الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

في التمسّك بإطلاق الشرط ، وذلك لأنّ معنى رجوع القيد إلى الهيئة أنّ الحكم ووجوب الإكرام لا يكون على كلّ تقدير ، بل هو مقيّد بصورة وجود الشرط ، كما إذا قال : «أنت حرّ في وجه الله بعد وفاتي» في التدبير ، و «هذا المال لزيد بعد وفاتي» في الوصيّة ، فكما أنّ في الوصيّة والتدبير ينشئ فعلا الموصي والمدبّر الحريّة والملكيّة المتأخّرتين ، ويعتبران الآن الملكيّة والحريّة المتأخّرتين ، فكذلك في المقام يجعل الفعل على عهدة المكلّف على تقدير متأخّر ، فالاعتبار والإنشاء فعليّ ولكنّ المعتبر والمنشأ معلّق على أمر متأخّر ، وقد ذكرنا في مبحث المطلق والمشروط أنّه يمكن اعتبار الأمر المتأخّر ، ولا محذور فيه.

فحينئذ يستفاد من قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» أنّ مفاد الهيئة ـ الّذي هو الطلب عند صاحب الكفاية ، والنسبة الإيقاعيّة عند شيخنا الأستاذ قدس‌سرهما ، وكون الفعل على ذمّة المكلّف وعلى عهدته على مسلكنا ـ معلّق على هذا الشرط ـ وهو في المثال مجيء زيد ـ ومقيّد بهذا القيد ، وحيث إنّ المتكلّم في مقام البيان وقد أتى بهذا القيد الواحد ولم يذكر له عدلا بأن يقول : «إن جاءك زيد أو عمرو فأكرمه» حتّى يكون القيد أحد الأمرين ، يستفاد أيضا أنّ القيد منحصر بما ذكر ليس إلّا ، كما يستفاد الوجوب التعيينيّ من الإطلاق وعدم ذكر عدل له.

__________________

ـ مقتضى القواعد العربيّة والظهور العرفي أنّ الحكم في الجزاء ـ سواء كان مفادا من الهيئة أو المادّة ـ مقيّد بوجود الجزاء في الجمل الشرطيّة التي لم تسق لبيان تحقّق الموضوع ، وليس محذور عقليّ في تقييد الحكم مطلقا ، فحيث قيّد الحكم بمقتضى هذا الظهور بهذا الشرط ولم يذكر قيد آخر للحكم مع كون المتكلّم في مقام البيان ، فنستكشف أنّ القيد منحصر في ذلك ، ولا يكون هناك شيء آخر دخيلا في الحكم ، ولازم ذلك ثبوت المفهوم للقضيّة ، كما هو واضح. (م).

٢٦١

ولو قرّبناه بهذا التقريب ، لا مجال لإيراد صاحب الكفاية ، فإنّ التمسّك بالإطلاق ليس لإثبات الانحصار ، بل لأنّ التقييد يتفاوت حاله مع الانحصار وعدمه ، فنتمسّك بإطلاق القيد المفيد للانحصار قهرا لإثبات أنّ الحكم غير مقيّد بغير هذا القيد المذكور.

ويشهد لذلك تمسّكنا بالإطلاق لو شككنا في أنّ شيئا آخر غير مجيء زيد له دخل في وجوب الإكرام أو لا ، ألسنا نتمسّك بإطلاق القيد ونقول : لو كان أمر آخر له دخل في ثبوت الحكم لكان عليه البيان وأن يقول مثلا : «لو جاءك زيد وأكرمك فأكرمه» أو هذا من الثمرات المهمّة المترتّبة على إثبات أنّ القيد راجع إلى الهيئة دون المادّة.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّه لا موضوع للبحث عن أنّه هل المنتفي عند انتفاء الشرط شخص الحكم أو سنخ الحكم؟ وأنّ مفاد الهيئة هل هو جزئيّ أو كلّيّ؟ لما عرفت من أنّ المعلّق على الشرط أمر اعتباريّ مظهر بمظهر أيّا ما كان ، سواء في ذلك ، الإنشاء أو الإخبار ، ومن المعلوم أنّه يكون طبيعيّ الوجوب لا الشخص ، غاية الأمر أنّه مقيّد بهذا القيد الخاصّ ، الّذي يكون شرطا في القضيّة ، ومطلق من سائر الجهات ، من دون تفاوت بين كونه مبرزا بالهيئة أو المادّة.

وإنّما أعرضنا عن هذا البحث ، لأنّه على مسلكنا ـ من أنّ الإنشاء كالإخبار ليس إلّا إظهار الأمر النفسانيّ وليس من باب الإيجاد أصلا ـ لا موضوع له ، بمعنى أنّه لا يوجد بالإنشاء شيء حتى يبحث في أنّ هذا الموجود هل هو جزئيّ أو كلّيّ؟ وعلى الأوّل كيف يتصوّر المفهوم مع أنّ شخص هذا الحكم المذكور في القضيّة انتفاؤه عقليّ لا ربط له بالمفهوم ، وسنخ الحكم لا يدلّ عليه

٢٦٢

المنطوق حتّى ينتفي بانتفاء الشرط!؟

وبالجملة ، ما هو معلّق على الشرط (١) هو ذاك الأمر الاعتباريّ ، سواء كان حكما تكليفيّا أم وضعيّا ، كان مبرزا بالهيئة أو المادّة ، ولا يتفاوت حاله بأن تكون الهيئة مبرزة ومظهرة له أو المادّة من حيث الجزئيّة والكلّية والعموم والخصوص.

ثمّ إنّه استدلّ المنكرون بوجوه :

منها : قوله تبارك وتعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١).

__________________

(١) أقول : لعلّك تقول : لو كان المعلّق على الشرط هو ذاك الأمر الاعتباري المبرز بالهيئة ، الّذي هو كون الإكرام على تقدير المجيء ـ مثلا ـ على ذمّة المكلّف وعلى عهدته ، فانتفاء هذا الأمر الخاصّ بانتفاء موضوعه عقليّ لا ربط له بالمفهوم ، فأيّ فرق بين هذا القول والقول بأنّ مفاد الهيئة جزئيّ وحكم خاصّ ينتفي بانتفاء موضوعه عقلا؟

ولكنّك غفلت عن أنّ ثبوت المفهوم من ناحية عدم التقييد بغير هذا الشرط مع إمكانه ، وقد عرفت إمكانه ، وأنّ أمر الجعل بيد المولى ، فله أن يضيّق دائرته وله أن يوسّع.

ويمكن إبراز المقيّد بالهيئة بقوله : «أكرم على تقدير كذا» كما يمكن بالمادّة بقوله : «يجب الإكرام على تقدير كذا» ولا فرق بينهما أصلا ، فحيث يمكن للمولى على هذا المبني أن يقيّد الحكم بغير الشرط أو لم يقيّد ، فيستكشف أنّ الشرط هذا دون غيره ، وبعد هذا الاستكشاف ينتفي الحكم بانتفائه عقلا ، وحيث لا يكون قيد أو شرط آخر يقوم مقامه بمقتضى الإطلاق ، فيثبت المفهوم.

وهذا بخلاف القول بأنّ مفاد الهيئة جزئيّ وأمر خاصّ ، فإنّ القائل به يقول باستحالة تقييد الحكم المفاد من الهيئة بغير هذا الشرط ، فالانتفاء وإن كان عقليّا أيضا بانتفاء موضوعه إلّا أنّه لا ينافي ثبوت الحكم على تقدير آخر بدليل آخر من جهة أنّ التقييد بغير هذا الشرط في هذا الدليل كان مستحيلا على المولى ، فلو كان الحكم في الواقع مقيّدا على غيره أيضا ، فله أن يقيّد بدليل آخر ، ولا منافاة في البين أصلا. (م).

(٢) النور : ٣٣.

٢٦٣

وفيه : ما عرفت من أنّ الجمل الشرطيّة التي سيقت لأجل بيان وجود الموضوع ليس لها مفهوم بل هي داخلة في مفهوم الوصف واللقب ، والآية المباركة من هذا القبيل ، فإنّ الإكراه لا يمكن عند عدم إرادتهنّ التحصّن ، فلا يمكن أن تكون الحرمة مطلقة بالنسبة إليه حتّى يتمسّك بالإطلاق ويثبت به المفهوم.

وهناك وجوه آخر لا فائدة في ذكرها.

بقي أمور :

الأوّل : أنّ مقتضى ما ذكر ـ من أنّ جميع القضايا الحقيقيّة ترجع إلى قضايا شرطيّة مقدّمها فرض وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول وهكذا كلّ قضيّة شرطيّة تؤول إلى قضيّة حقيقيّة ـ : ثبوت المفهوم لجميع القضايا الحقيقيّة على القول بدلالة الشرطيّة على المفهوم ، وهذا خلاف الوجدان.

وجوابه ظهر ممّا ذكرنا من أنّ الجمل الشرطيّة التي سيقت لبيان تحقّق الموضوع ليس لها مفهوم ، والقضايا الحقيقيّة كلّها ترجع إلى قضايا شرطيّة كذلك ، فإنّ قولنا : «لا تشرب الخمر» مساوق لقولنا : «إن فرض ووجد في الخارج خمر فلا تشربها» و «أكرم العلماء عند مجيئهم» مساوق لقولنا : «إن وجد في العالم عالم فأكرمه على تقدير مجيئه» فإذا كانت كذلك ، فلا مجال للقول بثبوت المفهوم لها.

الأمر الثاني : أنّ الحكم الثابت في الجزاء إمّا هو حكم واحد له امتثال واحد وعصيان واحد متفرّع على موضوع واحد ، كما في «إن جاءك زيد فأكرمه» أو أحكام عديدة بنحو العامّ الاستغراقيّ ، لها امتثالات عديدة أنشئت هذه الأحكام العديدة بإنشاء واحد ، وهي إمّا متفرّعة على موضوعات كذلك

٢٦٤

ـ أي عديدة ـ كما في «إن جاءك العلماء فأكرمهم» أولا ، بل موضوعها واحد ، كما في رواية «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (١).

لا إشكال في ثبوت المفهوم على القول به في الأوّل وكذا الثاني ، ولا إشكال أيضا في انتفاء كلّ حكم بانتفاء موضوع نفسه في الثاني ، ففي الحقيقة هناك قضايا شرطيّة متعدّدة جمعها قضيّة واحدة وكلام واحد ، فبانتفاء كلّ موضوع ينتفي حكم نفسه ، لا حكم الموضوع الآخر. وهو واضح لا ريب فيه.

وإنّما الإشكال في القسم الثالث ـ الّذي هو ترتّب أحكام عديدة على موضوع واحد ـ من جهة أنّ المفهوم هل هو موجبة جزئيّة ، كما يقول به المنطقيّون ، نظرا إلى أنّ ارتفاع السلب الكلّيّ إنّما هو بالإيجاب الجزئيّ ، أو هو موجبة كلّيّة ، فيدلّ مثل قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (٢) على تنجّس الماء القليل بكلّ ما يكون قابلا للتنجيس؟

أفاد شيخنا الأستاذ أنّ المنطقيّ حيث ينظر إلى البراهين العقليّة ولا نظر له إلى الظواهر العرفيّة جعل نقيض السالبة الكلّيّة الموجبة الجزئيّة ، والأصوليّ لا ينظر إلّا إلى ما ينفهم من الكلام ويظهر منه عرفا ، وحينئذ :

فبحسب مقام الثبوت إمّا أن يكون المعلّق على الشرط عموم الحكم وشموله ـ وبعبارة أخرى : مجموع الأحكام كما في العامّ المجموعيّ لا جميعها ـ فعلى هذا لا يكون المفهوم إلّا موجبة جزئيّة ، وإمّا يكون هو الحكم العامّ ـ وبعبارة أخرى : جميع الأحكام وكلّ واحد منها كما في العامّ الاستغراقي ـ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ ١ و ٢ ، التهذيب ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ـ ١٠٧ و ١٠٩ و ٢٢٦ ـ ٦٥١ ، الاستبصار ١ : ٦ ـ ١ ـ ٣ ، الوسائل ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٦.

(٢) نفس المصادر.

٢٦٥

فحينئذ يكون المفهوم موجبة جزئيّة.

وبحسب مقام الإثبات ودلالة القضيّة :

فإن كان العموم مستفادا من لفظ مستقلّ دالّ بالاستقلال كأن يكون مستفادا من كلمة «كلّ» ونحوه ، فالمعلّق يمكن أن يكون هو الحكم العامّ ، ويمكن أن يكون هو عموم الحكم ، ويعيّن بالقرينة الخارجيّة.

وإن كان مستفادا من لفظ غير مستقلّ في الدلالة ـ كوقوع النكرة في سياق النفي ـ يكون المعلّق هو الحكم العامّ قطعا ، كما في الرواية ، فيكون المفهوم موجبة كلّيّة ، ويمكن الاستدلال بالرواية لانفعال الماء القليل بكلّ ما يكون قابلا للتنجيس بالملاقاة حتّى المتنجّس على القول بكونه منجّسا ، فإنّه المراد بالشيء فيها. هذا ملخّص ما أفاده (١) قدس‌سره.

وفيه : أنّ المعلّق على الشرط ليس إلّا الحكم العامّ ، وأمّا عموم الحكم وشموله فلا ربط له بالشرط أصلا بلا فرق بين كونه مفادا للمعنى الاسميّ أو الحرفيّ.

والتحقيق أنّ المعلّق إن كان كلّ حكم بنفسه لا منضمّا إلى حكم آخر ، فالمفهوم موجبة كلّيّة قطعا ، وإن كان المعلّق هو كلّ حكم منضمّا إلى الآخر ، فالمفهوم موجبة جزئيّة ، والظاهر أنّ الرواية من هذا القبيل ، ونظيره قول شجاع : «إذا لبست درعي وأخذت سلاحي فلا يغلبني أحد» فهل ترضى بأنّ مفهومه أنّه «إذا لم ألبس درعي ولم آخذ سلاحي فيغلبني كلّ أحد»؟ فالظاهر أنّ مفهوم الرواية ونظائرها ليس إلّا الموجبة الجزئيّة. ولا يمكن الاستدلال بها لانفعال الماء القليل بكلّ نجس إلّا بالقول بعدم الفصل ، ومن هنا بنى صاحب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٢١ ـ ٤٢٣.

٢٦٦

الكفاية (١) على عدم تنجّسه بالمتنجّس مع القول بتنجّس غيره به.

الأمر الثالث : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، مثل : «إذا خفي الأذان فقصّر» و «إذا خفي الجدران فقصّر» فبناء على ظهور الجملة في الانتفاء عند الانتفاء يقع التعارض بين مفهوم أحدهما ومنطوق الآخر لا محالة ، فإنّ مفهوم «إذا خفي الأذان فقصّر» هو أنّه إذا لم يخف الأذان فلا تقصّر ، سواء خفي الجدران أو لم يخف. فلا بدّ من رفع التنافي والتعارض والعلاج ، وهو يحصل بأحد أمور ثلاثة :

الأوّل : أن يرفع اليد عن المفهوم في كليهما ، فلا ينافي وجود أمر آخر غير هذين الخفاءين موجب لوجوب القصر.

الثاني : أن يقيّد إطلاق كلّ منهما ـ أي من الشرطين ـ بالشرط الآخر المقابل للعطف ب «أو» وبعبارة أخرى : أن يجعل الشرط هو الجامع بين الأمرين ولو مفهوما ، فيكون كلّ من الشرطين سببا مستقلّا لوجوب القصر ، وليس هناك سبب آخر ، بمعنى أنّ مقتضى هذا التقييد نفي سبب آخر غيرهما ، وانحصاره بهما ، وأمّا تقييد كلّ من المفهومين بمنطوق الآخر بدون التصرّف في المنطوق فغير معقول ، فإنّ المفهوم من تبعات المنطوق ولوازمه ، فكيف يمكن رفع اليد عن لازمه بدون التصرّف في نفس المنطوق!؟

الثالث : أن يقيّد إطلاق كلّ منهما ـ أي الشرطين ـ بالآخر المقابل للعطف بالواو ، وجعل الشرط مجموع الأمرين بحيث يكون كلّ واحد منهما جزءا للسبب. وليس هناك وجه رابع في المقام.

وأمّا ما في الكفاية (٢) من احتمال شقّ رابع ، وهو : رفع اليد عن أحد

__________________

(١) انظر : مستمسك العروة ـ للسيد الحكيم قدس‌سره ـ ١ : ١٤٦.

(٢) كفاية الأصول (المحشّى) ٢ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

٢٦٧

المفهومين وبقاء الآخر (١) على مفهومه فيما إذا كان ما أبقي على المفهوم أظهر من الآخر ، فقد نقل أنّه ضرب خطّ المحو عليه في النسخة المصحّحة منها ، وهو الظاهر ، ضرورة أنّ رفع اليد عن أحد المفهومين لا يرفع التنافي والتعاند بين الدليلين ، لأنّ التعارض ليس بين مفهومين حتّى يعالج برفع أحدهما ، بل هو بين مفهوم أحدهما ومنطوق الآخر.

وأظهريّة ما أبقي على المفهوم بل صراحته لا يفيد شيئا ، إذ لو دلّ دليل بالصراحة على أنّ عدم خفاء الأذان لا يوجب القصر سواء كان هناك خفاء الجدران أو لا ، ودلّ دليل آخر على أنّ خفاء الجدران يوجب القصر ، هل يتوهّم أحد أنّه ليس بينهما تناف وتعاند؟

ثمّ إنّ البحث لا يختصّ بما إذا كان هناك قضيّتان شرطيّتان تعدّد شرطهما واتّحد جزاؤهما ، بل يعمّ ما إذا كان هناك قضيّة شرطيّة دالّة بالمفهوم على عدم سببيّة شرط آخر للجزاء ، ودليل آخر دالّ على ذلك ، أي سببيّة شرط آخر للجزاء.

مثلا : لو ورد أنّ «من أتى أهله في نهار شهر رمضان فليكفّر» ثمّ ورد أنّ «المرتمس في الماء في نهار شهر رمضان يجب عليه الكفّارة» يقع التعارض أيضا بين الدليلين ، ولا بدّ من العلاج بأحد الأمور المذكورة.

فالأولى أن يجعل محلّ البحث وعنوان مورد النزاع هكذا : إذا كان هناك دليلان أحدهما : قضيّة شرطيّة نفت بمفهومها ما أثبته الآخر ، فلا بدّ من العلاج ورفع التنافي بأحد أمور ثلاثة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : قد تقرّر في مقرّه أنّه لا بدّ في مقام علاج

__________________

(١) أي : بقاء الشرط الآخر على مفهومه.

٢٦٨

الدليلين المتعارضين من رفع اليد عمّا أوقعنا في إشكال التعارض والتنافي وإن أمكن العلاج ورفع التنافي برفع اليد عن غيره ، مثل ما إذا ورد «أكرم العلماء» ثمّ ورد «لا تكرم زيدا» فرفع التعارض وإن كان يمكن بأحد أمرين : الأوّل : برفع اليد عن ظهور العامّ في العموم وتخصيصه بغير زيد. والثاني : برفع اليد عن ظهور «أكرم» في الوجوب ، وحمله على الاستحباب ، لكنّه لا موجب لرفع اليد عن ظهور الصيغة في الوجوب ، وذلك لأنّ التنافي لم ينشأ من هذا الظهور ، بل نشأ من ظهور العامّ في العموم والشمول بالنسبة إلى كلّ فرد حتّى «زيد» فلا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور الّذي لأجله وقع التعارض والتنافي بين الدليلين ، وأمّا ظهور الصيغة في الوجوب وأنّ ما سوى «زيد» واجب الإكرام ـ الّذي لا مزاحم ولا معارض له ـ لا موجب لرفع اليد عنه.

وهذه قاعدة كلّيّة شريفة تنفع في فروع كثيرة ، والمقام من صغريات تلك الكبرى الكلّيّة ، إذ ظهور الجملة الشرطيّة في السببيّة المنحصرة وأنّ خفاء الأذان ـ مثلا ـ سبب منحصر للقصر ، ولا يكون غيره سببا حتّى خفاء الجدران صار سببا للتنافي والتعاند وأوقعنا في المحذور ، فلا بدّ بمقتضى تلك الكبرى الكلّيّة من رفع اليد عن هذا الظهور الّذي صار سببا للتعارض ، ونشأ التنافي من أجله ، والقول بأنّ الانحصار ليس حتّى بالنسبة إلى خفاء الجدران ، بل الانحصار يكون بالنسبة إلى غير خفاء الجدران ، ككسوف الشمس وخسوف القمر ونزول المطر وغير ذلك ، ولا موجب لرفع اليد عن الظهور في أصل الانحصار ، كما لا موجب لرفع اليد عن ظهور الجملة في كون الشرط سببا مستقلّا لحصول الجزاء ، إذ التعارض لم ينشأ من شيء من هذين الظهورين ، إذ كلّ من الدليلين يدلّ على أنّ خسوف القمر أو نزول المطر أو الحادث الفلاني لا يوجب القصر ، وكلّ

٢٦٩

منهما يدلّ على أنّ الشرط سبب مستقلّ للجزاء ، فأيّ منافاة بينهما؟ وهل توهّم أحد إلى يومنا هذا أنّه إذا ورد «من أتى أهله في نهار رمضان فليكفّر» و «المرتمس في الماء يكفّر» و «من أكل أو شرب يكفّر» يكون مقتضى هذه الأدلّة الثلاثة أنّ وجوب الكفّارة مختصّ بمن أتى أهله ، وارتمس ، وأكل ، وشرب بحيث لو صدر منه جميع هذه الأفعال غير الشرب لم يجب عليه الكفّارة؟

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ من أنّ هناك إطلاقين : أحدهما : يثبت به الانحصار ، وهو عدم تقيّد الحكم بغير هذا الشرط المقابل للتقييد ب «أو» فيكون القيد منحصرا به ، والآخر : عدم تقيّده بهذا الشرط وبشيء آخر معا المقابل للتقييد بالواو الّذي يفيد الاستقلال ، ولا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، للعلم الإجمالي بعدم بقاء كليهما على حالهما ، وكلاهما على حدّ سواء لا تفاوت بينهما ، فحينئذ يسقط كلّ منهما عن الحجّيّة ، ولكنّه لا شبهة في ثبوت الحكم في مورد الاجتماع (١).

ووجه الفساد : ما عرفت من أنّه لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق المفيد للاستقلال ، لأنّ التعارض لم ينشأ من هذا الإطلاق ، فيتعيّن أن ترفع اليد من الإطلاق الآخر بمقدار نشأ التعارض لأجله ، وهو الانحصار حتّى بالنسبة إلى هذا الشرط الثابت شرطيّته بدليل آخر.

الأمر الرابع : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، فهل عند تقارنهما أو تقدّم أحدهما على الآخر تتداخل الأسباب ، فيكون التكليف واحدا ، أو لا تتداخل ، فيكون التكليف متعدّدا بتعدّد الشرط؟ ولا ريب في أنّه يختصّ النزاع بما إذا كان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤١٨.

٢٧٠

وحدة الحكم وتعدّد شرطه مفهوما من القضيّة الشرطيّة أو غيرها.

فالأولى أن يجعل محلّ النزاع هكذا : إذا دلّ دليل على سببيّة شيء لشيء مستقلّا ، ودلّ دليل آخر على سببيّة شيء آخر له كذلك ، أي مستقلّا ـ سواء كان الدليلان كلاهما شرطيّتين أو أحدهما أو لا يكون شيء منهما كذلك ـ فهل تتداخل الأسباب أو لا؟ واختلفوا في ذلك ، فهم : بين قائل بالتداخل ، وقائل بعدمه ، وقائل بالتفصيل بين اختلاف الجنس فالثاني ، وعدمه فالأوّل.

وليعلم أنّ مورد النزاع فيما إذا كان الحكم قابلا للتعدّد ، كما في «إذا بلت فتوضّأ» و «إذا نمت فتوضّأ» حيث يمكن أن يكون الوضوء مطلوبا بطلبين مرّتين ، وأمّا ما لا يقبل التعدّد ـ كما في «من سبّ أحد الأئمّة صلوات الله عليهم ـ يجب قتله» و «من أبدع في الدين يجب قتله» حيث لا يمكن قتل من سبّ وأبدع مرّتين ـ فخارج عن محلّ النزاع قطعا.

ثمّ إنّه إن ثبت ظهور للجملة في التداخل أو عدمه ، يتبع ، وإن لم يثبت وبقينا على شكّ وحيرة ، فمقتضى القاعدة هو التداخل ، إذ الزائد على تكليف واحد مشكوك ينتفي بالأصل ، فنتيجته أنّ الأسباب المتعدّدة لا تؤثّر إلّا في تكليف واحد.

هذا فيما إذا لم يثبت عدم التداخل ، ولو ثبت عدم التداخل وأنّ كلّا يقتضي تكليفا غير ما يقتضيه الآخر ، وشكّ في أنّ هذه التكاليف المتعدّدة هل تمتثل بفعل واحد بقصد امتثال الجميع؟ كما إذا ثبت وجوب إكرام العالم والهاشميّ فأكرم عالما هاشميّا بقصد امتثال كلا التكليفين ، فهل يحصل الامتثال به أو لا؟ وبعبارة أخرى : بعد ما ثبت أنّ الأسباب لا تتداخل هل تتداخل المسببات أو لا؟ فمقتضى قاعدة الاشتغال هو عدم جواز الاكتفاء وعدم التداخل

٢٧١

في مقام الامتثال.

وبعد ذلك يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في تداخل الأسباب.

فنقول : لا شبهة في أن القضيّة المتكفّلة لبيان حكم لموضوع ـ شرطيّة كانت أو غيرها ـ ينحلّ الحكم الثابت فيها إلى أحكام متعدّدة حسب موضوعاته المتعدّدة ، ولا فرق في ذلك بين القضايا العرفيّة ، كما في «النار حارّة» و «إن وجدت نار فهي حارّة» وبين القضايا الشرعيّة ، كما في «المستطيع يجب عليه الحجّ» (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) كما لا فرق من هذه الجهة بين القضيّة الشرطيّة وغيرها ، فإنّه في كلّ منهما الحكم ثابت للموضوع المفروض وجوده ، غاية الأمر أنّ فرض وجود الموضوع في الشرطيّة يستفاد من أداة الشرط ، فإنّها وضعت لذلك ، بخلاف القضيّة الحقيقيّة ، فإنّه فيها يستفاد من الظهور.

وبالجملة ، ظهور الجملة في تعدّد الحكم حسب تعدّد الموضوع أو الشرط ممّا لا ينكر ، وهكذا ظهورها في استقلال الموضوع وكون الحكم مترتّبا عليه مستقلّا ممّا لا شبهة فيه ، فإنّ ظاهر قضيّة «إذا بلت فتوضّأ» أو «يجب الوضوء عند البول» هو أنّ وجوب الوضوء مترتّب على وجود البول ، سواء سبقه أو قارنه نوم أم لا ، فمقتضى هذين الظهورين : أنّ كلّ شرط لو فرض وجود كلّ فرد منه في الخارج ، يترتّب عليه حكم وتكليف غير ما يترتّب على الآخر ، فهناك موضوعات عديدة وأحكام عديدة ، فتدلّ قضيّة «إذا بلت فتوضّأ» و «إذا نمت فتوضّأ» على وجوب الوضوء لكلّ مرّة من مرّات البول وبعد كلّ

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٢٧٢

نوم.

وأمّا كون المطلوب هو صرف الوجود فليس من مدلول الهيئة أو المادّة ، فإنّ المادّة وضعت لنفس الماهيّة ، والهيئة لطلب إيجادها ، واستفادة صرف الوجود فيما إذا كان هناك تكليف واحد من جهة أنّ إيجاد الماهيّة يصدق على أوّل الوجودات قهرا ، وعدم الظهور في تعدّد المطلوب ، لا فيما إذا تعلّق تكليفان بماهيّة واحدة ، ضرورة أنّ نفس تعدّد التكليف والطلب يقتضي تعدّد المطلوب والمكلّف به. ولا يقاس ذلك بصورة طلب شيء بعد طلبه مرّة أخرى ، كما في «صم يوما» بعد قوله : «صم يوما» مرّة أخرى ، فإنّ وحدة المتعلّق قرينة ظاهرة على أنّ الثاني تأكيد لا تأسيس ولا أقلّ من الإجمال ، ولذا لو قال أحد : «له عليّ ألف درهم» ثمّ قال ثانيا : «له عليّ ألف درهم» لا يفهم العرف منه إلّا الإقرار بالألف لا ألفين ، ويعدّون القضيّة المعادة مؤكّدة للأولى ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ ظاهر تعدّد الشرط الاستقلال في المؤثّريّة.

والحاصل : أنّ كلّ جملة وقضيّة سواء كانت حقيقيّة أو شرطيّة ظاهرة في أمرين :

الأوّل : استقلال الشرط أو الموضوع في المؤثّرية والموضوعيّة بمقتضى الإطلاق.

والثاني : تعدّد الحكم بتعدّد الموضوع أو الشرط ـ جنسا ، كما في تعلّق وجوب الوضوء على النوم في قضيّة ، وعلى البول في قضيّة أخرى ، أو تعدّده بتعدّد أفراد جنس واحد ، كما في «إذا بلت فتوضّأ» لو فرض تحقّق البول مرّات عديدة ـ بمقتضى ظهور القضيّة في الانحلال ، ومن المعلوم أنّ مقتضى هذين الظهورين هو : عدم التداخل لو لم يقم دليل آخر عليه.

٢٧٣

وبهذا ظهر فساد القول بالتفصيل بين ما يكون مختلفا في الجنس وما لا يكون كذلك ، كما لا يخفى.

وما ذكرنا توضيح لما أفاده العلّامة (١) في مقام الاستدلال لعدم التداخل من أنّه إذا اجتمع سببان لوجوب الوضوء ـ كالبول والنوم ، أو كالبول مرّتين ـ فإمّا أن يكون كلّ منهما مؤثّرا مستقلّا ، أو معا ، أو لا يكون مؤثّرا بوجه ، أو يؤثّر أحدهما دون الآخر ، وما عدا الوجه الأوّل فاسد ، فيكون مقتضى القاعدة عدم التداخل ، وذلك لأنّ ظهور القضيّة في الاستقلال والانحلال يتحفّظ في الأوّل دون سائر الوجوه.

بقي شيء ، وهو : أنّه ربما يقال ـ كما عن الفخر ـ : إنّ النزاع يبتني على كون موضوعات الأحكام معرّفات أو مؤثّرات (٢).

والمراد منه أنّ الموضوعات ليست بنفسها موضوعات بل هي معرّفات وكواشف لشيء آخر يكون هو موضوع الحكم في الحقيقة ، وهذا وإن كان مفيدا له إلّا أنّه خلاف الظاهر ، وبطلانه أوضح من أن يخفى ، فإنّ ظاهر قضيّة «الخمر حرام» أنّ نفس الخمر موضوع لحكم الحرمة ، سواء كان في العالم شيء آخر أم لا.

وأمّا ما ذكرنا مرارا من أنّ الأسباب الشرعيّة ليس فيها تأثير وتأثّر ، وإطلاق السبب عليها إطلاق مسامحيّ ، بل نسبة المسبّبات الشرعيّة إلى أسبابها نسبة الأحكام إلى موضوعاتها لا المعاليل إلى عللها ، والموضوعات لا ربط لها بعلل الأحكام ، فإنّها إمّا تكون المصالح والمفاسد الموجودة في المتعلّقات أو

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٥ ، المسألة ٢٩٨.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ١٤٥.

٢٧٤

المصالح التي تكون في نفس الجعل ، فهو كلام متين ، لكنّه لا ربط له بالمقام ، ولا نحتاج في إثبات عدم التداخل إلى ذلك ، ويكفي لنا ظهور القضيّة في الاستقلال والانحلال ، سواء كان الموضوع مؤثّرا في الحكم أو لم يكن.

هذا كلّه فيما إذا كان متعلّق الجزاء قابلا للتعدّد ، كما في الوضوء الواجب لأجل النوم والبول ، وأمّا إذا لم يكن قابلا للتعدّد ، فإمّا أن يكون قابلا للتحيّث بحيثيّة دون أخرى ـ وباصطلاح شيخنا الأستاذ قدس‌سره : يكون قابلا للتقيّد (١) ـ أم لا.

فما يكون قابلا للتقيّد ـ وبعبارة واضحة ـ : الحكم فيه وإن لا يتكرّر ولا يتعدّد ، بل يكون حكما واحدا ، لكنّه له جهات وأسباب وحيثيّات يكفي وجود كلّ واحد منها لثبوت الحكم.

مثاله في الأحكام الوضعيّة : الخيار ، فإنّه عبارة عن ملك فسخ العقد ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون فسخ عقد واحد مملوكا بأزيد من ملكيّة واحدة ، لأنّه يلزم اجتماع المثلين لكنّه يمكن أن يكون هذا الأمر الواحد من حيثيّات متعدّدة ، كما إذا وقع العقد على حيوان ، وكان المجلس باقيا ، وكان المشتري مغبونا ، والمبيع معيوبا ، فالمشتري مالك للفسخ بملكيّة واحدة من جهة الحيوان ، ومن جهة المجلس والغبن والعيب بحيث لو أسقط خياره من بعض هذه ، له الفسخ بالباقي منها ، وفي الأحكام التكليفيّة : جواز القتل الواجب لأجل القصاص عن اثنين ، فإنّه أيضا وإن لم يكن قابلا للتعدّد ، لاستحالة أن يكون فعل واحد محكوما بجوازين ، فإنّه من اجتماع مثلين ، إلّا أنّه ثابت من جهتين وحيثيّتين بحيث لو عفا أولياء المقتول عن إحداهما ، يجوز لهم القصاص من الأخرى. وكيف كان ، ففي هذا القسم وإن كان اللازم الالتزام

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٢٨.

٢٧٥

بالتداخل لامتناع تعدّد الحكم إلّا أنّه بحكم عدم التداخل ، ونتيجته عدم التداخل ، كما لا يخفى.

وأمّا ما لا يكون قابلا للتحيّث والتقيّد ، كما في وجوب القتل الناشئ عن غير القصاص وحقّ الناس ، كالارتداد ونحوه ـ إذ أحكام الله غير قابلة للتغيّر ـ فإمّا أن يكون قابلا للتأكّد ، كما في المثال ، فلا محالة يتأكّد الحكم باجتماع السببين ، أو لا ، كما في وجوب الوضوء للصلاة أو غيرها الناشئ عن الحدث الأصغر ، فإنّه إذا صدر منه البول يصير محدثا بالحدث الأصغر ، فسائر النواقض ـ لو فرض تحقّقه بعد الناقض الأوّل ـ وجوده كعدمه ، كما أنّه لو بال وحال البول صدر منه ناقض آخر أيضا كذلك ، ولا يتفاوت حال الحكم بذلك ، ولا يتأكّد أصلا ، فإنّ موضوعه هو المحدث بالحدث الأصغر ، وكما يتحقّق بجميعها يتحقّق بأحد النواقض بلا تفاوت.

المقام الثاني : في تداخل المسبّبات بعد ما ثبت عدم تداخل الأسباب.

وقد عرفت أنّ مقتضى الأصل عند الشكّ هو الاشتغال وعدم الاجتزاء بفعل واحد لامتثال تكليفين.

والظاهر أنّ ظهور الجملة في عدم تداخل المسبّبات ممّا لا شبهة فيه ، إذ لو قال المولى : «إن جاءك زيد فأعطه درهما» ثمّ قال : «إن جاءك عمرو فأعطه درهما» وقلنا بأنّ الحكم متعدّد ، فيكون الواجب حينئذ إعطاء درهمين لا درهم واحد ، وكيف يجزئ إعطاء درهم واحد عن درهمين!؟ فمقتضى القاعدة هو عدم التداخل في المسبّبات أيضا لو لا النصّ والدليل على التداخل ، كما [في] نواقض الوضوء وموجبات الجنابة وموجبات الإفطار غير الجماع لو قلنا بأنّ عنوان الإفطار موجب للكفّارة لا نفس هذه المفطرات كما قال به جماعة وإن

٢٧٦

أنكرناه في محلّه ، فإنّه يكفي وضوء واحد وغسل واحد وكفّارة واحدة ـ على القول به ـ لأسباب متعدّدة ، وهكذا يكفي ويجزئ غسل الجنابة عن جميع الأغسال الواجبة والمستحبّة منها ولو كان غافلا غير ناو لغيرها ، وهكذا يجزئ غسل واحد في غير الجنابة عن سائر الأغسال لو نواها ، كلّ ذلك بمقتضى الدليل.

نعم ، لو كان بين الدليلين عموم من وجه ، كما إذا ورد «صلّ خلف صلاة المغرب أربع ركعات» وورد استحباب صلاة جعفر ـ مثلا ـ أو ورد «أكرم عالما» وورد أيضا «أكرم هاشميّا» فمقتضى القاعدة هو التداخل ، فإنّ مقتضى إطلاق دليل استحباب أربع ركعات عقيب المغرب جواز تطبيقه على أيّ فرد بأيّة خصوصيّة وكيفيّة كانت ، وهكذا مقتضى إطلاق استحباب صلاة جعفر جواز تطبيقها على أيّ فرد وإتيانها في أيّ زمان ، وعقيب أيّ شيء شاء المكلّف ، فمجمع العنوانين (١) مرخّص فيه من ناحية كلا الأمرين ، فلو صلّى صلاة جعفر عقيب صلاة المغرب بداعي امتثال كلا الأمرين ، يحصل الامتثال ، ويسقط كلا الأمرين بمقتضى إطلاقهما وترخيصهما في تطبيق المأمور به على هذا الفرد ، وهكذا لو أكرم عالما هاشميّا ، يحصل امتثال كلا الأمرين.

وبهذا ظهر فساد القول بتأكّد الحكم في المجمع ، كما في الكفاية (١) ، فإنّه ليس لنا ثلاث وجوبات أحدها قويّ متعلّق بالمجمع ، وآخران منها ضعيفان

__________________

(١) أقول : هذا غريب منه دام ظلّه ، فإنّ الالتزام بأنّ المجمع محكوم بحكمين متماثلين أو متضادّين إن لم يكن من اجتماع الضدّين أو المتماثلين المستحيل ، ففي باب الاجتماع أيضا كذلك ، وإن كان منه ، فلا بدّ من أن يشترط انضماميّة التركيب في هذا الباب أيضا ، كما في باب الاجتماع ، فالفرق بين البابين باشتراط انضماميّة التركيب في باب الاجتماع دون الباب تعسّف ، إذ كلاهما يرتضعان من ثدي واحد. (م).

(٢) كفاية الأصول : ٢٤١.

٢٧٧

متعلّقان أحدهما بالعالم غير الهاشميّ والآخر بالهاشميّ غير العالم ، ولا يكون المقيّد بما هو مقيّد محكوما بحكمين ، ضرورة استحالة اجتماع المثلين ، ولا محكوما بحكم واحد هو الوجوب المتعلّق بإكرام العالم غير الهاشميّ معيّنا أو الهاشميّ غير العالم معيّنا ، فإنّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا معنى لمحكوميّته بأحدهما لا بعينه أيضا.

فمن ذلك يستكشف أنّ المجمع محكوم بحكمين ومطلوب بطلبين أحدهما متعلّق بطبيعة العالم المتحقّق في ضمنه من دون دخل للهاشميّة في هذا الطلب أصلا ، والآخر بطبيعة الهاشميّ المتحقّق في ضمن هذا الفرد أيضا من دون دخل للعلم فيه أبدا ، ولم يتعلّق الطلب بالمقيّد بوجه من الوجوه.

والسرّ في ذلك ما ذكرنا في بحث تعلّق الأمر بالطبائع من أنّ متعلّق الأوامر هي الطبيعة من حيث هي ، بمعنى أنّ الخصوصيّات الصنفيّة والشخصيّة كلّها خارجة عن تحت الأمر ، وما يكون مطلوبا للمولى هو الماء ـ مثلا ـ عند قوله : «جئني بالماء» سواء كان ماء النهر أو المطر ، وسواء كان في هذا الإناء أو ذاك الإناء ، وما ذكرنا (١) في بحث اجتماع الأمر والنهي من أنّ الخصوصيّات الفرديّة من الصنفيّة والشخصيّة يمكن أن تكون محكومة بالاستحباب والكراهة والإباحة والوجوب بأن تكون نفس الطبيعة واجبة ، وتطبيقها على فرد خاصّ منها مستحبّا ـ مثلا ـ كما في الصلاة في المسجد ، أو مكروها ، كما في الصلاة في الحمّام ، وشيء من الأحكام ـ إلّا الحرمة ـ لا ينافي ترخيص العقل في تطبيق المأمور به على أيّ فرد شاء المكلّف ، فإذا تعلّق أمر بنفس طبيعة العالم في دليل وتعلّق أمر آخر بنفس طبيعة الهاشميّ في دليل آخر ، فما يكون مجمعا لعنوانين

__________________

(١) عطف على قوله السابق : ما ذكرنا في بحث تعلّق ...

٢٧٨

ـ كالعالم الهاشميّ ـ يجوز تطبيق كلّ من الطبيعتين المأمور بهما عليه بمقتضى ترخيص العقل ، ويكون فردا لكلّ من الطبيعتين ، كما يجوز التطبيق على الفردين ـ : العالم غير الهاشميّ ، والهاشميّ غير العالم ـ بلا تفاوت بينهما في ذلك.

* * *

٢٧٩
٢٨٠