الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

فصل :

في أنّه هل للوصف مفهوم أم لا؟

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مناط ثبوت المفهوم لقضيّة دون أخرى رجوع القيد المذكور في القضيّة إلى الحكم دون المادّة ، والقضايا الشرطيّة حيث إنّها ظاهرة في رجوع القيد إلى الحكم الثابت في الجزاء فلها مفهوم لا محالة ، أمّا غيرها مثل : «أكرم عالما عادلا» أو «يوم الجمعة» أو «حال كونه راكبا» أو «في المسجد» وغير ذلك من القيود ـ إذ مرادنا بالوصف ليس الوصف باصطلاح النحويّ ، بل كلّ قيد أخذ في موضوع الحكم ـ فلا يدلّ على المفهوم ، وأنّ الحكم منتف بانتفاء القيد المأخوذ في موضوعه ، إذ ظاهر هذه القضايا وأمثالها أنّ القيود راجعة (١) إلى الموضوع لا إلى الحكم ، وإلى المادّة لا الهيئة ، وقد عرفت أنّ مناط ثبوت المفهوم هو رجوع القيد إلى الحكم والهيئة دون المادّة والموضوع. وهذا واضح لا سترة عليه.

ثمّ إنّه قد يقال : إنّه لو لم يكن للوصف مفهوم ، لما صحّ حمل المطلق

__________________

(١) أقول : لا ملازمة بين كون شيء قيدا للموضوع وكونه قيدا للحكم ، لما مرّ في بحث الواجب المعلّق من أنّ قيود الموضوع على قسمين :

أحدهما : ما يكون قيدا لاتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، كالاستطاعة ، وهذا القسم من قيود الموضوع راجع إلى الحكم أيضا.

وثانيهما : ما يكون قيدا لتحقّق المصلحة ، وهذا القسم لا ربط له بالحكم ، فيكون الحكم مطلقا ، ومع ذلك لا يتحقّق الامتثال بإتيان فرد ليس فيه هذا القيد ، فإذا قال المولى : «أكرم العالم العادل» يمكن أن يكون وجوب الإكرام مطلقا من جهة العدالة وعدمها ، لكن مع ذلك لا يتحقّق الامتثال إلّا بإكرام العالم العادل. (م).

٢٨١

على المقيّد ، إذ لا منافاة بينهما على ذلك.

ولكنّ الحقّ أنّ باب المفهوم أجنبيّ عن باب حمل المطلق على المقيّد ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.

توضيح ذلك : أنّ ظهور القيد في الاحترازيّة ممّا لا ينكر ولا شبهة فيه ، بمعنى أنّ قول المولى : «أعتق رقبة» أو «أكرم زيد بن عمرو يوم الجمعة» مثلا ظاهر في أنّ قيد الإيمان والزيديّة وكون الإكرام في يوم الجمعة يقتضي عدم جواز الاجتزاء بالفاقد للقيد والعاري عنه في مقام الامتثال ، ولا يسقط الأمر ، بعتق رقبة فاقدة لقيد الإيمان وإكرام خالد بن عمرو أو زيد بن عمرو في غير يوم الجمعة ، وهذا لا يلازم (١) انتفاء الحكم عند انتفاء القيد بحيث لو كان هناك دليل آخر دالّ على ثبوت الحكم في مورد عدم القيد كان معارضا ومنافيا له ، بل تحتاج الدلالة على المفهوم إلى أمر آخر غير ظهور القيد في الاحترازيّة ، وهو ظهوره في الانحصار ، وقد تقرّر في باب المطلق والمقيّد ـ وسيجيء إن شاء الله مفصّلا ـ أنّ حمل المطلق على المقيّد من جهة ظهور القيد في الاحترازيّة ، لا من باب ثبوت المفهوم وانحصار القيد ، ولذا لا يحمل المطلق الشمولي على المقيّد ، كما في «خلق الله الماء طهورا» المطلق من حيث كونه ماء البحر أو النهر أو المطر أو البئر وغيرها من الأقسام ، و «ماء النهر يطهّر بعضه بعضا» و «ماء البئر واسع» وليس ذلك إلّا لأجل عدم التنافي بين الدليلين ، فإنّه في أحدهما حكم

__________________

(١) أقول : بل يمكن إثبات عدم انتفاء الحكم عند انتفاء القيد بإطلاق الأمر ، كما مرّ في مفهوم الشرط ، فإنّ الظاهر من الأمر هو الإطلاق وعدم تقييده بشيء من القيود ما دام لم يحرز التقييد ، فقيد العدالة في «أكرم العالم العادل» بمقتضى ظهور القيد في الاحترازيّة رجوعه إلى الموضوع مسلّم ولكن رجوعه إلى الحكم مشكوك ، فيتمسّك لإثبات عدمه بالإطلاق ، ويحكم بأنّ وجوب إكرام العالم مطلق من حيث العدالة وعدمها وإن لم يتحقّق الامتثال إلّا بإكرام العالم العادل. (م).

٢٨٢

الطهارة والطهوريّة ثابت لجميع أقسام الماء بمقتضى الإطلاق ، وفي الآخر ثابت لبعض الأفراد ، ولا ينفى عن سائر الأفراد ، ولو كان حمل المطلق على المقيّد من جهة ثبوت المفهوم ، لوجوب حمل المطلق الشمولي أيضا على المقيّد ، إذ على هذا «ماء النهر يطهّر بعضه بعضا» يدلّ على عدم كون غير ماء النهر كذلك ، ومن الواضح أنّه ينافي ويعارض المطلق الدالّ على كون الماء مطلقا ـ ولو كان غير ماء النهر ـ طاهرا مطهّرا ، ووجه حمل المطلق البدليّ على المقيّد واضح ، إذ ظهور القيد في الاحترازيّة وأنّ الامتثال لا يحصل إلّا بإتيان المقيّد ينافي ظهور المطلق في الإطلاق بدلا وأنّ المكلّف مخيّر في تطبيق المأمور به في «أعتق رقبة» على أيّ فرد شاء ـ مؤمنة كانت أو كافرة ـ فلا محالة يرفع اليد عن هذا الإطلاق ، ويحكم بعدم اجتزاء عتق الرقبة الكافرة في مقام الامتثال.

ثمّ محلّ النزاع هو الوصف المضيّق لدائرة الموضوع بأن يكون أخصّ من الموصوف ولو من وجه ، كما في «أكرم إنسانا عالما» أو «في الغنم السائمة زكاة» في جانب الافتراق عن الموصوف فقط ، أمّا ما لا يكون كذلك بأن يكون مساويا للموصوف أو أعمّ مطلقا ـ كما في «أكرم إنسانا كاتبا بالقوّة أو بالفعل» ـ أو في جانب الافتراق عن غير الموصوف فيما يكون الوصف أعمّ من وجه ، فلا يدخل في محلّ النزاع أصلا ، فلا يدلّ «في الغنم السائمة زكاة» ـ بناء على ثبوت المفهوم للوصف ـ إلّا على أنّ الغنم المعلوفة لا زكاة فيها ، أمّا عدم الزكاة في الإبل المعلوفة فأجنبيّ عن مفهوم الوصف.

فما عن بعض الشافعيّة من دلالته على ذلك (١) ، لا وجه له ، إلّا أن يدّعي دعوى بلا بيّنة وبرهان ، وهي أنّ تعليق الحكم على الوصف ظاهر في العلّيّة ،

__________________

(١) المنخول : ٢٢٢ وكما في كفاية الأصول : ٢٤٥ ومطارح الأنظار : ١٨٢.

٢٨٣

فيكون كما إذا صرّح بكونه علّة للحكم كما في «الخمر حرام لأنّه مسكر» وعليه فلا اختصاص له بالوصف الأعمّ من موصوفه من وجه ، بل يجري في كلّ وصف ، سواء كان مساويا أو أعمّ أو أخصّ مطلقا ومن وجه.

* * *

٢٨٤

فصل :

في مفهوم الغاية.

والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في المنطوق.

واختلفوا في دخول الغاية في المغيا حكما ـ بمعنى أنّه هل يكون أوّل جزء من أجزاء الغاية داخلا في حكم المغيا ويكون الحكم الثابت للمغيّا شاملا له ، أو لا؟ وإلّا فلا معنى لدخول الغاية في نفس المغيا ، ضرورة أنّ غاية الشيء مغايرة له ، وخارجة عنه قطعا ـ على أقوال ثلاثة ، ثالثها : التفصيل بين كونها مدخولة لكلمة «إلى» أو «حتّى» فتكون خارجة في الأوّل وداخلة في الثاني ، وقد مال إلى هذا التفصيل شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره.

والتحقيق أنّ ما يستفاد من موارد استعمالاتها هو أنّها إن كانت قيدا لما يكون متعلّقا به ، تكون خارجة مطلقا ـ ومرادنا ممّا يتعلّق به هو الحكم لا المتعلّق ـ كما لو قيل : «هذا حلال لك إلى مجيء زيد» و (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٢) و (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٣) بناء على تعلّق الجارّ والمجرور بهيئة «أتمّوا» لا مادّة الإتمام.

وإن لم تكن قيدا للحكم ، بل كانت قيدا لمتعلّق الحكم أو موضوعه ، فتكون داخلة مطلقا ـ كانت مدخولة لكلمة «إلى» أو «حتى» ـ لأنّ الغاية حينئذ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٣٦.

(٢) الزخرف : ٨٣ ، المعارج : ٤٢.

(٣) البقرة : ١٨٧.

٢٨٥

لا تكون حدّا للموضوع أو المتعلّق وغاية له حقيقة ، بل تكون غاية نحويّة ، كما في «قتل من في العسكر من أوّلهم إلى آخرهم» و «ضرب من في المسجد من الباب إلى المحراب» و «قرأت الكتاب الفلاني من أوّله إلى آخره» و «بعت جميع كتبي حتّى الكتاب الفلاني» فهي في الحقيقة سيقت في هذه الموارد لبيان أنّ جميع الأفراد محكومة بهذا الحكم المذكور في القضيّة حتّى ما بعد «إلى» و «حتى» لا لبيان حدّ المحكوم به ، فإطلاق الغاية عليها مسامحة في التعبير.

المقام الثاني : في المفهوم وأنّ الغاية هل تدلّ على انتفاء الحكم عمّا بعد الغاية أم لا؟

وقد ظهر ممّا ذكرنا في ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة أنّ مناط ثبوت المفهوم رجوع القيد إلى الحكم ، فإن كانت الغاية راجعة إلى نفس الحكم دون متعلّقه أو موضوعه ، فهي ظاهرة في المفهوم ، كما في (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ)(١) و «حرّم عليكم الخمر حتّى تضطرّوا» وإن كانت راجعة إلى متعلّق الحكم أو موضوعه ، فحكمها حكم الوصف ، فإنّ المتعلّق أو الموضوع يصير حينئذ أمرا خاصّا ، وثبوت الحكم لأمر خاصّ لا ينافي ثبوته لآخر.

هذا كلّه في مقام الثبوت ، أمّا مقام الإثبات : فظهور تعلّق الغاية بغير الموضوع ممّا لا ينكر ، إذ الظاهر أنّ الظرف والجارّ والمجرور إنّما يتعلّق بأمر حدثيّ وما يكون من قبيل المعنى ، والموضوع ليس كذلك.

مثلا : «أكلت الخبز في الدار» ظاهره أنّ «في الدار» متعلّق ب «أكلت» حتّى يكون المراد أنّ أكل الخبز كان في الدار ، لا السوق ، لا أنّه متعلّق ب «الخبز»

__________________

(١) المدّثّر : ٤٦ و ٤٧.

٢٨٦

حتّى يكون المراد أنّ المأكول هو الخبز الّذي يكون في الدار ولا ينافي كون الأكل في السوق مثلا.

فلا بدّ من تعلّق الغاية في مقام الإثبات إمّا بالمتعلّق أو بالحكم ، فلو كان المتعلّق غير مذكور في الكلام ، فلا محالة تتعلّق بالحكم ، ويثبت لها المفهوم ، إذ ليس في الكلام ما يصلح لتعلّق الغاية به إلّا الحكم ، ولو كان المتعلّق أيضا مذكورا ، فإن كان المذكور مفادا للهيئة ، كما في «أكرم العلماء إلى أن رأيت منهم الفسق» فالظاهر تعلّقها بالمتعلّق ، إذ الظرف بمقتضى الظهور العرفي يتعلّق حينئذ بمبدإ الفعل المذكور ومادّته لا بمفاد هيئته ، وإن لم يكن كذلك ، كما في «يجب إكرام العلماء إلى أن رأيت منهم الفسق» فحيث تصلح الغاية للتعلّق بكلّ من الحكم والمتعلّق فلا تكون ظاهرة في شيء منهما إلّا بالقرينة ، وما لم يحرز رجوعها إلى الحكم لا يحكم بثبوت المفهوم لها ، كما لا يخفى.

ولا يخفى أنّ ظهور الغاية في المفهوم فيما تكون راجعة إلى الحكم يكون أقوى من ظهور الجملة الشرطيّة فيه ، فإنّ غاية الحكم لو لم تكن ظاهرة في المفهوم وانتفاء الحكم عمّا بعدها ، يلزم الخلف ، وأنّ ما فرض أنّه غاية ليس بغاية ، وهذا بخلاف القول بعدم ثبوت المفهوم للجمل الشرطيّة ، فإنّه ليس فيه هذا المحذور وإن كان خلاف ظاهر الكلام أيضا.

* * *

٢٨٧
٢٨٨

فصل :

في مفهوم الاستثناء.

والكلام في مقامين :

الأوّل : [في] أنّه هل يدلّ على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى أم لا؟

والحقّ دلالته على ذلك فيما إذا استعملت أداة الاستثناء استثناء ، لا فيما إذا استعملت صفة ، فإنّه حينئذ داخل في مفهوم الوصف الّذي أنكرناه ، وذلك لتبادره عرفا ، فإنّهم لا يفهمون من مثل «جاءني القوم إلّا زيدا» إلّا إثبات المجيء لمن عدا «زيد» من القوم ونفيه عن «زيد» وهكذا في «ما جاءني القوم إلّا زيد» لا يفهمون إلّا نفي المجيء عمّن عدا «زيد» وإثباته ل «زيد».

وأنكره أبو حنيفة (١) ، مستدلّا بأنّ مثل «لا صلاة إلّا بطهور» و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ونحوهما ممّا لا يمكن الالتزام بانتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ، إذ لازمه تحقّق الصلاة ووجودها بوجود الطهارة أو فاتحة الكتاب سواء وجد سائر الشرائط والأجزاء أم لا ، مع أنّ هذا الاستعمال ليس استعمالا عنائيّا ، بل هو كما في سائر الجمل الاستثنائيّة ، بلا تفاوت في البين أصلا.

وفساد هذا الاستدلال أوضح من أن يخفى ، ضرورة أنّ المستثنى منه

__________________

(١) شرح مختصر الأصول ـ للعضدي ـ : ٢٦٤ و ٢٦٥ ، وكما في مطارح الأنظار : ١٨٧ ، وكفاية الأصول : ٢٤٧.

٢٨٩

ليس هو الشرط في «لا صلاة إلّا بطهور» ولا الجزء في «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» حتّى يلزم ما ذكر من أنّ لازم ثبوت المفهوم في الأوّل تحقّق الصلاة بوجود الطهارة فقط ولو لم تكن سائر شرائط الصلاة ، ولازمه في الثاني تحقّق الصلاة بقراءة فاتحة الكتاب سواء وجد سائر الأجزاء والشرائط أم لا ، وهكذا المستثنى ليس هو الجارّ والمجرور حسب ، بل المستثنى منه هو طبيعيّ الصلاة ، والمستثنى هو الحصّة الخاصّة من هذه الطبيعة ، فيكون معنى «لا صلاة إلّا بطهور» أنّه لا يتحقّق طبيعيّ الصلاة في الخارج إلّا الحصّة التي تكون مقارنة مع الطهارة منه. وبعبارة أخرى : لا صلاة إلّا صلاة تكون مع الطهارة أو فاتحة الكتاب. وهذا واضح لمن راجع أمثال هذه التراكيب ، كما في «لا رجل إلّا في الدار» و «لا علم إلّا مع العمل» و «لا محنة إلّا في الدنيا» و «لا راحة إلّا في الأخرى» فإنّ المستثنى في جميع هذه الأمثلة هو الحصّة الخاصّة من المستثنى منه ، وهل يتوهّم عاقل أنّ المستثنى في «لا أشرب إلّا من الكأس» هو الكأس ، وفي «لا آكل إلّا مع زيد» هو زيد؟ فلا بدّ في أمثال هذه التراكيب أن نرى أنّ المستثنى والمستثنى منه أيّ شيء هو أوّلا ثمّ نحكم بانتفاء ما ثبت للمستثنى منه عن المستثنى ، وكأنّ أبا حنيفة اشتبه عليه الأمر ولم يفهم ذلك.

ثمّ اعلم أنّ الاستعمال في هذه التراكيب حقيقيّ لا عناية فيه أصلا ، فما يظهر من صاحب الكفاية في جوابه الثاني عن هذا الاستدلال ـ من أنّ الاستعمال عنائيّ (١) ـ لا وجه له.

المقام الثاني : في أنّه هل تكون دلالة الاستثناء على انتفاء الحكم أو ثبوته لما بعده بالمفهوم أو بالمنطوق؟

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٨.

٢٩٠

والوجهان مبنيّان على أنّ كلمة «إلّا» تدلّ على خصوصيّة تفيد حصر الحكم في المستثنى منه ، فيكون ثبوت الحكم لما بعده أو نفيه عنه من لوازم هذه الخصوصيّة ، وتكون الدلالة دلالة مفهوميّة ، أو تدلّ على «أستثني» ونائبة عنه كما في نيابة حروف النداء عن «أدعو» فيكون ثبوت الحكم لما بعده أو نفيه عنه بنفس هذه الكلمة ، وتكون الدلالة منطوقيّة ، ولا يهمّنا تعيين أحدهما ، ولا فائدة فيه أصلا ، لعدم ترتّب ثمرة عمليّة عليه.

* * *

٢٩١
٢٩٢

المقصد الرابع :

في العام والخاصّ

٢٩٣
٢٩٤

المقصد الرابع :

في العام والخاصّ

فصل :

الظاهر أنّه ليس للأصوليّين في معنى العموم اصطلاح خاصّ ، بل العموم هو عندهم بمعناه اللغويّ الّذي هو الشمول ، يقال : عمّ الثوب زيدا ، أي : شمله.

وما عرّف به في كلماتهم ليس بحدّ ولا برسم ، بل هو تعريف لفظيّ ذكروا للإشارة إلى ذاك المعنى اللغويّ الّذي يعرفه كلّ أحد ، فقولنا : «كلّ رجل عامّ» أي شامل لكلّ ما يصلح أن ينطبق ويصدق عليه طبيعة الرّجل من العالم والجاهل والعادل والفاسق وهكذا.

وليعلم أن ليس البحث في المقام عن مفهوم العامّ بما هو ، إذ لا يترتّب عليه غرض للأصوليّ ، وإنما البحث عن مصاديقه ، فإنّها متعلّقة للأحكام الشرعيّة ومترتّبة على البحث عنها نتائج فقهيّة.

وربّما يتوهّم ترتّب الفائدة على البحث عن المفهوم بما هو ، نظرا إلى أنّ العامّ مقدّم على المطلق الشموليّ عند التعارض ، كما ثبت في محلّه ، فلا بدّ من معرفة مفهوم العامّ حتّى يميّز عن المطلق فيقدّم عند التعارض.

وهذا التوهّم فاسد ، لأنّ مناط الترجيح وتقديم أحدهما على الآخر هو

٢٩٥

كون الشمول والعموم المستفاد من الدليل بالوضع لا بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وليس المناط في ترجيح العامّ كونه مصداقا للعامّ ومنطبقا عليه مفهوم العامّ ، ضرورة أنّ المطلق الشموليّ أيضا مصداق للعامّ ومنطبق عليه مفهومه ، وإلّا لم يقع التعارض بينهما ، غاية الأمر أنّ الشمول فيه مستفاد من مقدّمات الحكمة ، بخلافه في ألفاظ العموم ، فإنّه مستفاد من الوضع ، ولذلك يقدّم على المطلق لصلاحيّته لأن يكون بيانا له.

ثمّ إنّ العامّ يقسّم بالاستغراقيّ والمجموعيّ والبدليّ.

وربما يقال ـ كما في الكفاية (١) ـ إنّ منشأ هذا التقسيم هو اختلاف كيفيّة تعلّق الحكم به ، وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وذلك لأنّ الحكم إمّا أن يتعلّق بكلّ واحد واحد من الأفراد بحيث يكون لكلّ فرد إطاعة وعصيان غير ما يكون للآخر ، أو بمجموعها بحيث يكون هناك إطاعة واحدة وعصيان واحد ، أو بواحد منها على البدل بحيث يمكن انطباقه على أيّ فرد من دون خصوصيّة في البين ، فالأوّل هو العموم الاستغراقيّ ، والثاني هو المجموعيّ ، والثالث هو البدليّ.

لكنّ التحقيق أنّ المنشأ اختلاف نفس المفهوم حيث إنّ نفس الشمول والعموم الموجود في جميع الأقسام مع قطع النّظر عن الحكم مختلفة ، إذ معنى «كلّ رجل ـ مثلا ـ مع قطع النّظر عن كونه محكوما بحكم هو جميع الأفراد ، ومعنى «أيّ رجل هو الفرد المنتشر.

وبعبارة أخرى : المتكلّم تارة يلاحظ جميع أفراد العالم ـ مثلا ـ بنحو الاستقلال ويثبت له كذلك حكما كوجوب الإكرام ، ومنشأ هذا الحكم تعلّق

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٣.

٢٩٦

غرض له بكلّ واحد منهم مستقلّا وأنّ إكرام كلّ فرد منهم يكون ذا مصلحة ، وأخرى يلاحظ جميع الأفراد بالانضمام ويثبت له كذلك حكما ، ومنشؤه هو غرض واحد متعلّق بالمجموع ، والمجموع يكون ذا مصلحة ، لا كلّ فرد مستقلّا ، وثالثة يلاحظ فردا واحدا منتشرا بين جميع الأفراد ، ويثبت له حكما كذلك ، فالحكم وإن كان مختلفا في هذه الأقسام لاختلاف الغرض والمصلحة التي تكون في المتعلّق إلّا أنّه ليس منشأ لهذا التقسيم ، بل نفس ماهيّة هذه الأقسام مختلفة.

ثمّ إنّ ما في الكفاية من «أنّ مثل شمول لفظ عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها» (١) من غرائب الكلام ، إذ ليس في ألفاظ العموم لفظ يكون صالحا بمفهومه للانطباق على كلّ واحد من الآحاد المندرجة تحته ، ضرورة أنّه لا ينطبق «كلّ عالم» أو «العلماء» أو «ما من عالم» بمفهومها على زيد العالم ، ولا يمكن أن يقال : إنّ زيدا كلّ عالم أو علماء ، كما لا يمكن أن يقال : إنّ الواحد عشرة. فليس معنى صلاحية العامّ للانطباق ما ذكره قدس‌سره ، بل معناها أنّ مدخول «كلّ» في «كلّ رجل أو لام الاستغراق في «الرّجال» ـ مثلا ـ يشمل وينطبق فعلا بواسطة الكلّ أو اللام الموضوع للشمول على كلّ ما يصلح أن ينطبق عليه لفظ الرّجل ومفهومه ، ومن المعلوم أنّ لفظ «العشرة» ليس كذلك ، بل هو من قبيل أسماء الأجناس ، كلفظ «رجل فكما أنّ لفظ «الرّجل ما لم يكن مدخولا ل «كلّ» وأمثاله لا ينطبق على جميع الأفراد ، بل يدلّ على مجرّد الطبيعة المهملة من حيث العموم والخصوص كذلك لفظ «عشرة» ما لم يكن مدخولا ل «كلّ»

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٣.

٢٩٧

وأمثاله لا يدلّ على العموم ولا ينطبق على العشرات ، بل يدلّ على مجرّد طبيعة العشرة المهملة من حيث العموم والخصوص بالنسبة إلى مصاديقها ، وإذا كان مدخولا لما يدلّ على العموم ك «كلّ عشرة زوج» ـ مثلا ـ ينطبق على جميع مصاديقها وكلّ ما يصلح أن ينطبق عليها من عشرات العالم ، وتختلف دائرة العموم سعة وضيقا بحسب ذكر التميز وعدمه ، وموارد الذّكر أيضا ، كما يشاهد في «كلّ عشرة زوج» و «كلّ عشرة رجال يقدرون على رفع هذا الحجر» و «كلّ عشرة حيوان كذا» وهكذا.

تذييل : يذكر فيه أمران :

الأوّل : أنّه لا شبهة في إمكان العامّ الاستغراقيّ والمجموعيّ والبدليّ ، ووجوده في الأوامر ، لكنّ المجموعيّ منه نادر في الفقه ، بل لم نجد له موردا ، وهكذا لا ريب في وجود الاستغراقيّ منه في النواهي فضلا عن إمكانه ، وهو فوق حدّ الإحصاء.

وأمّا المجموعيّ : فربما قيل بإمكانه ، نظرا إلى أنّه يمكن أن يكون هناك مصلحة في ترك أفراد طبيعة منضمّ بعضها إلى بعض بحيث لو لم يترك فرد منها في الخارج لما حصل الامتثال أصلا.

ولكنّه خلاف ما اخترناه في بحث النواهي من أنّ النهي ليس ما هو المعروف والمشهور من طلب الترك ، بل معناه هو الزجر عن الفعل لمفسدة تكون فيه ، وذكرنا أنّه لو كان في الترك مصلحة ، لما كان الفعل حراما ، بل كان الترك واجبا ، إذ لا يلزم أن يكون متعلّق الأوامر هو الأفعال الوجوديّة ، بل يمكن أن يتعلّق الأمر بترك فعل ، إذ كلّ ما يكون مقدورا للمكلّف بأيّ نحو كان يصحّ تعلّق النهي به ، ففرض وجود مصلحة في ترك أفراد طبيعة منضمّ بعضها إلى

٢٩٨

بعض خارج عن متعلّق النواهي.

ويمكن تصويره بأن يكون هناك مفسدة في أفعال متعدّدة منضمّ بعضها إلى بعض بحيث لا يكون بعضها دون بعض واجدا لتلك المفسدة ، فيكون المجموع من حيث المجموع محرّما ، فالعامّ المجموعيّ أيضا متصوّر إلّا أنّ وجوده في الشرعيّات غير معلوم ، وربما يمثّل بالصوم. وفيه نظر واضح.

وأمّا العامّ البدلي فلا يتصور في النواهي ، إذ المفسدة لو كانت قائمة بواحد من الأفراد معيّنا لا على البدل ، فهو خارج عن محلّ الكلام ، ولو كانت قائمة بواحد منها لا معيّنا بل على البدل ، فلا يعقل إلّا على نحو العامّ المجموعيّ وأن تكون المفسدة في واحد على البدل منضمّا مع سائر الأفراد ، إذ لا يتصوّر أن يكون هناك مفسدة واحدة في كلّ واحد من الأفراد بدلا منفردا من دون انضمام سائر الأفراد إليه.

نعم ، يمكن تصوّر وجود المفسدة الواحدة في الطبيعة المنهيّ عنها بنحو صرف الوجود ، فيكون أوّل الوجودات على سبيل البدليّة ذا مفسدة ، كما مثّلنا في بعض مباحثنا السابقة بما إذا نهى المولى عبده عن إدخال رجل في الدار ليكون فارغا للمطالعة ، وقال : «لا تدخل أحدا في الدار» فما هو متعلّق النهي هو أوّل الوجودات والأفراد من الطبيعة ، والمفسدة تكون فيه منفردا مستقلّا من دون انضمامه إلى سائر الأفراد.

لكنّه أيضا خارج عن محلّ الكلام ، إذ النهي لم يتعلّق بالطبيعة أينما سرت على البدل ، بل تعلّق بالحصّة الخاصّة من الطبيعة ، وهي الحصّة المتحقّقة في ضمن أوّل الوجودات والأفراد بنحو الشمول والعموم ، فهو داخل في العامّ الشموليّ لا البدليّ ، فانقدح أنّ العامّ البدليّ لا يتصوّر في متعلّق

٢٩٩

النواهي.

الثاني : أنّ العامّ البدليّ والاستغراقيّ لا يكاد يشتبه أحدهما بالآخر ، إذ لكلّ منهما ألفاظ خاصّة به موضوعة له ، كلفظ «كلّ» و «جميع» و «تمام» وغيرها للاستغراق ، ولفظ «أيّ» وغيره للبدليّ ، وأمّا المجموعيّ والاستغراقيّ فحيث إنّ الأوّل لم يوضع له لفظ خاصّ ظاهرا فيمكن اشتباه أحدهما بالآخر ، والظاهر أنّه يحمل على الاستغراق في صورة الاشتباه والدوران ، لأنّه ـ مضافا إلى أنّ المجموعيّ نادر جدّاً بحيث لم نعثر على ورود مورد منه في الشرعيّات ، وهذه المرتبة من الندرة توجب الانصراف وعدم انفهام العرف ذلك إلّا مع القرينة الظاهرة ـ يحتاج إلى مئونة زائدة في مقام اللحاظ والاعتبار تدفع بالأصل ، إذ لا بدّ في العامّ المجموعيّ أن يلاحظ الكثرات أوّلا ويعتبرها واحدا ثانيا كي يمكن أن يكون محكوما بحكم واحد ناشئ عن غرض واحد ومصلحة واحدة تكون في الجميع ، إذ الواحد بما هو واحد لا يمكن صدوره عن الكثير بما هو كثير ، وهذا بخلاف الاستغراقيّ ، إذ لا يحتاج إلى أزيد من ملاحظة الكثرات واعتبارها واحدا ، فاعتبار الزائد عن لحاظ الكثرات واعتبار كونها واحدا عناية زائدة تحتاج إلى نصب قرينة عليها ، فعند عدمها يحمل على الاستغراق.

* * *

٣٠٠