الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

فصل :

لا ريب في أنّ للخصوص صيغة تخصّه ويكون استعمالها في العموم غلطا استعمالا في غير ما وضع له كالبعض.

ولا إشكال أيضا في وجود ألفاظ مشتركة بين العموم والخصوص مستعملة في كلّ منهما ، فلا بدّ في تعيّن أحدهما من قرينة تعيّنه ، كالموصولات والمفرد المحلّى باللام المستعملة في العموم تارة وفي الخصوص أخرى.

وإنّما الكلام في وجود ألفاظ خاصّة بالعموم يكون استعمالها في الخصوص بدون القرينة مع علاقة مجازا وبدونها غلطا.

والحقّ أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» وأخواتهما والجمع المحلّى باللام كذلك ، لتبادر العموم منها من غير نكير يعتنى به.

ودعوى أنّ الخصوص هو القدر المتيقّن ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، لأنّ الأخذ بالقدر المتيقّن لا مساس له بالظواهر ، وإنّما مورده المجملات والموارد المشكوكة لا الظاهرة المتيقّنة.

وكذلك دعوى أنّ استعمال مثل هذه الألفاظ في الخصوص وصل إلى حدّ قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، لا وجه لها ولا تثبت مدّعى مدّعيها ، لا لما أفاده في الكفاية ـ بعد تسليم المجازيّة ـ من عدم المحذور في كثرة الاستعمال في الخصوص ، حيث إنّه مع القرينة (١) ، فإنّه مخدوش ، فإنّ الاستعمال في الخصوص لو كان مجازا فمع كثرته يصير من المجازات الشائعة التي تكون عند

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٤.

٣٠١

تجرّدها عن القرينة محتملة للحمل على المعنى المجازيّ أو التوقّف على القولين في المسألة.

بل لما أفاده أوّلا من عدم الملازمة بين التخصيص والمجازيّة (١) ، كما سيجيء.

مضافا إلى أنّ الصغرى ـ وهي كثرة التخصيص ـ ممنوعة ، إذ التخصيص كثيرا ما يكون بالمتّصل الّذي سيجيء أنّه في الحقيقة ليس بتخصيص بل صورة تخصيص ، وبالمنفصل وإن كان تخصيصا حقيقة إلّا أنّه قليل غايته ، فظهر أنّ هذه الدعوى ممنوعة صغرى وكبرى.

* * *

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٤.

٣٠٢

فصل :

لا شبهة في أنّ النكرة في سياق النفي أو النهي تدلّ على العموم عقلا ، ضرورة أنّ انتفاء الطبيعة يكون بانتفاء جميع أفرادها ، ووجودها بوجود فرد منها.

والظاهر أنّ هذه الدلالة ليست بالوضع ، لأنّ كلمة «ما» موضوعة للنفي ، وكلمة «رجل مثلا موضوعة للطبيعة ولا وضع للمجموع.

ثمّ إنّ العموم المستفاد منها تابع في السعة والضيق لما أريد من المدخول ، فإن أريد منه مفهوم واسع ، كان العموم في جميع أفراد هذا المفهوم الواسع ، وإن أريد منه مفهوم ضيّق ، كان السريان في جميع أفراد هذا المفهوم الضيّق.

والظاهر أنّ السعة والضيق في المدخول يستفادان من مقدّمات الحكمة ، فما لم تجر فيه لا تدلّ على العموم إلّا في القدر المتيقّن منها ، إذ أداة النفي أو النهي لا تقتضي أزيد من نفي الطبيعة أو النهي عنها ، والعموميّة مبتنية على أن يكون المراد منها الطبيعة المطلقة حتّى تكون بإطلاقها منفيّة أو منهيّة فتدلّ على العموم.

هذا في النكرة في سياق النفي أو النهي ، أمّا في مثل لفظ «كلّ» ونحوه ممّا يدلّ على العموم وضعا يستفاد سعة المدخول من نفس لفظ الكلّ ونحوه ولا يحتاج إلى جريان مقدّمات الحكمة في ذلك.

بيان ذلك : أنّا قد ذكرنا في الواجب المشروط أنّ الإهمال في مقام

٣٠٣

الثبوت غير معقول ، ولا يعقل أن يكون المولى الحكيم الملتفت إلى حكمه جاهلا بموضوع حكمه وأنّه هل هو العالم مطلقا أو العالم العادل ، فإذا قال : «أكرم العلماء» من دون تقييد وكان في مقام البيان ، يدلّ ـ بضميمة قرينة الحكمة وأنّه لو كان هناك قيد آخر له دخل في غرضه لكان عليه البيان ـ على أنّ الموضوع هو العالم مطلقا ، وإذا قال : «أكرم كلّ عالم» فقد بيّن أنّ موضوع حكمه هو العالم مطلقا بواسطة لفظ «كلّ» فلا يحتاج بعد ذلك إلى قرينة الحكمة ، حيث إنّها في مورد عدم البيان والمفروض أنّه بيّنه ، فإنّ لفظ «كلّ» متكفّل لبيان عموميّة المدخول وأنّه شامل لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه.

وبعبارة أخرى : لفظ «كلّ» يدلّ على أنّ مدخوله ـ الّذي كان صالحا لأن ينطبق على جميع الأفراد وقابلا لذلك قبل دخول لفظ «كلّ» عليه ـ منطبق على الجميع ومراد منه فعلا (١).

وأمّا الجمع المحلّى باللام فالظاهر أنّه يفيد العموم أيضا بلا احتياج إلى جريان مقدّمات الحكمة ، لوضوح الفرق بين المفرد المحلّى باللام والجمع من حيث احتياج مقدّمات الحكمة للدلالة على العموم في الأوّل وعدمه في الثاني ، كما لا يخفى.

* * *

__________________

(١) أقول : قد أورد سيّدنا الأستاذ على صاحب الكفاية إيرادا قد انمحى عن خاطري. (م).

٣٠٤

فصل :

لا ريب في حجّيّة العامّ في العموم لو لم يعلم تخصيصه ، وأمّا لو علم ، فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في أنّه هل هو حجّة في الباقي مطلقا ، أو ليس بحجّة كذلك ، أو يفصّل بين التخصيص بالمنفصل والمتّصل ، فيقال بالحجّية في الثاني وعدمها في الأوّل؟

الثاني : في أنّه لو كان المخصّص مجملا مردّدا بين الأقلّ والأكثر أو المتباينين من جهة الشبهة في المفهوم هل يسري إجماله إلى العامّ حقيقة أو حكما أم لا؟ ويذيّل بالبحث عن الشبهات المصداقيّة.

الكلام في المقام الأوّل : المعروف بين الأصوليّين أنّ العامّ المخصّص حجّة فيما بقي ، وادّعى بعضهم عدم الحجّيّة. والحقّ هو الأوّل.

أمّا في العامّ المخصّص بالمتّصل : فظاهر ، إذ المخصّص فيه بمنزلة القيد اللاحق للكلام في الحقيقة وإن كان تخصيصا صورة ، وقد عرفت أنّ لفظة «كلّ» مثلا من أداة العموم تفيد شمول ما يصلح أن يشمله المدخول بجميع قيوده ولواحقه ، والمدخول تارة يكون «رجلا» وأخرى «رجلا عالما» وثالثة «رجلا عالما هاشميّا» وهكذا ، فباختلاف المدخول ـ من حيث كثرة الأوصاف وقلّتها أو عدمها ـ يختلف العموم سعة وضيقا ـ والمراد بالصفة مطلق ما يلحق بالكلام من القيود ، لا النعت النحوي ـ والتخصيص ب «إلّا» وما يشبهها من أداة الاستثناء وإن لم يكن ـ ظاهرا ـ من قبيل الأوصاف ويكون ـ ظاهرا ـ تخصيصا وإخراجا

٣٠٥

لشيء عن المستثنى منه بحيث لولاه لكان داخلا فيه إلّا أنّه ليس كذلك في الحقيقة ، إذ المخصّص المتّصل يعدّ في العرف قرينة على عدم إرادة هذا الفرد من العامّ ، ف «أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» يكون بمنزلة «أكرم العلماء العدول» عرفا ، فلا وجه لعدم الحجّيّة في المتّصل أصلا.

وعمدة الإشكال في التخصيص بالمنفصل بتقريب أنّ المخصّص المنفصل قرينة على أنّ العامّ لم يستعمل فيما وضع له الّذي هو العموم فيكون مجازا ، ولا ريب [في] أنّ المجازات متعدّدة ، ومراتبها مختلفة ، ولا دليل على تعيّن واحد منها حتى يكون اللفظ ظاهرا وحجّة فيه.

وجوابه يتّضح بتقديم مقدّمتين :

الأولى : أنّ الدلالة منقسمة بأقسام ثلاثة :

الأوّل : الدلالة الأنسيّة والتصوّريّة ، وهي : الانتقال من اللفظ إلى المعنى ولو كان اللافظ غافلا أو نائما ، ومنشؤها زيادة الأنس بين اللفظ والمعنى ، وليس هذا من الدلالات الوضعيّة أصلا ، لما عرفت في بحث تبعيّة الدلالة للإرادة أنّ اللفظ موضوع لإفادة المعنى وإبرازه ، ولا يكون ذلك إلّا إذا كان المتكلّم في مقام الإفادة والتفهيم.

الثاني : الدلالة التصديقيّة ، بمعنى دلالة اللفظ على أنّ المتكلّم أراد منه ما هو موضوع له ، وتسمّى هذه بالدلالة الوضعيّة ، وهي تابعة للوضع ، لما مرّ في بحث الوضع من أنّه ليس إلّا التعهّد والبناء على أنّه متى استعمل لفظ كذا يريد المعنى الكذائي.

الثالث : الدلالة التصديقيّة ، بمعنى دلالة اللفظ على أنّ المتكلّم أراد منه معناه وما هو موضوع له جدّاً لا أنّه مراد بإرادة استعماليّة. وبعبارة أخرى : دلالة

٣٠٦

اللفظ بمعنى حجّيّة ظاهر اللفظ ، وهذه لا ربط لها بالوضع ، بل هي ثابتة ببناء العقلاء على أنّ المتكلّم لو صدر منه لفظ ظاهر في معنى يحمل عليه ، وليس له أن يقول : مرادي غيره.

المقدّمة الثانية : لا ريب في أنّ المرتفع بالقرينة أو التخصيص ليس القسم الأوّل من هذه الأقسام ، بداهة أنّ الانتقال حاصل ولو مع القطع بأنّ الموضوع له ليس بمراد ، لما عرفت من أنّه تابع للأنس ، وهو موجود بين لفظ «الأسد» ومعناه الحقيقي ، ولو أتى بقرينة «يرمي» وينتقل من «رأيت أسدا يرمي» إلى الحيوان المفترس قطعا ولو يعلم بواسطة قرينة «يرمي» أنّه ليس بمراد.

وأمّا الدلالة الثانية : فهي وإن كانت قد ترتفع كما لو نصب قرينة على عدم إرادة الموضوع له ، إلّا أنّها في المقام ثابتة غير مرتفعة ، لأنّ المتكلّم حينما استعمل اللفظ العامّ بلا قرينة فقد دلّ على أنّه أراد المعنى الموضوع له بإرادة استعماليّة ، وهذه الدلالة حين الاستعمال موجودة ، ولا تنقلب عمّا هي عليه بوجود القرينة المنفصلة التي هي المخصّص ، واللفظ إذا كان مستعملا في معناه الحقيقي بدون القرينة المتّصلة ، كان حقيقة فيه ، ولا يصير بعد ذلك مجازا.

والحاصل : أنّ العامّ المخصّص بالمنفصل دلالته على العموم وما وضع له ثابتة غير مرتفعة ، وإنّما المرتفع بالمخصّص المنفصل هو القسم الثالث من أقسام الدلالات ، الّذي هو الحجّيّة الثابتة ببناء العقلاء ، وجهة الارتفاع أنّ بناءهم ليس على العمل بالظواهر كيف ما اتّفق حتى مع وجود معارض أقوى ، بل يقدّمون المعارض الأقوى عليها ، وإذا كان رفع اليد عن الظهور وعدم الأخذ به لأجل المعارضة ، فلا بدّ من ملاحظة مقدار المعارضة ، ومن المعلوم أن

٣٠٧

لا معارضة بين المخصّص وباقي أفراد العامّ ، فيؤخذ بظهور العامّ بالنسبة إليه ، ولا وجه لرفع اليد عن ذلك.

وبعبارة أخرى : كانت عمدة الشبهة لعدم الحجّيّة هي المجازيّة ، وقد عرفت عدمها في المقام ، وأنّ العامّ باق على ما هو عليه ، ولا يصير مجازا بالتخصيص.

وبعبارة ثالثة واضحة : حيث يشمل لفظ «كلّ» في «كلّ عالم» جميع ما يصلح مدخوله لأن يصدق عليه ، فهو بمنزلة قولنا : «كلّ عالم سواء كان عادلا أو فاسقا ، وسواء كان هاشميّا أو غيره ، وسواء كان فقيها أو غيره» وهكذا إلى آخر التقاسيم التي يمكن في مدخوله ، ومتكفّل للتسوية بين جميع الأقسام ، ومتضمّن لجميع هذه السواءات ، فلو خصّص العامّ بمنفصل ، وعلمنا أنّ الفاسق خارج عن تحت العامّ ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور العامّ بالنسبة إلى هذه التسوية. وأمّا بقيّة السواءات التي كان لفظ «كلّ» متضمّنا لها فلا وجه لرفع اليد عنها ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون العامّ استغراقيّا أو مجموعيّا.

وهذا نظير أن يقول المولى : «أكرم هؤلاء العشرة» وبعد ذلك قال : «لا تكرم زيدا» مع فرض كونه منهم ، فإنّه لا ريب في عدم استعمال العشرة في التسعة ، فالمخصّص المنفصل رافع لحجّيّة الظهور مطلقا حتى بالنسبة إليه ، أمّا حجّيّة الظهور بالنسبة إلى الباقي وما لا يكون له معارض أقوى وأظهر منه فباق على حاله من غير فرق بين العامّ الاستغراقي والمجموعي.

ولو سلّمنا المجازيّة ، فهل يكون حجّة فيما بقي أم لا؟ الحقّ هو الأوّل.

بيانه : أنّ العامّ قبل التخصيص كان شاملا لجميع الأفراد ، ودالّا عليها بالمطابقة ، وكانت هذه الدلالة متضمّنة لدلالات ضمنيّة تبعيّة ، فلو قال المولى :

٣٠٨

«أكرم كلّ عالم» فكأنّه قال : «أكرم زيدا وعمرا وبكرا وخالدا» إلى آخر أفراد العالم ، فهذه الدلالات موجودة في ضمن ذلك العامّ وهو إجمال لذلك التفصيل ، فلو قال في دليل آخر : «لا تكرم زيدا» لا يعارض إلّا دلالة العامّ على إكرام زيد ضمنا ، أمّا دلالته على إكرام خالد وعمرو وبكر وغيرهم ضمنا فليس لها معارض ، وإذا لم يكن لها معارض ، فلا وجه لسقوطها عن الحجّيّة ورفع اليد عنها.

لا يقال : إنّ هذه الدلالات التضمّنيّة كلّها تابعة للدلالة المطابقيّة ، والمفروض أنّها ساقطة.

فإنّه يقال : الدلالة التضمّنيّة وإن كانت تابعة للدلالة المطابقيّة في مقام الثبوت والواقع ، وتسقط الأولى بتبع سقوط الثانية ، إلّا أنّ الأمر في مقام الإثبات والدلالة ينعكس ، لأنّ المخصّص أوّلا وبالذات لا يعارض إلّا الدلالة التضمّنيّة التبعيّة بالنسبة إلى زيد الخارج ـ مثلا ـ بالتخصيص ، فتسقط الدلالة المطابقيّة بالنسبة إلى هذا الفرد في مقام الإثبات بتبع سقوط الدلالة التضمّنيّة ، وحيث لم يكن لسائر الدلالات الضمنيّة التبعيّة معارض ومزاحم ومانع عن ثبوتها فلا تسقط حتّى تسقط الدلالة المطابقية بتبعها ، فتكون دلالة العامّ على هذه الدلالات الضمنيّة التبعيّة غير المزاحم بمزاحم أقوى مطابقة باقية ، فهو حجّة فيما بقي تحته.

وهذا ممّا أفاده بعض مقرّري بحث الشيخ الأنصاري (١) قدس‌سره ، وهو في غاية الجودة ، ولا وجه لما أورده عليه صاحب الكفاية (٢) ، كما لا يخفى.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٢.

(٢) كفاية الأصول : ٢٥٧.

٣٠٩

المقام الثاني : أنّه لو كان المخصّص مجملا من حيث المفهوم ، فإمّا أن يكون إجماله من أجل دوران مفهومه بين الأقلّ والأكثر أو المتباينين ، وعلى كلّ حال فإمّا أن يكون المخصّص متّصلا أو منفصلا.

فإن كان مردّدا بين المتباينين ، فلا إشكال في سراية إجمال المخصّص إلى العامّ أيضا حقيقة في المتّصل ، وحكما في المنفصل.

أمّا في المتّصل : فلأنّ الظهور من الأوّل لا ينعقد للعامّ بالنسبة إلى أحد محتملي المخصّص ، فلو قال : «أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» وتردّد مفهوم الفاسق بين أن يكون شارب الخمر ، وترك الصلاة فرضا ، فحيث إنّ الفاسق ـ الّذي هو قيد عدميّ لموضوع الحكم حقيقة ـ يكون محتمل الانطباق على شارب الخمر وتارك الصلاة ، فمن الأوّل لا يعلم أنّ موضوع الحكم أيّ شيء هو ، فيكون مجملا ، فليس بحجّة في شيء منهما.

وأمّا في المنفصل : فلأنّ العامّ وإن انعقد له ظهور بالنسبة إلى جميع أفراده حتّى ما يحتمله المخصّص ولا ينقلب عمّا هو عليه ولا يصير مجازا بعد مجيء المخصّص المنفصل إلّا أنّ الحجّيّة ـ التي كانت ببناء العقلاء بعد قيام القرينة القطعيّة على أنّ العموم غير مراد جدّاً ـ منحصرة بغير ما يكون المخصّص محتملا له ، وليس للعقلاء بناء على الأخذ بظهور العامّ مع ذلك القرينة ، والمتيقّن من بنائهم هو الأخذ بظهوره في غير ما يحتمله المخصّص.

وإن كان المخصّص المجمل مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، فإن كان متّصلا ، فلا ريب أيضا في سراية إجمال المخصّص إلى العامّ أيضا بعين ما مرّ في المتباينين ، فلا يكون حجّة إلّا في غير المرتكب للصغيرة والكبيرة من باب أنّه متيقّن.

٣١٠

وإن كان منفصلا ، فالظاهر أنّه يتمسّك بالعامّ بالنسبة إلى الفرد المشكوك دخوله تحت المخصّص ، ويكون العامّ حجّة في غير الفرد المتيقّن من المخصّص ، وذلك لأنّ العامّ انعقد له ظهور في العموم والآن كما كان ، ولا يرفع عن هذا الظهور إلّا إذا عارضه حجّة أقوى وأظهر منه ، والمفروض أنّ المخصّص مجمل ولا يكون حجّة في المرتكب للصغيرة ، فلا يصلح للمعارضة إلّا بالنسبة إلى أفراده المتيقّنة التي يكون حجّة فيها ، وأمّا بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة فلا يكون حجّة ، فكيف يكون مزاحما للعامّ وموجبا لارتفاع حجّيّة العامّ بالقياس إليها أيضا!؟

وربّما يتوهّم التسوية بين المخصّص المتّصل والمنفصل في عدم جواز التمسّك بالعامّ وسراية الإجمال إلى العامّ حكما ، نظرا إلى أنّ العامّ وإن كان ظاهرا في العموم بعد التخصيص أيضا إلّا أنّ المخصّص قرينة على أنّ المراد الجدّيّ من «العلماء» في قوله : «أكرم العلماء» هو العلماء الذين لا يكونون فاسقين ، ومن المعلوم أنّ موضوع الحكم هو ما يكون مرادا من العامّ جدّاً ، لا ما يكون ظاهرا ولو لم يكن كذلك ، فالموضوع الّذي هو العالم غير الفاسق حيث إنّ قيده العدميّ مجمل ومردّد بين المرتكب للصغيرة والكبيرة لا يجوز التمسّك بالعامّ ، والقول بأنّ المرتكب للصغيرة واجب الإكرام ، كما في المخصّص المتّصل بلا تفاوت بينهما من هذه الجهة.

ولكنّه فاسد ، وجه الفساد : أنّ «الفسّاق» في «لا تكرم العلماء الفسّاق» ليس بمفهومه قيدا للعلماء ، ضرورة أنّ مفهوم الفسق بما هو مفهوم من المفاهيم لا يكون مانعا عن وجوب الإكرام ، بل المانع عنه هو الفسق بوجوده الواقعي ، كالكذب وشرب الخمر والغيبة وغير ذلك ، وإذا كان المانع عن الإكرام هذه

٣١١

الأمور ، فلفظ «الفاسق» ومفهومه إشارة إلى فاعل شيء منها ، وبهذا الاعتبار يكون قيدا للعلماء ، فكأنّه قال : «لا تكرم عالما يشرب الخمر ولا عالما يغتاب ولا عالما يكذب» وهكذا ، فإرادة المرتكب للكبيرة معلومة ، والمرتكب للصغيرة غير معلومة ، فتلك الدلالات الضمنيّة بالنسبة إلى أفراد العامّ ، التي منها الناظر إلى الأجنبيّة من غير إصرار ـ مثلا ـ باقية على حالها بتمامها ، ويؤخذ بها بجميعها إلّا ما يكون حجّة أقوى على خلافها ، وليس ذلك إلّا في المرتكب للكبيرة ، فبالنسبة إليها ـ أي : دلالة العامّ على المرتكب للكبيرة فقط ـ يسقط العامّ عن الحجّية ، وأمّا بالنسبة إلى دلالته على المرتكب للصغيرة ، فظهور العامّ ودلالته على حالها ، ولا معارض لها أقوى منها ، فلا وجه لسقوطها عن الحجّية.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه لو كان المخصّص مجملا من جهة الشبهة في المفهوم ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ فيما لم يعلم خروجه عن تحت العامّ ودخوله في المخصّص إلّا إذا كان المخصّص منفصلا دائرا بين الأقلّ والأكثر ، فإنّه يتمسّك بالعموم في الفرد المشكوك ، ويحكم بأنّه محكوم بحكم العامّ. هذا تمام الكلام في التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهوميّة.

تذييل : في جواز التمسّك بالعامّ فيما إذا كان إجمال المخصّص من جهة المصداق ، وكان المفهوم معلوما مبيّنا ، كما إذا تردّد زيد العالم بين كونه فاسقا أو غير فاسق. والأقوال في المقام أربعة :

القول بالجواز مطلقا ، وعدمه مطلقا ، والتفصيل بين المخصّص اللفظي والقول بالجواز ، واللّبّي والقول بعدمه ، كما أفاده صاحب الكفاية (١) ، والتفصيل

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

٣١٢

بين اللّبّيّات بأن تكون مقيّدة لموضوع الحكم أو كاشفة عن عدم وجود الملاك في المصداق المشتبه والقول بالجواز في الثاني ، وعدمه في الأوّل ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (١).

والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : فيما يقتضيه الأصل اللفظي.

والثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل : فالظاهر اختصاص النزاع في المخصّص المنفصل ، وأمّا المخصّص المتّصل ـ الّذي عرفت أنّه يطلق عليه التخصيص مسامحة ، وإلّا ففي الحقيقة ليس بتخصيص ، بل يكون موضوع الحكم مضيّقا من الأوّل ـ فلا كلام ولا نزاع في عدم جواز التمسّك بالعامّ لإثبات الحكم للفرد المشكوك دخوله تحت المخصّص ، ضرورة أنّ موضوع الحكم بتمام قيوده وشرائطه في كلّ قضيّة لا بدّ أن يكون مفروض الوجود ، فإنّ الحكم غير محقّق لموضوعه أو قيد من قيوده ، وغير متكفّل لإحراز موضوعه أو قيد من قيوده ، فكما لا يصحّ التمسّك بعموم «أكرم العلماء» لإثبات وجوب الإكرام للفرد المشكوك أنّه عالم كذلك لا يصحّ التمسّك بعمومه عند تقييده بأنّهم لا يكونون فاسقين ، غاية الأمر أنّ الموضوع في الأوّل بسيط ، وفي الثاني مركّب.

هذا ، وعمدة ما قيل لجواز التمسّك بالعامّ في المخصّص المنفصل هو : أنّ العامّ انعقد له ظهور في العموم ، والفرد المشكوك داخل تحت العامّ ، ويتبع هذا الظهور في جميع أفراد العامّ إلّا فيما عارضه دليل أقوى وأظهر منه ، والمفروض أنّ المخصّص يكون كذلك بالنسبة إلى أفراده المتيقّنة ، وأمّا المشكوكة فلا يكون حجّة فضلا عن أن يكون أقوى حتى يرفع اليد عن ظهور

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

٣١٣

العامّ لأجل المخصّص بالنسبة إليها ، فلا مانع من التمسّك بالعامّ ، لكونه ظاهرا في العموم ، ولا مقتضي لرفع اليد عن هذا الظهور إلّا فيما يكون معارضا بالدليل الأقوى ، ودخول «زيد» في المخصّص مشكوك ، ولذا لا نتمسّك بالمخصّص ولا نجري حكمه عليه ، فلا يكون ظهور العامّ في هذا الفرد المشكوك معارضا بدليل أقوى منه ، فلا محذور في التمسّك بالعامّ بالنسبة إليه.

والجواب عنه : أنّ مناط جواز التمسّك بالعامّ ليس مجرّد كونه ظاهرا في شيء ، بل المناط هو الحجّيّة الثابتة ببناء العقلاء وعملهم بالظواهر ، والقدر المتيقّن من بنائهم العمل بالظواهر ما لم ينصب قرينة على الخلاف ، وفي مورد نصب القرينة المنفصلة ـ مثل : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» ـ على الخلاف يرون أنّ موضوع الحكم في دليل «أكرم العلماء» وما هو مراد جدّي للمتكلّم ويكشف عنه ظهور العامّ هو العلماء الذين لا يكونون فاسقين ، فالفرد المشكوك خروجه عن تحت العامّ ودخوله تحت المخصّص لا من جهة المفهوم ، بل من جهات خارجية ، وإن كان العامّ ظاهرا فيه إلّا أنّه ليس من الظواهر التي تكون حجّة عند العقلاء ، فلا يمكن الأخذ بهذا الظهور.

وبعبارة أخرى : العامّ له ظهوران : ظهور أوّلي في العموم ، وهو باق بعد ورود القرينة المنفصلة أيضا ، ولا ينقلب عمّا هو عليه ، وظهور ثانويّ له في أنّه كاشف عن أنّ المولى صدر منه هذا الكلام بداعي الجدّ لا بدواع أخر ، كالامتحان والتقيّة والمزاح وأمثال ذلك ، والأوّل تابع للوضع ، والثاني تابع لبناء العقلاء ، فما دام موجودا هذا البناء منهم هذا الظهور الثانوي أيضا موجود ، وجواز التمسّك بالعامّ هو الظهور الثانوي للعامّ ، ومن المعلوم أنّه بعد ورود القرينة المنفصلة يكون ظهوره الثانوي في العلماء الذين لا يكونون فاسقين ، إذ

٣١٤

بناؤهم على الأخذ بالظواهر مشروط بعدم نصب القرينة على الخلاف ، فلا بدّ من إحراز هذا الموضوع حتى يثبت له حكم العامّ ـ وهذا نظير قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» فإنّها تجري ما دام لم يكن بيان في البين ، ومع وجوده لا موضوع لها ـ لأنّ موضوع الأصل اللفظي هو الكاشف عن المراد الجدّي ، ومع القرينة لم يكن للعامّ كاشفيّة عن ذلك بالنسبة إلى الفرد المشكوك ، فيرتفع موضوع الأصل اللفظي.

وبهذا يظهر الكلام في المقام الثاني ، إذ الأصل العملي موضوعه الشكّ ، وهو موجود في المقام ، فيجوز التمسّك بالبراءة عن وجوب الإكرام وحرمته بالنسبة إليه.

ثمّ إنّه لا فرق في عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة ، إذ القضيّة الخارجيّة مثل : «أكرم كلّ من في البلد الفلاني من العلماء فعلا» وإن افترقت الحقيقيّة في أنّ المتكلّم بنفسه متكفّل لإحراز مصاديق العامّ في الأوّل ـ أي الخارجيّة ـ بخلاف الثاني ، فإنّه غير ناظر إلى ذلك ، بل أحال إحرازها إلى نفس المخاطب ، إلّا أنّه لا فرق بينهما فيما هو ملاك جواز التمسّك بالعامّ ، الّذي هو حجّيّة العامّ فيما يتمسّك به لإثبات حكمه له وتسريته إليه ، ومن المعلوم أنّ العامّ بعد ورود المخصّص المنفصل تضيّق دائرة حجّيّته سواء كان في القضيّة الحقيقيّة أو الخارجيّة ، فكما أنّ «لا تكرم الفسّاق من العلماء» يضيّق دائرة حجّيّة «أكرم العلماء» ويقيّد «العلماء» بأن لا يكونوا فاسقين في القضيّة الحقيقيّة ، كذلك «لا تكرم أعدائي» يضيّق دائرة حجّيّة «أكرم كلّ من في البلد الفلاني من العلماء بالفعل» ويقيّد «العلماء الموجودين في البلد فعلا» بأن لا يكونوا أعداء للمولى في القضيّة الخارجيّة ،

٣١٥

فلا يجوز التمسّك بالعامّ في شيء منهما لإسراء حكمه إلى الفرد المشكوك كونه مصداقا للمخصّص.

وبتقريب آخر أوضح : القضيّة الخارجيّة وإن كانت متكفّلة لإثبات الحكم على موضوعه المحقّق وجوده لا المقدّر وجوده إلّا أنّ إحراز انطباق عنوان العامّ على المصاديق بعد ورود المخصّص موكول إلى نفس المخاطب ، ولا بدّ له من إحراز موضوع الحكم ، الّذي قيّد بواسطة المخصّص في كلتا القضيتين بغير عنوان المخصّص بحيث كأنّما قال المولى من الأوّل : «أكرم كلّ من في البلد فعلا الذين لا يكونون أعدائي» فبعد التخصيص يكون كلّ منهما على السواء في أنّ الموضوع لا بدّ وأن يكون مفروض الوجود ، فما لم يحرز مصداقيّة فرد من الخارج للموضوع المقيّد لا يثبت الحكم له ، فالفرد المشكوك المصداقيّة في المقام كالفرد المشكوك كونه عالما لو لم يكن مخصّص ل «أكرم العلماء».

وبهذا يظهر الفرق بين المقام وبين الشبهة في المفهوم في جواز التمسّك هناك وعدمه هنا ، إذ لفظ «العلماء» حيث لم يثبت تقييده بغير مرتكب الصغيرة وثبت تقييده بغير مرتكب الكبيرة ، لم تضيّق دائرة حجّيّته بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، ولم يقيّد المراد الواقعي إلّا بعدم ما يكون قطعا داخلا تحت المخصّص ، فكأنّما قال المولى : «أكرم العلماء الذين لا يرتكبون الكبائر» فجواز التمسّك بالعامّ والحكم بوجوب إكرام العالم المرتكب للصغيرة ـ من جهة أنّ التقييد بعدمه لم يثبت ، ومصداقيته (١) لموضوع الحكم بعد عدم تضيّق دائرة الحجّيّة بالنسبة إليه ـ مقطوع ، بخلاف الشبهة المصداقيّة ، فإنّ مصداقيّة الفرد المشكوك كونه شارب الخمر ـ بعد إحراز تضيّق دائرة حجيّة «أكرم

__________________

(١) عطف على قوله : «جهة».

٣١٦

العلماء» وتقييدهم بأن لا يشربوا الخمر مثلا بحيث كأنّما قال : «أكرم العلماء الذين لا يشربون الخمر» ـ للموضوع الواقعي مشكوكة ، فلا بدّ من إحرازها من الخارج.

ومن الوجوه التي استدلّ بها على جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة قاعدة «المقتضي والمانع» وهي أنّ عنوان العامّ مقتض لتسرية الحكم إلى جميع أفراده ، وعنوان الخاصّ مانع عن ذلك ، فإذا أحرزنا المقتضي كالعلم في المثال المعروف ، وشككنا في ثبوت المانع كالفسق ، فلا يرفع اليد عن المقتضي ، ولا بدّ من الحكم بوجود مقتضاه.

أقول : إن كان مراد المستدلّ بها من المقتضي والمقتضى في مقام الإثبات بمعنى الكاشفيّة والدليليّة وأنّ العامّ له كاشفيّة للمراد الجدّيّ والواقعي ، والخاصّ مانع عنه ، ومانعيّته بالنسبة إلى الفرد المشتبه مشكوكة ، فلا بدّ من الأخذ بالمقتضي ، أي : كاشفيّة العامّ ، والحكم بثبوت المقتضى ، أي : وجوب الإكرام بالقياس إليه ، فهذا الدليل بعينه هو الدليل السابق ، غاية الأمر قد عبّر بلفظ آخر ، وبتعبير آخر ، وقد مرّ جوابه مفصّلا.

وإن كان المراد من المقتضي في مقام الثبوت أيّ : المصلحة والملاك ، وأنّ عنوان العامّ فيه ملاك الحكم ، وعنوان الخاصّ مانع عن تأثير هذا الملاك ، فهو وإن كان تامّا بحسب الصغرى ـ ولا يرد عليه ما أورده عليه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من أنّ عنوان المخصّص لا ينحصر في كونه مانعا بل ربما يكون شرطا أو جزءا كما في «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و «لا صلاة إلّا بطهور» (١) لأنّ الكلام ليس في أمثال هذه التراكيب التي هي متكفّلة لبيان عدم تحقّق الماهيّة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٦٠.

٣١٧

إمكانا أو وقوعا بدون وجود المستثنى وتحقّقه كما مرّ في بحث المفهوم ، بل الكلام في التراكيب والقضايا التي متكفّلة لبيان الأحكام الثابتة لموضوعاتها ، ومن المعلوم أنّها كلّها تابعة للملاكات الموجودة في موضوعاتها المقتضية لها ، وأنّ عناوين المخصّصات في أمثالها من قبيل الموانع عند العرف في جميعها ـ إلّا أنّ الكلام في تماميّة هذه القاعدة كبرى ، إذ مدركها لو كان بناء العقلاء فهو غير متيقّن ، ولو كان المدرك شمول الأخبار ـ الدالّة على حجّيّة الاستصحاب ـ لها ، فسيجيء ـ إن شاء الله ـ أنّ الأخبار الواردة في ذلك الباب يستحيل عموميّتها لموارد المقتضي والمانع وموارد الاستصحاب معا ، بل لا بدّ من أن تكون ناظرة إمّا إلى موارد المقتضي والمانع فقط أو الاستصحاب كذلك.

بقي الكلام في التفصيل الّذي أفاده صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ في المقام ، وهو : أنّ المخصّص إن كان لفظيّا منفصلا ، فحيث يقيّد العامّ بغير عنوان المخصّص المنفصل فلا يجوز التمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك كونه مصداقا للمخصّص ، لأنّ دليل وجوب إكرام العلماء مثلا غير متكفّل لانطباق موضوعه على ما في الخارج ، بل لا بدّ من إحراز ذلك من الخارج.

أمّا إن كان المخصّص لبّيّا ، فلو كان ممّا يمكن أن يعتمد عليه المولى في مقام البيان ، فهو كالمخصّص المتّصل في أنّه لا ينعقد ظهور للعامّ في العموم من الأوّل ، بل يقيّد العامّ بغير عنوان المخصّص من الأوّل.

وأمّا لو لم يكن كذلك ، فلا مانع من التمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك والمصداق المشتبه ، لبقاء العامّ على حجّيّته وظهوره فيه ، كما لو قال : «أكرم جيراني» وقطعنا بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فحيث لم يلق من المولى إلّا كلام

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٨ ـ ٢٦٠.

٣١٨

واحد هو «أكرم جيراني» وهو ظاهر في وجوب إكرام جميعهم وحجّة في ذلك ما لم يقطع بخلافه ، فالمصداق المشتبه حيث لم يقطع بكونه عدوّا وخارجا عن عموم «أكرم جيراني» فلا حجّة للعبد على المولى في عدم إكرامه ، إذ لم يكن مخصّص لفظي على الفرض حتّى يقيّد العامّ بغير عنوانه ، ولم يصل حجّة من طرف المولى على تقييد موضوع الحكم حتّى يلزم إحراز انطباقه على من في الخارج. هذا خلاصة ما أفاده في المقام.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ (١) : بأنّه غير تامّ بإطلاقه ، إذ المخصّص اللّبّي تارة يكون مقيّدا له كما في قوله عليه‌السلام : «فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا فارضوا به حكما فإنّي جعلته حاكما عليكم» (٢) إلى آخره ، فإنّه عامّ غير مقيّد بكون الرّجل الراوي عادلا أو غير فاسق بمقيّد لفظي ، لكن ثبت الإجماع على لزوم كونه عادلا ، وأنّه مقيّد بهذا القيد ، فحكمه حكم المخصّص اللفظي المنفصل في عدم جواز التمسّك به في المصداق المشتبه ، إذ المعتبر في عدم جواز التمسّك بالعامّ بالمنكشف ـ وهو كون المراد الواقعي مقيّدا ـ لا بخصوصيّة الكاشف من كونه لبّيّا أو لفظيّا.

وأخرى لا يكون مقيّدا للموضوع ، بل يكون كاشفا عن ملاك الحكم ، فلو قطعنا بعدم وجود الملاك في فرد ، فهو خارج عن عموم العامّ خروجا أفراديّا بالضرورة ، إذ الظهور لا يصادم القطع ، ويحمل سكوت المولى عنه إمّا على المصلحة فيه أو المفسدة في التقييد في المولى الحقيقي ، وعلى الغفلة في غيره ، ولو شككنا في وجود الملاك في فرد ، يكون عموم الحكم ـ حتّى بالنسبة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٧٤ ـ ٤٨٠.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ ـ ١٠ و ٧ : ٤١٢ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ ـ ٥١٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣١٩

إليه ـ كاشفا عن وجود الملاك فيه ، وليس للعبد أن يخالف أمر مولاه في هذا الفرد ويعتذر بأنّي لم أقطع بوجود الملاك فيه ، فإنّ إحراز ملاكات الأحكام ليس من وظيفة العبد ، بل شأن العبد امتثال أوامر المولى ونواهيه ، وأمّا أنّ هذا المأمور به فيه ملاك أم لا فليس من شأنه ، وهذا كما أمر المولى باشتراء اللحم فلم يشترط العبد معتذرا بأنّي لم أحرز وجود المصلحة في ذلك ، ومن المعلوم أنّه يضرب على رأس مثل هذا العبد.

وثالثة يكون مشكوكا ومردّدا بين الأمرين من دون أن يكون معيّن في البين ، كما إذا قال : «أكرم جيراني» ونعلم أنّه لا يريد إكرام عدوّه ، ونشكّ في أنّ عدم العداوة هل هو أخذ قيدا في موضوع الحكم أو هو علّة وملاك للحكم؟

وفي هذا الصورة يفصّل بين ما إذا كان المخصّص نظريّا وممّا يمكن أن يتّكل المتكلّم عليه ، فيكون من قبيل احتفاف الكلام والعامّ بما يصلح للقرينيّة على تقييده ، فيسقط ظهوره في العموم ولا يصحّ التمسّك به في المصداق المشتبه ، وبين ما إذا كان دليلا عقليّا نظريّا لا يصلح للقرينيّة ، فيجوز التمسّك بالعامّ حينئذ ، أو إجماعا ، إذ العامّ قد انعقد ظهوره في العموم ، والدليل المنفصل العقلي قد خصّصه بغير من علم عداوته قطعا تخصيصا أفراديّا ، وبقي ظهور العامّ في الفرد المشكوك عداوته على حاله ، وحيث إنّ الشكّ في التخصيص الزائد ، فيتمسّك بالعامّ ، ويحكم بوجوب إكرام كلّ فرد من أفراد الجيران غير من علم بعداوته ، ويكون العموم كاشفا عن عدم وجود العدوّ في أفراد العامّ ، ويحمل السكوت عن المعلوم عدواته على المصلحة فيه أو المفسدة في التقييد بعدمه في المولى الحقيقي ، أو الغفلة في المولى العرفي.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة فيما إذا كان

٣٢٠