، فإنّ البيع حيث إنّه قبل تعلّق الحكم به ينقسم إلى قسمين : الفارسي ، والعربي ، فالحكم وارد على المقسم ، والسيرة العقلائية تقتضي أن تكون الكواشف على طبق المرادات الواقعيّة سعة وضيقا ما لم ينصب المتكلّم قرينة على أنّه لم يكن في مقام البيان ، والمفروض أنّه لم يأت بما يدلّ على أنّه لم يكن في مقام البيان ، وهكذا لم ينصب قرينة على أنّ غرضه تعلّق بالبيع العربي ، فنحكم بتبعيّة مقام الثبوت لمقام الإثبات ، وأنّ البيع مطلقا ـ سواء كان بالعربي أو الفارسي ـ محكوم بحكم الحلّيّة.

بقي أمران :

الأوّل : أنّ من جملة ما يكون قرينة على التعيين الانصراف ، وهو على أقسام :

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٤٠٤

الأوّل : أن يكون بدويّا زائلا بأدنى تأمّل كما في لفظ «الإنسان» فإنّه حيث إنّ الغالب فيه أن يكون ذا رأس واحد ويدين ورجلين ، فالعرف من جهة هذه الغلبة يرى ابتداء وبالنظرة الأولى من كان ذا رأسين أو ذا أربعة أرجل مثلا خارجا عن حقيقة الإنسان ، لكنّه بعد أدنى تأمّل وأقلّ تفكّر يحكم بأنّه أيضا إنسان حقيقة ، فلو كان الإنسان في رواية ودليل محكوما بحكم ، لا يعتنى بمثل هذا الانصراف ويتمسّك بالإطلاق ، ويثبت الحكم لجميع الأفراد حتى من كان ذا رأسين.

القسم الثاني : ما يكون موجبا لظهور اللفظ في غير المنصرف عنه ، كما في لفظ «الحيوان» فإنّه بحسب معناه اللغوي صادق على كلّ ما يكون واجدا للحياة حتى الإنسان ، ولكنّ العرف يرى الإنسان مع أنّه واجد للحياة ومشترك مع سائر الحيوانات في كونه مادّيّا وذا روح بخاريّ خارجا عن حقيقة الحيوان بحيث لو خوطب أحد بهذا اللفظ ليتأذّى منه ، ومن هنا أفتى الفقهاء بجواز الصلاة في شعر الإنسان سواء كان من المصلّي أو من غيره ، كما إذا تزيّنت امرأة بشعر امرأة أخرى مع ورود الروايات الدالّة على عدم جواز الصلاة في شعر حيوان لا يؤكل لحمه ، ووبره بألسنتها المختلفة ، وليس ذلك إلّا من جهة انصراف لفظ «الحيوان» وظهوره عرفا في غير الإنسان ، ومثل هذا الانصراف لا ريب في كونه قرينة على التعيين ، كالقرينة اللفظيّة ، فمعه لا يمكن التمسّك بالإطلاق.

القسم الثالث : ما يكون وسطا بينهما لا بنحو يكون زائلا بالتأمّل كالأوّل ولا موجبا لظهور اللفظ في غير المنصرف عنه ، بل بنحو يبقى العرف متحيّرا أو شاكّا في صدق اللفظ على بعض الأفراد ، وهذا كما في ماء الزاج

٤٠٥

والكبريت ، فإنّه لا شبهة في صدق الماء عليهما بمعناه اللغوي ، ولكنّ العرف لو عرضتهما عليه ، يشكّ في كونهما ماء ، ويبقى متحيّرا لا يدري أيّ شيء حقيقتهما.

وهذا القسم من الانصراف هو الّذي يسمّى في كلمات شيخنا العلّامة الأنصاري بالشكّ في الصدق ، ويعبّر عنه بالشبهة المفهوميّة أيضا ، ويكون من قبيل احتفاف الكلام بما يحتمل للقرينيّة وما يمكن أن يعتمد عليه المتكلّم ، ومعه لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، كما لا يخفى.

الأمر الثاني : ذكر في الكفاية أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب يمنع عن التمسّك بالإطلاق (١).

وهو ممنوع ، لأنّ لفظ المطلق ـ كالماء مثلا ـ صدقه على كلّ من المتيقّن وغير المتيقّن على حدّ سواء ، ولا يفرق بنظر العرف في مصداقيّة الماء القليل والكثير ، وإذا كان الصدق على جميع الأفراد على حدّ سواء بنظر العرف والمفروض أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام مراده الجدّي ـ كما هو المختار ـ فكون المتيقّن مرادا من اللفظ قطعا لا يوجب حمل المطلق عليه ، فإنّ إرادة المتيقّن لا تنافي إرادة غيره أيضا ، وبعد كون اللفظ بحسب مفهومه العرفي صادقا على غير المتيقّن كما يصدق على المتيقّن بلا تفاوت بينهما لو كان المتيقّن تمام مراد المولى ، لكان عليه البيان ، وإلّا لأخلّ بغرضه ، لما سبق من أنّ مقتضى تعهّد المتكلّم والتزامه أن يجعل مبرزه على طبق مراده الواقعي سعة وضيقا إلّا أن ينصب قرينة على أنّه لم يكن في مقام البيان ، ومن ثمّ نرى أنّ الفقهاء لا يقصرون الحكم في الروايات على موارد أسئلتها ، ولا يجعلون مورد

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٧.

٤٠٦

السؤال مخصّصا مع أنّه من أظهر موارد القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

مثلا : لو فرضنا أنّه سأل سائل عن الخمر ، فقال الإمام عليه‌السلام : «كلّ مسكر حرام» لا يلتزم أحد بأنّ حكم الحرمة مختصّ بالخمر ، لأنّها المتيقّن في مقام التخاطب.

ثمّ لو تنزّلنا عن مسلكنا وسلكنا ما سلكه صاحب الكفاية ـ الخارج عن مسلك التحقيق ـ من أنّ المراد من البيان هو إظهار المراد ولو لم يكن عن جدّ بل قانونا وقاعدة (١) ، فلا يمنع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب أيضا عن التمسّك بالإطلاق ، وذلك لأنّ كون القدر المتيقّن في مقام التخاطب موردا للقاعدة لا ينافي كون غيره يصدق عليه اللفظ من الأفراد أيضا ضربا للقاعدة ، بل مقتضى صدق اللفظ على جميع الأفراد بالسويّة بنظر العرف ـ بحيث لا يفرّقون بين المتيقّن وغيره في صدقه عليه ـ أنّه أراد جميع الأفراد ضربا للقاعدة على هذا المسلك ، ولو أراد المتيقّن فقط قانونا دون جميع الأفراد كذلك ومع ذلك أتى بلفظ المطلق الصادق عليه وعلى غيره ، لأخلّ بغرضه.

نعم ، لو كان المراد من البيان أنّ المولى في مقام إفادة فائدة بحيث يفهم المخاطب شيئا ما من كلامه ، لكان وجود القدر المتيقّن مانعا عن التمسّك بالإطلاق ، لكن لا اختصاص به في مقام التخاطب ، بل وجود القدر المتيقّن الخارجي أيضا كذلك.

والحاصل : أنّ وجود القدر المتيقّن لو كان مانعا عن التمسّك بالإطلاق ، يمنع في كلا المقامين ، ولو لم يكن ، ففي كلا المقامين أيضا.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٨.

٤٠٧
٤٠٨

فصل :

إذا ورد مطلق وحده نأخذ به قطعا ، كما أنّه إذا ورد مقيّد وحده كذلك.

أمّا لو ورد مطلق ومقيّد معا ، فإمّا أن يكون المطلق متكفّلا لحكم إلزاميّ أو مستلزما له ـ كما إذا كان مشتملا على حكم وضعيّ ـ أو لا ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون المقيّد مخالفا له في الإيجاب والسلب أو لا ، وعلى الثاني إمّا [أن] يكون المطلق مشتملا على حكم بنحو مطلق الوجود والانحلال أو يكون بنحو صرف الوجود ، وهذه جميع الأقسام ، ونتكلّم في كلّ منها مستوفى إن شاء الله.

أمّا لو كان مشتملا على حكم إلزاميّ أو مستتبعا له ، وكان المقيّد مخالفا له في الإيجاب والسلب ، فلا ريب في حمل المطلق على المقيّد ، ولا يضرّ التمسّك بالإطلاق من سائر الجهات ، فإنّ المطلق ـ كما عرفت ـ لا يصادم ظهوره بورود المقيّد ، وإنّما تقصر حجّيّته.

وأمّا في الموافق الّذي يكون بنحو مطلق الوجود ، كما في «أكرم العالم» و «أكرم العالم العادل» فلا إشكال في الأخذ بالمطلق وعدم حمله على المقيّد ـ وإن تخيّله بعض الفقهاء العظام ، والظاهر أنّه في بعض فروع العروة موجود نظيره ، وأظنّ أنّه في باب الصوم في مفطريّة الارتماس في الماء ـ لعدم التنافي بينهما ، إذ أيّ منافاة بين وجوب إكرام كلّ عالم ووجوب إكرام العالم العادل بعد حكم كلّ من الدليلين بوجوب إكرام العالم العادل وانحلال الحكم في المطلق بأحكام عديدة ثابتة لموضوعات متعدّدة؟

نعم ، لو قلنا بمفهوم الوصف ليدخل في القسم الأوّل ، لكنّا أثبتنا في

٤٠٩

محلّه أنّه ليس للوصف مفهوم.

أمّا في الموافق الّذي يكون بنحو صرف الوجود ـ كما في المثال المعروف «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة» وأمثال ذلك ممّا لم يكن مطلوب المولى في دليل المطلق إلّا وجودا واحدا لا جميع الوجودات ـ فتارة نحرز وحدة الحكم ونقطع من الخارج أنّا لسنا مكلّفين بتكليفين ، كما إذا ورد ـ كما ورد ـ : «امسح مقدّم رأسك» (١) ثمّ ورد «امسح ناصيتك ببلّة يمناك» فإنّ من المقطوع عدم وجوب المسح مرّتين على مقدّم الرّأس ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الظهورين : إمّا عن ظهور المطلق في الإطلاق بأنّ نحمله على المقيّد ، ونقول : إنّ المراد من المطلق هو المقيّد ، أو عن ظهور المقيّد في الإلزام بالخصوصيّة بأن نحمل ظهور «امسح ببلّة يمناك» في وجوب المسح ووجوب كونه ببلّة اليمنى على وجوب المسح واستحباب كونه ببلّة اليمنى.

وبعبارة أخرى : نحمله على أفضل أفراد الواجب ، كما في طبيعي الصلاة والصلاة في المسجد ، وهذا هو المراد من حمل المقيّد على الاستحباب ، لا أنّ المجموع المقيّد مستحبّ بحيث لا يكون فيه إلزام أصلا وكان مستحبّا فعليّا ، كما لا يخفى.

والمشهور في هذا الفرض هو حمل المطلق على المقيّد ، بل لم نر أحدا يتوقّف في ذلك ، وإنّما الإشكال في وجهه ، وقد ذكر لها وجوه :

منها : ما قيل ـ كما في الكفاية (٢) ـ من أنّ التقييد حيث إنّه ليس تصرّفا في معنى اللفظ ، بل هو تصرّف في وجه من وجوه المعنى ـ لو كان المولى في مقام

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٩ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٦٢ ـ ١٧١ و ٩١ ـ ٢٤١ ، الوسائل ١ : ٤١٠ ، الباب ٢٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) كفاية الأصول : ٢٩٠.

٤١٠

بيان تمام مراده ـ فبالظفر بالمقيّد نستكشف أنّه لم يكن في مقام البيان ، فلم يكن إطلاق في البين حتى يستلزم حمله على المقيّد تصرّفا في المطلق.

وفيه : أنّ الظفر بالمقيّد لا يكشف عن عدم كون المولى في مقام البيان قانونا ـ كما هو مختار صاحب الكفاية (١) ـ بل يكشف عن أنّه لم يكن بمراد جدّيّ له ، وهكذا على المختار من أنّ المراد من البيان هو بيان مراده الجدّي والواقعي لا يرفع الظهور المنعقد للمطلق في الإطلاق أيضا ، فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه ، بل ظهور المطلق في الإطلاق على حاله ، ولا يصادمه الظفر بالمقيّد ، فأيّ موجب لرفع اليد عن هذا الظهور؟

ومنها : ما أفاده صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ من أنّ ظهور المقيّد في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق (٢).

وهو كما أفاده إلّا أنّ الكلام في منشأ الأقوائيّة.

وربما يقال : إنّ ظهور الهيئة في الوجوب التعييني في المقيّد حيث إنّه بالوضع يقدّم على ظهور المطلق في الإطلاق ، فإنّه بمقدّمات الحكمة.

وفيه (٣) : أنّ الهيئة على مختاره ـ قدس‌سره ـ لم توضع إلّا للجامع بين الوجوبين ، والتعيين إنّما يستفاد من مقدّمات الحكمة.

وعلى ما اخترناه من أنّها لم توضع إلّا لإبراز الاعتبار النفسانيّ وإنّما العقل يحكم بلزوم الإتيان بما جعله المولى على عهدته وأبرزه بمبرز ما لم يرخّص في تركه ، فالوجوب والاستحباب أمران خارجان عن مدلول اللفظ ، فهذا الوجه ليس بوجيه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٩٠.

(٢) كفاية الأصول : ٢٩١.

(٣) ورد في هامش الأصل هذه العبارة : وفيه أنّ استفادة الوجوب التعييني أيضا بمقدّمات الحكمة عنده [كفاية الأصول : ٩٩] كما هو مختارنا أيضا.

٤١١

والوجه الموجّه في حمل المطلق على المقيّد وتقدّم المقيّد عليه ما ذكرنا في بحث العامّ والخاصّ من أنّ ظهور القرينة ـ ولو كان أضعف الظهورات ـ مقدّم على ظهور ذي القرينة ولو كان أقواها ، ومثّلنا هناك بمثل : «رأيت أسدا يرمي» فإنّ ظهور «يرمي» في الرمي بالنبل ـ وإن كان ضعيفا غايته ، فإنّ الرمي كما يكون بالنبل يكون بالتراب أو غيره أيضا ـ مقدّم بنظر العرف على ظهور «الأسد» في الحيوان المفترس وإن كان بالوضع ، ولا يكاد يشكّ أحد في ذلك.

والسرّ فيه : أنّ القرينة ناظرة إلى ذي القرينة ومفسّرة له ومانعة عن انعقاد الظهور فيه لو كانت متّصلة ، فكلّ ما يكون قرينة ، فظهوره أيّا ما كان يكون حاكما على ظهور ذي القرينة كيف ما كان ، والميزان الكلّي في تشخيص القرينيّة وطريق إثباتها أن يفرض الكلام متّصلا ، فإن كان أحد الظهورين مانعا عن انعقاد الظهور الآخر ، فهو قرينة ومقدّم عليه حال الانفصال أيضا. ومن هذا القبيل : ظهور المقيّد ، كما في «امسح على ناصيتك ببلّة يمناك» فإنّا لو فرضنا كونه متّصلا بقوله : «امسح على مقدّم رأسك» يفهم منه مع العلم بأنّ التكليف واحد أنّ المراد من المسح على مقدّم الرّأس هو المسح على الناصية ببلّة اليمنى لا مطلقا ، فيقدّم عليه حال كونه منفصلا أيضا ، لقرينيّته عليه ، كان الظهور بمقدّمات الحكمة أو بالوضع. وهذا واضح لا سترة عليه.

وأخرى : لا نحرز وحدة الحكم ، ونحتمل أن يكون المطلوب متعدّدا وهو الغالب ، ويدور الأمر حينئذ بين حمل المطلق على المقيّد والحكم بأنّ المطلوب واحد ، أو نعمل بكلا الدليلين ونحكم بتعدّد المطلوب.

والحقّ هو الأوّل ، وتوضيحه يقتضي تقديم مقدّمة ، وهي : أنّه ينقسم الدليلان من حيث تعلّقهما بالسبب وعدمه إلى أقسام :

٤١٢

الأوّل : أن يكون كلّ منهما معلّقا على سبب غير ما هو عليه الآخر.

الثاني : أن يكون كلّ منهما معلّقا على سبب واحد.

الثالث : أن يكون أحدهما معلّقا والآخر غير معلّق على شيء.

الرابع : أن لا يكون شيء منهما معلّقا.

ولا ريب في خروج القسمين الأوّلين عن محلّ النزاع ، فإنّ تعدّد السبب كاشف عن تعدّد الحكم ، ومعه يبقى المطلق على إطلاقه والمقيّد على تقييده ، ولا يتصرّف في شيء منهما ، وهكذا وحدة السبب كاشفة عن وحدة المطلوب ، فيدخل فيما أحرز اتّحاد التكليف ، ويجري فيه جميع ما جرى هناك ، فالنزاع منحصر في القسمين الأخيرين ، ونتكلّم أوّلا في مقام الثبوت ثمّ نتبعه مقام الإثبات.

فنقول : إنّه في الواقع ونفس الأمر يمكن أن تكون مصلحة واحدة قائمة بالمطلق أو المقيّد ، ويمكن أن تكون مصلحتان.

وحينئذ تارة تكون إحداهما قائمة بالمطلق والأخرى قائمة بالخصوصيّة بنحو المطلوب في المطلوب والواجب في الواجب بحيث يكون التقيّد ذا مصلحة لا المقيّد ، وتعلّق بالفرض بالخصوصيّة لا الخاصّ. وقد ذكرنا في بحث النهي عن الضدّ أنّ وقوع الخصوصيّة تحت الإلزام بمكان من الإمكان بل واقع ، كما في الصلاة المنذور وقوعها في المسجد ، وذكرنا أنّه يمكن أن تكون ذات المقيّد محكومة بالوجوب ، ويكون التقيّد والخصوصيّة محكوما بحكم آخر من الأحكام أيّا ما كان سوى الحرمة من جهة أنّها تنافي إطلاق الأمر وتقيّده.

وأخرى تكون إحداهما قائمة بالمطلق والأخرى بالمقيّد لا التقيّد ، وبالخصوصيّة لا الخاصّ ، وفي هذه الصورة يمكن أن تكون المصلحتان بنحو

٤١٣

لا تحصلان بوجود واحد ، كما إذا فرضنا أنّ المولى أمر بعتق الرقبة ثمّ بالرقبة المؤمنة ، فلا بدّ للمكلّف من عتق الرقبتين ، ويمكن أن تكونا بنحو تحصلان بوجود واحد وبالإتيان بالمقيّد ـ نظير إكرام العالم الهاشمي فيما إذا وجب كلّ منهما ـ ولا يحتاج إلى وجودين ، إمّا بنحو الارتباطي بأن تكون استيفاء المصلحتين منوطا بإتيان المقيّد أوّلا بحيث لو أتى بالمطلق أوّلا ، لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة المقيّد أصلا ، نظير ما أفاده صاحب الكفاية (١) في بحث الإجزاء من احتمال وجود مصلحة للصلاة مع الوضوء ووجود مصلحة أخرى للصلاة مع التيمّم حال فقدان الماء بنحو لو استوفى مصلحة الصلاة مع التيمّم في أوّل الوقت لا يبقى مجال لاستيفائها مع الوضوء ، أو بنحو الاستقلالي بحيث يمكن استيفاء مصلحة المقيّد بعد استيفاء مصلحة المطلق.

هذا كلّه في مقام الثبوت ، أمّا في مقام الإثبات : فهذه الاحتمالات الخمسة كلّها ـ سوى الأوّل منها ـ خلاف ظاهر الكلام يحتاج إلى مئونة زائدة وقرينة مفقودة في المقام ، ضرورة أنّ احتمال تعلّق الأمر بالخصوصيّة ـ مضافا إلى ندرته ـ مدفوع : بأنّ ظاهر قول المولى : «أعتق رقبة مؤمنة» أنّ المقيّد يكون تحت إلزامه ، لا تقيّد الرقبة بالإيمان ، كما أنّ الاحتمال الثالث يدفعه ظهور الكلام في أنّ المطلوب وجود واحد لا وجودان ، والرابع يدفعه ظهور الدليلين في الوجوبين النفسيّين التعيّنيّين.

ومقتضى الاحتمال الرابع : استحالة الأمر التعييني بهما في عرض واحد ، بل لا بدّ من الأمر الترتّبي بأن يأمر بعتق المجرّدة عن قيد الإيمان على تقدير عصيان المقيّدة ، فيكون الأمر بالمطلق حدوثا مشروطا بعصيان الأمر بالمقيّد ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٨ وما بعدها.

٤١٤

والأمر بالمقيّد أيضا يكون مشروطا بعدم الإتيان بالمطلق بقاء لا حدوثا ، ومن البديهي أنّه خلاف مقتضى ظاهر الأمر ، فإنّه يقتضي كونه مطلقا لا مشروطا.

وهكذا الاحتمال الخامس أيضا مدفوع : بأنّ مقتضاه أن يأمر المولى تخييرا بأن يقول : «إمّا أعتق رقبة مؤمنة أوّلا أو أعتق رقبة مجرّدة عن قيد الإيمان ثمّ أعتق رقبة مؤمنة» وذلك لأنّ المولى حيث إنّه يحصل غرضه بكلا النحوين ، ويمكن للعبد استيفاء كلتا المصلحتين ، وتحصيل غرض مولاه بطريقين ، فالأمر تعيينا بسلوك أحد الطريقين دون الآخر جزاف ، فلا بدّ من الأمر بسلوك أحد الطريقين تخييرا ، وهو يحتاج إلى قرينة مفقودة على الفرض في المقام ، بل ظاهر كلا الدليلين أنّهما متكفّلان لحكمين إلزاميّين نفسيّين مطلقين تعيينيّين ، ولا معارضة بينهما من جهة من هذه الجهات أصلا ، فكلّ من هذه المحتملات سوى الأوّل منها مدفوع لا التفات إليه ، فيبقى الاحتمال الأوّل ، وهو كون المصلحة في الواقع ونفس الأمر واحدة ، ومقتضاه كون التكليف أيضا واحدا.

وبعد ما عرفت أنّه بحسب مقام الإثبات ليس لنا إلّا هذا الاحتمال تعرف أنّه يجري في هذا القسم ما جرى في صورة إحراز اتّحاد التكليف من الاحتمالين : حمل المطلق على المقيّد والتصرّف في المطلق ، وإبقاؤه على حاله ، والتصرّف في المقيّد بحمله على أفضل الأفراد ، وعرفت أنّ الحقّ هو الأوّل ، لأنّ التعارض بين ظهور المطلق في الإطلاق ، وظهور المقيّد في وجوب المقيّد متعيّنا ، والأخذ بظهور المطلق متوقّف على عدم وجود القرينة على الخلاف ، وبعبارة أخرى : حجّيّته بقاء منوط بعدم البيان ، والمقيّد قرينة وبيان له ، فيرفع اليد عن ظهوره في الإطلاق ، كما أنّه لو كان متّصلا ، لكان مانعا عن

٤١٥

أصل انعقاد الظهور وعن حجّيّة المطلق حدوثا.

ومن هنا يعلم حكم ما لو كان دليل المقيّد متكفّلا لحكم غير إلزاميّ ، فإنّ ما لا إلزام فيه أيّ منافاة له مع إطلاق المطلق؟

مثلا : لو فرضنا أنّه ورد «زر الحسين عليه‌السلام» الّذي بإطلاقه يدلّ على مطلوبيّة زيارة الحسين ، سواء كان الزائر متطهّرا أم لا ، ثمّ ورد «زر الحسين وأنت لابس أطهر ثيابك» فإذا كان الأمر بهذا المقيّد أمرا غير إلزاميّ وكان المكلّف مرخّصا في ترك هذا المقيّد وعدم امتثاله رأسا ، فأيّ منافاة ومعارضة بينه وبين إطلاق دليل المطلق الظاهر في محبوبيّة زيارة الحسين ولو لم يلبس الزائر أطهر ثيابه؟

نعم ، لو كان دليل المقيّد بنحو ينافي ظهور المطلق في الإطلاق بأن كان نهيا كما ورد «لا تقم إلّا وأنت متطهّر» نهى عن الإقامة حال كون المكلّف محدثا ، المرشد إلى مانعيّة الحدث عن تحقّق الإقامة ، فيحمل المطلق على المقيّد. وهكذا لو كان دليل المقيّد قضيّة ذات مفهوم تقتضي عدم مطلوبيّة فاقد القيد.

والضابط الكلّي في وجوب حمل المطلق على المقيّد وجود المنافاة بينهما بلا تفاوت بين الواجبات والمستحبّات.

فظهر أنّ ما أفاده في الكفاية ـ من أنّ مقتضى القاعدة هو وجوب حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات أيضا مع أنّ بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيّد على تأكّد الاستحباب فيها ـ ليس كما ينبغي ، لما عرفت من أنّه لا معارضة بينهما في باب المستحبّات حتى يحمل المطلق على المقيّد ، فعدم الحمل فيها لا إشكال فيه ، ويكون من باب التخصّص لا التخصيص ، وملاك

٤١٦

الحمل هو التنافي لو وجد لوجب الحمل ، كان الحكم إلزاميّا أو غير إلزاميّ ، ولو لم يوجد ، لا وجه له كذلك.

وما أفاده بعد ذلك ـ من أنّ الوجه في عدم الحمل فيها هو أنّ الغالب في باب المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب المحبوبيّة (١) ـ غير تامّ أيضا ، فإنّ منشأ هذه الغلبة ليس إلّا عدم حملهم ، ولعلّه هو وجه أمره بالتأمّل ، مع أنّ مجرّد الغلبة الخارجيّة لا يوجب رفع اليد عن مقتضى الجمع العرفي في جميع أفراد المستحبّات.

كما أنّ ما أفاده من أنّ الوجه في عدم الحمل هو التسامح في أدلّة المستحبّات (٢) ، أيضا كذلك ، فإنّه ـ مضافا إلى ما أورده في الهامش على نفسه من أنّه لو كان مقتضى القاعدة والجمع العرفي هو حمل المطلق على المقيّد ، فلازمه عدم شمول حديث «من بلغ» للمطلق وعدم الاستحباب به إلّا للمقيّد ، لعدم صدق بلوغ الثواب عليه بعد رفع اليد عن إطلاقه وحمله على المقيّد (٣) ـ فيه : أنّ لازم ذلك الالتزام بالاستحباب في جميع المطلقات المتكفّلة للحكم الإلزاميّ بعد تقييدها وحملها على مقيّداتها ، فإنّ هذه المطلقات تدلّ على أنّ الإتيان بالمطلق واجب ، والآتي به يثاب عليه ، وتاركه يعاقب عليه ، وبواسطة دليل المقيّد يرفع اليد عن ظهور دليل المطلق بمقدار المعارضة ، وهو ظهوره في جواز الاكتفاء بالمجرّد عن القيد ، والعقاب على ترك المقيّد ، وأمّا بلوغه الثواب على المطلق فحيث لا يعارضه شيء باق على حاله ، فتشمله أخبار «من بلغ» ويلزم الحكم بمقتضاها بالاستحباب ، ولذا يلتزمون بالاستحباب فيما إذا

__________________

(١ و ٢) كفاية الأصول : ٢٩١.

(٣) كفاية الأصول : ٢٩١ ـ ٢٩٢ (الهامش).

٤١٧

ورد خبر ضعيف السند على وجوب شيء بمقتضى هذه الأخبار.

ثمّ إنّه ممّا ذكرنا يظهر أيضا فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ من أنّه لو كان دليل المقيّد قضيّة ذات مفهوم ، ينافي دليل المطلق وإن كان مقتضاه عدم استحباب الخالي عن القيد رأسا إلّا أنّ العلم الخارجي بأنّ المستحبّات ذات مراتب يمنع عن حمل المطلق على المقيّد من جهة أنّه يوجب صرف ظهور دليل المقيّد في المفهوم ، ومعه تنتفي المنافاة ، فلا وجه للحمل (١).

ووجه الفساد : ما ذكرنا من أنّ منشأ القول بالمراتب فيها ليس إلّا عدم الحمل ، مضافا إلى أنّ العلم بكون الغالب فيها أن تكون ذات مراتب لا يقتضي ذلك في صورة الشكّ وما لا نعلم بذلك.

ثمّ إنّه لو قطعنا النّظر عن جميع ما ذكرنا من الأقسام لاستكشاف وحدة المطلوب يمكن إحرازها بطريق آخر ، وهو : أنّ الطبيعة الواحدة لو وقعت في حيّز الطلب مرّتين ـ كما إذا قال المولى : «صلّ» ثمّ بعد ذلك قال أيضا : «صلّ» ـ ظاهرة في التأكيد ، بمعنى أنّ العرف لا يفهمون من هذين الطلبين إلّا طلبا واحدا مؤكّدا وإن كان ظاهر كلّ كلام في حدّ ذاته أن يكون تأسيسا لا تأكيدا إلّا أنّه في غير مثل هذه الموارد ، وحيث إنّ معنى الإطلاق ـ كما مرّ غير مرّة ـ هو رفض جميع القيود وعدم أخذ شيء منها بنحو لو فرض ـ محالا ـ إيجاد الطبيعة خالية عن جميع القيود وعارية عن تمام الخصوصيّات لتحقّق امتثال الأمر المتعلّق بها ، والمقيّد بخلافه ، فالأمر بالمقيّد بعينه هو أمر بالمطلق أيضا بمعنى أنّ متعلّق الأمر في المطلق هو الكلّي الطبيعي بمعنى ما يكون قابلا للانطباق على كثيرين ، وهو في المقيّد أيضا هو الكلّي الطبيعي ، غاية الأمر أنّه في المقيّد فيه خصوصيّة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٤٢.

٤١٨

زائدة ليست في متعلّق أمر المطلق ، فليس أحد المتعلّقين مباينا للآخر ، بل أحدهما عين الآخر مع زيادة خصوصيّة ، وعلى هذا يكون الخطابان بمنزلة تكرار الخطاب الواحد ، وكما لا يفهم العرف من تكرار خطاب «أعتق رقبة» إلّا أمرا واحدا وتكليفا فاردا كذلك لا يفهمون من «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة» إلّا تكليفا واحدا ، وبعد إحراز وحدة التكليف يتحقّق التنافي والتعارض بين الدليلين ، وبما أنّ الأخذ بإطلاق دليل المطلق المقتضي للاكتفاء بصرف وجود الطبيعة ـ ولو كانت مجرّدة عن أيّ قيد من القيود ـ متوقّف على عدم البيان حدوثا وبقاء ، فإنّه مع البيان حدوثا لا ينعقد له ظهور في الإطلاق أصلا ، ومعه بقاء وإن انعقد له الظهور إلّا أنّه ليس بحجّة ولا يمكن الأخذ بإطلاق دليل المطلق بعد ورود المقيّد المقتضي لعدم الاكتفاء بفاقد القيد ، فإنّه قرينة وبيان لما يراد من المطلق ، فيضيّق دائرة حجّيّته ، كما أنّه لو كان متّصلا ، كان مضيّقا لدائرة ظهوره ، وموجبا لعدم انعقاد الظهور إلّا في المقيّد ، ويجب الحمل على المقيّد. وهذا واضح لا سترة عليه.

تبصرة هي : أنّ نتيجة التمسّك بمقدّمات الحكمة وإثبات الإطلاق تختلف بحسب الموارد ، ففي بعض الموارد ـ كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ـ ينتج الحكم الشمولي والسرياني ، فإنّ لازم أخذ صرف طبيعة البيع ورفض أيّ قيد يفرض فيه متعلّقا للحكم بالحلّيّة ليس إلّا ذلك ، كما أنّ لازمه في مثل «أعتق رقبة» هو العموم البدلي ، ومقتضاه في بعض الموارد أمر آخر ، كما في إطلاق الوجوب المثبت للوجوب النفسيّ المقابل للغيريّ المترشّح من الغير ، فإنّ القسمين وإن كانا متقابلين ولا جامع بينهما فلا يمكن إثبات شيء منهما

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٤١٩

بالإطلاق إلّا أنّ لكلّ منهما خصوصيّة تلازمه ، فإذا أثبتنا إحدى الخصوصيّتين بالإطلاق ، فيثبت لازمه أيضا ، لحجّيّة لوازم الأصول اللفظيّة ، وخصوصيّة النفسيّة عدم سقوطه ما لم يأت بمتعلّقه سواء أتي بشيء آخر أم لا ، كما أنّ خصوصيّة الغيريّة دورانه مدار وجوب الغير وجودا وعدما ، فإذا كان مقتضى إطلاق الوجوب عدم السقوط سواء أتي بالغير أم لا ، الّذي هو من خصائص الواجب النفسيّ ، فيثبت لازمه.

مثلا : مقتضى إطلاق خطاب «صلّ» هو وجوب الصلاة ، سواء وجب الصوم أو لم يجب ، فكأنّه قال : «الصلاة واجبة صمت أو لم تصم» وبعين هذا البيان نثبت الوجوب العيني قبال الكفائي ، وهكذا الوجوب التعييني في قبال التخييري.

والحاصل : أنّ الإطلاق في جميع الموارد بمعنى واحد وهو رفض القيود ، ومقتضاه مختلف بحسب اختلاف الموارد.

* * *

٤٢٠