الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

وبهذا ظهر أنّ المراد من عدم عصيان الله تبارك وتعالى أيضا هو العصيان الوضعيّ لا التكليفيّ ، إذ تزويج العبد نفسه غير ممنوع شرعا ، وليس ممّا لم يأذن به الله ، وليس كالتزويج بذات البعل ، فلا مانع عنه من قبله تعالى بشرائطه التي أحدها إذن المولى ، فهذه الأخبار كالصريحة في أنّ المراد منها أنّ العبد تزويجه ممّا لم يأذن به سيّده ، لا ممّا لم يأذن به الله تعالى ، فهي أجنبيّة عن المقام.

ومن هنا ظهر أنّ الاستدلال بها على الصحّة ـ بتقريب أنّ معصية العبد لمولاه معصية له تبارك وتعالى يقينا ومع ذلك حكم بصحّة نكاحه ـ لا وجه له ، لما عرفت من أنّ المراد بالمعصية في كلتا الفقرتين هو المعصية الوضعيّة لا التكليفيّة.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ النهي المولوي في المعاملات مطلقا بأقسامه الثلاثة لا يقتضي الفساد أصلا.

نعم ، لو كان النهي للإرشاد كما هو ظاهر النواهي المتعلّقة بالمعاملات ، أو تعلّق النهي بما لا تكون المعاملة معه محكومة بالصحّة كأكل الثمن في بيع أو بيع شيء ، كأن يقول : «ثمن العذرة سحت» فدلالته على الفساد ممّا لا شبهة فيه ، إذ يدلّ النهي بالمطابقة في الأوّل وبالالتزام في الثاني على أنّ من شرائط اعتبار الشارع للمعاملة وإمضائه أن لا يكون غرريّا مثلا ، ولا يكون مبيعه كلبا أو خنزيرا أو عذرة وهكذا.

تذنيب : حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحّة (١) ،

__________________

(١) كما في : المحصول في علم الأصول ١ : ٣٥٠ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٤١١ ، وروضة الناظر ٢ : ٦٥٣ ، وسلاسل الذهب ـ للزركشي ـ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، وكفاية الأصول : ٢٢٧.

٢٤١

بدعوى أنّ النهي إذا تعلّق بشيء ذي أثر ، فلا بدّ أن يكون متعلّق النهي مقدورا للمكلّف ، فبعد النهي يقدر المكلّف على العبادة المترتّب عليها أثرها ، والمعاملة كذلك ، وهو معنى الصحّة.

ووافقهما صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ في المعاملات إذا تعلّق النهي بالمسبّب أو التسبيب ، نظرا إلى أنّ العبادات لا تكون صحيحة إلّا أن تكون مقرّبة ، ومع النهي وإن كان المكلّف قادرا على إتيان ما يكون ذاتيّا منها وهكذا غيرها ، أي ما لو أمر بها لكانت قربيّة ، لكنّها لا تكون إلّا مبعّدة ، فلا يمكن القول بالصحّة فيهما ، وأمّا لو تعلّق النهي بما كان مأمورا به منها ، فلا يقدر المكلّف إلّا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ولو بعنوان واحد ، وهو محال (١).

أقول : قد مرّ غير مرّة أنّ نسبة الملكيّة ـ مثلا ـ إلى العقد الصادر من المكلّف نسبة الحكم إلى موضوعه ، ولا سببيّة ولا مسبّبيّة في البين أصلا ، وإنّما يكون إطلاق السبب على العقد والمسبّب على الملكيّة بالتسامح والعناية لا بالحقيقة ، وتقدّم أيضا أنّ الملكيّة من الأمور الاعتباريّة التي هي زمام وجودها بيد المعتبر ، فإذا اعتبرها معتبر في النّفس ، تتحقّق في عالم الاعتبار لا في عالم العين.

فعلى هذا لو كان المراد بتعلّق النهي بالمسبّب أو تعلّقه بالتسبّب بسبب ـ الّذي قلنا : إنّه راجع إلى النهي عن المسبّب الخاصّ حقيقة ـ تعلّق النهي بالملكيّة الشرعيّة التي هي بيد الشارع وفعل له ، فهو غير معقول ، إذ لا معنى لنهي المكلّف عن اعتبار الشارع ملكيّة المصحف للكافر ـ مثلا ـ ويقول : «يحرم عليك أن يعتبر الشارع ملكيّة المصحف للكافر» فإنّه فعل الشارع لا فعل

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٨.

٢٤٢

المكلّف ، فلو كان هذا الفعل مبغوضا له فلا يفعل.

ولو كان المراد منه النهي عن الملكيّة العقلائيّة ، فهو أيضا كذلك.

نعم ، يمكن نهي العقلاء عن هذا الاعتبار ، أمّا نهي المتعاقدين عن اعتبار العقلاء لا معنى له فيما إذا لم يكن راجعا إلى النهي عن إيجاد السبب ، وهو الموضوع ، وإلّا فلا إشكال فيه في الصورتين ، كما لا يخفى.

ولو كان المراد منه النهي عن اعتبار نفس المتعاقدين ولو لم يكن في العالم غيرهما ، بأن يقول : «أيّها المكلّف لا تعتبر ملكيّة المصحف للكافر» فهذا أمر ممكن معقول ، بل ذكرنا سابقا أنّ حقيقة الإنشاء ليس إلّا الاعتبار النفسانيّ المظهر بمظهر من لفظ أو فعل أو غير ذلك ، فقوله : «بعت» ليس إلّا مظهرا لاعتباره ملكيّة المبيع للمشتري بعوض مخصوص ، ومن الواضح أنّ هذا أمر مقدور قبل النهي وبعد النهي ، إذ هو من الأفعال الاختياريّة للمتعاقدين ، غاية الأمر أنّه من الأفعال الجوانحيّة لا الجوارحيّة ، وهي أيضا يتعلّق بها الأمر والنهي كالأفعال الجوارحيّة.

فاتّضح من جميع ما ذكرنا أنّ النهي عن المعاملة لا يقتضي الصحّة ، كما لا يقتضي الفساد ، وقول أبي حنيفة والشيباني ساقط من أصله ، ولا وجه لموافقة صاحب الكفاية إيّاهما في المعاملات أيضا.

* * *

٢٤٣
٢٤٤

المقصد الثالث :

في المفاهيم

٢٤٥
٢٤٦

المقصد الثالث :

في المفاهيم

مقدّمة : وهي أنّ الألفاظ الموضوعة المفردة ، لها دلالات ثلاث : الدلالة المطابقيّة ، وهي دلالتها على ما وضعت له ، والتضمّنيّة ، وهي دلالتها على جزء ما وضعت له ، والالتزاميّة ، وهي دلالتها على خارجه ، وهكذا الجمل التركيبيّة.

ولا بدّ في الدلالة الالتزاميّة من اللزوم ، وأن يكون المعنى الالتزاميّ لازما للمعنى المطابقي باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، كدلالة العمى على عدم البصر ، ودلالة «إن جاءك زيد فأكرمه» ـ على القول بالمفهوم ـ على عدم وجوب الإكرام عند عدم المجيء.

وبعبارة أخرى : انفهام المعنى الالتزاميّ من المطابقي لا يحتاج إلى مقدّمة خارجيّة عقليّة ، بل ينفهم منه بمجرّد تصوّره.

وأمّا ما يكون لازما له باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ـ أعني ما يحتاج إلى مقدّمة خارجيّة عقليّة ـ فلا يكون من أقسام الدلالات اللفظيّة ، كلزوم وجوب المقدّمة لوجوب ذيها ، فإنّه يحتاج إلى مقدّمة خارجيّة عقليّة ، وهي ثبوت الملازمة بين الوجوبين ، وإثباتها يحتاج إلى البرهان العقليّ ، وبعض أنكروها بالمرّة ، كما هو المختار ، وككون أقلّ الحمل ستّة أشهر ، المستفاد من

٢٤٧

ضمّ آية (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(١) إلى آية (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٢) وما يكون محطّا للبحث ومحلا للنزاع هو ما يكون مفهوما لازما للمعنى المستفاد من الجمل التركيبيّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ لا الأعمّ ، فإنّه لا يكون من مداليل الألفاظ ، بل يكون من المداليل السياقيّة.

ثمّ إنّه لا وجه لإطناب الكلام في أنّ المفهوم هل هو حكم غير مذكور ، أو هو حكم لغير مذكور؟ والصحيح صحّة اتّصافه بكلّ منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ عدم وجوب الإكرام على تقدير عدم المجيء ، المستفاد من «إن جاءك زيد فأكرمه» وهكذا حرمة الضرب والشتم المستفادة من (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٣) حكم غير مذكور في القضيّة المنطوقيّة ، إذ ما هو مذكور هو وجوب الإكرام على تقدير المجيء ، وحرمة التأفيف ، لا [عدم] وجوبه عند عدمه ، وحرمة الضرب والشتم.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإكرام على تقدير عدم المجيء ، الّذي هو متعلّق حكم عدم الوجوب ، وهكذا الضرب الّذي هو متعلّق حكم الحرمة غير مذكور في المنطوق.

ولا وجه أيضا لإطناب الكلام في أنّ المنطوق والمفهوم هما من صفات الدلالة ، وأنّ الدلالة على قسمين : إمّا منطوقيّة وإمّا مفهوميّة ، أو من صفات المدلول ، وأنّه على قسمين : منطوقيّ ، ومفهوميّ ، وقد عرفت أنّهما من صفات المدلول وممّا يلزم له.

ثمّ إنّ محلّ النزاع هو وجود المفهوم للقضيّة وعدمه ، وأنّه هل لها مفهوم

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣.

(٢) الأحقاف : ١٥.

(٣) الإسراء : ٢٣.

٢٤٨

أو لا؟ وبعد ثبوت المفهوم لها فلا شبهة في حجيّته ، إذ على هذا التقدير يكون اللفظ ظاهرا فيه ، وحجّيّة الظواهر ممّا لا ريب فيه.

* * *

٢٤٩
٢٥٠

فصل :

الجملة الشرطيّة هل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء أم لا؟

ولا بدّ للقائل بالمفهوم من إثبات أمور ثلاثة.

الأوّل : أنّ ثبوت التالي للمقدّم يكون من باب اللزوم ، لا من باب الاتّفاق ، كما «لو كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق».

و [الثاني : أن يكون] بنحو ترتّب المعلول على العلّة ، لا ترتّب العلّة على المعلول ، كما في «لو كان الاحتراق موجودا فالنار موجودة» فإنّه لا يدلّ على أنّه لو لم يكن الاحتراق موجودا لم تكن النار موجودة ، لإمكان أن يكون عدم الاحتراق من جهة وجود الرطوبة أو عدم الملاقاة ، لا من جهة عدم وجود النار ، إذ انتفاء المعلول بانتفاء أحد أجزاء العلّة لا جميعها ، مثلا قولنا : «إن كان الممكن موجودا ، فالواجب موجود» لا يدلّ على عدم وجود الواجب عند عدم وجود الممكن.

و [الثالث] : أن تكون العلّة علّة منحصرة ، لا مثل «إن كانت النار موجودة فالحرارة موجودة» فإنّ النار ليست علّة منحصرة للحرارة.

والحاصل : أنّه لا بدّ للقائل بالمفهوم من إثبات هذه الأمور الثلاثة : إمّا بالوضع ، أو بالانصراف ، أو بالقرينة العامّة بحيث يكون ظاهرا في الانتفاء عند الانتفاء ، والمنكر للمفهوم يكون في فسحة من ذلك ، وله منع كلّ من الأمور المذكورة.

وبهذا ظهر أنّ عدّ الأمور أربعا بدعوى أنّه بعد إثبات اللزوم لا بدّ من

٢٥١

إثبات أنّه بنحو الترتّب ـ كما في الكفاية (١) ـ لا وجه له ، إذ الالتزام باللزوم مساوق للالتزام بالترتّب (٢) حيث لا إشكال في ترتّب الجزاء على الشرط في مقام الإثبات ، الّذي هو محلّ الكلام ، ولا ريب في دلالة الجملة الشرطيّة عليه بعد دلالتها على الملازمة.

ثمّ إنّه لا ينبغي الريب في ظهور الجملة الشرطيّة في اللزوم بحيث لو علّق أمر على أمر غير مربوط به بوجه ، يكون خلافا لقانون المحاورة ، وخارجا عن القاعدة المتعارفة ، فإنّه من الواضح أنّ تعليق كون زيد ابن عمرو على كون هذا جدارا بأن يقال : «إن كان هذا جدارا فزيد ابن عمرو» يكون ممّا يضحك به أهل اللسان ومن له أدنى اطّلاع على القواعد العربيّة.

وهكذا لا شبهة في ظهورها في الترتّب ، وأنّ الجزاء ثابت على تقدير ثبوت الشرط سيّما إذا دخل الفاء على الجزاء. ولو استعمل أحيانا في غير ما يكون واقع الجزاء مترتّبا على واقع الشرط كما في ترتّب العلّة على المعلول ـ ومرادنا بالعلّة والمعلول ما يعمّ الحكم والموضوع ـ في مثل «إذا كان الممكن موجودا فالصانع موجود» و «إذا كان النهار موجودا فالشمس طالعة» فهو خلاف ظاهر الكلام ، فإنّ ظاهر ترتّب الجزاء على الشرط وتفرّعه عليه هو ترتّب نفس الجزاء وواقعه ، لا العلم به ، كما في ترتّب العلّة على المعلول وما يشبههما ، فإن كان تفرّع نفس الجزاء على الشرط موافقا للواقع ـ بأن يكون الشرط علّة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣١.

(٢) يمكن أن يقال : إنّه كما تستعمل الجملة الشرطيّة فيما يكون بين الشرط والجزاء ملازمة ، والجزاء مترتّب على الشرط بلا عناية ورعاية ، كذلك تستعمل فيما لا يكون هناك ترتّب بينهما أصلا بلا عناية ، كما في المتضايفين ، مثل : «إن كانت السماء فوقنا فالأرض تحتنا» فإنّه لا تترتّب تحتيّة الأرض على فوقيّة السماء وإن كانت ملازمة لها ، فللمنكر أن يمنع الترتّب بعد تسليم الملازمة. (م).

٢٥٢

للجزاء ـ فهو المطلوب ، وإلّا يكون هذا الكلام مخالفا لما هو ظاهر الكلام ، وخارجا عن قانون المحاورة.

وبالجملة ظهور الجملة الشرطيّة في ترتّب التالي على المقدّم وكون المقدّم علّة للتالي ممّا لا ينكر.

وأمّا ظهورها في العلّية المنحصرة فيستدلّ لها بوجهين :

الأوّل : دعوى الانصراف إلى العلّيّة المنحصرة ، لكونها أكمل الأفراد.

وهو ممنوع صغرى وكبرى ، كما في الكفاية (١).

أمّا الكبرى : فلأنّ الأكمليّة لا توجب الانصراف أصلا ، إذ الانصراف ليس إلّا بواسطة أنس الذهن ببعض الأفراد بحيث يرى العرف هذا الفرد خارجا عن الماهية أو يشكّ في كونه فردا وإن كان التشكيك في الماهيّة مستحيلا عقلا لكن لا مانع منه عرفا.

ومثاله الواضح : «الحيوان» فإنّه ينصرف عن الإنسان عند العرف بحيث لو خوطب أحدهم به يتأذّى من ذلك وإن كان الإنسان في الحقيقة فردا من أفراده لكنّ العرف يشكّ في فرديّته للحيوان ولا يفهم منه هذا الفرد منه ، ومن الواضح أنّ الأكمليّة لا توجب ذلك ، وإلّا لزم انصراف الموجود إلى البارئ تعالى ، والإنسان إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه تعالى أكمل الموجودات ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله أكمل أفراد الإنسان ، وهو باطل بالضرورة.

وأمّا الصغرى : فلأنّ الانحصار لا يوجب الأكمليّة ، كما هو المشاهد في أنّه إذا كان هناك رجل له خطّ عال يكتب كخطّ المير ورجل آخر كذلك أيضا ، لا يزيد ولا ينقص هذا الكمال بالانحصار وعدمه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣٢.

٢٥٣

نعم ، الانحصار في بعض الموارد يوجب ذلك ، كالسلطنة والحكومة وأمثالهما ، وواضح أنّ تلك الملازمة والعلقة التي تكون بين العلّة والمعلول لا تفرق بين كون العلّة منحصرة وعدمه أصلا.

الثاني : أنّ ظاهر كون الجزاء مترتّبا على الشرط أنّه يكون مترتّبا عليه بجميع خصوصيّاته لا على الجامع بينه وبين غيره ، فإنّه خلاف ظاهر الكلام ، ولازم ذلك أن يكون الشرط منحصرا في خصوص هذا الشرط ، إذ لو كان هناك شرط آخر يقوم مقام هذا الشرط لما صحّ ترتّب الجزاء عليه بخصوصه ، بل لا بدّ من جعل الشرط هو الجامع لو كان ، أو أحد الأمرين لو لم يكن ، أو كلّ من الأمرين لو كان المركّب مؤثّرا ، وإلّا فهو خلاف الظاهر ، إذ لا يمكن أن يكون هذا الأمر بخصوصه مستقلّا مؤثّرا في شيء واحد معيّن ، ويكون آمر آخر كذلك ، أي مؤثّرا بخصوصه مستقلّا في هذا الشيء بعينه ، لاستحالة صدور الواحد عن الكثير.

مثلا : لو قال المولى : «إذا نمت فتوضّأ» و «إذا بلت فتوضّأ» يستكشف أنّ جامع الحدث هو العلّة لوجوب الوضوء ، لا كلّ واحد منهما بخصوصه ، فلا يصحّ تعليق وجوب الوضوء على كلّ واحد منهما كذلك ، كما لا يصحّ تعليقه على واحد منهما بخصوصه بلا عناية ، بمعنى أنّه يكون خلاف ظاهر الكلام وما ينفهم منه عرفا ، فمن ظاهر تعليق الجزاء على الشرط بخصوصه يستكشف الانحصار.

والحاصل : أنّ مقتضى ترتّب الجزاء على الشرط بعنوانه وبجميع خصوصيّاته أن يكون لجميع الخصوصيّات دخل في ترتّبه عليه ، كما إذا قيل : «إن جاءك زيد يوم الجمعة في المسجد فأكرمه» فإنّ الظاهر أنّ كلّ واحد من

٢٥٤

هذه القيود من : «المجيء» و «كونه يوم الجمعة» و «في المسجد» له دخل في ترتّب وجوب الإكرام عليه ، ويكون الجزاء مستندا إلى الشرط بهذه الخصوصيّات ، وإلّا لزم إمّا استناده إلى الجامع بين هذا الشرط بخصوصه ، وشرط آخر كذلك ، وهو خلاف ظاهر ترتّب الجزاء على الشرط بخصوصه. أو صدور الواحد عن الكثير وتأثير العلّتين المستقلّتين في المعلول الواحد إن حفظنا ظهور الكلام وقلنا بأنّ الشرط ليس هو الجامع ، بل هو نفس الشرط بخصوصه ، وهو محال.

وفيه : أوّلا : ما مرّ (١) مرارا من أنّ نسبة الموضوعات إلى الأحكام الشرعيّة تشبه نسبة العلل ومعاليلها ، لكن ليس في البين تأثير وتأثّر أصلا ، فلا يقال لموضوعات الأحكام : العلل ، إذ يمكن أن يكون هناك حكم واحد مترتّب على موضوعات متعدّدة ، ولا مانع من كون البول موجبا للوضوء بعنوانه الخاصّ ، وهكذا النوم وغيره من الموجبات ، إذ الموضوع لا يؤثّر في الحكم

__________________

(١) أقول : هذا التقريب بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة المتفرّعة على الموضوعات في القضايا الشرطيّة تامّ تمام لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى ضمّ القاعدة العقليّة ، بل نقول : إنّه بعد تسليم ظهور القضيّة في الملازمة والترتّب لا مجال لإنكار كون الحكم في الجزاء مقيّدا بالشرط ومتفرّعا عليه ، وظاهر ترتّب شيء وتفرّعه على عنوان خاصّ أنّه مترتّب على هذا العنوان بخصوصه بحيث تكون الخصوصيّة أيضا دخيلة في الترتّب ، إذ لو لم يكن لها دخل فيه لم يكن يرتّب المتكلّم على هذا العنوان الخاصّ ، بل يرتّب على الجامع بينه وبين غيره ولو مفهوما ، وحيث إنّه في مقام البيان ورتّب الجزاء على هذا العنوان الخاصّ ، فيستكشف أنّه الموضوع فقط ، والجزاء مترتّب على هذا الشرط فقط ، ولا يقوم مقامه شرط آخر وموضوع كذلك ، بل لا نحتاج إلى هذه القاعدة بالنسبة إلى غير الأحكام أيضا في صحّة هذا التقريب ، وذلك لأنّ ظاهر تفرّع الجزاء على عنوان خاصّ أنّ الشرط بخصوصه ـ سواء كان موضوعا لحكم شرعيّ أو مؤثّرا في الجزاء وعلّة له ـ متفرّع عليه لا الجامع ، فتأمّل. (م).

٢٥٥

حتّى يشكل بأنّه كيف يمكن تأثير الأمرين المستقلّين في أمر واحد ، وصدور الواحد عن الكثير!؟

وثانيا : أنّ هذه القاعدة مسلّمة في الواحد الشخصي لا النوعيّ ، بداهة أنّ الحرارة واحد نوعيّ يصدر عن النار تارة وعن الشمس أخرى وعن الحركة ثالثة وعن الاصطكاك رابعة وعن أكل الدواء الحارّ خامسة ، وهكذا ، ومن المعلوم أنّ المقام ليس من قبيل الواحد الشخصيّ ، إذ الجزاء بشخصه لا نزاع في انتفائه بانتفاء الشرط ، وإنّما الكلام في انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الشرط.

ثمّ إنّه ربما يتمسّك لإثبات العلّيّة المنحصرة بالإطلاق من وجوه لا فائدة في ذكر جميعها ، فنقتصر بوجهين :

الأوّل : [التمسّك] بإطلاق الملازمة كالتمسّك بالإطلاق لإثبات الوجوب النفسيّ.

وتقريبه : أنّ ما يحتاج إلى البيان هو القيود الوجوديّة لا العدميّة ، فإنّها لا تحتاج إلى البيان ، فكما أنّ الوجوب النفسيّ هو الوجوب لا للغير ، وهو حيث إنّه قيّد عدميّ لا يحتاج إلى البيان ، بخلاف الوجوب الغيريّ ، فإنّه هو الوجوب للغير ، وهو قيد وجوديّ يحتاج إلى البيان ، وإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يبيّنه ، نتمسّك بإطلاق الوجوب ، ونحكم بأنّه نفسيّ ، فكذلك المقام ، فإنّ الملازمة المطلقة هي الملازمة الثابتة بين الجزاء والشرط لا غير ، فهو قيّد عدميّ لا يحتاج إلى البيان ، بخلاف الملازمة الثابتة بينهما وبين الغير ، فإنّها مقيّدة بقيد وجوديّ يحتاج إلى التنبيه والتقييد به ، فحيث لم يبيّن نتمسّك بإطلاق الملازمة ، ونحكم بأنّ الملازمة مطلقة والجزاء مترتّب على هذا الشرط ، سواء وجد شرط آخر سابق أو مقارن له أم لا ، فبمقتضى إطلاق الملازمة يكون

٢٥٦

الشرط منحصرا.

وأجاب عنه صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بجوابين (١).

الأوّل : أنّ لازم اللزوم على الإطلاق المقتضي لشرطيّة المقدّم فقط أن يكون ملحوظا استقلالا ، فيوجب انقلاب المعنى الحرفيّ اسميّا.

وهذا خلاف ما اختاره ـ قدس‌سره ـ في الواجب المشروط من أنّ المعنى الحرفيّ قابل لأن يقيّد (٢) ، مع أنّه لا مانع من إنشاء الطلب مقيّدا من الأوّل ، وإنّما الممنوع ـ على تقدير التسليم ـ هو إنشاء الطلب مطلقا ثمّ تقييده ثانيا ، فليكن المقام من هذا القبيل.

الثاني : أنّ القيود المأمور بها سواء كانت وجوديّة أو عدميّة تحتاج إلى التنبيه بلا تفاوت بينها أصلا ، فإنّ الصلاة ـ مثلا ـ إذ كانت مقيّدة بعدم كونها فيما لا يؤكل تحتاج إلى البيان ، كما أنّ القيد الوجوديّ ـ مثل الاستقبال وغيره ـ يحتاج إلى التنبيه والبيان ، وما لا يحتاج إلى البيان هو ما لا يكون قيدا لا وجودا ولا عدما ، ككونها في الدار أو غيرها ، فعلى هذا ، التمسّك بإطلاق الوجوب والحكم بأنّه نفسيّ لا يكون من جهة أنّ القيد العدميّ لا يحتاج إلى البيان بخلاف الوجوديّ ، بل من جهة أنّ سنخ الوجوب النفسيّ مغاير لسنخ الوجوب الغيريّ ، والغيريّ يحتاج إلى مئونة زائدة يجب التنبيه عليها ، فحيث لم ينبّه عليها فنتمسّك بإطلاق الوجوب ، وأمّا الملازمة [فهي] سنخ واحد ، ولا يختلف مع انحصار العلّة وعدمها ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها.

وهذا الجواب متين جدّاً.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) كفاية الأصول : ١٢٣.

٢٥٧

الثاني (١) : التمسّك بإطلاق الشرط ، وله تقريبان :

أحدهما : أنّ إطلاق (٢) الشرط يقتضي أن يؤثّر في الجزاء سواء سبقه أو قارنه شرط آخر أم لا ، فالانحصار مستفاد من إطلاق الشرط ، إذ لو لم ينحصر بل كان هناك شرط آخر سابق عليه ، لكان هو المؤثّر ، أو مقارن له ، لكان المؤثّر هما معا ، لا هو وحده ، فإذا أثبتنا أنّ الشرط يؤثّر مطلقا ، فيثبت الانحصار.

وفيه : أوّلا : ما مرّ من أنّه بين الموضوعات والأحكام الشرعيّة ليس تأثير وتأثّر أصلا.

وثانيا : أنّ الجمل الشرطيّة متكفّلة لبيان ثبوت الملازمة بين الجزاء والشرط ، وأنّ الجزاء مترتّب على الشرط.

وبعبارة أخرى : يستفاد منها ـ مضافا إلى الملازمة ـ شأنيّة الشرط للتأثير ، وأمّا فعليّة التأثير فلا ، بل هو أمر آخر قد يتّفق كون المولى في مقام بيانه ، ومع إحراز ذلك لا ينكر الدلالة عليه إلّا أنّه من المعلوم ندرة تحقّقه ، وعلى تقدير عدم الندرة واتّفاقه كثيرا لا ينفع القائل بالمفهوم ، لأنّه ليس دائميّا.

__________________

(١) أي الثاني من الوجهين اللذين يتمسّك بهما لإثبات العلّيّة المنحصرة.

(٢) أقول : يمكن تقريبه بالنسبة إلى الأحكام بوجه لا يرد عليه إشكال ، وهو : أنّ المولى حيث علّق الحكم على هذا الشرط وقيّده به فقط دون قيد وشرط آخر سابق أو مقارن أو لاحق له ، وكان في مقام البيان ، وكان يمكنه البيان ولم يبيّن ، فيستكشف من ذلك أنّه معلّق على هذا الشرط فقط ومقيّد به فقط ، سبقه أو قارنه أو لحقه شيء أم لا ، مثلا : للمولى أن يقيّد الحكم بعقود بعضها متقدّم وبعضها متأخّر وبعضها مقارن لبعض آخر بأن يقول : «إذا جاءك زيد وأكرمك قبل مجيئه أو حين مجيئه أو بعد مجيئه فأكرمه أو لم يجئك عمرو قبل مجيئه أو بعده أو حينه» فإذا أطلق ولم يبيّن شيئا من هذه القيود ، يعلم منه عدم دخل غير المذكور في الحكم ، فهذا الإطلاق في قوّة أن يقول : «إن جاءك زيد فأكرمه سواء جاءك شخص آخر قبل مجيء زيد أو حين مجيئه أو بعد مجيئه وأكرمك أم لا» وهذا نظير التمسّك بالإطلاق لإثبات النفسيّة والتعيينيّة. (م).

٢٥٨

الثاني : أنّ مقتضى إطلاق الشرط وعدم ذكر عدل له : تعيّنه ، كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر وعدم بيان بدل وعدل لمتعلّقه هو التعيّن ، فكما أنّه في قول المولى : «أكرم زيدا» نتمسّك بالإطلاق ونقول بأنّ إكرام زيد واجب سواء أكرمنا عمرا أم لا ، إذ لو كان له عدل وبدل لوجب التنبيه عليه ، وحيث إنّه بصدد البيان ولم يبيّن ، فنستكشف أنّه متعيّن ، كذلك في قوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» نقول : إنّ مقتضى إطلاق الشرط وعدم ذكر عدل له أنّ إكرام زيد واجب على تقدير المجيء ، سواء جاء شخص آخر مثلا أو لا ، فنستفيد الانحصار من إطلاق الشرط ، كما نستفيد التعيين من إطلاق الأمر.

وأورد عليه (١) في الكفاية (٢) بما حاصله : أنّ سنخ الوجوب التعيينيّ مغاير مع سنخ الوجوب التخييريّ ، فإنّه يسقط بإتيان فرد من أفراده ، بخلاف التعيينيّ ، فإنّه لا بدل له ، وواجب على كلّ تقدير ، فيمكن التمسّك بالإطلاق وإثبات التعيين به للوجوب ، لكنّ الشرط لا يختلف بتعدّده وعدمه ، بل سنخه واحد ، وهو ترتّب الجزاء عليه ، سواء كان منحصرا أو متعددا.

أقول : ويمكن التقريب بنحو لا يرد عليه ما أورده ـ قدس‌سره ـ عليه ، وهو : أنّ الجمل الشرطيّة على قسمين :

أحدهما : ما سيقت لبيان تحقّق الموضوع ووجوده ، كما في «إن رزقت

__________________

(١) أقول : لو كان هذا المستدلّ بصدد إثبات الانحصار بذلك بلا واسطة ، فما أورده ـ قدس‌سره ـ عليه وارد عليه ، وأمّا لو كان بصدد إثبات أنّ الحكم غير مقيّد بغير هذا الشرط الّذي لازمه الانحصار ، فلا يرد عليه هذا الإيراد ، ويكون استدلاله تامّا تماما غير مدخول فيه ، ضرورة أنّ الحكم يختلف مع انحصار القيد وعدمه ، فيكون هذا التقريب عين التقريب الّذي أفاد سيّدنا الأستاذ دام ظلّه ، ولا فرق بينهما إلّا من جهة التفصيل بين القضايا التي سيقت لبيان تحقّق الموضوع وغيرها. (م).

(٢) كفاية الأصول : ٢٣٤.

٢٥٩

ولدا فاختنه» وهذا القسم منها خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ الحكم غير قابل لأن يكون شاملا لغير مورد وجود الشرط ، بداهة أنّ وجوب الختان مترتّب وثابت على من رزق ولدا ، فإذا لم يرزق ولدا فأيّ شيء يختنه؟ فحقيقة هذا القسم من الجمل داخل في مفهوم الوصف واللقب ويؤول إلى قضيّة حقيقيّة ، فإنّ قضيّة «إن رزقت ولدا فاختنه» تؤول إلى أنّه يجب اختتان الولد ، ومن الواضح أنّه لا معنى لإطلاق الحكم بالنسبة إلى مورد عدم وجود موضوعه ، فإنّه غير معقول.

وثانيهما : ما لم تسق لذلك ، كما في «إن جاءك زيد فأكرمه» ففي هذا القسم لو قلنا بأنّ القيد راجع إلى المادّة ـ كما نسب إلى الشيخ (١) ـ ولا يرجع إلى الهيئة ، فهو أيضا يؤول إلى مفهوم الوصف أو اللقب ، وخارج عن محلّ النزاع ، ضرورة أنّه على هذا القول يتعلّق الحكم على إطلاقه بمتعلّق خاصّ وحصّة خاصّة من الطبيعة وأنّ زيدا الجائي يجب إكرامه.

وأمّا إذا قلنا بأنّه راجع إلى الهيئة (٢) ، فهو داخل تحت النزاع ، ولا محذور

__________________

(١) كما في كفاية الأصول : ١٢٢ ، وانظر مطارح الأنظار : ٤٩.

(٢) أقول : إمكان رجوع القيد إلى الهيئة وعدمه لا ربط له بما تكون القضيّة ظاهرة فيه ، إذ لا بدّ لنا أوّلا أن نثبت أنّ ظهور القضيّة في أيّ شيء هو؟ فإذا أثبتنا أنّه في رجوع القيد إلى الهيئة ـ كما اعترف به من يقول باستحالة رجوعه إليها ـ فإذا وافقه البرهان العقلي ، فنأخذ بمقتضى هذا الظهور ، ولو لم يوافقه البرهان ، فنرفع اليد عن هذا الظهور.

وقد عرفت في بحث المطلق والمشروط أنّ ظهور الجمل الشرطيّة في رجوع القيد إلى الهيئة ممّا لا ينكر وأنّه هو مقتضى القواعد العربيّة.

ثمّ إنّ النزاع لا يختصّ بالجمل الشرطيّة التي يكون جزاؤها جملة إنشائية وما يكون الحكم مستفادا من الهيئة ، بل يعمّ ما يكون جزاؤها جملة إخباريّة ، والحكم فيها مستفاد من المادّة ، كما في «إن جاءك زيد فيجب إكرامه» فالأولى أن يقال في مقام الاستدلال : إنّ ـ

٢٦٠