الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

الثالث : رواية «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (١) بتقريب أنّ حكم الخاصّ أيضا إمّا حلال أو حرام ، فبمقتضى عموم هذه الرواية يبقى إلى يوم القيامة ، ولا ينسخ بورود العامّ بعده.

ولا يخفى أنّ المدرك لو كان هذه الرواية ، لكان لدعوى تقديم أصالة عدم النسخ على أصالة العموم مجال ، فإنّ النسبة بين هذه الرواية وبين العامّ الوارد بعد الخاصّ عموم من وجه ، إذ عموم العامّ يقتضي وجوب إكرام كلّ عالم حتى مورد الخاصّ ، وعموم الرواية يقتضي بقاء كلّ حكم وعدم نسخه حتى حكم الخاصّ ، فيقدّم عموم الرواية ، المقتضي للتخصيص والعمل بالخاصّ على عموم العامّ ، المقتضي للنسخ ، لكثرة التخصيص وقلّة النسخ.

لكنّ الإنصاف أنّ هذه الرواية غير ناظرة إلى بقاء كلّ حكم من الأحكام وعدم نسخه ، بل ناظرة إلى أنّ هذه الشريعة لا تكون كسائر الشرائع موقّتة ، بل شريعة مستمرّة إلى يوم القيامة ، والحلال من قبل هذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال من قبل الله ، وحرامه حرام من قبله تعالى ، فهي ظاهرة في أنّ نوع الأحكام باق ، لا أنّ كلّ شخص من أشخاصها كذلك حتى تكون عامّة يمكن التمسّك بها عند الشكّ في أصل بقاء الحكم ، مثلا : نتمسّك بها إذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ، ونحكم ببقاء الوجوب ، وإن لم تكن ظاهرة فيما ذكر ، فلا تكون ظاهرة في بقاء أشخاص الحكم أيضا ، بل تكون مجملة لا ظاهرة في هذا ولا في ذاك ، فظهر أنّ المدرك منحصر بالاستصحاب ، وقد عرفت أنّه لا وجه لجريانه ، فلا مناص عن الالتزام بأصالة العموم ، والحكم بناسخيّة العامّ. هذا في الجهة الثانية.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ ـ ١٩ و ٢ : ١٧ ـ ١٨ ـ ٢.

٣٨١

وأمّا الكلام في الجهة الأولى : وهي أنّ أصالة العموم في نفسها حجّة في المقام أم لا؟ فنقول : محلّ الكلام هو العمومات المتأخّرة التي وردت عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، ولا مجال لتوهّم كون مثل هذه العمومات باقية على عمومها وناسخة للخصوصات ، وذلك من جهة أنّها ظاهرة في ثبوت الحكم المتكفّل لبيانها من أوّل الشريعة لا من زمان ورود العامّ ، وبعد ما كانت متكفّلة لبيان الأحكام الثابتة في الشريعة من أوّل زمان التشريع لا من زمان ورود هذه العمومات ، فكيف يمكن كونها ناسخة!؟ فإنّ دليل الناسخ يرفع الحكم الثابت من حين وروده لا من حين ثبوت الحكم في الشريعة.

مضافا إلى أنّ قرينيّة الخاصّ للعامّ محفوظة ، ولا مانع من تقديم البيان عن وقت الخطاب ، وما توهّم مانعيّته تأخيره عنه أو عن وقت الحاجة لا تقديمه.

هذا كلّه فيما إذا كان العامّ متأخّرا عن الخاصّ ، وأمّا إذا كان الخاصّ متأخّرا ـ ولا يخفى أنّه لا ثمرة للنزاع في أنّه ناسخ أو مخصّص ، فإنّه على كلّ حال يجب العمل على الخاصّ بعد وروده ، ولو فرض ثمرة فيما إذا ترك العمل بالعامّ قبل ورود المخصّص وكان موجبا للقضاء أو الكفّارة ، فهي نادرة جدّاً ، وهذا بخلاف ما لو كان العامّ متأخّرا ، فإنّ البحث عن ذلك ـ كما عرفت ـ له ثمرة مفيدة كثير الفائدة ـ فلو ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، فالحكم بالتخصيص وأنّ الخاصّ بيان للعامّ واضح لا إشكال فيه.

وأمّا لو ورد بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، فالقول بأنّ الخاصّ مخصّص وبيان للعامّ مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح لا يصدر عن

٣٨٢

الحكيم ، كما أنّ الالتزام بالنسخ في جميع الخصوصات الواردة عن المعصومين ـ إن قلنا بجوازه في زمانهم ـ في غاية البعد ، حيث إنّها في غاية الكثرة ، بل ما من عامّ كتابي أو من سنّة النبيّ إلّا وقد ورد منهم عليهم‌السلام مخصّص واحد أو اثنان أو أزيد ، وهل يرضى أحد أنّ جميع الأحكام ـ إلّا ما شذّ وندر منها ـ نسخ في عصر الأئمّة عليهم‌السلام؟

وهكذا الالتزام بأنّ هذه الخصوصات كانت موجودة قبل حضور وقت العمل ولكن لم تصل إلينا [و] إلى زمانهم عليهم‌السلام ـ كما يشهد به ورود بعضها عن طرق العامّة كما وصل إلينا بعينه ـ يصحّ في الجملة وفي بعض الموارد لا في جميعها ، فمن ذلك يقع الإنسان في حيرة وإشكال.

ومن ثمّ التزم شيخنا العلّامة الأنصاري ـ على ما حكاه شيخنا الأستاذ عن التقريرات وتبعه صاحب الكفاية (١) ـ بأنّ هذه العمومات وردت لبيان الأحكام الظاهريّة لتكون مرجعا للمكلّف في ظرف الشكّ ، فالخاصّ المخالف المتأخّر ناسخ للحكم الظاهري ، ومخصّص ومبيّن للحكم الواقعي ، ولا يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما لا يخفى.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المراد من أنّها لبيان الأحكام الظاهرية إن كان أنّها كلّها غير ناظرة إلى الواقع ولا تبيّن الأحكام الواقعية بل هي متكفّلة لبيان وظيفة الشاكّ في الحكم الواقعي ، فهو باطل بالضرورة ، مضافا إلى أنّها لو كانت كذلك أيضا الكلام الكلام ، كما إذا ورد «كلّ شيء مطلق» ثمّ ورد بعد حضور وقت العمل به «أنّه في الشبهات قبل الفحص والأموال والأعراض يجب الاحتياط» فلنسأل عن هذا الخاصّ وأنّه مخصّص للعامّ أو ناسخ له؟

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٠٦ ، كفاية الأصول : ٢٧٦ ، وانظر : مطارح الأنظار : ٢١٢.

٣٨٣

وإن كان المراد أمرا آخر غيره ، فلا نتعقّله.

فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّ هذه العمومات كلّها ناظرة إلى الواقع ومبيّنة للأحكام الواقعيّة ، كما أنّ السؤالات عنها أيضا سؤالات عن الأحكام الواقعيّة ، والعمل بها أيضا بعنوان أنّها كذلك ، والخاصّ المتأخّر مخصّص وبيان له ، ولا محذور فيه ، فإنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس كقبح الظلم ـ الّذي لا ينفكّ عنه وذاتيّ له بحيث لا يمكن أن يصدق الظلم في مورد ولا يكون قبيحا ، وترتّب القبح عليه يشبه ترتّب المعلول على علّته ـ بل قبحه كقبح الكذب والإيذاء وأمثال ذلك ممّا لا يكون قبيحا ذاتا ، بل يكون قبيحا لو خلّي وطبعه بحيث لو لم يعرض عليه عنوان حسن موجب لحسنه ـ كما إذا توقّف إنجاء مؤمن على الكذب أو إنقاذ الغريق على إيذائه ـ يكون قبيحا لا مطلقا ، فلو كان هناك مصلحة اقتضت تأخير البيان أو مفسدة في عدمه ، فلا يكون قبيحا ، بل القبح في عدمه ، فعلى هذا لا مانع من الالتزام بكون الخاصّ المتأخّر الوارد عن المعصومين صلوات الله عليهم ـ مخصّصا وبيانا للعامّ ، وتأخيره من جهة مصلحة فيه أو مفسدة في عدمه ، وقد عرفت أنّ القول بالنسخ أو أنّه كان موجودا قبل وقت الحاجة ولم يصل إلينا فاسد لا يمكن الالتزام به ، فيتعيّن القول بالتخصيص ، وورود الخاصّ بعد وقت الحاجة لمصلحة.

إن قلت : لازم هذا القول إلقاء الشارع المكلّفين في المفاسد برهة من الزمان بواسطة عدم بيانه المخصّص وعملهم بمقتضى العموم.

قلت : أوّلا : بأنّه مختصّ بما إذا كان العامّ متكفّلا لحكم ترخيصي والخاصّ مشتملا لحكم إلزامي على خلافه لا مطلقا ، كما لا يخفى.

وثانيا : بأنّ الإلقاء في المفسدة أيضا ليس قبحه كقبح الظلم ، فلا مانع منه

٣٨٤

لو كان مصلحة في ذلك أو مفسدة في عدمه أشدّ وآكد منه ، وإلّا يلزم الإشكال في أصل التشريع ، وأنّه لم جاء الشارع بالأحكام تدريجيّا مع أنّ عدم بيان بعضها في زمان موجب لإلقاء المكلّف في المفاسد؟

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لا بدّ من الحكم بالتخصيص في جميع الصور الخمس ، وبعد ذلك لا مجال للتكلّم في صور الشكّ.

بقي أمران :

الأوّل : أنّ حقيقة النسخ بالنسبة إلى غير العالم بالغيب هو الرفع ، مثلا : يرى مصلحة في فعل فيأمر به في زمان ثمّ يبدو ويظهر له أنّه ذو مفسدة وأخطأ فينسخه ويرفع ما أثبت.

وأمّا بالنسبة إلى العالم بالغيب ـ كالباري تعالى ـ هو الدفع لا الرفع ، مثلا : يأمر بفعل ويظهر دوامه واستمراره لمصلحة في إظهار الدوام والاستمرار مع أنّه في الواقع لا يريده إلّا في زمان معيّن خاصّ ثمّ ينسخه.

ثمّ إنّه لا إشكال في جواز النسخ قبل حضور وقت العمل وبعده لغير العالم بالغيب ، وأمّا العالم بالغيب الآمر بداعي الجدّ فلا يجوز له النسخ قبل حضور وقت العمل ، سواء قلنا بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الكائنة في متعلّقاتها ، أو قلنا بأنّها تابعة للمصالح في جعلها ، وذلك لأنّ الفعل إن كان فيه أو في الأمر به مصلحة ، فكيف ينهى عنه!؟ وإن لم يكن فيه أو في الأمر به مصلحة ، فكيف يأمر به!؟

والحاصل : أنّه لو كان بعث المولى بداعي الجدّ لا امتحانا وتجربة ، فلا يعقل النسخ قبل حضور وقت العمل في حقّ العالم بالغيب والمطّلع على المصالح والمفاسد.

٣٨٥

نعم ، هذا مختصّ بما إذا كانت القضيّة المتكفّلة لبيان الحكم قضيّة خارجيّة أو قضيّة حقيقيّة موقّتة ، كما في قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(١) وأمّا لو كانت قضيّة حقيقيّة غير موقّتة بوقت ، كما في «القاتل يقتل» فلا محذور في نسخه ولو بعد ساعة ، وذلك لأنّه في مثل هذه القضية لم يلحظ وجود الموضوع أو مجيء وقت خاصّ ، بل الموضوع أخذ مفروض الوجود ، فلو كان قتل القاتل له مصلحة في اليوم وليس له مصلحة غدا ، فيجوز للمولى إنشاؤه اليوم ونسخه غدا ولو لم يقتل أحد أحدا ، لأنّ المفروض أنّ القتل أخذ مفروض الوجود ولا يوقّت بوقت.

لا يقال : محذور اللغويّة يأتي هنا أيضا ، إذ المولى مع أنّه يعلم على الفرض أنّه لا يقتل أحد أحدا فكيف يأمر بقتل القاتل حينئذ!؟

فإنّه يقال : يمكن أن يكون نفس الأمر بقتل القاتل موجبا لعدم تحقّق القتل في الخارج ، فلا يكون لغوا. مع أنّ هذا الإشكال لا يختصّ بالمقام ، إذ مع عدم النسخ أيضا لو فرض أنّه إلى يوم القيامة لم يقتل أحد أحدا يجيء هذا الإشكال ، وإنّما هو إشكال آخر ، وهو أنّه كيف يصحّ الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه!؟

الثانى : بقي الكلام في البداء ، وهو ممّا تواترت عليه الأخبار ، بل بعضها دالّ على أنّه من أعظم ما يعبد به الله (٢) ، وأنّه ما نال نبيّ منصب النبوّة إلّا بعد ما اعترف به (٣).

وما يستفاد من أخبار هذا الباب أنّ الممكنات ـ ممّا وقع وحدث وما يقع

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) الكافي ١ : ١٤٦ ـ ١.

(٣) الكافي ١ : ١٤٨ ـ ١٣.

٣٨٦

ويتحقّق بعد ذلك وما هو واقع ومتحقّق بالفعل ـ على قسمين :

أحدهما : ما علّمه الله ـ تبارك وتعالى ـ أنبياءه وأوصياءه أنّه يتعلّق به مشيئته ، وهو مسمّى بالأمر المحتوم ، والبداء ليس في هذا القسم.

والثاني : ما لم يعلّمه الله ـ تبارك وتعالى ـ أحدا من الممكنات أنّه متعلّق مشيئته ، وفي هذا القسم من الموجودات جهتان : جهة راجعة إلى الخالق ، وهي تعلّق مشيئة الربّ به وعدمه ، وجهة راجعة إلى الخلق ، وهي وجود العلّة التامّة لحدوثه وتحقّقه لو لا تعلّق مشيئته ـ تبارك وتعالى ـ على خلافه.

والعلم بالجهة الأولى والإحاطة بها مستحيل للممكن وإن بلغ ما بلغ حتّى أشرف الموجودات وأفضلهم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل : أنّ دعاء زيد هل يستجاب؟ وصدقته هل تدفع البلاء أم لا؟ وأمّا الجهة الثانية فحصول العلم به للممكن بمكان من الإمكان ، وممّا نطقت به الروايات بالنسبة إلى نبيّنا وأوصيائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ـ فإنّ مضمون بعضها أنّه «لو لا آية في كتاب الله وهي : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١) لأخبرتكم بما كان وما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة» (٢) وذلك من جهة أنّهم ـ سلام الله عليهم ـ عالمون بالأسباب العاديّة والعلل التامّة للأشياء مع قطع النّظر عن تعلّق المشيئة بها ، فهم معتقدون وقاطعون بتحقّقها وحدوثها لو لا تعلّق مشيئته تعالى على الخلاف.

والحاصل : أنّ الإحاطة بما هو من صقع الربوبي وما هو فعل الربّ ـ وهو المشيئة ـ خارجة عن حيطة البشر إلّا بمقدار علّمه الله تبارك وتعالى ، وما

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) الاحتجاج ١ : ٦١٠ ، وعنه في البحار ٤ : ٩٧ ـ ٤.

٣٨٧

يمكن إحاطته به ما عدا ذلك.

مثلا : يعلم النبيّ أو الوصيّ أنّ زيدا يدعو في يوم كذا ويتصدّق في يوم كذا ، وأمّا أنّ دعاءه مستجاب أم لا؟ وصدقته دافعة للبلاء أم لا؟ ـ حيث إنّه منوط بالمشيئة ومربوط بإرادته تعالى ـ فلا يعلمه ، ولا يمكن ذلك إلّا إذا علّمه تعالى أنّه يشاء أو لا يشاء.

والبداء يقع في القسم الثاني من القسمين ، أي ما لم يعلّمه تعالى أحدا من خلقه ، وذلك بمعنى أنّه يظهر ما خفي على العباد ويعتقدون وقوعه من جهة علمهم بتحقّق أسبابه العاديّة وعلله التامّة وعدم علمهم بأنّه ممّا لا يشاؤه تعالى ، فيظهر لهم ذلك.

وإطلاق البداء عليه ـ مع أنّه في الحقيقة إبداء ـ من جهة أنّه أشبه شيء بالبداء في المخلوق.

وممّا ذكرنا ظهر وجه إخبار النبيّ بوقوع شيء مع أنّه لا يقع على فرض تسليم أنّ مثل هذا الإخبار صدر من نبيّ أو وصيّ ، فإنّه إخبار عمّا يعلم بوجود علّته التامّة لو لا تعلّق المشيئة على خلافه. وهو مقتضى الجمع بين الأخبار.

ومنه يظهر وجه أنّه من أعظم ما يعبد به الله ، فإنّ من يقول بمقالة اليهود ـ من أنّ (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)(١) وأنّ إجابة الدعاء ودفع البلاء لا يكون تحت مشيئته ـ لا يدعو ولا يتضرّع ولا يتصدّق ، بخلاف من يعتقد بالبداء وأنّه يفعل ما يشاء وما يريد.

ثمّ إنّ إطلاق البداء على ما ذكرنا إمّا نلتزم بأنّه خلاف الظاهر من جهة القرينة العقليّة الدالّة عليه ، وهي استحالة خفاء شيء له تعالى ، وأنّه لا يعزب

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

٣٨٨

عن علمه مثقال ذرّة ، أو نقول : إنّه على الحقيقة ولا يستلزم نسبة الجهل إليه تعالى ، ونجيب بما فسّر به قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً)(١) وغير ذلك ـ ممّا هو ظاهر في حدوث العلم له تبارك وتعالى ـ وهو أنّ لله تعالى علمين :

أحدهما : انكشاف جميع الأشياء عنده ، وهو حاصل له تعالى قبلها وحينها وبعدها ، وعين ذاته ، ويستحيل تغيّره.

وثانيهما : كون الشيء بمشاهدته ومحضره تعالى ، ومن الواضح أنّه فرع وجود الشيء ، فما لم يوجد يستحيل كونه مشاهدا له وبمحضره تعالى ، فهو سالبة بانتفاء الموضوع ، والآيات الظاهرة في حدوث علمه تعالى ناظرة إلى هذا العلم لا تأويل فيها ، بل هي على ظاهرها ولا محذور فيه ، فإنّ العلم بهذا المعنى حاصل له قطعا ، وهو حدوثي بلا شبهة ، ويسمّى في الروايات بالعلم النافذ من جهة أنّها عين مشيئته تعالى النافذة الحادثة وليس شيئا غيرها.

* * *

__________________

(١) الأنفال : ٦٦.

٣٨٩
٣٩٠

فصل :

في المطلق والمقيّد

قد مرّ في الواجب المطلق والمشروط أنّ الإطلاق لغة وعرفا بمعنى الإرسال ـ ويعبّر عنه بالفارسيّة ب «يله ورها» ـ يقال : «فلان مطلق العنان» أي : غير مقيّد. ويقابله التقييد ، يقال : «فلان مقيّد» أي : ربطت إحدى رجليه بالأخرى.

وليس للأصوليّين في ذلك اصطلاح خاصّ غير اصطلاح العرف واللغة حتى يتنازع في تعريفاتهم بأنّها غير مطّردة أو غير منعكسة ، بل يستعملونهما فيما يستعمل في اللغة والعرف ، غاية الأمر أنّهم يحملون على الألفاظ والمعاني فقط ، فيقولون : هذا اللفظ أو هذا المعنى مطلق أو مقيّد ، ولا يحملون على الذوات من جهة أنّ نظرهم مقصور عليها دون غيرها ، فلا يهمّنا النقض والإبرام في تعريفاتهم في المقام ، وإنّما المهمّ بيان مصاديق المطلق ، فنقول :

منها : اسم الجنس.

ولنقدّم مقدّمة يوضّح بها ما وضع له ذلك ، وهي أنّ الماهيّة إمّا أن يقصر النّظر إلى ذاتها وذاتيّاتها ، ولا يلاحظ شيء خارج عن الذات معها ، فهو الماهيّة من حيث هي هي التي يحمل عليها الجنس والفصل ، فيقال : «الإنسان حيوان ناطق» أو الجنس فقط ، كما في «الإنسان حيوان» أو الفصل فقط ، كما في «الإنسان ناطق» ولا يصحّ في هذا اللحاظ حمل غير الذات أو الذاتيّ عليها أيّ محمول كان.

٣٩١

وإمّا أن يلاحظ معها شيء خارج عنها ، وهي إمّا أن تلاحظ عارية عن جميع الخصوصيّات المشخّصة والمصنّفة ومجرّدة عنها ، فهي «الماهيّة البشرطلا» ويقال لها : «الماهيّة المجرّدة» التي يحمل عليها نوع محمولات علم الميزان ، فيقال : «الإنسان كلّيّ أو نوع» وفي هذا اللحاظ لا يصحّ حملها على الأفراد بأن يقال : «زيد إنسان».

أو تلاحظ سارية في جميع الأفراد وفانية في تمامها ، وهي «الماهيّة اللابشرط القسمي» ويقال لها : «الطبيعة المطلقة» و «الكلّي الطبيعي» وفي هذا اللحاظ يصحّ حملها على جميع الأفراد بأيّ خصوصيّة كانت من : الطول ، والقصر ، والعلم ، والجهل ، والقيام ، والقعود ، وغير ذلك.

أو تلاحظ سارية في بعض الأفراد وغير فانية في بعضها الآخر ، وهي «الماهيّة البشرطشيء» التي هي مقيّدة ببعض القيود ولوحظ تحقّقها في ضمن بعض الخصوصيّات دون بعض ، سواء كان القيد الملحوظ فيها وجوديّا ، كالإنسان العالم ، أو عدميّا ، كالإنسان الّذي ليس بجاهل ، ولا يتفاوت الحال بذلك ، إذ كون القيد وجوديّا أو عدميّا لا يوجب تفاوتا في لحاظ الماهيّة سارية في بعض الأفراد ، التي هي «الماهيّة البشرطشيء» فلا وجه لما قيل : من أنّ القيد الملحوظ فيها لو كان وجوديّا ، فهي «الماهيّة البشرطشيء» ولو كان عدميّا ، فهي «الماهيّة البشرطلا».

والحاصل : أنّ الماهيّة التي لوحظ معها شيء خارج عن ذاتها مقسم لهذه الأقسام الثلاثة ، ويعبّر عنها ب «اللابشرط المقسمي» وهي بنفسها لا تكون قابلة لأن يحمل عليها شيء ، لأنّ المقسم لا يخلو عن أحد الأقسام ، فالأقسام منحصرة في الأربع ، ولا خامس في البين. والحصر عقليّ ، كما هو واضح.

٣٩٢

وقد ظهر ممّا ذكرنا أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ الموضوع له أسماء الأجناس ـ كالإنسان ـ هو الجامع بين جميع هذه الأقسام ، وهي الماهيّة المهملة والطبيعة غير الملحوظة معها شيء ، لا الذات ولا ما هو خارج عنها بأقسامها الثلاثة ، لما عرفت من صحّة إطلاق الإنسان على جميع الأقسام بلا عناية أصلا.

والثاني : أنّ ما أفاده صاحب الكفاية من أنّ اللابشرط القسمي كلّيّ عقليّ لا موطن له إلّا الذهن (١) ، ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من أنّها الماهيّة التي لوحظت سارية في جميع الأفراد وفانية في جميع الأشخاص ، وهي الكلّي الطبيعي ويحمل عليها حال كونها ملحوظة كذلك لا مقيّدة ومشروطة بكونها ملحوظة كذلك حتى يقال : لا موطن لها إلّا الذهن.

وبعبارة أخرى : القضيّة باصطلاح أهل الميزان «حينيّة» لا «مشروطة» وإن كان لحاظ السريان أمر لا موطن له إلّا الذهن إلّا أنّه في مقام الحكم لا يحكم على الماهيّة المشروطة بكونها لوحظت سارية ، بل يحكم عليها حين كونها ملحوظة كذلك.

والثالث : أنّ الفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي هو : أنّ الأولى لوحظت لا بشرط حتى بالقياس إلى نفس اللابشرطيّة ، فلم يلحظ فيها السريان في جميع الأفراد. وبعبارة أخرى : هي لا بشرط بالنسبة إلى الاعتبارات الثلاثة ، ولا يحكم عليها بشيء ، والثانية ليست كذلك ، بل لوحظت مطلقة سارية في جميع الأفراد ، كما أنّ الفرق بين اللابشرط المقسمي والطبيعة من حيث هي هي أنّ الأولى لوحظ معها شيء خارج عن ذاتها ، بخلاف الثانية ، فإنّها لم يلحظ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٣.

٣٩٣

فيها ذلك أيضا ، بل قصر النّظر إلى نفس الذات.

ثمّ إنّ محلّ الكلام في هذا المقام ليس هو الطبيعة من حيث هي هي ، لأنّ نفس محمولها قرينة عليها ، وهكذا الماهيّة البشرطلا ، إذ كما أنّ المحمول في مثل «الإنسان حيوان ناطق» قرينة على أنّ الموضوع هو الماهيّة من حيث هي كذلك المحمول في مثل «الإنسان نوع» يكون قرينة على أنّ الموضوع هو الماهيّة البشرطلا ، والمحمول فيها هو المعقول الثانوي ، كما أنّه في الأولى هو الذات أو الذاتيّ ، وهكذا الطبيعة المهملة ، فإنّ الإهمال لا يمكن في الواقعيّات ، كما مرّ غير مرّة ، فلا نشكّ من هذه الجهة ، بل محلّ الكلام هو «اللابشرط القسمي» الّذي هو المطلق و «البشرطشيء» الّذي هو المقيّد.

ومنها : علم الجنس ، كأسامة ، والمشهور بين أهل العربيّة أنّه موضوع للماهيّة والطبيعة المعهودة في الذهن.

وأورد عليهم صاحب الكفاية : بأنّه على ذلك كلّي عقليّ لا موطن له إلّا الذهن ، فلا يمكن صدقه على الأفراد الخارجيّة إلّا بعناية وتأويل ، مع أنّه يصحّ حمله على الأفراد بلا تصرّف.

مضافا إلى أنّ وضعه لمعنى لا يستعمل فيه أبدا ينافي الحكمة ، فلا يصدر عن الواضع الحكيم (١).

أقول : لو كان المراد أنّ المعهوديّة في الذهن قيد للموضوع له ، فالأمر كما أفاده قدس‌سره.

وإن كان المراد أنّه طريق إلى ذاك المتعيّن لا أنّه جزء للموضوع له ، فلا محذور فيه ، ويصحّ حمله على الأفراد الخارجيّة ، فإنّه بمنزلة اسم الإشارة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

٣٩٤

والموصول ، فكما يصحّ التعبير عنه بالموصول بأن يقال : الفعل الّذي هو معهود بيني وبينك لا توجده في الخارج ، وهكذا باسم الإشارة بأن يقال : ذاك الفعل المعروف بيني وبينك لا توجده ، كذلك يصحّ التعبير عنه بعلم الجنس بأن يقال : رأيت أسامة ، بمعنى أنّه رأيت فردا من تلك الطبيعة المعروفة بيني وبينك ، فبحسب مقام الثبوت يمكن ذلك ولا مانع منه ، وإذا ثبت الوضع بتصريح أهل اللغة والعربيّة ، فلا بدّ من الالتزام به في مقام الإثبات أيضا ، إذ لا طريق لنا إلى إثبات الوضع إلّا تصريحهم به.

ومنها : المفرد المعرّف باللام بأقسامه من المعرّف بلام الجنس أو الاستغراق أو العهد الذكري أو الخارجيّ لا الذهني ، فإنّه بحكم النكرة ولا تعيين فيه ، فإنّ اللام وضعت في المعرّف بلام الجنس ـ على المشهور ـ للإشارة إلى الطبيعة المعهودة في الذهن.

وقد أورد عليه صاحب الكفاية بما أورده في اللابشرط القسمي وعلم الجنس (١).

والجواب هو الجواب.

نعم ، ربما يقال : إنّ اللام لو كانت للإشارة إلى الطبيعة كيف تقع مدخولة لأسماء الإشارة في مثل «هذا الإنسان»!؟ مع أنّ اسم الإشارة أيضا يشير إلى الطبيعة ، فتكون الطبيعة مشارة بإشارتين.

وفيه أوّلا : أنّه أيّ محذور في كون الشيء مشارا بإشارتين؟

وثانيا : أنّ «هذا» إشارة إلى الفرد من الطبيعة المشار إليها باللام.

هذا في المعرّف بلام الجنس ، وأمّا المعرّف بلام الاستغراق أو العهد

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٤.

٣٩٥

الخارجي أو الذكرى : فالمعروف أنّها للإشارة إلى جميع أفراد الطبيعة في الأوّل وإلى الفرد المعيّن في الثاني والثالث. والقول بأنّها وضعت لكلّ واحد منها مستقلّا لا للجامع بين جميعها ـ وهو «الإشارة» ـ بعيد غايته. هذا.

وأمّا ما أفاده في الكفاية من أنّ الظاهر أنّ اللام مطلقا تكون للتزيين ، كما في لفظ «الحسن» و «الحسين» (١) فلا نعقل له معنى محصّلا ، بل هي بمعنى أنّها زينة لمدخولها ، كالذهب الّذي هو زينة للمرأة ، وعلى تقدير التسليم أيّ خصوصيّة في الألف واللام؟ لما ذا لا تكون الباء والتاء مثلا للتزيين؟

نعم ، دخولها في الأعلام للمح ما قد كان عنه نقلا ، حيث تفيد فائدة لا تكون بدونها توجب حسنا في المعنى ، فتكون للتزيين. وهذا هو المراد بالتزيين في كلمات النحويّين.

ثمّ إنّه ـ قدس‌سره ـ بعد ذلك أشار إلى دفع ما ربّما يقال نقضا عليه ـ من أنّه لا ريب في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم ، ومن المعلوم أنّ المدخول لا يفيد ذلك ، فلا بدّ من أن يكون من ناحية اللام ، وأنّه إشارة إلى مرتبة معيّنة ، ولا تعيّن إلّا للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد ـ بأنّ التعيّن غير منحصر في تلك المرتبة ، بل أقلّ مراتب الجمع أيضا متعيّن.

ولو سلّم فلا بدّ من الالتزام بدلالة اللام على الاستغراق ابتداء بلا توسيط الدلالة على التعيين ، وعليه لا يكون التعريف إلّا لفظيّا (٢). هذا خلاصة ما أفاده.

وهو ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه ـ قدس‌سره ـ لو أراد بالتعيّن التعيّن بحسب المفهوم ، فهو لا يختصّ بأقلّ المراتب وأكثرها ، بل كلّ مرتبة متعيّنة ، وكما أنّ الثلاثة من حيث هي متعيّنة كذلك الأربعة والخمسة وهكذا.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٤.

(٢) كفاية الأصول : ٢٨٥.

٣٩٦

وإن أراد بالتعيّن التعيّن بحسب الصدق على ما في الخارج ، فالأقلّ لا تعيّن له ، بداهة أنّ الثلاثة كما تصدق وتنطبق على «زيد» و «عمرو» و «خالد» كذلك تصدق على ثلاثة أخرى من أفراد العامّ ، وهذا بخلاف «جميع الأفراد» ، فإنّه ـ حيث لا يكون في البين أمران أو أمور يكون «جميع الأفراد» مردّدا بينهما ومحتملا وشاملا لكلّ منهما على سبيل البدليّة ـ متعيّن لا يصلح للصدق على كثيرين ، كما كان الأقلّ كذلك.

إن قيل : لو كان الأمر كما ذكرتم من أنّ استفادة العموم في الجمع المحلّى باللام تكون من ناحية دلالة اللام على التعيّن ولا دخل للمدخول في ذلك ، فلما ذا لا يكون المفرد المعرّف باللام مفيدا للعموم؟

فالجواب عنه : أنّ الفرق واضح لا يكاد يخفى ، فإنّ اللام في الجمع المحلّى بها إنّما تدلّ على الاستغراق حيث لا عهد في البين ، إذ لو كان هناك عهد لا شبهة في عدم دلالتها على الاستغراق ، ولم يقل به أحد ، بل عدّوا عدم وجود العهد شرطا لدلالتها على الاستغراق.

وأمّا احتمال الجنس ففي الجمع المحلّى باللام مندفع من جهة أنّ صيغة الجمع قرينة على أنّ النّظر إلى الأفراد لا الطبيعة ، بخلاف المفرد ، فإنّه إمّا ظاهر في أنّ اللام الداخلة عليه للجنس ، كما يظهر من صاحب الكفاية (١) ـ وهو الظاهر ـ أو محتمل لذلك ، ومعه لا مجال لدلالتها على الاستغراق في المفرد.

وأمّا ما أفاده من أنّه على تقدير تسليم استناد الدلالة على العموم إلى اللام فلا محيص عن الالتزام بدلالتها عليه ابتداء بلا توسيط الدلالة على التعيين ، ففيه : أنّ لازمه أنّه إذا استعملت في بعض أفرادها ، يكون مجازا ، مع أنّا نرى

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٤.

٣٩٧

بالوجدان أنّه بلا عناية ولا تصرّف ، بل هي كاستعمالها في العموم بلا تفاوت أصلا ، فلا محيص عن الالتزام بإفادة اللام للتعيين وأنّ العموم مستفاد بواسطته.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكر أنّه لا مجال للقول بأنّ الهيئة وضعت للاستغراق ، فإنّ لازمه أيضا التوسّع والمجازيّة فيما إذا استعملت في بعض الأفراد ، وقد عرفت أنّه خلاف الوجدان.

ومنها : النكرة. وقد قيل : إنّها وضعت للفرد المنتشر والمردّد بين الأفراد.

والظاهر أنّه ليس الأمر كذلك ، إذ لا مصداق للفرد المردّد ، بل كلّ فرد ـ بتعبير صاحب الكفاية (١) ـ هو هو لا هو أو غيره.

فالصحيح أنّ النكرة هي الحصّة القابلة للانطباق على كثيرين من الطبيعة ، سواء كان (٢) معلوما عند المتكلّم مجهولا عند المخاطب أو كان مجهولا عندهما ولا يكون أزيد من قسم واحد ، فلا وجه لتقسيمها إلى قسمين ـ كما في الكفاية (٣) ـ لأنّ الرّجل في (جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(٤) أيضا مدلوله حصّة من طبيعة الرّجل قابلة للانطباق على كثيرين ، غاية الأمر أنّ تعيّنه في حزقيل في المثال جاء من قبل استعمال لفظ «جاء» وفي «جئني برجل يتعيّن بعد الامتثال لا أنّه موضوع لمعنى في الأوّل ولمعنى آخر في الثاني.

ثمّ إنّ الحقّ الحقيق بالتصديق أنّه لا تعدّد في وضع «رجل بل هو وضع للماهيّة المهملة والطبيعة المبهمة في جميع الموارد ، وإنّما الوحدة تستفاد من

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٥.

(٢) كذا ، والأنسب تأنيثها وما بعدها من الكلمات.

(٣) كفاية الأصول : ٢٨٥.

(٤) القصص : ٢٠.

٣٩٨

التنوين ، كما أنّ الألف والنون في التثنية ، أو الواو والنون في الجمع المصحّح ، والهيئة في الجمع المكسّر تدلّ على التعدّد.

فتلخّص أنّ ما وضع له اسم الجنس والنكرة أمر واحد وشيء فارد ، وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين الأقسام الأربعة.

ثمّ إنّ الإطلاق بأيّ معنى كان لا يكون قابلا للتقييد.

أمّا على ما نسب إلى المشهور من أنّ المطلق وضع للطبيعة المقيّدة بالشمول ـ وبعبارة أخرى : معنى الإطلاق أخذ القيود ـ فواضح.

وأمّا على المختار من أنّه رفض القيود ، والإرسال الّذي هو معنى الطبيعة اللابشرط القسمي التي لوحظت فانية في جميع الأفراد : فلما في لحاظ الفناء في جميع الأفراد ـ الّذي هو معنى الإطلاق واللابشرط القسمي ـ ولحاظ الفناء في بعض الأفراد دون بعض ـ الّذي هو معنى البشرطشيء والمقيّد ـ من التعاند والتنافي ، ومن البديهي أنّ الشيء لا يمكن أن يقيّد بما يضادّه ويعانده.

ومن ذلك ظهر فساد ما في الكفاية (١) من قابليّة الإطلاق بهذا المعنى.

ثمّ إنّه بعد ما ظهر من مطاوي ما ذكرنا أنّ الإطلاق والتقييد خارجان عن حقيقة الموضوع له في أسماء الأجناس نظرا إلى أنّ لحاظ اللابشرطيّة والبشرطشيئيّة شيء منهما ليس قيدا له ، كما أنّ اعتبار الطبيعة من حيث هي والبشرطلا أيضا كذلك يظهر أن لا ظهور للموضوع أو متعلّق التكليف لا في الإطلاق ولا في التقييد ، فيدور الأمر بينهما ، لاندفاع احتمال بقيّة الاعتبارات ، لما عرفت من أنّ الطبيعة المهملة حيث إنّ الإهمال في الواقعيّات غير معقول لا يمكن أن تكون موضوعة للحكم أو متعلّقة للتكليف ، وعرفت أيضا أنّ اعتبار البشرطلائيّة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٦.

٣٩٩

ومن حيث هي للطبيعة خارج عن محطّ نظر الأصولي ، فإنّ الأوّل مختصّ بما يحمل عليه الذاتيّ والذاتيّات ، والثاني بما يحمل عليه المعقولات الثانويّة ، وشيء منهما لا ربط له بعلم الأصول.

مضافا إلى أنّ نفس المحمول في هذين القسمين قرينة على ما أريد من الموضوع ، فالأمر مردّد بين إرادة اللابشرط القسمي والبشرطشيء ، فحينئذ إن كانت هناك قرينة خاصّة على إرادة أحدهما من اللفظ ، فهو المطلوب ، وإلّا فلا بدّ من التماس قرينة عامّة معيّنة لأحدهما ، وهي قرينة الحكمة ، وبها عند تماميّتها يثبت الإطلاق ، ويستكشف تعلّق إرادة المتكلّم بإثبات الحكم للطبيعة السارية الفانية في جميع الأفراد. وتماميّتها تتوقّف على مقدّمات ثلاث :

الأولى منها : ورود الحكم على المقسم ، بمعنى أن يكون موضوع الحكم أو المتعلّق مع قطع النّظر عن الحكم قابلا للانقسام إلى المقيّد بما يشكّ دخله فيه وبغيره.

توضيحه : أنّ للصلاة ـ مثلا ـ انقسامات قبل تعلّق الوجوب بها ـ ويعبّر عنها في كلمات شيخنا الأستاذ بالانقسامات السابقة والأوّليّة ـ ككونها إلى القبلة وإلى غير القبلة ومع السورة وبلا سورة وهكذا ، وانقسامات بعد تعلّق الأمر بها ـ ويعبّر عنها في كلماته بالانقسامات اللاحقة والثانوية ـ ككونها بقصد الأمر وبدونه وغير ذلك ، فلو شككنا في أنّ الواجب هو الصلاة بداعي الأمر أو مطلقا ، فحيث إنّ الحكم لم يرد على المقسم ، بمعنى أنّ الصلاة قبل تعلّق الحكم بها لا تكون قابلة للانقسام إلى الصلاة بقصد الأمر وبدونه ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق على القول باستحالة التقييد ، كما هو المشهور ، وذلك لا لما

٤٠٠