الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

المخصّص لبيا لا يجوز على الإطلاق ، كما زعم صاحب الكفاية قدس‌سره ، بل يختصّ الجواز بما إذا كان كاشفا عن الملاك غير مقيّد للعامّ أو مردّدا بينهما لكنّه كان دليلا عقليّا نظريّا. هذا خلاصة ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره.

والظاهر أنّ ما أفاده من التفصيل بل غيره من التفصيلات المذكورة في المقام كلّها نشأت من الخلط بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة.

والحقّ (١) أنّ التمسّك بالعامّ ـ في محلّ الكلام ـ في القضايا الحقيقيّة التي

__________________

(١) أقول : لا شبهة في تقييد المخصّص موضوع الحكم والعام بنقيض عنوان المخصّص بالنسبة إلى المراد الجدّي والواقعي ، سواء كان المخصّص لفظيّا أو لبّيّا ، وبعد التقييد يصير الموضوع مركّبا من جزءين : أحدهما : عنوان العامّ ، والآخر : نقيض عنوان الخاصّ ، كما أفاده دام ظلّه. ولا فرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة إلّا في أنّ المولى أوكل إحراز الموضوع بكلا جزأيه إلى العبد ، وجعله على ذمّته في القضايا الحقيقيّة أو الخارجيّة التي يكون المخصّص فيها لبّيّا محتملا للقرينيّة وفي القضايا الخارجيّة أحرز أحد جزأي الموضوع هو بنفسه ، وجعل إحراز الجزء الآخر على عهدة المكلّف ـ إذ الكلام في المخصّص العنواني الّذي أخذ مفروض الوجود ، مثل عنوان العدوّ ، لا الفرد ، مثل «زيد» فإنّه ليس من قبيل الشبهة المصداقيّة التي هي محلّ الكلام ، كما لا يخفى ـ ومن المعلوم أنّ مجرّد هذا الفرق لا يكون فارقا بين الخارجيّة والحقيقيّة من اللّبّيّات غير المحتملة للقرينيّة فيما نحن بصدده ، وهو جواز التمسّك بالعامّ في الأوّل وعدمه في الثاني ، وذلك لأنّ أحد الجزءين محرز على الفرض والآخر موكول إلى العبد ، فكما أنّ في الحقيقيّة من القضايا لا بدّ للعبد من إحرازها فكذلك في الخارجيّة منها.

وتوهّم أنّ الموضوع في هذا القسم من اللّبّيّات أحرزه المولى بنفسه بكلا جزأيه لانعقاد الظهور للعامّ ، فاسد ، إذ قد مرّ أنّه ليس كلّ ظاهر بحجّة ، بل الحجّة هو الظهور الثانوي للعامّ في المراد الواقعي.

وبعبارة أخرى : حجّيّة العامّ بمقدار كاشفيّته عن المراد الواقعي ، فإذا لم يكن بواسطة المخصّص ظاهرا في العموم ظهورا ثانويّا كاشفا عن المراد الواقعي ، فلا محالة لا يدلّ على أنّ جميع ما يشير إليه المولى بقوله : «أكرم هؤلاء العلماء» مثلا غير أعداء له ، بل بعد القطع بأنّه لا يريد إكرام العدوّ نقطع أنّ مراده من هذا القول أنّه أكرم من هؤلاء العلماء كلّ ـ

٣٢١

يجري عليها الأحكام لا يجوز على الإطلاق ، سواء كان المخصّص لفظيّا أو لبّيّا ، كاشفا عن الملاك أو مقيّدا لموضوع الحكم أو محتملا لكلّ منهما ، وفي القضايا الخارجيّة تفصيل يأتي.

وقد ظهر وجهه في المخصّص اللفظي المتّصل والمنفصل واللّبّي الضروري الصارف لظهور الكلام ، والنظريّ الصالح لتقييد العامّ.

أمّا اللّبّي الكاشف عن الملاك ، كحكم العقل بأنّ ملاك وجوب إكرام الجيران عدم عداوتهم ، فحيث إنّ العقل لا يشكّ في موضوع حكمه بالضرورة فلو حكم بأنّ العدوّ ليس فيه ملاك الوجوب ، إنّما الملاك في غيره ، فلا محالة يعلم بأنّ أيّ شيء وأيّ عنوان يكون فيه ملاك الوجوب ، فكشف العقل عن ملاك الحكم ملازم لكشفه عن عنوان المقيّد ، فيقيّد العامّ به ، ولا يجوز التمسّك به في المصداق المشكوك.

وأمّا اللّبّي المردّد بين كونه مقيّدا للعامّ أو كاشفا عن الملاك : فمضافا إلى أنّه لا يتصوّر الترديد في ذلك ، أنّ العقل لا يشكّ في مناط حكمه بخروج الأعداء عن تحت العامّ ، وبعد علمه بمناط الحكم وملاكه يعلم بعنوان المقيّد لا محالة ، لمكان الملازمة.

وبعبارة أخرى : لو سألنا عن العقل عن أنّ خروج الأعداء لما ذا؟ ولأيّ

__________________

ـ من لا يكون عدوّا لي ، فالمشار إليهم بمقتضى ظاهر كلامه «العلماء» يقينا ، ولا يحتاج إلى إحرازنا ذلك ، أمّا كونهم غير أعداء له فليس لنا دليل يدلّ عليه ، فلا بدّ من إحرازه ، فلا يفرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة من هذه الجهة التي فرّق [بها] بينهما سيّدنا الأستاذ دام ظلّه العالي.

ولكن دعوى جريان السيرة من العقلاء على الأخذ بالعمومات إذا كانت مخصّصة باللّبّيّات غير المحتملة للقرينيّة في مطلق القضايا حقيقيّة كانت أو خارجيّة ، غير بعيدة جدّاً. (م).

٣٢٢

جهة؟ لا يمكن أن يتوقّف في ذلك.

فإنّ أجاب بأنّه لعداوتهم ، فيقيّد العامّ بما يلازم عدم هذا العنوان.

وإن أجاب بأنّه لشقاوتهم أو لفسقهم أو لإيذائهم وأمثال ذلك ، فكذلك.

وإن أجاب بأنّي أعلم إجمالا أنّه أحد هذه العناوين إمّا الشقاوة أو الفسق أو الإيذاء وهكذا ، فيقيّد العامّ بالعنوان الملازم للجميع بحسب مقام الإثبات ، ويكون من قبيل الشبهة المفهوميّة ودوران الأمر بين المتباينات ، فيخرج عن محلّ الكلام (١).

فعلى جميع التقادير يقيّد العامّ بغير عنوان المخصّص أو ما يلازمه ، وبعد ذلك حيث إنّ القضيّة حقيقيّة ، وتطبيق الموضوع على ما في الخارج يكون على ذمّة العبد ، فلا بدّ له من إحراز موضوع الحكم بجميع قيوده ، فإذا شكّ في قيد في فرد ، لا يصحّ تسرية الحكم إليه ، ضرورة أنّ الحكم لا يكون محقّقا لموضوعه.

هذا كلّه في القضيّة الحقيقيّة ، أمّا الخارجيّة منها : فالحقّ فيها هو التفصيل الّذي أفاده شيخنا الأستاذ (١) ، وهو بأدنى تفاوت يجري في القضايا الخارجيّة فقط ، وذلك لأنّ المخصّص لو كان لفظيّا ، فحيث إنّه عنوان يقيّد موضوع الحكم ، وإنّه يقدّم على العامّ لأظهريته منه ـ ولا محالة يكون عنوانا من العناوين ، إذ لو كان فردا خارجيّا وشكّ في خروج فرد آخر ، فهو من الشكّ في التخصيص الزائد ، وخارج عن محلّ الكلام ـ فبعد ذلك إحراز الموضوع وقيده يكون من وظيفة العبد ، ولا يجوز التمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك.

__________________

(١) أقول : وإن أجاب بأنّه إمّا الشقاوة فقط أو هي مع الفسق والإيذاء ، فيكون أيضا من قبيل الشبهة المفهوميّة ودوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، ويخرج عن محلّ الكلام أيضا. (م).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣١٩.

٣٢٣

ولو كان مخصّصا لبّيّا صالحا لصرف ظهور الكلام والعامّ عن العموم ، وكان ممّا يمكن أن يتّكل عليه المتكلّم ، فحيث إنّه يكون حينئذ من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة ، فيسقط العامّ عن الظهور في العموم ، أي : لا ينعقد له ظهور في العموم ، ففي المخصّص اللفظي وإن انعقد للعامّ ظهور في العموم ولا ينقلب عمّا هو عليه إلّا أنّ الخاصّ لأقوائيّته في الظهور يقدّم على العامّ ، وفي اللّبّي المحتمل للقرينيّة لا ينعقد من الأوّل ظهور للعامّ في العموم ، ففي كلّ منهما ما هو الحجّة للعبد هو العامّ المقيّد بنقيض الخاصّ ، فلا بدّ له من إحراز العامّ وقيده ، لأنّ القضيّة وإن كانت خارجيّة إلّا أنّ المخصّص سواء كان لفظيّا أو لبّيّا حيث إنّه عنوان أخذ مفروض الوجود لا فرد خارجيّ ، يستكشف منه أنّ المولى جعل تطبيق الموضوع الخارجيّ المقيّد أو محتمل التقييد بعنوان مأخوذ مفروض الوجود على ذمّة المكلّف وعهدته ، فكأنّه قال : «أكرم من هؤلاء الجيران كلّ من لا يكون عدوّا لي» فلا بدّ للعبد من إحراز أنّ هذا الفرد ـ مثلا ـ ممّن لا يكون عدوّا له حتّى يجب إكرامه عليه ولا يجب إكرام من يكون مشكوكا عداوته ، وليس للمولى أن يعاقب العبد على ترك إكرامه ، فإنّ العبد له حجّة على المولى ، فيجيبه ـ لو سأله عنه ـ ب «لا ، إنّك تكلّمت بكلام غير ظاهر ببركة القرينة اللفظيّة أو العقليّة المنفصلة الصالحة لصرف ظهور الكلام في العموم في غير وجوب إكرام من لا يكون عدوّا لك من الجيران ، وأنا لم أحرز ذلك».

ولو كان المخصّص لبّيّا نظريّا لا يصلح لصرف ظهور العامّ في العموم ، فحيث إنّ العامّ انعقد ظهوره في العموم ، وتمّ الحجّة للمولى على العبد ، والمولى بنفسه أحرز انطباق الموضوع على ما في الخارج ، فنفس العموم

٣٢٤

كاشف عن عدم كون المشكوك عدوّا له ، ويحمل سكوت المولى عمّن قطع بعداوته وأنّه لا يريد المولى إكرامه على المصلحة فيه أو الغفلة ، وليس للعبد ترك إكرام المشكوك عداوته ، إذ المولى هو بنفسه أحرز عدمها ، وإلّا لم يلق كلاما عامّا شاملا له ، ولا يقبل من العبد الاعتذار : «إنّي قطعت بأنّك لا تريد إكرام عدوّك ، ولم أحرز عدم عداوة هذا الفرد» لأنّ المولى يجيبه ب «أنّك ما سمعت قولي : أكرم جميع هؤلاء الجيران؟ وأيّ شغل لك بوجود الملاك في هذا الفرد أم عدمه بعد قولي : أكرمه؟» فالتمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة يصحّ في مثل «لعن الله بني أميّة قاطبة» المخصّص قطعا بغير المؤمن على تقدير كونه قضيّة خارجيّة و «بع جميع كتبي» المخصّص عقلا بغير الكتب التي كتبها المولى بنفسه ـ مثلا ـ وغيرهما من القضايا الخارجيّة التي خصّصت بالدليل العقلي ، ولم يكن الدليل العقلي بحيث يصلح لصرف ظهور العامّ في العموم. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني : أنّه بعد ما ثبت عدم جواز التمسّك بالعامّ ـ مطلقا أو في الجملة ـ في الشبهة المصداقيّة لإسراء الحكم إلى الفرد المشكوك ـ من جهة أنّ العامّ على كلّ تقدير يقيّد بنقيض عنوان الخاصّ ، ولا يمكن إحراز قيد موضوع الحكم بنفس الحكم ـ يقع الكلام في أنّ قيد العامّ هل يمكن إحرازه بالأصل العملي حتى يضمّ الوجدان إلى الأصل ، ويلتئم الموضوع أم لا؟

لا ريب في جريان الأصل فيما إذا كان له حالة سابقة ، كما إذا كان العالم المشكوك فسقه غير فاسق سابقا والآن شكّ في ذلك ، فيحرز أحد جزأي الموضوع ـ وهو كونه عالما ـ بالوجدان والآخر بالتعبّد ، فيلتئم الموضوع.

أمّا ما لم يكن له حالة سابقة ـ كقرشيّة المرأة ، فإنّ المرأة عند وجودها إمّا

٣٢٥

وجدت قرشيّة أو غير قرشيّة ـ فوقع النزاع بين شيخنا الأستاذ وصاحب الكفاية في جريان الأصل فيه.

والتزم صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بذلك بدعوى أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بمنفصل أو متّصل حيث إنّه معنون بعنوان عدميّ غالبا ـ إذ المخصّص في غالب الأوقات يكون أمرا وجوديّا والعامّ يقيّد بنقيضه ـ يكون إحراز المشكوك منه بالأصل الموضوعي ممكنا. مثلا : إذا شكّ في امرأة أنّها قرشيّة أو غير قرشيّة وإن لم يكن هناك أصل يحرز به أنّها قرشيّة أو غيرها ، لعدم وجود الحالة السابقة لإحداهما ، إلّا أنّ استصحاب عدم الانتساب بالقريش ، وعدم اتّصافها بأنّها قرشيّة ـ حيث إنّها قبل وجودها كانت نفسها معدومة وانتسابها بالقريش أيضا كانت معدومة ، فعند وجودها نعلم بوجود نفسها ، ونشكّ في أنّ صفتها وانتسابها بالقريش هل انقلب من العدم إلى الوجود أم لا؟ ـ يفيد في إحراز أنّها لا تكون منتسبة إلى القريش ، ويحكم بأنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى خمسين (١).

وأورد عليه شيخنا الأستاذ : بأنّه لا يمكن إحرازه بالأصل في أمثال هذا المثال ممّا لا يكون للوصف حالة سابقة. وقدّم لتنقيح مرامه مقدّمات ثلاثا :

الأولى : أنّ التخصيص ـ أيّا ما كان ـ يوجب تقييد عنوان العامّ بنقيض عنوان الخاصّ ، فلو كان أمرا وجوديّا ، فالباقي تحت العامّ مقيّد بعنوان عدميّ ، وإن كان عدميّا ، فالباقي مقيّد بعنوان وجوديّ ، ضرورة أنّه لا يمكن أن يبقى العامّ على عمومه حتّى بالنسبة إلى أفراد المخصّص وعنوانه بعد التخصيص ، وإلّا يلزم التناقض ، فإنّ السالبة الجزئية تنافي الموجبة الكلّيّة ، كما أنّ الموجبة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٦١.

٣٢٦

الجزئية تناقض السالبة الكلّيّة ، ولا فرق بين المتّصل والمنفصل إلّا في أنّ [المتّصل] يوجب انعقاد الظهور في الخاصّ ، وتقييد العامّ بنقيض عنوان الخاصّ من أوّل الأمر ، بخلاف المنفصل ، فإنّ التقييد فيه يكون بالقياس إلى المراد الجدّي والواقعي ، كما مرّ.

المقدّمة الثانية : أنّه إذا كان الموضوع مركّبا من جزءين ، فإمّا أن يكون كلاهما جوهرين أو عرضين ـ والمراد بالعرض ما يساوق الوصف لا العرض باصطلاح الفلسفي ـ أو يكون أحدهما جوهرا والآخر عرضا ، والحصر عقلي ينحصر في هذه الأقسام الثلاثة بلا زيادة ونقيصة.

فإن كان مركّبا من جوهرين كما إذا ورد : «أنّ من له ابنان فليتصدّق بكذا» فلا شبهة في جريان الاستصحاب في أحدهما ، وانضمامه إلى الوجدان في الآخر ، ويلتئم الموضوع بذلك ، إذ أحد الجزءين أجنبيّ عن الآخر ، ولا ارتباط بينهما ، والموضوع ليس إلّا اجتماعهما في الزمان ، وأنّ زمانا ظرف لكلا الوجودين ، فإذا أحرز أحدهما بالوجدان ، والآخر بالتعبّد الشرعي ، فيتحقّق الموضوع.

نعم ، لو كان الموضوع عنوانا بسيطا ، مثل التقارن ، وكان مسبّبا عن تحقّق هذين الجزءين في الزمان ، لا يجري الأصل ، إذ تحقّق الجوهرين المحصّلين لعنوان بسيط لا يثبت بذلك ، العنوان.

وهكذا الكلام فيما يكون كلا جزأي الموضوع عرضين ـ سواء كانا لموضوع واحد أو لموضوعين ـ كعلم زيد وعدالته ، وعلم زيد وعدالة عمرو ، وهكذا فيما يكون أحدهما جوهرا والآخر عرضا قائما بمحلّ آخر غير هذا الموضوع ، فيجري الأصل في هذا القسم أيضا ، فيمكن إحراز أحدهما

٣٢٧

بالوجدان والآخر بالأصل فيما لم يكن العرضان أو الجوهر والعرض القائم بغير هذا الجوهر محصّلين لعنوان بسيط يكون هو الموضوع ، كما في القسم الأوّل.

ومن هذا القبيل رواية «لو ركع المأموم والإمام راكع» (١) الواردة في صلاة الجماعة لو قلنا بأنّ الواو للحال ، ويستفاد منه أنّه لو تقارن ركوع المأموم مع ركوع الإمام ، فتصحّ صلاة المأموم مثلا ، فحينئذ لو ركع المأموم وشكّ في تقارنه مع ركوع الإمام ، لا يفيد استصحاب بقاء الإمام راكعا إلى زمان ركوع المأموم لإثبات التقارن ، بخلاف ما لو لم نقل بكون الواو للحال ، فيكون الموضوع مركّبا من عرضين : ركوع الإمام وركوع المأموم في زمان واحد ، فإنّه يمكن استصحاب بقاء الإمام راكعا إلى زمان ركوع المأموم ، فيتحقّق الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل.

ومن هذا القبيل أيضا مسألة موت المورّث في زمان حياة الوارث.

وإن كان أحدهما جوهرا والآخر عرضا قائما به ـ ولا يمكن ذلك إلّا بأن يكون اتّصاف المحلّ بهذا العرض أحد جزأي الموضوع ، كاتّصاف الماء بالكرّيّة ، إذ لو كان نفس الكرّيّة مأخوذة في الموضوع دون اتّصاف الماء بها ، للزم الخلف ، إذ لازمه تحقّق الموضوع بتحقّق الماء وكريّة الدبس [مثلا] والمفروض أنّ الموضوع مركّب من جوهر وعرض قائم بنفس هذا الجوهر لا قائم بمحلّ آخر ، ومن المعلوم في مقرّه أنّ وجود العرض في نفسه هو وجوده في محلّه وموضوعه بعينه ، فلا ينفكّ وجود العرض عن وجود محلّه ـ فإذا كان كذلك ، فلا يمكن إحراز أحدهما بالوجدان ، والآخر بالأصل ، إذ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨٢ ـ ٥ و ٦ ، الفقيه ١ : ٢٥٤ ـ ١١٤٩ ، التهذيب ٣ : ٤٣ ـ ٤٤ ـ ١٥٢ و ١٥٣ ، الاستبصار ١ : ٤٣٥ ـ ١٦٧٩ و ١٦٨٠ ، الوسائل ٨ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ ، الباب ٤٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١ و ٢ ، نقلا بالمعنى.

٣٢٨

الاتّصاف بالكرّيّة لا حالة سابقة له حتى تستصحب على الفرض ، ونفس الكرّيّة لا فائدة في استصحابها ، لما عرفت من أنّ ما هو مأخوذ في موضوع الحكم هو اتّصاف الماء بالكرّيّة لا نفسها ، فحينئذ لو كان هناك حوض فيه مقدار الكرّ من الماء فشككنا بعد ذلك في كرّيّته من جهة احتمال أنّه انعدم ووجد ماء آخر غير بالغ حدّ الكرّ ، لا يمكن استصحاب كرّيّة هذا الماء ، إذ هذا الماء متى كان كرّا حتى نستصحب كرّيّته؟ واستصحاب وجود الكرّ في الحوض وان كان يجري إلّا أنّه لا يثبت كرّيّة هذا الماء الموجود فيه إلّا على القول بحجّيّة الأصول المثبتة.

والحاصل : أنّ الأوصاف التي لم يكن لها حالة سابقة بل لا ينفكّ وجودها عن وجود موضوعها إذا أخذت في موضوع الحكم ، ليس لنا إحرازها بالاستصحاب بعد ما أحرزنا الجزء الآخر المأخوذ في الموضوع بالوجدان ، إذ استصحاب الوصف بمفاد «كان» التامّة وإن كان جاريا إلّا أنّه لا يثبت اتّصاف الموضوع به ، واستصحابه بمفاد «كان» الناقصة مثبت غير حجّة على ما تقرّر في مقرّه.

هذا كلّه فيما إذا كان الوصف أمرا وجوديّا ، ولو كان الوصف المأخوذ في الموضوع أمرا عدميّا ، مثل أن يقال : «الماء الّذي لا يكون كرّا ينفعل» فالكلام الكلام.

ففي المثال المتقدّم لو كان الماء الموجود في الحوض قليلا في زمان وشككنا بعد ذلك في بقائه على حالة قلّته لأجل احتمال معدوميّته ووجود ماء آخر بالغ حدّ الكرّ ، فاستصحاب عدم وجود الكرّ في الحوض ـ المسمّى بالعدم الأزلي والمحمولي باعتبار أنّ العدم يحمل على الوصف فيقال : «وصف الكرّيّة

٣٢٩

معدوم» مثلا ـ حيث إنّ له حالة سابقة يجري لكنّه لا يثبت أنّ هذا الماء لا يكون كرّا ، واستصحاب عدم كون هذا الماء كرّا ـ المسمّى بالعدم النعتيّ ـ لا يكون جاريا ، لعدم الحالة السابقة له.

المقدّمة الثالثة : أنّ ما يوجد من الأوصاف والأعراض بوجود موصوفه ومعروضه بعد وجود موضوعه لا يمكن أن يتّصف الموضوع بعدم ذلك الوصف ووجوده معا ، ضرورة استحالة اجتماع النقيضين ، ولا أن لا يتّصف بأحدهما ، بداهة استحالة ارتفاع النقيضين ، بل لا بدّ حين وجود الموضوع من اتّصافه إمّا بوجود ذلك الوصف أو بعدمه ، أمّا لو لم يضع الموضوع قدمه في عالم الوجود ، فلا يتّصف لا بوجود وصفه ولا بعدمه ، ولا يكون هذا من ارتفاع النقيضين ، المستحيل ، إذ المعدوم لا يمكن أن يتّصف بشيء وجوديّ أو عدميّ ، نعم ، كما أنّ نفس الموضوع معدوم ، كذلك نفس الصفة أيضا معدوم ، لكن اتّصاف الموضوع المعدوم بصفة ، وهكذا اتّصافه بعدمها غير معقول ، فلا يمكن أن يقال : «إنّ هذا الماء قبل وجوده كان متّصفا بعدم الكرّيّة والآن كما كان».

وبعد ما عرفت هذه المقدّمات الثلاث تعرف أنّه تقيّد المرأة بأنّها غير قرشيّة لا محالة في المثال المذكور بمقتضى المقدّمة الأولى ، وأنّ هذا التقييد يكون على نحو مفاد «كان» الناقصة والعدم النعتيّ ، وأنّ التقييد هو اتّصاف المرأة بأن لا تكون من قريش بمقتضى المقدّمة الثانية ، وأنّه يستحيل اتّصاف المرأة قبل وجودها بهذا الوصف بمقتضى المقدّمة الثالثة ، فلا يمكن إحراز هذا القيد بالأصل ، فإنّه مشكوك من أوّل الأمر ، ونفس عدم القرشيّة وإن كان يجري

٣٣٠

فيه الأصل ، إلّا أنّه لا يكون قيدا مأخوذا في الموضوع ، فلا يفيد إحرازه (١). هذا خلاصة ما أفاده في وجه عدم جريان الأصل في الأعدام الأزليّة.

ولا شبهة في المقدّمة الأولى من المقدّمات التي بنى مقصوده عليها من أنّه لا يمكن بقاء العامّ على عمومه بعد ورود الخاصّ ، ضرورة أنّ السالبة الجزئية تنافي وتناقض الموجبة الكلّيّة ، وهكذا العكس ، ولا ريب أيضا في المقدّمة الثالثة من أنّ اتّصاف الموضوع بالعدم ـ كاتّصافه بوجود الوصف ـ ليس له حالة سابقة.

إنّما الإشكال في المقدّمة الثانية من أنّه لو كان الموضوع مركّبا من عرض ومحلّه ، فلا محالة يكون القيد هو الاتّصاف بهذا العرض. وبعبارة أخرى : هو وجود العرض بمفاد «كان» الناقصة. ولو كان أمرا عدميّا ـ كما هو الغالب في العمومات ـ يكون القيد العدم النعتيّ والعدم بمفاد «ليس» الناقصة.

وحاصل ما أفاده في وجهه : أنّ الموضوع في مثل «أكرم كلّ عالم» بعد ورود «لا تكرم الفاسق» حيث إنّه مقيّد ـ بمقتضى المقدّمة الأولى ـ بنقيض عنوان الخاصّ ، فلو كان التقييد بنحو «ليس» التامّة بحيث كان الموضوع هو «كلّ عالم لم يكن معه فسق» فإمّا أن يكون الموضوع باقيا على إطلاقه من جهة النعتيّة حتّى يكون الموضوع هو «العالم الّذي لم يكن معه فسق سواء كان فاسقا أم لا» فهو غير معقول ، بداهة ثبوت التهافت بين الإطلاق من جهة النعتيّة ، والتقييد بالعدم المحمولي.

أو لا يكون الموضوع باقيا على إطلاقه ، بل هو مقيّد من هذه الجهة أيضا ، فالتقييد بالعدم المحمولي من قبيل الأكل من القفا ، إذ التقييد بالعدم النعتيّ مغن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٦٤ ـ ٤٧١.

٣٣١

عن التقييد بالعدم المحمولي.

وفيه : أنّ العامّ مقيّد بالعدم المحمولي ، الملازم مع العدم النعتيّ خارجا ، وهو بالقياس إلى العدم النعتيّ لا مطلق ولا مقيّد.

بيان ذلك : أنّ كلّ ما يكون ملازما لشيء في الوجود لا يلزم أن يكون محكوما بحكمه ، كما مرّ في بحث الضدّ ، بل اللازم أن لا يكون المتلازمان في الوجود مختلفي الحكم.

مثلا : استقبال القبلة ملازم وجوده مع استدبار الجدي في بعض البلاد ، ومع كون اليمين بطرف المغرب ، والشمال بطرف المشرق ، ولا يمكن تحقّق الاستقبال بدون تحقّق هذه الأمور ، لكن لا يلزم أن يكون استدبار الجدي مثلا محكوما بحكم الاستقبال من جهة الملازمة ، بل الاستدبار من هذه الجهة ليس له حكم أصلا ، لأنّه لغو محض وإن كان في طبعه لا يخلو عن حكم من الأحكام.

ولا يفرق في ذلك بين الواجبات النفسيّة والغيريّة ، فحينئذ تقييد العالم بعدم الفسق على نحو مفاد «ليس» التامّة لا يوجب تقييده بما يكون ملازما له في الوجود ، وهو الجهة النعتية واتّصاف العالم بعدم كونه فاسقا ، بل الموضوع مقيّد بالعدم المحمولي فقط ، وأمّا جهة النعتيّة حيث إنّها ضروريّة الوجود ولا دخل لها في غرض المولى أصلا ، فالموضوع بالنسبة إليه لا مطلق ولا مقيّد.

فاتّضح أنّ تقييد العامّ بنقيض عنوان الخاصّ فيما يكون الخاصّ أمرا وجوديّا ـ كما هو الغالب ـ لا يلزم أن يكون بالعدم النعتيّ ، بل يمكن أن يكون بالعدم المحمولي ، ولا محذور فيه.

هذا ، ولو كان ما أفاده تامّا ، لجرى في الموضوع المركّب من جوهرين أو

٣٣٢

عرضين أو عرض قائم بمحلّ وجوهر آخر غير محلّ هذا العرض ، إذ نسأل عن الجزء الثاني ، ونقول : هل هو مأخوذ بنحو مفاد «كان» التامّة بحيث يكون الجزء الأوّل باقيا على إطلاقه حتى بالنسبة إلى كونه مجتمعا مع هذا الجزء ومقترنا معه ، وعدمه ، أو لا يكون مطلقا من هذه الجهة ، بل قيّد بكونه مقترنا ومجتمعا مع الجزء الثاني؟ فإن كان الأوّل ، يلزم التهافت ، وإن كان الثاني ، فيكون التقييد بالجهة النعتيّة مغنيا عن التقييد بالوجود المحمولي وبمفاد «كان» التامّة ، فلا يمكن إحراز أحد الجزءين بالتعبّد بعد ما كان الجزء الثاني محرزا بالوجدان في غير الموضوعات المركّبة من العرض ومحلّه أيضا ، كما في الصلاة المقترنة مع الطهارة ، إذ استصحاب الطهارة بمفاد «كان» التامة لإثبات كون الصلاة مقترنة مع الطهارة يكون من الأصول المثبتة التي لا نقول بحجّيّتها ، وبنحو مفاد «كان» الناقصة ليس له حالة سابقة حتى نستصحبه.

وأمّا ما ذكرنا في المقدّمة الثانية من أنّ الموضوع لو كان مركّبا من العرض ومحلّ هذا العرض ، لا يعقل أن يكون القيد المأخوذ في هذا الموضوع الوجود المحموليّ وبنحو مفاد «كان» التامّة ، بل لا بدّ وأن يكون القيد هو الوجود النعتيّ والاتّصاف ، فهو وإن كان تامّا إلّا أنّه يختصّ بما إذا كان العرض أمرا وجوديّا حيث إنّ العرض وجوده في نفسه هو بعينه وجوده في موضوعه ، وأمّا لو كان أمرا عدميّا ، فحيث إنّ العدم باطل محض ونفي صرف لا يمكن أن يتّصف الموضوع به حقيقة ، ضرورة أنّ الاتّصاف الحقيقيّ لا بدّ له من طرفين وجوديّين.

نعم ، يمكن أن يكون معرّفا لعنوان وخصوصية تكون تلك الخصوصيّة وذلك العنوان الوجوديّ وصفا حقيقيّا ، ولكن أطلق على العدم الوصف بالعناية

٣٣٣

والمجاز ، وإلّا «لا شيء» لا يمكن أن يكون وصفا حقيقيّا للشيء ، فإذا كان المخصّص أمرا وجوديّا ـ كما في «لا تكرم من كان متّصفا بالفسق» ـ فلا محالة يقيّد العامّ بنقيض هذا العنوان ، ومن المعلوم أنّ نقيض الاتّصاف هو عدم الاتّصاف لا الاتّصاف بالعدم ، فيكون المراد من «أكرم كلّ عالم» بعد التقييد «أكرم كلّ عالم لم يكن متّصفا بالفسق» لا «كلّ عالم يكون متّصفا بعدم الفسق».

وبالجملة ، ما ذكرنا راجع إلى أنّ المأخوذ في الموضوع هو اتّصاف المحلّ بالعرض ، ونقيضه هو عدم الاتّصاف ، الأزليّ المحموليّ ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، فيقال : إنّ زيدا العالم قبل عشر سنين ـ مثلا ـ لم يكن موجودا لا نفسه ولا صفة من صفاته ، والآن هو موجود بالوجدان ، وأمّا اتّصافه بالفسق فنشكّ فيه ، فنستصحب عدمه الأزليّ ، فيلتئم الموضوع. وهكذا نقول في قول الصادق عليه‌السلام : «المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة إلّا أن تكون امرأة من قريش» (١) فإنّ هذه المرأة ـ المشكوك قرشيّتها ـ قبل وجودها لم تكن لا نفسها ولا اتّصافها بالقرشيّة ، وبعد وجودها نشكّ في اتّصافها بالقرشيّة ، فيصحّ استصحاب عدم الاتّصاف ، الأزليّ المحموليّ الّذي هو أحد جزأي الموضوع ، ونضمّه إلى الوجدان ، فيلتئم الموضوع ، أيّ : المرأة التي لم تكن متّصفة بالقرشية.

نعم ، لو كان المخصّص أمرا عدميّا ، يشكل ذلك ، إذ العامّ حينئذ يقيّد بأمر وجوديّ ، كما لو ورد «إنّ المرأة إذا بلغت ستّين سنة لم تر حمرة إلّا أن تكون غير قرشيّة» فإنّ الموضوع يصير حينئذ «المرأة التي تكون من قريش» ومن الواضح أن ليس للاتّصاف بالقريش حالة سابقة حتى نستصحبه ونضمّه

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥١ ـ ١٩٨ ، الوسائل ٢ : ٣٣٦ ، الباب ٣١ من أبواب الحيض ، الحديث ٧.

٣٣٤

إلى الوجدان فنثبت له حكم العامّ.

ثمّ إنّ ما أفاده في الكفاية من أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ (١) ، إلى آخره ، تامّ لا شبهة فيه ، ويكون مراده منه أنّ العامّ لا يعنون بشيء من العناوين إلّا بنقيض عنوان الخاصّ وإن كانت العبارة قاصرة عن إفادته ، فلا يرد عليه ما أورده شيخنا الأستاذ (٢) من أنّه كلام لا محصّل له ، إذ العامّ لا يقيّد بكلّ عنوان ، وشمول الحكم لكلّ عنوان غير عنوان الخاصّ لا يكون من ناحية التقيّد بذلك ، بل من جهة عدم تقيّد العامّ بشيء منها.

هذا ، ومن غريب ما صدر من شيخنا الأستاذ في المقام ما أورده على صاحب الكفاية في هذا المقام من أنّه لا وجه للعدول من عنوان القرشيّة المأخوذة في لسان الدليل إلى العنوان الانتزاعي الّذي هو الانتساب إلى القريش ، إذ لو ثبت جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فلم لا يجري في نفس عنوان القرشيّة المأخوذة في الدليل؟ وأيّ فرق بينهما؟ ولو لم يثبت ولم يصحّ ذلك ، ففي العنوان الانتزاعي أيضا كذلك (٣).

وجوابه أوضح من أن يخفى ، فإنّ الانتساب إلى القريش ليس مفهوما انتزاعيّا عن القرشيّة ، بل هو نفس مفهوم القرشيّة ومعناها ، إذ الياء في «قرشيّة» ياء النسبة ، فهو كالعراقي والإيراني وغيرهما ، والمعنى في جميع ذلك هو

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٦١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٧٣.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٤٧٤.

٣٣٥

المنتسب إلى القريش وإلى إيران والعراق.

بقي في المقام ما أفاده بعض (١) الأعاظم من التفصيل في جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية.

وحاصله بتوضيح منّا : أنّ القيد المأخوذ في الموضوع تارة يكون قيدا في مقام الماهويّ والتصوّر ، كما في تقييد ماهيّة الإنسان بكاتب بحيث يكون الموضوع هو الماهيّة المقيّدة والحصّة الخاصّة من ماهيّة الإنسان ، التي هي الإنسان الكاتب ، وأخرى يكون قيدا في رتبة وجود الموضوع وفي مقام التصديق ، كما في تقييد زيد ـ بعد أخذه مفروض الوجود ـ بكونه قائما مثلا.

أمّا الأوّل : فيجري فيه استصحاب العدم الأزليّ ، سواء كان القيد مأخوذا بنحو النعتيّة وبمفاد «كان» الناقصة ، أو كان مأخوذا بنحو المحموليّة وبمفاد «كان» التامّة ، وذلك لأنّ الماهيّة المركّبة ـ كالإنسان الكاتب ـ لا محالة مسبوقة بالعدم الأزليّ حيث إنّه ممكن ليس بواجب الوجود ، فيستصحب هذا العدم إلى الآن ، وتترتّب عليه آثار العدم لو كانت له ، أو ينفى عنه آثار وجود الموضوع ، سواء شككنا في أصل وجود الموضوع أو في قيده ووصفه النعتيّ أو المحمولي ، إذ نقيض تلك الماهيّة المركّبة له فردان : أحدهما : عدم الموضوع ، والآخر : وصفه وقيده.

وأمّا الثاني ـ وهو التقييد في رتبة وجود الموضوع وبعد أخذه مفروض الوجود ـ فلا يجري فيه الاستصحاب مطلقا ، كان الوصف ناعتيّا أو محموليّا ، لأنّ نقيض القيام في رتبة وجود زيد يكون عدم ذلك القيام في هذه الرتبة أيضا لا العدم المطلق بالضرورة ، بداهة أنّ المتناقضين في رتبة واحدة ، ومن المعلوم

__________________

(١) هو المحقّق العراقي رحمه‌الله ، راجع نهاية الأفكار ٤ : ٢٠٠ ـ ٢٠٣.

٣٣٦

أنّ عدم القيام في ظرف وجود زيد ، الّذي هو بديل للقيام في ظرف وجود زيد نعتيّا أو محموليّا ليس له حالة سابقة من أوّل وجود زيد هو مشكوك ، فلا يمكننا إجراء الاستصحاب فيه ، فالميزان في صحّة الاستصحاب وعدمها في الأعدام الأزليّة هو أخذ الموضوع مفروض الوجود وعدمه ، فيجري في الثاني دون الأوّل ، وأمّا كون العدم نعتيّا أو محموليّا فأجنبيّ عن ذلك. هذا خلاصة ما أفاده ـ قدس‌سره ـ في هذا المقام من التفصيل.

وهو غير تامّ لا يمكن المساعدة عليه.

أمّا ما أفاده من جريان الاستصحاب في القسم الأوّل وترتيب آثار العدم أو نفي آثار الوجود على المستصحب فهو وإن كان تامّا كبرى إلّا أنّه لا ربط له بما نحن بصدده ، وهو إحراز أحد جزأي الموضوع ، العدميّ باستصحاب العدم الأزليّ ، والجزء الآخر بالوجدان ، إذ استصحاب عدم وجود الماء غير الكرّ في الحوض ـ مثلا ـ وإن كان جاريا إلّا أنّه لا يثبت أنّ هذا الماء الموجود في الحوض غير كرّ.

وأمّا ما أفاده في القسم الثاني ففساده أوضح من أن يخفى ، فإنّ لازمه ارتفاع النقيضين قبل وجود الموضوع ، وأنّ القيام قبل وجود زيد لا موجود حيث لا يوجد موضوعه ، ولا معدوم ، لعدم وجود معروضه حتى يتحقّق العدم في ظرفه الّذي هو بديل له بزعمه.

وحلّه : أنّ نقيض الخاصّ هو عدم الخاصّ لا العدم الخاصّ ، أي : العدم الّذي هو الخاصّ.

وبعبارة أخرى : نقيض كلّ شيء ـ كما قال أهل الميزان ـ هو رفعه ، فنقيض قيام زيد يوم الجمعة هو عدم ذلك القيام ، لا عدمه في يوم الجمعة

٣٣٧

بحيث لا يكون عدمه يوم الخميس نقيضا له ، فالحقّ عدم تماميّة هذا التفصيل ، وأنّ التفصيل الّذي أفاده شيخنا الأستاذ لا بدّ من الالتزام به بحسب الكبرى وإن كان إيراده في تطبيق هذه الكبرى على العامّ المخصّص غير وارد ، كما أوضحناه.

وهم وإزاحة :

إذا شكّ في فرد لا من جهة التخصيص ، كما إذا شكّ في صحّة الوضوء بماء مضاف ، فإنّ الشكّ فيها من جهة إجمال دليل الأمر بالوضوء لا من جهة التخصيص ، فربما يتوهّم صحّة التمسّك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر ـ مثلا ـ فيما إذا وقع متعلّقا للنذر ، بدعوى أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر ، الدالّ بعمومه على وجوب الوضوء بالماء المضاف المتعلّق للنذر كاشف عن صحّته ، فإنّ الباطل لا يصير واجبا ، فيمكن رفع الشكّ ببركة التمسّك بعموم (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)(١) وربما يؤيّد ذلك بالأدلّة الدالّة على صحّة الصوم في السفر ، والإحرام قبل الميقات ، والحكم بصحّة النافلة في وقت الفريضة لو تعلّق بها النذر.

والحقّ أنّ هذا البحث لا ينبغي أن يتعرّض له ، إذ لا معنى للشكّ لا من جهة التخصيص ، فإنّ الدليل المثبت لحكم بعنوانه الثانوي ـ كدليل النذر أو وجوب طاعة الوالدين والمولى إلى غير ذلك ـ لو أخذ في موضوعه حكم بعنوانه الأوّلي ـ كما في الموارد المذكورة ، فإنّ مورد النذر لا بدّ وأن يكون راجحا ، وما يأمر به الوالدين أو المولى لا بدّ وأن يكون جائزا ـ فمن الواضح أنّ

__________________

(١) الحجّ : ٢٩.

٣٣٨

التمسّك بعمومات وجوب الوفاء بالنذر ووجوب إطاعة الوالدين والمولى مثلا لاندراج المشكوك كونه راجحا أو جائزا في حكم العامّ هو التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة بعينه ، فلا وجه للبحث عنه مستقلّا ، والشكّ ناشئ من جهة التخصيص لا غير.

ولو لم يؤخذ في موضوعه حكم أصلا ، فلا شكّ في اندراجه تحت العامّ ، وبعد اندراجه تحته يحكم بحكمه ، فيصير الوضوء بالماء المضاف واجبا ، ويثبت لازمه ، وهو الصحّة ، وحينئذ لو كان دليل العنوان الثانوي مطابقا لدليل العنوان الأوّلي في الحكم ، فهو ، وإلّا بأن كان أحدهما متكفّلا للحكم الوجوبيّ ، والآخر للحكم التحريمي ، فيقع التعارض بينهما ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات في باب التعارض ، ومع عدم المرجّح يحكم بالتخيير.

وتوهّم أن يكون حينئذ من باب التزاحم ـ كما في الكفاية (١) ـ فيؤثّر ما هو أقوى ملاكا من الآخر لو كان في البين ، وإلّا لم يؤثّر أحدهما ، للزوم الترجيح بلا مرجّح ، فيحكم بالإباحة في الفرض ، فاسد ، إذ المناط في باب التزاحم أن تكون الاستحالة ناشئة من مقام الامتثال ـ لا في مقام الجعل ـ كما في إنقاذ الغريقين ، بخلاف باب التعارض ، فإنّ الملاك في كون الدليلين من هذا الباب أنّ استحالة الأخذ بكليهما نشأت من مقام الجعل والتكليف ، وأنّ أحدهما يقتضي محبوبيّة أمر والآخر مبغوضيّة هذا الأمر ، ومن المعلوم أنّ المقام ليس من قبيل دليل وجوب إنقاذ الغريقين أو الإزالة والصلاة بحيث لا تكون منافاة بين الدليلين في مقام الجعل أصلا ، وإنّما المنافاة نشأت من جهة عدم قدرة العبد على الامتثال ، كما لا يخفى.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٣٣٩

وأمّا الأدلّة الدالّة على صحّة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات لو وقع موردا للنذر ، لا يصلح للتأييد ، إذ نفس هذه الأدلّة تخصّص ما يدلّ على أنّ متعلّق النذر لا بدّ وأن يكون راجحا في جميع الموارد بغير الصوم والإحرام.

وتوهّم أنّ الصوم والإحرام يعتبر فيهما قصد القربة ، ولا يصحّان بدونه ، والأمر النذري توصّليّ يسقط بمجرّد الإتيان بمتعلّقه فكيف يحكم بلزوم قصده!؟ فاسد ، إذ الأمر النذري تابع لمتعلّقه في التوصّليّة والتعبّديّة ، ولا يتمحّض في أحدهما معيّنا ، فإن كان المتعلّق تعبّديّا قربيّا ، فهو أيضا كذلك ، وإن كان توصّليّا فتوصّليّ.

والحقّ في الجواب عن كلا الإشكالين ـ من اعتبار الرجحان في متعلّق النذر ، ولزوم قصد القربة في الصوم والإحرام مع كون الأمر النذري يسقط بدونه ـ بما ذكرنا من الالتزام بالتخصيص ، كما هو أحد الوجوه المذكورة في الكفاية (١) ، ومن تبعيّة الأمر النذري للمتعلّق في التعبّديّة والتوصّليّة ، لا ما أفاده في الكفاية (٢) (٢) من الوجهين :

أحدهما : أنّ الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات راجحان ذاتا ، وعدم الأمر بهما إنّما هو لمانع يرتفع مع النذر.

والثاني : الالتزام بصيرورتهما راجحين بنفس تعلّق النذر بهما وإن لم يكونا قبلهما كذلك من جهة عروض عنوان راجح ملازم لتعلّق النذر بهما ، إذ كلا الوجهين مخدوشان.

أمّا الأوّل : فلأنّ ما فرض أنّه مانع لو كان مانعا في مرحلة الملاك ، فلازمه عدم الرجحان فيهما ذاتا ، وصيرورتهما راجحين بتعلّق النذر بهما ، فهو راجع

__________________

(١ و ٢) كفاية الأصول : ٢٦٣.

٣٤٠