الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

إلى الوجه الثاني ، إذ قبل تعلّق النذر لا يكون الملاك تامّا موجبا للرجحان ، وإن كان مانعا عن الأمر والملاك تامّ فيهما ، فلازمه صحّة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بداعي المحبوبيّة ، ولا يمكن الالتزام به.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ ذاك العنوان الموجب للحسن ـ مضافا إلى أنّه سفسطة ومعلوم العدم ـ لا بدّ وأن يقصد في مقام الإتيان على فرض وجوده ، لما مرّ في بحث مقدّمة الواجب [من] أنّ قصد العنوان الّذي به يصير الفعل حسنا وراجحا ، لازم.

مثلا : ضرب اليتيم حسن لو كان بقصد التأديب ، فإنّه يوجب حسنه ، وأمّا ضربه لا بقصد هذا العنوان فهو مصداق للظلم وإن ترتّب عليه التأديب قهرا.

والحاصل : أنّه لو كان رجحان الفعل بواسطة طروّ عنوان عليه لا بالذات ، لا يصحّ هذا الفعل ـ لو كان قربيّا ـ إلّا إذا قصد هذا العنوان بداعي المحبوبيّة ، فإنّ المأمور به حينئذ هو ذلك العنوان لا نفس الفعل ، فلازم ذلك في المثالين هو عدم الصحّة بمجرّد قصد الأمر النذري من دون أن يقصد ذاك العنوان الموجب للحسن.

وأمّا الحكم بصحّة النافلة في وقت الفريضة عند النذر على القول بحرمتها بدون النذر : فلأنّ ما يكون حراما ـ لو سلّم هو عنوان التطوّع والتنفّل ، كما يظهر من أدلّتها ، ومن المعلوم أنّ ذات «الصلاة خير موضوع» لا مرجوحيّة فيها أصلا ، بل المرجوحيّة تعرض عليها بواسطة انطباق عنوان التنفّل عليها ، وبتعلّق النذر بها تخرج عن تحت عنوان التنفّل ، فلا تكون نفلا بعد ذلك وزيادة حتى تكون حراما.

٣٤١

لا يقال : صحّة النذر متوقّفة على رجحان المتعلّق ، وهو يتوقّف على خروجه عن تحت عنوان التنفّل المتوقّف على النذر ، وهل هذا إلّا دور؟

فإنّه يقال ـ مضافا إلى أنّه لا دليل على توقّف صحّة النذر على رجحان المتعلّق حين النذر ، بل يكفي رجحانه في مقام امتثال الأمر النذري ولو حصل من قبل نفس النذر ـ : إنّ ذات الصلاة ما لم ينطبق عليها عنوان التطوّع والتنفّل محبوبة وراجحة ، ومن الواضح أنّ الناذر ينذر أن يأتي بركعتين وقت الفريضة لا أن يتطوّع بالصلاة في ذلك الوقت ، وإتيان الصلاة وقت الفريضة في نفسه وطبعه مستحبّ راجح لو لا عروض عنوان التنفّل عليه ، والنذر يمنع عن عروض هذا العنوان ، لا أنّه يوجب الرجحان في المتعلّق ، فتدبّر جيّدا.

بقي شيء راجع إلى الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فاتنا هناك ، فنستدركه هنا ، وهو : أنّه روى مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب فيكون عليك وقد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة» (١).

واستدلّ بهذه الرواية على جريان أصل البراءة في الشبهات البدويّة ، ودلالة صدرها وذيلها على ذلك من الوضوح بمكان.

وأمّا التمثيل بهذه الأمثلة الثلاثة فلا ينطبق على المقصود ، ولذا قد حمل على التنظير والتشبيه.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٣٤٢

ثمّ إنّ وجه التنظير بالثوب والحكم بحلّيّته وجواز التصرّف فيه ـ مع احتمال الخلاف ـ هو قاعدة اليد ، وبالمملوك والحكم برقّيّته ـ مع احتمال خلافه ـ هو أصالة الصحّة في فعل الغير. وهذا واضح لا سترة عليه.

أمّا وجه التنظير بالمرأة والحكم بحلّيّتها ـ مع احتمال كونها رضيعته أو أخته ـ فهو غير واضح ، إذ مقتضى القاعدة عند الشكّ في صحّة العقد وفساده هو : الفساد وعدم حصول العلقة الزوجيّة ، ولا يستقيم هذا التنظير إلّا بإجراء استصحاب العدم الأزليّ بأن يقال : إنّ هذه المرأة في الأزل لم تكن موجودة ولا منتسبة لهذا الرّجل بأن تكون أخته أو أمّه وغير ذلك ـ وقد انقلب عدم نفسها إلى الوجود ، فوجدت بالوجدان ، ونشكّ في انقلاب عدم انتسابها ، فنستصحب ذلك العدم الأزليّ إلى الآن ، ونحكم بأنّها لا تكون منتسبة إلى هذا الرّجل فيصحّ عقده عليها. وهكذا في صورة احتمال كونها رضيعته.

تذييل يذكر فيه أمران :

الأوّل : إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص بأن ورد عامّ ، مثل «أكرم العلماء» ثمّ ورد «لا تكرم زيدا» وتردّد أمره بين أن يكون عالما حتّى يكون «لا تكرم زيدا» مخصّصا للعامّ وبين أن يكون جاهلا حتّى لا يكون دليل حرمة إكرامه تخصيصا للعامّ ، بل يكون تخصّصا ، فهل يحكم بالتخصيص وأنّ زيدا عالم ليس بواجب الإكرام أو يحكم بالتخصّص وأنّه ليس بعالم ، فيترتّب عليه أحكام غير العالم؟

ذهب بعض إلى الثاني ، ومثاله في الشرعيّات : مسألة تنجيس كلّ نجس

٣٤٣

لملاقيه ، وما ورد من أنّه «لا بأس بغسالة الاستنجاء» (١) فإنّ عدم البأس بها لو كان من جهة أنّها نجسة معفوّ عنها ، فهو تخصيص لدليل تنجيس كلّ نجس لملاقيه ، ولو كان من جهة أنّها طاهرة ، فتخصّص.

وعمدة الوجه للثاني ـ أي : القول بالتخصّص ـ هو : أنّ العامّ حيث إنّه أصل لفظي تكون مثبتاته ولوازمه العقليّة حجّة ، فيمكن التمسّك به لإثبات أنّ زيدا ـ الّذي يحرم إكرامه ـ لا يكون عالما ، وأنّ الغسالة حيث إنّها غير منجّسة لملاقيها ، فلا تكون نجسة ، فيحكم على «زيد» أحكام غير العالم ، وعلى الغسالة أحكام الماء الطاهر.

هذا ، وفيه : أنّ العامّ وإن كان من الأصول اللفظيّة والمثبت منها حجّة قطعا إلّا أنّ مثبتها لا يزيد على أنفسها ، فلو ثبت حجّيّة العامّ في مقام الشكّ في المصداق ، فتثبت لوازمه أيضا ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ حجّيّة العامّ ـ حيث إنّه ببناء العقلاء ، ولم ترد آية ولا رواية على أنّ كلّ عامّ حجّة ـ فلا بدّ من الاقتصار بما جرى عليه سيرتهم واستقرّ عليه بناؤهم قطعا ، وهو العمل بالعامّ عند الشكّ في الصدق لا في المصداق ، وعند الاشتباه في الانطباق لا ما ينطبق العامّ عليه. وبعبارة أخرى : عند الشكّ في المراد لا في كيفيّة استعمال اللفظ بعد معلوميّة المراد.

الثاني : أنّه إذا ورد عامّ ، مثل : «أكرم العلماء» ثمّ ورد «لا تكرم زيدا» والمسمّى بلفظ «زيد» مردّد بين العالم والجاهل ، فهل يكون عموم العامّ دالّا على أنّ زيدا العالم يجب إكرامه ، وأنّ من يحرم إكرامه هو زيد الجاهل أم لا؟

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٣ ـ ٣ و ٥ ، الفقيه ١ : ٤١ ـ ١٦٢ ، التهذيب ١ : ٨٥ ـ ٢٢٣ و ٨٦ ـ ٢٢٧ و ٢٢٨ ، الوسائل ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٣ ، أحاديث الباب ١٣ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

٣٤٤

الظاهر ذلك ، وذلك لانحلال العلم الإجمالي بحرمة إكرام زيد الجاهل أو العالم من جهة وجود الأصل اللفظي في أحد طرفيه ، لما يأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ العلم الإجمالي منجّز فيما إذا لم يكن أحد الأصلين الجاريين في الطرفين مقدّما على الآخر ، وإلّا لم يكن منجّزا ولا يلزم الاحتياط ، بل ينحلّ ، ويحكم على طبق الأصل الحاكم ، وهذا كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين ، وقامت البيّنة على نجاسة أحدهما المعيّن ، فإنّه يحكم بطهارة الآخر ، ولا يلزم الاحتياط ، ولا ريب في تقدّم الأصل اللفظي على الأصل العملي ، فاللازم الحكم بوجوب إكرام زيد العالم ، ولازمه العقلي هو أنّ من يحرم إكرامه هو زيد الجاهل ، وهو حجّة في الأصول اللفظيّة. هذا تمام الكلام في التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

* * *

٣٤٥
٣٤٦

فصل :

في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص. والكلام يقع في جهات ثلاث :

الأولى : في لزوم أصل الفحص ، وأنّه هل يجب مطلقا ، أو لا يجب كذلك ، أو هناك تفصيل؟

الثانية : في مقدار الفحص ، وأنّه هل يجب بمقدار يحصل به القطع ، أو الاطمئنان ، أو مطلق الظنّ؟

الثالثة : في الفرق بين الفحص في المقام وبينه في الشبهات البدويّة لجريان الأصول العمليّة.

أمّا الجهة الأولى : فقد ذكر في وجه لزوم الفحص عند احتمال وجود المخصّص وجوه لا فائدة في ذكر جميعها والنقض والإبرام فيها ، فلنقتصر على وجهين منها :

أحدهما : ما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ من أنّ المناط في لزوم الفحص وعدمه هو المعرضيّة للتخصيص وعدمها ، فلو كان هناك عامّ لم يكن معرضا للتخصيص ـ كما هو الغالب في العمومات الصادرة من أهل المحاورة ـ فلا يجب الفحص أصلا ، لاستقرار السيرة من العقلاء على العمل بالعامّ حينئذ ، ولو كان معرضا للتخصيص ـ كما في عمومات الكتاب والسنّة ـ فلا يجوز العمل قبل الفحص ، لاستقرار السيرة على عدم العمل عند ذلك ، ولا أقلّ من الشكّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٦٥.

٣٤٧

في استقرار السيرة على العمل بالعامّ إذا كان كذلك.

هذا ، وما أفاده تامّ على مبناه من أنّ استفادة العموم من أدواته يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في مدخولها ، إذ على هذا المبنى لا بدّ في حمل العامّ على العموم من إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، ومن المعلوم أنّه لو كان من ديدنه الإتيان بالمخصّصات والمقيّدات المنفصلة لا يمكن إحراز أنّه في مقام بيان تمام مراده حتى تتمّ مقدّمات الحكمة ، ويحكم بالعموم ببركتها.

وأمّا على ما اخترناه من أنّ العموم يستفاد من نفس أداة العموم ، وهي بأنفسها متكفّلة لبيان العموم في مدخولها ، فلا يتمّ ذلك ، فإنّ العامّ ينعقد له ظهور في العموم على هذا بلا احتياج إلى جريان مقدّمات الحكمة ، فهو حجّة ما لم يزاحمه حجّة أخرى أقوى منها.

الثاني : ما أفاده شيخنا الأستاذ (١) من أنّه يلزم الفحص عن المخصّص فيما بأيدينا من الكتب المدوّنة التي فيها عمومات الكتاب والسنّة من جهة العلم الإجمالي بورود مخصّصات ومقيّدات ومعارضات كثيرة لها ، فلا بدّ من الفحص بمقدار ينحلّ العلم الإجمالي ، ويخرج المورد عن أطراف الشبهة.

لا يقال : إنّ المعلوم الإجماليّ فيما ذكر مردّد بين الأقلّ والأكثر ، فيؤخذ بالأقلّ ، ولا يلزم الفحص أصلا ، كما لو علمنا إجمالا باشتغال ذمّتنا بالدّين ولا ندري أنّه هل هو دينار أو ديناران أو أكثر فإنّه لا يجب أزيد من المقدار المتيقّن الّذي هو الأقلّ ، وفي الزائد تجري البراءة عن التكليف ، وتصير الشبهة بدويّة بالنسبة إليه.

فإنّا نقول : المعلوم بالإجمال تارة لا يكون له تعيّن في الواقع أصلا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٨١.

٣٤٨

بحيث لا يعلم به أحد حتّى من كان عالما بالغيب ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين لا بعينه ولا بشرط ، فإنّه من المحتمل نجاسة كلا الإناءين في الواقع ، فلا يتعيّن ما هو معلوم إجمالا واقعا ، ومثل هذا العلم الإجمالي لا ينحلّ أصلا ، ولا تصير هذه القضيّة المنفصلة المانعة للخلوّ المشكوكة الطرفين متيقّنة أصلا.

وأخرى يكون له تعيّن في الواقع ونفس الأمر وهو على قسمين :

الأوّل : أن يكون المعلوم بالإجمال كمّيّة خاصّة بحيث لا معرّف له إلّا عنوان العدد ، كما إذا علم باشتغال الذمّة بالدّين في الجملة إمّا دينار أو أكثر ، وفي هذا القسم يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر ، ولازمه انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بالمقدار المتيقّن والشكّ البدوي بالزائد عنه.

الثاني : أن يكون المعلوم بالإجمال الّذي له تعيّن في الواقع معنونا بعنوان خاصّ معرّف له ، كما إذا علم أحد بأنّه مديون ل «زيد» بمقدار مكتوب في الدفتر بحيث يعلم به تفصيلا عند المراجعة إليه.

وفي هذا القسم وإن كان المعلوم مردّدا بين الأقلّ والأكثر إلّا أنّه حيث إنّ الذمّة مشتغلة بمجموع ما في الدفتر ، وتنجّز التكليف بذلك ، فلا ينحلّ العلم الإجمالي ، ولا يلتزم فقيه بأنّه يكفي مراجعة مقدار من الدفتر يظفر بها بالمقدار المتيقّن.

والسرّ في ذلك : أنّ الانحلال في القسم الأوّل من جهة أنّ الشكّ في الزائد عن المقدار المتيقّن شكّ في أصل التكليف ، فيرفع بأصل البراءة ، وفي هذا القسم الشكّ فيه شكّ في التكليف المنجّز الواصل [إلينا] فهو نظير ما إذا شككنا في كون القبلة في هذا الطرف أو ذاك الطرف ، فإنّه لا يجوز الاكتفاء

٣٤٩

بالصلاة إلى أحدهما ، بل لا بدّ من الاحتياط ، فهذا القسم من قبيل الشكّ في المتباينين في الحكم وإن لم يكن منه حقيقة.

إذا عرفت ذلك ، تعرف أنّ المقام من هذا القسم ، إذ بعد ما علمنا إجمالا بوجود مخصّصات ومقيّدات ومعارضات واردة على العمومات الموجودة فيما بأيدينا من الكتب فقد علمنا بوجود التكاليف المنجّزة الواصلة إلينا بحيث يمكننا الظفر عليها عند مراجعة هذه الكتب ، فمعلومنا معنون بعنوان خاصّ غير عنوان العدد ، ولازمه لزوم الفحص ولو في شبهة واحدة باقية وطرف واحد باق من أطراف العلم الإجمالي بهذا العنوان الخاصّ ، لأنّه شكّ في التكليف المنجّز الواصل لا في أصل التكليف حتى يرفع بأصل البراءة. ولا فرق في ذلك بين المخصّصات والمقيّدات والمعارضات ، كما لا يخفى.

وأمّا الجهة الثانية : فالحقّ فيها هو جواز الاكتفاء في الفحص بمقدار يحصل به الاطمئنان على عدم وجود مخصّص أو غيره ، ولا يلزم تحصيل القطع ، لاستقرار سيرة العقلاء على العمل بمجرّد الاطمئنان ، مضافا إلى أنّ تحصيل القطع أمر عسر حرجيّ منفيّ في الشريعة المقدّسة ، ولا يكتفى بمطلق الظنّ ، لعدم الدليل على حجّيّته.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ أدلّة لزوم الفحص عن الشبهات البدويّة ـ مثل ما دلّ على وجوب السؤال والتعلّم ، كرواية «يؤتي بالعبد يوم القيامة فيقال له : هلّا عملت ، فيقول : ما علمت ، فيقال : هلّا تعلّمت» (١) ـ يعمّ المقام أيضا ، إذ كما أنّ الجاهل بالحكم يجب عليه التعلّم والفحص عنه ، ولا يجوز له التمسّك ب «رفع ما لا يعلمون» قبل الفحص ، كذلك من ظفر برواية دالّة على

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ـ ٦ ، وعنه في البحار ٢ : ٢٩ ـ ١٠.

٣٥٠

طهارة الخمر ويحتمل ان يكون هناك رواية أخرى دالّة على نجاسته أقوى منها سندا أو دلالة ، كما هو الواقع ، يجب عليه الفحص عنها ، ولا يجوز له التمسّك بما دلّ على طهارته ، وإلّا يؤتى به يوم القيامة فيقال : هلّا اجتنبت عن الخمر ، فيقول : أنا ما علمت بنجاسته ، فيقال له : هلّا تعلّمت.

والحاصل : أنّه على تقدير عدم وجود العلم الإجمالي بوجود المخصّصات فيما بأيدينا من الكتب أو انحلاله مع وجوده ، مع ذلك يجب الفحص ، ولا يجوز العمل بالعامّ أو المطلق قبل الفحص عن المخصّص والمقيّد والمعارض ، لمكان تلك الأدلّة التي يتمسّك بها على وجوب الفحص في الشبهات البدويّة ، فإنّها بعمومها يشمل المقام أيضا.

أمّا الجهة الثالثة : فلا ريب في الفرق بين الفحص في المقام وبينه في الأصول العمليّة العقليّة ، إذ الفحص في المقام عمّا يزاحم الحجّيّة وعن مطابقة مقام الثبوت للإثبات ـ وبعبارة أخرى : الفحص عن المانع مع وجود المقتضي ـ بخلاف الفحص في الشبهات البدويّة لجريان الأصول العمليّة العقليّة ، فإنّه لإحراز موضوع حكم العقل بالبراءة ، ضرورة أنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب فيما إذا بيّن المولى وظيفة العبد ، وإنّما العبد قعد في بيته ولم يخرج إلى محلّ يسمع بيان المولى ، بل يحكم بقبح العقاب بلا بيان من طرف المولى بحيث لو تفحّص العبد لظفر به ، فموضوع حكم العقل بالبراءة من الأوّل مقيّد بالفحص وعدم الظفر ، فبدون الفحص لا مقتضي للبراءة ولا حجّة عليها.

وأمّا الأصول العملية الشرعيّة مثل : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١)

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٩٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧.

٣٥١

وغير ذلك ، فهي وإن كانت عامّة شاملة لكلّ ما شكّ في حكمه فحص عنه أو لا ، إلّا أنّها خصّصت بما بعد الفحص قطعا إمّا بالدليل العقلي المتّصل أو المنفصل أو اللفظي المنفصل.

فإنّ خصّصت بالقرينة العقليّة الضرورية المتّصلة بحيث لا ينعقد لها ظهور إلّا في الخاصّ ، وفي الشبهات بعد الفحص ، فحالها حال الأصول العقليّة العمليّة في أنّ موضوعها من الأوّل مقيّد بما بعد الفحص.

وإن خصّصت بالقرينة المنفصلة العقليّة أو اللفظيّة ، فربما يقال بعدم الفرق بين المقامين ، وأنّ الفحص في كليهما يكون عمّا يزاحم الحجّيّة ، إذ الظهور منعقد للعامّ في العموم ، وتمّت حجّيّته على ذلك في الأصل اللفظي والعملي بلا تفاوت بينهما.

ولكنّ التحقيق أنّ الموضوع والمقتضي للبراءة لا يكون تامّا مطلقا حتّى في أدلّة البراءة الشرعيّة المخصّصة بالقرينة المنفصلة ، وذلك لأنّ لنا حينئذ فحصين : أحدهما : الفحص عن مخصّص «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» وغيره من أدلّة البراءة الشرعيّة ، فإنّه أيضا عامّ نحتمل وجود مخصّص له ، فإذا فحصنا وظفرنا بما دلّ على وجوب السؤال والتعلّم والفحص الّذي هو مخصّص له ، فنرى أنّ نفس هذا المخصّص يدلّ على وجوب الفحص ، فيقيّد العامّ في «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» بما بعد الفحص ، فكأنّه قال : كلّ شيء فحصت عن حكمه وما ظفرت به مطلق ، فلا بدّ بمقتضى دليل المخصّص من فحص آخر لإحراز موضوع حكم البراءة الشرعيّة في الشبهات البدويّة.

وهذا الفحص الثاني عن مقتضي البراءة وعن نفس الحجّة ، بخلاف الفحص الأوّل ، فإنّه عمّا يزاحم الحجّة.

٣٥٢

والحاصل : أنّ أدلّة البراءة الشرعيّة وإن كانت أصولا لفظيّة عامّة ، ويكون الفحص عن مخصّصات هذه الأصول فحصا عمّا يزاحم الحجّيّة ، فلا فرق بين المقامين من هذه الجهة إلّا أنّه بعد الفحص والظفر بالمخصّص تقيّد هذه العمومات بما بعد الفحص ، فيصير موضوع الحكم فيها بعد التقييد هو الشبهات بعد الفحص ، فعلى هذا يكون الفحص في الشبهات البدويّة لتماميّة المقتضي ولإحراز موضوع أصل البراءة مطلقا ، بخلافه في الأصول اللفظيّة ، فإنّه لإحراز أنّ مقام الثبوت على طبق مقام الإثبات. وبعبارة أخرى : الفحص عن المانع مع وجود المقتضي.

* * *

٣٥٣
٣٥٤

فصل

هل الخطابات الشفاهيّة ، مثل : «يا أيّها المؤمنون» تختصّ بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعمّ غيره من الغائبين بل المعدومين؟ فيه خلاف. والكلام يقع في جهات ثلاث :

الأولى : في صحّة تعلّق التكليف بالمعدومين وعدمها.

ولا ريب [في] أنّ التكليف بمعنى البعث الفعلي والزجر الفعلي يستحيل تعلّقه بالمعدومين حتى على القول بإمكان الواجب التعليقي ، ضرورة أنّ التكليف لا بدّ له من موضوع ومكلّف يتوجّه إليه التكليف بحيث يتمكّن من الامتثال ولو فيما بعد ، ولا يعقل تكليف المعدوم فعلا بفعل ولو على تقدير وجوده ومعلّقا عليه ، ولا يقاس ذلك بالواجب التعليقي ، فإنّ المكلّف هناك موجود ، فلا مانع من تكليفه بالفعل بشيء معلّقا على زمان متأخّر ، بخلاف المقام.

نعم ، جعل الحكم على المعدومين فضلا عن الغائبين بنحو القضايا الحقيقية ـ سواء كان بأداة الخطاب أو بغيرها ـ بمكان من الإمكان ، كما في قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) فإنّه تعالى جعل وجوب الحجّ بنحو القضيّة الحقيقيّة على عامّة المستطيعين ، وذلك من جهة أنّ القضيّة الحقيقية إنّما هي متكفّلة لبيان الحكم وإثباته على الموضوعات المقدّر وجودها ، بل شأنها إثبات الملازمة بين الحكم والموضوع على فرض

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٣٥٥

الوجود ، ولا ينظر فيها إلى وجود الموضوع أصلا.

الجهة الثانية : في صحّة المخاطبة معهم بأداة الخطاب أو بنفس توجيه الكلام إليهم وعدمها.

ولا ريب في عدم صحّتها ، فإنّ الخطاب الحقيقي عبارة عن توجيه الكلام نحو المخاطب وتفهيمه إيّاه ، ولا يمكن ذلك إلّا مع وجود المخاطب والتفاته ، فلا تصحّ المخاطبة مع الموجودين الحاضرين مجلس الخطاب لو كانوا نائمين فضلا عن المخاطبة مع الغائبين أو المعدومين.

الجهة الثالثة : في أنّ أداة الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي أو لا؟.

والظاهر أنّها لو استعملت في القضايا الخارجية ، تكون ظاهرة في الخطاب الحقيقي ، واستعمالها فيها أحيانا بغير داعي التفهيم ـ بتنزيل المعدوم منزلة الموجود ، والغائب منزلة الحاضر ـ وإن كان ممكنا وصحيحا ، كما في «يا أبتاه» و «يا أمّاه» لو قيل في مقام التحسّر ، إلّا أنّه خلاف ظاهر الكلام ، ولذا يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة صارفة عمّا هو الظاهر منه ، ولكن لو استعملت في القضايا الحقيقيّة ، فلا يحتاج إلى عناية أصلا ، فإنّ تنزيل المعدوم والغائب منزلة الموجود والحاضر ، المصحّح للخطاب معهما عبارة أخرى عن كون الموضوع مفروض الوجود ، ولا ريب [في] أنّه مقوّم لكون القضيّة حقيقيّة.

تذييل : في ثمرة هذا البحث. وقد ذكر له ثمرتان :

الأولى : حجّيّة ظواهر الكتاب للمعدومين بناء على عموم الخطابات لهم.

وفيه : أوّلا : أنّه يبتني على مقالة المحقّق القمّي (١) ـ قدس‌سره ـ من أنّ حجّيّة

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٢٣٣.

٣٥٦

الظواهر تختصّ بمن قصد إفهامه. وسيجيء إن شاء الله أنّه خلاف التحقيق.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك ، فلا نسلّم انحصار المقصودين بالإفهام بالمشافهين ، بل بينهما عموم من وجه ، إذ ربّما يكون شخص مخاطبا ومقصودا بالإفهام ، وربّما يكون «زيد» مثلا مخاطبا فقط والمقصود بالإفهام شخص آخر ، وربما يكون «زيد» مقصودا بالإفهام والمخاطب شخص آخر.

الثانية ـ وهي العمدة المفيدة ـ : صحّة التمسّك بالإطلاق على القول بالتعميم ، فإنّ الخطابات القرآنية لو كانت شاملة لغير المشافهين ، يصحّ التمسّك بإطلاقاتها لرفع كلّ ما يحتمل كونه قيدا للحكم ودخيلا فيه ، ولا يحتاج إلى التمسّك بقاعدة الاشتراك في التكليف حتّى يلزم إحراز اتّحاد المشافهين وغيرهم صنفا.

وأمّا لو لم تكن شاملة لهم ، فلو كان الخطاب نصّا ، فلا كلام فيه ، ولو كان مطلقا ، فإن كان ما يحتمل دخله في الحكم وكونه قيدا له من الأمور الممكنة الزوال ، ككون الخطاب في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي المدينة وغير ذلك ممّا لا يكون فيه اقتضاء البقاء والاستمرار في حق المشافهين ، فيصحّ أيضا التمسّك بالإطلاق ، ويثبت بذلك الاتّحاد في الصنف ، ويسري الحكم إلى غير المشافهين بواسطة قاعدة الاشتراك في التكليف.

وإن لم يكن كذلك ، بل كان ممّا له اقتضاء البقاء في حقّ المشافهين ، كما احتمل بعض دخل زمان الحضور في وجوب صلاة الجمعة ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق ، لعدم لزوم ذكر مثل هذه القيود ـ لو كان له دخل في الحكم ـ على المولى ، ومعه لا يحرز اتّحاد الصنف حتى نتمسّك بذيل قاعدة الاشتراك ، ونسري الحكم إلى غير المشافهين ، كما لا يخفى.

٣٥٧
٣٥٨

فصل

إذا تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، كما في قوله تعالى : (الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) و (بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(١) حيث إنّ (الْمُطَلَّقاتُ) عامّ للرجعيّات والبائنات ، والمراد من الضمير في (وَبُعُولَتُهُنَ) هو الرجعيّات فقط ، فهل يوجب ذلك تخصيص العامّ بخصوص الرجعيّات أم لا؟

والأقوال ثلاثة : قول بتقدّم أصالة العموم في طرف العامّ ، والالتزام بالاستخدام في طرف الضمير ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (٢) ، وقول بتقدّم أصالة عدم الاستخدام على أصالة العموم ، والالتزام بالتخصيص ، كما أفاده بعض ، وقول ثالث بعدم جريان كلا الأصلين ، ولزوم الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العمليّة ، كما أفاده صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره.

وحاصل ما أفاده في المقام هو : أنّه حيث إنّ أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام وأصالة الإطلاق ، وغيرها ـ والجامع للكلّ هو أصالة الظهور ـ تكون من الأصول اللفظيّة البنائية العقلائية ، ولا تكون حجيّتها من باب التعبّد بها ، فلا بدّ من العمل بها بمقدار بني عليه عملهم يقينا ، وجرى عليه سيرتهم قطعا ، ولا يجوز التعدّي من ذلك ، وإنّما المعلوم من بنائهم واستقرار سيرتهم هو العمل بها فيما إذا شكّ فيما أريد لا فيما إذا شكّ في أنّه كيف أريد. وبعبارة

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٩٢.

(٣) كفاية الأصول : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٣٥٩

أخرى : في الشكّ في المراد لا في كيفيّة الاستعمال بعد معلوميّة المراد ، وأنّه هل هو بنحو الاستخدام أو غير ذلك؟ فلا وجه للعمل بأصالة الظهور وأصالة عدم الاستخدام في ناحية الضمير ، وهكذا لا مورد للعمل بأصالة العموم في طرف العامّ وإن كان الشكّ فيه في أصل المراد ، إذ موردها يختصّ بما إذا انعقد للكلام ظهور في العموم بأن لا يكون الكلام مشتملا على ما يصلح للقرينيّة على الخصوص ، كما في المقام ، فإنّ رجوع الضمير إلى بعض أفراد العامّ يكون ممّا يحتمل أن يتّكل عليه ، ويجعله قرينة على الخصوص ، لكونه صالحا لذلك.

هذا ، وأورد عليه شيخنا الأستاذ بأنّ المقام لا يصلح لأن يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة ، فإنّ الميزان في باب اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة هو أن يكون ذلك في كلام واحد ، وأمّا لو كان في كلامين مستقلّين ، فلا يجوز للمولى أن يتّكل بما في أحدهما على إرادة خلاف الظاهر من الآخر ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ (الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) كلام مستقلّ متكفّل لحكم ، و (بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) كلام آخر مستقلّ مشتمل على حكم آخر ، فلو اتّكل على ما في هذا الكلام من الضمير على إرادة الخصوص من العامّ في ذاك الكلام ، فقد أخلّ ببيان مرامه (١).

والحقّ في المقام هو الالتزام بالتخصيص ، وأنّ رجوع الضمير إلى بعض الأفراد قرينة عرفيّة على أنّ المراد من العامّ هو الخصوص.

وذلك لأنّ لنا ظهورين : أحدهما : ظهور العامّ في العموم ، والآخر : ظهور الضمير في اتّحاد ما يراد منه مع ما يراد من مرجعه ، ومن الواضح أنّ الظهور الثاني مقدّم عرفا. وذلك من جهة أنّ الضمير بمنزلة اسم الإشارة بعينه ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

٣٦٠