الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

الْبَيْعُ)(١) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) شاملا ، ويكون الشكّ في التقييد ، إذ لم نحرز على الفرض كونه دالّا على الفساد ، فأصالة عدم التقييد والتخصيص تقتضي صحّته.

وأمّا في العبادات : فلو لم يشمل إطلاق الدليل ، فكما ذكرنا ، كالصلاة ذات عشر ركعات ، إذ بعد عدم الأمر المشعر بعدم الملاك لا وجه للصحّة ، كان هناك نهي أم لم يكن وأمّا لو كان الإطلاق شاملا ، فحيث إنّ النهي تحريميّ يدلّ على مبغوضيّته (٣) ، فلا يكاد يجتمع مع الأمر ، فلازمه عدم الوجوب ، إذ لو فرض وجوبه يكون اجتماعا للضدّين ، ولكن مجرّد هذا غير مفيد للفساد ، إذ الفساد معلول عدم الملاك لا عدم الأمر ، فيكون الشكّ في فساد العبادة مع وجود النهي باقيا ، ولكن حيث إنّ الشكّ واقع في مقام الامتثال ومطابقة المأتيّ به مع المأمور به ، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو الفساد.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ مقتضى الأصل في المسألة الفرعيّة : البطلان في

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ١.

(٣) أقول : بعد دلالة النهي على المبغوضيّة لا تصل النوبة إلى الشكّ أصلا ، إذ لا تتمشّى القربة المعتبرة في العبادة مع العلم بالمبغوضيّة ، والمبغوض كيف يقع محبوبا! ولو سلّم فمجرّد احتمال عدم الملاك إن كان كافيا في الفساد ، لا يفرق بين ما لم يشمله إطلاق الدليل ، كالصلاة ذات عشر ركعات وبين ما كان شاملا له. وإن لم يكف ، فلا يفرق أيضا بين الصورتين ، فلا وجه للحكم بالفساد في الأوّل والشكّ فيه في الثاني.

والظاهر أنّه في كلتا الصورتين لا يحكم بالفساد لو أتى بها باحتمال وجود الملاك ورجاء لو فرضنا تمشّي قصد القربة منه في الصورة الثانية ، كما لو جهل قصورا مثلا ، وهكذا الصورة الأولى لو تعلّق بها نهي واحتمل وجود الملاك فيها ، لكن لا يجوز الاكتفاء بهذا الفرد المنهيّ عنه ـ لو كان أصل الطبيعة مأمورا بها ـ في مقام الامتثال بمقتضى قاعدة الاشتغال. (م).

٢٢١

العبادات ، والصحّة في المعاملات.

وملخّص الفرق : أنّه في المعاملات تكون المضادّة على تقدير وجودها بين الحكم الوضعي والنهي التحريمي ، ولا تنافي بينهما ، وأمّا في العبادات فكلاهما تكليفيّ ، فتتحقّق المضادّة ، غاية الأمر ليس دالّا على عدم الملاك فتصل النوبة إلى حكم العقل.

السابع : النهي قد يتعلّق بنفس العبادة ، كصلاة الحائض ، وقد يتعلّق بجزئها ، كالسجدة على القير أو الجصّ ، أو شرطها ، كالوضوء بالماء المضاف ، أو وصفها الملازم ، كالجهر والإخفات ، أو غير الملازم ، كالغصبيّة.

أمّا الأوّل : فهو عين المتنازع فيه في المقام.

وأمّا الثاني : فهو وإن يفسد ذلك الجزء بناء على دلالة النهي على الفساد وداخل تحت النزاع إلّا أنّ فيه جهة أخرى من الكلام ، وهي : أنّ فساده هل يوجب فساد العبادة أم لا؟

وقد استدلّ له بثلاثة وجوه ، وجهان منها مختصّان بخصوص الصلاة :

الأوّل : أنّه بعد إتيان الجزء المنهيّ عنه إمّا أن لا يأتي بالجزء الصحيح أو يأتي به ، فعلى الأوّل تبطل العبادة لمكان النقصان ، فإنّ الجزء المنهيّ عنه لا محالة خارج عن دليل الجزئيّة ، فوجوده كعدمه ، وعلى الثاني تبطل أيضا ، فإنّه زاد في صلاته فيشمله دليل «من زاد» (١).

وفيه : أنّ ظاهر دليل «من زاد» أنّ من فعل فعلا متّصفا بالزيادة فليستقبل استقبالا ، والمقام ليس كذلك ، فإنّ من أتى بسورة العزيمة أوّلا ـ مثلا ـ ثمّ أتى

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٩٤ ـ ٧٦٤ ، الاستبصار ١ : ٣٧٦ ـ ١٤٢٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣١ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل ، الحديث ٢.

٢٢٢

بسورة أخرى غيرها ما أتى بالزائد وما فعل فعلا متّصفا بصفة الزيادة ، إذ قبل إتيان السورة الثانية لم تتّصف الأولى بصفة الزيادة ، وإنّما اتّصفت بعده ، فحين الإتيان بالأولى ما أتى بالزائد وحين الإتيان بالثانية أيضا كذلك.

نعم ، بإتيان الثانية تحقّق وصف الزيادة في الأولى فهو فعل فعلا موجبا لاتّصاف فعل آخر بالزيادة. وبعبارة أخرى : أوجد وصف الزيادة لا الزائد ، وهذا نظير ما إذا قرأ ـ في القراءة ـ كلمة «الحمد» بقصد الجزئيّة ، فإذا وصل إلى الميم ، قطعها ، يعني لم يأت بالدال ، فقال : «الحم» ثمّ أتى بتمامها ثانيا ، حيث إنّه لا إشكال في صحّة صلاته مع أنّه زاد في صلاته تعمّدا.

والسرّ فيه ما ذكرنا من أنّه ما أتى بالزائد بل أوجد وصف الزيادة فيما لم يكن زائدا ، ودليل «من زاد» غير ناظر (١) بحسب الظاهر إلى مثل هذا.

فالأولى أن يقال : إنّه إن أتى بالجزء المنهيّ عنه بقصد الجزئيّة وبعنوانها ، يشمله دليل «من زاد» وتبطل الصلاة سواء أتى بغيره أم لا ، وإن لم يأت به كذلك ، لا تبطل الصلاة مطلقا إلّا إذا دلّ دليل على البطلان ، كما في الركوع والسجود حيث إنّ الإتيان بهما أزيد ممّا كان مأمورا به يحسب الإتيان بالزائد بحسب الدليل مطلقا ، سواء أتى بقصد الجزئيّة أو لا بقصدها ، بل بقصد الشكر أو غيره.

الثاني : أنّ الجزء المنهيّ عنه خارج عن تحت أدلّة جواز مطلق الذّكر والقرآن والدعاء ، فإنّها تخصّص بغير الفرد المحرّم منها ، فيدخل ـ بعد

__________________

(١) أقول : الظاهر أنّ دليل «من زاد» ناظر إلى من أوجد فعلا متّصفا بالزيادة ، سواء كان الاتّصاف مقارنا لإيجاد الفعل أم لا ، وليس الإتيان بالزائد إلّا إتيان الفعل بوصف الزيادة ، وهو يتحقّق في هذا الفرض قطعا. والنقض غير وارد ، ويجب الالتزام به في صورة العمد وهو يتحقّق في هذا الفرض قطعا. والنقض غير وارد ، ويجب الالتزام به في صورة العمد لا فيما إذا لم يكتف بإتيانه صحيحا فقطع وأتى به ثانيا ، كما لا يخفى. (م).

٢٢٣

التخصيص ـ تحت عمومات مبطليّة التكلّم.

وفيه : أنّ أدلّة مبطليّة التكلّم بغير القرآن والذّكر والدعاء ناظرة إلى كلام الآدميّ لا مطلق الكلام ، فهو خارج موضوعا. وبعبارة أخرى : يكون تخصّصا لا تخصيصا ، إذ قراءة العزيمة ليست بكلام الآدميّ ، فلا يمكن التمسّك بأدلّتها على الفساد.

الثالث ممّا استدلّ على أنّ فساد الجزء موجب لفساد الكلّ ـ الّذي لا يختصّ بخصوص الصلاة ، بل يعمّ جميع العبادات ـ هو : أنّ العبادة بالقياس إلى جميع أجزائها إمّا تكون بشرط شيء كما في السجود ، فإنّه مشروط بأن ينضمّ إليه مثله ، أو تكون بشرط لا كما في الركوع ، فإنّه مشروط بأن لا ينضمّ إليه مثله ، وهكذا السورة بناء على حرمة القرآن ، أو تكون لا بشرط ، كما في ذكر الركوع والسجود أو السورة بناء على جواز القرآن ، فإنّ ذكر الركوع جزء من الصلاة لا بشرط من حيث انضمام مثله به وعدمه ، وكذلك السورة إذا قلنا بجواز القرآن.

ويستكشف من القسم الأوّل الشرطيّة ، ومن الثاني المانعيّة ، ومن الثالث الإطلاق ، فلو تعلّق النهي بجزء من أجزاء العبادة ـ كما في قراءة سورة العزيمة ـ فلا محالة تكون العبادة مقيّدة بعدمه ، فيكون النهي إرشادا إلى مانعيّة هذا الجزء ، فتبطل العبادة لو أتى بهذا الجزء المنهيّ عنه وهو المطلوب.

وفيه : أنّ هنا إطلاقين :

أحدهما : من قبيل ما مرّ في بحث المرّة والتكرار من أنّ طبيعة الصلاة مأمور بها غير مقيّدة بأحدهما ، سواء أتى مرّة أو أزيد ، وقد ذكرنا هناك أنّه بإتيان الفرد الأوّل يسقط الأمر الصلاتيّ مثلا ، ويحصل الامتثال ، وقلنا : إنّه لا إطلاق

٢٢٤

للأمر من هذه الجهة وبهذا المعنى من الإطلاق. وهذا الإطلاق لا ربط له بالمقام.

وثانيهما : هو الإطلاق من حيث الأحوال والمقارنات ، وأنّ الصلاة مثلا مأمور بها ، سواء نظرت إلى الأجنبيّة [فيها] أم لا ، وسواء قرأت سور العزائم فيها أم لا. وهذا الإطلاق باق لا يقيّد بمجرّد كون المقارن أو الحالة منهيّا عنه.

نعم ، إطلاق الأول يقيّد بتعلّق النهي بفرد من الطبيعة ، كما إذا قال : «لا تصلّ في أرض الغير» أو «لا تقرأ سور العزائم في الصلاة» فإنّ الأمر المتعلّق بالصلاة يقيّد بغير هذا الفرد ، وهكذا الأمر المتعلّق بقراءة السورة في الصلاة يقيّد بغير سور العزائم ، لكن لا يقيّد الأمر المتعلّق بالصلاة حتّى تكون الصلاة المقروّ فيها سور العزائم فاسدة ، بل الإطلاق الثاني بحاله ، ولا دليل على فساد العبادة بفساد الجزء إذا أتى بالفرد الصحيح غير المنهيّ عنه من الجزء أيضا.

فاتّضح ممّا ذكرنا أنّ فساد الجزء لا يوجب [فساد] العبادة إن لم يكتف به وأتى بالجزء قبله أو بعده إلّا في خصوص الصلاة ، فإنّه لو أتى بالجزء المنهيّ عنه فيها بعنوان الجزئيّة ـ أو كان من قبيل السجود والركوع ، فإنّه لا يلزم الإتيان بهما بعنوان الجزئيّة في شمولهما لدليل «من زاد» ـ يشمله دليل «من زاد في صلاته فيستقبل الصلاة استقبالا» ولا دليل لنا في غير الصلاة نتمسّك به على بطلان العبادة بفساد جزئها ولو أتى بالفرد غير المنهيّ عنه منه قبل الجزء الفاسد أو بعده.

هذا كلّه في تعلّق النهي بجزء العبادة ، وأمّا لو تعلّق النهي بشرطها أو وصفها ، فنقول : قد يقسم الوصف بما يكون ملازما للموصوف وما لا يكون كذلك ، فالنهي عن الأوّل مساوق للنهي عن موصوفه ، فيكون النهي عن الجهر

٢٢٥

في القراءة مساوقا للنهي عن نفس القراءة ، بخلاف الثاني ، فحيث إنّه وصف مفارق ـ كالغصب ـ لأكوان الصلاة لا يسري النهي إلى الموصوف ، ولا يكون النهي عنه مساوقا للنهي عن الموصوف ، لاستحالة اختلافهما في الحكم ، كما في الوصف الملازم.

وهذا التقسيم ممّا أفاده صاحب الكفاية (١) ، وقد ارتضاه شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره.

وزاد في الكفاية أنّه في الوصف المفارق لا يسري النهي إلى الموصوف إلّا فيما إذا اتّحد معه وجودا وقلنا بالامتناع وتقديم جانب النهي ، فيسري النهي إلى الموصوف حينئذ (٣).

أقول : الظاهر أنّه لا فرق بين الوصف الملازم والمفارق ، ولا احتياج إلى هذا التقسيم ، وذلك لأنّ الوصف إمّا أن يكون موجودا بوجود والموصوف موجودا بوجود آخر غير وجود الوصف ، كما إذا نهى المولى عن النّظر إلى الأجنبيّة أو النّظر إلى السماء حال الصلاة ، أو يكون وجود الوصف من مراتب وجود الموصوف ، لا أنّ له وجودا مستقلّا في قبال وجود الموصوف ، كالجهر في القراءة ، والسرعة والبطء في الحركة ، فإنّ الجهر مرتبة شديدة من القراءة ، وهكذا السرعة والبطء مرتبتان للحركة تختلفان في الشدّة والضعف ، لا أنّ للسرعة وجودا غير الحركة ، وللجهر وجودا غير القراءة.

فإن كان الوصف من قبيل الأوّل ، لا يوجب النهي عن الوصف النهي عن الموصوف ، ولا يسري إليه أصلا ، سواء كان الوصف ملازما بأن ينهى عن النّظر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٩٩ ، فوائد الأصول ١ : ٤٦٦.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٣.

٢٢٦

إلى السماء حال الصلاة ، أو مفارقا بأن ينهى عن النّظر إلى السماء مطلقا لا مقيّدا بقيد حال الصلاة.

ولا وجه للسراية إلّا توهّم أنّ المتلازمين لا يختلفان في الحكم.

وفساده واضح ، إذ لازمه عدم الأمر بالصلاة ، لا أنّ الصلاة أيضا منهيّ عنها ، لما مرّ في بحث الضدّ من أنّ المتلازمين لا يمكن أن يكونا مختلفين في الحكم ، لا أن يكونا متّحدين فيه. هذا أوّلا.

وثانيا : ما ذكر هناك لا يجري في المقام ، فإنّ النهي عن النّظر إلى السماء في الصلاة والأمر بالصلاة لا تنافي بينهما أصلا ، والمكلّف قادر على امتثال الأمر بالصلاة والانتهاء عن النهي عن النّظر إلى السماء في الصلاة كليهما.

نعم ، هو يجري فيما إذا قال المولى : «امش في الأرض ولا تتحرّك» فإنّ المشي في الأرض بدون الحركة ممتنع ، فالتكليف به تكليف بغير المقدور ، بخلاف المقام (١).

وإن كان الوصف من قبيل الثاني ، فالنهي عن الوصف مساوق للنهي عن الموصوف ، سواء كان مفارقا أو ملازما ، إذ المفروض أنّ الوجود واحد ولا يبتني على جواز الاجتماع وامتناعه على ما اخترنا هناك من أنّ النزاع لا يجري في الوجود الواحد البسيط والمركّب بالتركيب الاتّحادي ، فحيث لا يمكن أن يكون الوجود الواحد محكوما بحكمين فلا محالة يسري النهي إلى

__________________

(١) أقول : وبعبارة أخرى : هذه القاعدة تجري في المتلازمين لا فيما إذا كان اللازم أخصّ من الملزوم أو العكس ، فإنّ من الواضح البديهيّ أنّ النهي عن الأخصّ غير ملازم للنهي عن الأعمّ ، بل يمكن أن يكون الأخصّ محكوما بحكم مناقض لما يكون الأعمّ محكوما به ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الأمر بالصلاة والنهي عن النّظر إلى السماء حال الصلاة أمر بالملزوم الأعمّ ونهي عن اللازم الأخصّ ، ولا يكون بينهما تلازم أصلا. (م).

٢٢٧

الموصوف فيكون الجزء أو العبادة فاسدا.

فتلخّص أنّ الوصف إن كان متّحدا مع موصوفه وجودا يوجب فساد موصوفه ، فإن كان هو الجزء ، فيبتني على المسألة السابقة من أنّ فساد الجزء هل يوجب فساد العبادة أم لا؟ وإن لم يكن متّحدا مع موصوفه ، فلا يوجب فساد موصوفه ، ولا فرق في الصورتين بين كونه ملازما أو مفارقا.

هذا كلّه في الوصف ، وأمّا الشرط فقد قسّمه في الكفاية بالعباديّ وغير العباديّ ، وأنّه فاسد ومفسد للمشروط به إن كان عباديّا ، وإلّا فلا (١).

وأشكل عليه شيخنا الأستاذ (٢) بأنّه لا وجه للتقسيم بكونه عباديّا وغيره ، إذ ليس لنا شرط عباديّ ، والشرائط كلّها توصّليّة ، فإنّ الشرط هو معنى الاسم المصدريّ لا المعنى المصدريّ ، بمعنى أنّ كون المصلّي على الطهارة ومتستّرا ومستقبلا ـ مثلا ـ شرط ، لا الوضوء ولبس الثوب والاستقبال.

ألا ترى أنّه إذا صلّى غافلا عن كونه على الطهارة ، صحّت صلاته بلا خلاف. فمن ذلك يستكشف أنّ كونه على الطهارة شرط في الصلاة ، ككونه متستّرا ، لا الوضوء الّذي هو عبارة عن الغسلات والمسحات بشرائطهما ، فعلى ذلك تعلّق النهي بالشرط لا يوجب فساد الشرط ولا فساد المشروط به لو لم يقم دليل خارجيّ على الفساد أو كان النهي عن الشرط نهيا عن المشروط به.

والحاصل : أنّ حال الشرائط بعينه حال الأوصاف بلا تفاوت ، فإذا قال المولى : «لا تتوضّأ بالماء المغصوب» أو «لا تلبس الألبسة الإفرنجيّة أو الحرير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

٢٢٨

أو ما لا يؤكل لحمه» والمصلّي خالف وتوضّأ بالماء المغصوب ولبس هذه الألبسة ، لا يوجب هذا النهي فساد الصلاة لو لم يقم دليل آخر على الفساد ، فإنّها ليست بشرائط بل محصّلة لها.

هذا ملخّص ما أفاده في المقام. وفيه نظر.

أمّا أوّلا : فلأنّ كون الشرط معنى الاسم المصدريّ مبنيّ على أنّ نفس الغسلات والمسحات ليست بمأمور بها ، بل هو أمر نفسانيّ يحصل بها ، وقد ذكرنا في محلّه أنّه خلاف التحقيق ، واستظهرنا من جملة من الروايات وعبارات الفقهاء أنّ الشرط هو نفس الغسلات والمسحات ، وهي بنفسها تكون تحت الأمر ، والطهارة اسم لنفس هذه ، لا أمر يحصل منها. وما أفاده صاحب الكفاية يكون على مبناه ومختاره في الفقه من أنّ الشرط هو نفس هذه الأفعال.

وأمّا ثانيا : سلّمنا أنّ الشرط هو المعنى الاسم المصدريّ ، لكنّه لا نسلّم عدم سراية النهي عن المعنى المصدريّ إلى المعنى الاسم المصدريّ. وبعبارة أخرى : سلّمنا كون المصلّي على الطهارة ـ الوضوء ـ شرط ، لا نفس الوضوء ، لكن لا نسلّم عدم سراية النهي المتعلّق بالوضوء بالماء المغصوب إلى ما هو مسبّب عنه وحاصل به وشرط في الصلاة ، وهو كون المصلّي على وضوء حاصل من التوضّؤ بالماء المغصوب ، لما عرفت في بحث مقدّمة الواجب من أنّ الأمر والنهي بالسبب وعنه بعينه أمر ونهي بالمسبّب وعنه ، والنهي أو الأمر بضرب عنق زيد بقوله : «اضرب عنقه» أو «لا تضرب عنقه» عبارة أخرى عن قوله : «اقتله» و «لا تقتله» فعلى هذا قوله : «لا تتوضّأ بالماء المغصوب» عبارة أخرى عن قوله : «لا تكن على وضوء حاصل من التوضّؤ بذلك الماء الّذي هو شرط ـ لو لم يتعلّق به النهي ـ في الصلاة ومسبّب عنه» فإذا تعلّق النهي به ،

٢٢٩

يكون خارجا عن تحت الأمر النفسيّ المتعلّق بالصلاة ، المنحلّ إلى حصص وقطعات متعلّقة بكلّ واحد من الأجزاء والشرائط وعدم الموانع ، فإذا خرج عن تحت الأمر ، لا يحسب شرطا إلّا إذا علم بوجود الملاك فيه ، ولا طريق لنا إلى استكشافه إلّا الأمر ، والمفروض عدمه ، فتقع الصلاة فاسدة.

وهكذا الكلام فيما إذا قال المولى : «لا تلبس الحرير» فإنّه عبارة أخرى عن قوله : «لا تكن متستّرا بتستّر مسبّب عن لبس الحرير» ويجري فيه ما جرى في سابقه طابق النعل بالنعل.

والحاصل : أنّ التوضّؤ واللّبس وغير ذلك ممّا يكون سببا لتحقّق ما يكون شرطا في الصلاة ـ ولو لم نقل بأنّ نفس هذه العناوين والأفعال شرطا للصلاة وقلنا : إنّ الشرط هو ما يحصل منها حيث إنّها محقّقة للشرط ومحصّلة وسبب له ـ فالنهي عنه مساوق للنهي عن مسبّبه الّذي هو شرط ، فهو غير مأمور به ، وعدم الأمر به يكفي في فساد المشروط به. وهذا واضح لا سترة عليه.

وبالجملة ، بعد الفراغ عن أنّ التقيّدات ـ كالأجزاء ـ داخلة تحت الأمر النفسيّ المنبسط عليها ، وبعد الفراغ عن أنّ النهي عن الأسباب التوليديّة بعينه نهي عن مسبّباتها وعن أنّ التقيّدات كلّها مسبّبة عن القيود ، فلا محالة يكون التقيّد منهيّا عنه إذا تعلّق النهي بقيده ، ومع تعلّق النهي به لا يعقل أن يكون مأمورا به ، لاستحالة اجتماع الضدّين ، فيجب الحكم بفساد العبادة وما هو مشروط بهذا الشرط بلا إشكال.

نعم ، لو استكشفنا وجود الملاك من إجماع أو نحوه في هذا الشرط المنهيّ عنه ، حكمنا بصحّة المشروط به ، كما في تطهير البدن واللباس من الماء المغصوب حيث نحكم بصحّة الصلاة مع ذلك ، للقطع بوجود الملاك في هذا

٢٣٠

الفرد المنهيّ عنه أيضا.

وليعلم أنّ كلامنا فيما إذا تعلّق النهي بالشرط ، كما إذا قال : «لا تستّر بالحرير» والمصلّي تستّر به ، وأمّا لو قال : «لا تلبس الحرير» وهو تستّر بغيره ولبس الحرير أيضا بحيث كان التستّر ـ الّذي هو شرط في الصلاة ـ بغير الحرير وبغير الفرد المنهيّ عنه ، وارتكب فعلا حراما آخر لا ربط له بالشرط ، وهو : لبس الحرير ، فلا إشكال في صحّة صلاته ، وليس هذا إلّا كالنهي عن النّظر إلى الأجنبيّة في عدم كونه موجبا لفساد العبادة.

وبعد ذلك كلّه نرجع إلى أصل المطلب ، وأنّ النهي عن العبادة أو المعاملة موجب للفساد أم لا؟ فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في العبادة. وقد ظهر من مطاوي ما ذكرنا أنّ النهي فيها يكون موجبا للفساد ، وذلك لأنّه لا بدّ في صحّة العبادة من أمرين : الإضافة إلى المولى ، وقابليّتها لها ، فإن كان المكلّف ملتفتا إلى تعلّق النهي بها ، فكلاهما منتف ، إذ مع علمه والتفاته بمبغوضيّتها كيف يعقل أن يتمشى منه قصد القربة!؟ وإن لم يكن ملتفتا إليه وإن كان يتمشّى منه قصد القربة إلّا أنّ الفعل حيث إنّه مبغوض للمولى لا يقبل الإضافة إليه ، ولا معنى لصحّة العبادة التي يعتبر فيها قصد القربة بدون قابليّتها للإضافة وبدون إضافتها إلى المولى.

وربما يقال ـ كما في الكفاية (١) ـ : إنّ كون النهي موجبا للفساد وإن كان مسلّما كبرى إلّا أنّه لا صغرى له.

وبعبارة أخرى : على تقدير تعلّق النهي بالعبادة نهيا مولويّا ذاتيّا لا شبهة في كونه موجبا للفساد ، لكنّه لا يمكن ذلك ، حيث إنّ المكلّف إمّا أن يكون غير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٤.

٢٣١

قاصد للقربة أو قاصدا له حقيقة أو تشريعا ، فالأوّل لا يكون نهيا عن العبادة ، إذ بدون قصد القربة لا يتّصف بالعباديّة ، والثاني غير مقدور له ، حيث [إنّه] لا قرب في المبغوض حتّى يقصد حقيقة ، والمبعّد كيف يكون مقرّبا!؟ والثالث وإن كان مقدورا له إلّا أنّه يلزم فيه اجتماع المثلين : الحرمة الذاتيّة والحرمة التشريعيّة ، وهو مستحيل ، كاجتماع الضدّين.

ثمّ أجاب عنه ـ قدس‌سره ـ تارة بأنّا نختار الشقّ الأوّل ، وأنّ المكلّف لا يقصد القربة ، ولا محذور فيه ، لما عرفت في صدر المبحث من أنّ المراد من العبادة ما لو امر به لكان عبادة ، لا ما يكون عبادة فعلا ، كما في صوم العيدين ، فإنّه لو كان امر به ، لكان مثل صوم سائر الأيّام لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى بقصد القربة (١).

وهذا الّذي أفاده في الجواب متين جدّاً ، إلّا أنّ الالتزام (٢) بالحرمة الذاتيّة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٥.

(٢) أقول : الظاهر أنّ صوم العيدين والصلاة بغير طهور حرام ذاتا بمقتضى الروايات ، إذ الروايات ظاهرة في ذلك ، فإنّ النهي تعلّق بنفس عنوان الصوم والصلاة غير مقيّد بكونه بقصد القربة وبدونه.

والقول بأنّ هذه النواهي ناظرة إلى إتيان العبادة ، كما في سائر الأيّام وسائر الحالات لا يمكن الالتزام به ، فإنّ المكلّف يأتي بالصلاة حال كونه مع الطهارة بداعي القربة ، ويصوم في غير العيدين بقصد التقرّب ، وبعد تعلّق النهي والتفاته به لا يتمشّى منه قصد القربة ، ولا يمكنه إتيان المنهي عنه إلّا بدون قصد التقرّب ، فالنهي عن الإتيان بالداعي الإلهي تكليف بما لا يطاق ، فلا مناص من الالتزام بتعلّق النهي بنفس العناوين ، كما هو الظاهر من الروايات الواردة في هذا الباب ، وأنّ الصلاة حال الحيض مثلا محرّمة ذاتا لو أتي بها بهذا العنوان ، أي قصد عنوان الصلاة أيضا مضافا إلى قصد الأفعال الخاصّة ولو بداعي التعليم.

أمّا إذا أتى بالأجزاء والأفعال الخاصّة لا بعنوان الصلاة بحيث لو سئل عنه وقيل له : ما تصنع؟ لم يجب بأنّي أصلّي ، بل أجاب بأنّي أكبّر وأقرأ سورة الفاتحة وهكذا لأجل ـ

٢٣٢

في مثل صوم العيدين وصلاة الحائض ، والصلاة بغير طهور وغير ذلك في غاية البعد ، وإن كان يمكن أن تستظهر الحرمة الذاتيّة من بعض الروايات في بادئ الرّأي ، كما ورد في أيّام استظهار المرأة «فلتتّق الله ولتترك الصّلاة» (١) حيث أمرت بترك الصلاة ، وفيمن صلّى بغير طهور «إما يخاف أن يقلب الله وجهه وجه حمار» (٢) لكنّ الالتزام بحرمة الصلاة لمن تصلّي تعليما لولدها بقصد القربة ، أو تمسك من أوّل الفجر إلى الغروب ـ لمرض في بطنها وأمرها الطبيب بذلك ـ لا بقصد القربة في غاية الإشكال ، ولا أرى أن يلتزم به فقيه.

فالظاهر أنّ هذه الروايات ناظرة إلى أنّ الإتيان بالصلاة بقصد القربة في حال الحيض وبغير طهور حرام.

وبعبارة أخرى : الإتيان كما (٣) يأتي مع الطهارة وفي سائر الأيّام حرام ، وواضح أنّ سائر الأيّام وفي حال كونه مع الطهارة يأتيها بقصد القربة ، فعلى هذا ، الحرمة في أمثال ما ذكر تشريعيّة لا ذاتيّة.

نعم ، قراءة سور العزائم لا يبعد دعوى كونها محرّمة للجنب ولو تعليما بدون قصد القربة ، فمصداق النهي عن العبادة نهيا مولويّا في غاية الندرة. هذا جوابه الأوّل.

__________________

ـ كذا ، لا بأس به ، كما لا بأس إذا أمسك يوم العيد عن جميع المفطرات لكن لا بعنوان الصوم وبقصده بحيث لا يقول : أنا صائم ، في جواب من سأل عنه ، ويقول له : لم لا تشرب السيكارة مثلا؟

والسرّ في ذلك : أنّ عنوان الصلاة والصوم ـ كعنوان التعظيم ـ يكون من العناوين القصديّة بحيث لا يتحقّق هذا العنوان بدون القصد ، وقصد العنوان غير قصد القربة ، كما لا يخفى. (م).

(١ و ٢) لم نجده في مظانّه.

(٣) «ما» في «كما» مصدريّة.

٢٣٣

وأجاب عنه ثانيا بما حاصله : أنّا نختار الشقّ الثاني وأنّ الفعل مقارنا مع قصد القربة يكون متعلّقا للنهي.

وبعبارة أخرى : العبادة الفعليّة هي متعلّق النهي لا الشأنيّة ، ولا محذور فيه من حيث اجتماع المثلين ، فإنّ استحالته فيما إذا كان متعلّق النهي التحريميّ التشريعيّ والذاتيّ واحدا ، والمقام ليس كذلك ، بل متعلّق كلّ منهما مغاير لمتعلّق الآخر ، إذ التشريع إنّما هو البناء على إتيان ما لا يعلم دخوله في الشريعة ، وهو من أفعال القلب ، فمتعلّق الحرمة التشريعيّة هو الفعل الجوانحي ، ومتعلّق الحرمة الذاتيّة هو الفعل الجوارحيّ المغاير مع الأوّل (١).

أقول : هذا الّذي أفاده غير تامّ ، إذ التشريع وهكذا التجرّي والانقياد من العناوين المنطبقة على الفعل الخارجيّ كالتعظيم ، فكما أنّ عنوان التعظيم لا ينطبق إلّا على قيام أحد لآخر احتراما له ـ مثلا ـ ولا ينطبق على مجرّد البناء على ذلك ، كذلك عنوان التشريع والتجرّي والانقياد لا ينطبق إلّا على ارتكاب الشخص فعلا ليس له علم بدخوله في الدين بقصد أنّه من الدين في الأوّل وارتكابه فعلا أحرز أنّه مبغوض في الثاني أو محبوب في الثالث ، فإنّ الأوّل تصرّف في سلطان المولى ، والثاني هتك لحرمته ، والثالث تحصيل لرضاه ، ولا ينطبق على مجرّد العزم أو البناء على ذلك ، وهذا واضح جدّاً. فعلى هذا متعلّق الحرمة التشريعيّة والذاتيّة واحد ، وهو الفعل الخارجيّ ، فلا يعقل أن يكون محكوما بهما معا ، للزوم اجتماع المثلين ، المستحيل.

نعم ، يمكن وجود ملاك كلّ منهما في فعل واحد ـ كما إذا فعل حراما

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٥.

٢٣٤

ذاتيّا متقرّبا به (١) ـ فتتأكّد الحرمة بذلك ، إذ من الواضح الفرق البيّن بين من شرب الخمر لصرف غلبة الشهوة ومتابعة هوى النّفس وبين من شربه بعنوان أنّه مقرّب له ومحبوب لمولاه. وبالجملة ، بين الملاكين عموم من وجه ، كما لا يخفى.

وأجاب عنه ثالثا : بأنّ النهي التحريميّ التشريعيّ كاف للدلالة على الفساد ، إذ يستكشف منه أنّ هذا الفعل لا يقبل الإضافة إلى المولى ، فليس فيه ملاك القرب حتّى يؤتى به بداعيه فيقع صحيحا (٢).

وبهذا البيان ظهر فساد ما قيل من أنّ النهي غايته الدلالة على عدم الأمر لا عدم الملاك ، فالفساد من جهة الشكّ في الملاك والتمسّك بقاعدة الاشتغال ، لا أنّه مستند إلى النهي.

ووجه الفساد ما ذكرنا من أنّ من هذا النهي يستكشف عدم الملاك ، إذ لو كان فيه ملاك القرب لما نهي عن التقرب به ، فالفساد مستند إلى نفس النهي التشريعيّ لا إلى أمر آخر.

فانقدح أنّ النهي التشريعيّ أيضا يقتضي الفساد كالتحريميّ الذاتيّ.

وهذا (٣) فيما إذا لم ينكشف الخلاف واضح ، وأمّا لو انكشف الخلاف بأن

__________________

(١) أقول : مع العلم بالحرمة الذاتيّة لا يتمشّى منه قصد التقرّب ، فالتشريع يتحقّق بارتكابه مبنيّا على أنّه من الدين. (م).

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٥.

(٣) أقول : الظاهر أنّ التشريع هو إدخال ما ليس من الدين في الدين.

وهذا نظير الكذب ، فإنّ الإخبار بما لا يعلم أنّ له واقعا قبيح وكذب لو لم يكن مطابقا للواقع ، ولو كان كذلك فهو وإن كان قبيحا من حيث إنّه تجرّى بالكذب إلّا أنّه لا يكون كذبا ، وعدم العلم بأنّه من الدين طريق إلى عدمه فيه ، فحينئذ لو انكشف الخلاف ـ

٢٣٥

تبيّن بعد ذلك أنّ هذا الفعل ـ الّذي اعتقد قبل بعدم وروده في الشريعة أو كان شاكّا أو ظانّا فيه بظنّ غير معتبر ـ وارد في الشريعة ومأمور به ، كما إذا لم يعلم بورود صلاة ذات اثنتي عشرة ركعة ليلة الغدير ، ثمّ رأى في كتاب الإقبال للسيّد ـ قدس‌سره ـ رواية في ذلك.

فإن كان حين إتيانها مضافا إلى الله ملتفتا إلى كونه تشريعا محرّما مبغوضا لمولاه ، فلا محالة وقعت فاسدة ، إذ لم يتمشّ منه قصد القربة أصلا مع الالتفات بكونه كذلك.

وإن لم يكن ملتفتا إلى ذلك ، فربما يتوهّم الصحّة ، نظرا إلى أنّه لا يعتبر في وقوع العبادة صحيحة إلّا كونها مأمورا بها وقابلة للإضافة وقصد الآتي بها القربة وإضافتها إلى الله ، والمفروض أنّ المشرّع ـ لعدم التفاته وعلمه بكونها محرّمة ومبغوضة ـ تمشّى منه قصد القربة ، وأتى بها مضافة إلى الله ، والآن

__________________

ـ ينكشف عن أنّه تجرّى بالتشريع لا نفسه ، فالحرمة التشريعيّة محقّقة بما إذا لم ينكشف الخلاف ، أمّا في صورة انكشاف الخلاف فيدخل تحت عنوان التجرّي ، لكن العبادة تقع فاسدة مطلقا ، سواء انكشف الخلاف أم لا. مع الالتفات إلى كونها تشريعا ، لعدم تمشّي قصد القربة منه معه حين الإتيان ، وأمّا مع عدم الالتفات فلا يحكم بفساد العبادة مطلقا ، انكشف الخلاف أو لم ينكشف ، وذلك لأنّ التشريع من المستقلّات العقليّة ، ولم يتعلّق نهي مولويّ به ، والعقل لا يحكم بالقبح في غير صورة الالتفات.

وبعبارة أخرى : موضوع حكم العقل هو التصرّف في سلطان المولى بغير إذنه عن قصد والتفات ، فمع عدم الالتفات بأنّه تصرّف في سلطان المولى بغير إذنه خارج عن تحت حكم العقل بالقبح ، فلا تقع مبغوضة ، بل تقع صحيحة لو انكشف أنّها مأمور بها ولو بالإطلاق بأنّ تعلّق الأمر بالطبيعة وشكّ في شموله لهذا الفرد ، إذ لا وجه للتقييد ، ولو لم ينكشف ذلك ، لا يجوز الاكتفاء بها عن الواجب ـ كما إذا صلّى بغير سورة متقرّبا بها ولا يعلم بأنّ الصلاة بدون السورة صحيحة أو لا ، ولا يلتفت إلى أنّه تشريع ـ لقاعدة الاشتغال ، وأمره في مقام الثبوت دائر مدار الواقع فإن أمر بها واقعا فصحيحة ، وإلّا فلا ، لكن لا يفيد الأمر الواقعي ما لم يعلم به في مقام الامتثال. (م).

٢٣٦

انكشف أنّها كانت مأمورا بها ، يعني أنّها واردة في الشريعة ، ولا يعتبر في صحّة العبادة أزيد من الأمر والإتيان بها بقصد القربة ، فلا وجه للبطلان.

ولكن فساده واضح ، حيث إنّ الإتيان بذلك ما لم ينكشف الخلاف محرّم واقعا ومبغوض حقيقة وداخل تحت كبرى (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) وغيرها من أدلّة حرمة التشريع ، فإنّها عامّة لكلّ من تصرّف في سلطان المولى بإفتاء أو فعل أو شبهه بدون إحراز إذنه ، فحين الإتيان وقعت العبادة محرّمة مبغوضة مندكّة مصلحتها ـ التي كانت لها في نفسها لو لا التشريع ـ في مفسدة التشريع ، فما يكون مبغوضا ومبعّدا كيف يمكن أن يكون محبوبا ومقرّبا!؟

وليس المقام (١) من موارد اجتماع الأمر والنهي وما يكون التركيب فيه انضماميّا ، كما توهّم ، بل هو من موارد النهي في العبادة ، كما لا يخفى.

المقام الثاني : في أنّ تعلّق النهي بالمعاملات هل يقتضي فسادها أم لا؟

ويتصوّر ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يتعلّق النهي بالسبب لا بما هو سبب بل بما هو فعل مباشريّ للمكلّف ، كالنهي عن المعاملة في الصلاة ، فإنّ نفس قوله : «بعت» في الصلاة

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) أقول : في صورة عدم الالتفات لا يكون من هذا الباب ولا من ذاك الباب ، لما عرفت من أنّها لم تكن محكومة بحكم العقل في هذه الصورة وفي صورة الالتفات كذلك لو انكشف الخلاف ولم نقل بحرمة التجرّي ، ولو لم ينكشف الخلاف أو انكشف وقلنا بحرمة التجرّي ، فيكون الفعل الواحد مصداقا للصلاة والتشريع في الأوّل ومصداقا للصلاة والتجرّي في الثاني ، فلو كان التركيب انضماميّا ، يكون من باب الاجتماع ، وهكذا لو لم نشترط انضماميّة التركيب في كون المجمع من موارد الاجتماع ، كما اخترناه ، خلافا لسيّدنا الأستاذ دام ظلّه ، وإلّا يكون من باب التعارض. (م).

٢٣٧

حيث يكون مبطلا لها يكون منهيّا عنه ، سواء كان في مقام البيع واقعا أو لا ، بل كان في مقام تعداد الجمل الفعليّة.

ومن الواضح أنّ هذا القسم من النهي لا يقتضي الفساد ، إذ لا ملازمة لا عقلا ولا عرفا بين مبغوضيّة إيجاد السبب ومبغوضيّة ترتّب المسبّب عليه.

الثاني : أن يتعلّق بالتسبّب بسبب ، لا بالسبب بما هو فعل مباشريّ ، ولا بالمسبّب بما هو مسبّب ، كما إذا نهي عن البيع بالمنابذة ، فإنّ أصل المبادلة وهكذا المنابذة بما هي فعل مباشريّ للمكلّف لا حرمة لها أصلا ، ولذا يجوز المبادلة بغير ذلك السبب ، ويجوز المنابذة من دون التسبّب بها إلى حصول الملكيّة ، بل ما هو حرام ومتعلّق للنهي هو جعل هذا سببا لحصول الملكيّة.

الثالث : أن يتعلّق النهي بنفس المبادلة بما هي فعل له بالتسبيب ، وبعبارة أخرى : تعلّق بالمسبّب بما هو ، لا بالمسبّب عن هذا السبب الخاصّ ، فإنّه هو القسم الثاني ، ولا بالسبب بما هو فعل مباشري للمكلّف ، فالأقسام ثلاثة لا اثنان.

ويمكن أن يقال : إنّ النهي عن التسبّب بسبب نهي عن المسبّب أيضا إلّا أنّه نهي عن المسبّب الخاصّ.

وقد استدلّ للفساد في هذين القسمين بوجوه :

منها : ما بنى عليه شيخنا الأستاذ ، وهو أنّه يعتبر في صحّة المعاملة أمور ثلاثة :

الأوّل : أن يكون صادرا من أهله ، بأن يكون مالكا أو وكيلا أو مأذونا من قبله.

الثاني : أن يكون مسلّطا عليه ومالكا للتصرّف ، بأن لا يكون محجورا

٢٣٨

عليه من جهة سفه أو جنون أو تعلّق نذر ـ على قول بعض ـ أو تعلّق حقّ الغير بالمبيع وغير ذلك ممّا يمنع المالك عن التصرّف شرعا. والحاصل أن يكون له سلطنة على التصرّف عقلا وشرعا ، ولا يكفي كونه مالكا فقط ، ولذا أدرج بعض الشرط الأوّل في الثاني وقال : يعتبر أن يكون مالكا للتصرّف.

الثالث : أن يوجد بالأسباب الشرعيّة ، فلو أنشأ الطلاق بغير سببه الشرعيّ لا يصحّ ، ولا تصحّ المعاملة إلّا إذا تحقّقت هذه الأمور الثلاثة ، ومن المعلوم أنّ المسبّب أو التسبّب بسبب خاصّ لو كان متعلّقا للنهي لا يكون الشرط الثاني موجودا ، إذ بعد نهي الشارع يكون مسلوب السلطنة شرعا ، ولا يكون مالكا للتصرّف. هذا حاصل الاستدلال الأوّل.

والجواب عنه : أنّ الكلام متمحّض في تعلّق النهي المولويّ بها لا الإرشاديّ ، فإنّه لا إشكال في اقتضائه للفساد ، والنهي المولويّ لا يقتضي إلّا حرمة التصرّف تكليفا ، وأمّا حرمته وضعا فهو أوّل الدعوى ، وأيّ مانع من كون التصرّف حراما شرعا كغسل الثوب بالماء المغصوب ومع ذلك يترتّب عليه أثره الوضعيّ واعتبر الشارع الطهارة عند حصول الغسل؟

وبعبارة أخرى : إنّ هنا دليلين : أحدهما «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١) و «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» (٢) والثاني (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٣) ولا إشكال في أنّ النهي المولويّ يقيّد إطلاق الدليل الأوّل وأمّا

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٩٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٣) المائدة : ١.

٢٣٩

تقييده إطلاق الدليل الثاني فممنوع ، فلا مانع من التمسّك بإطلاق الدليل الثاني ، والحكم بصحّة المعاملة لو لا دليل آخر دالّ على الفساد.

ومنها : الأخبار الخاصّة الواردة فيمن تزوّج بغير إذن مولاه (١). وهذه الأخبار استدلّ بها على الصحّة والفساد.

أمّا تقريب الاستدلال بها على الفساد فهو أنّ قوله عليه‌السلام : «إنّه لم يعص الله ، وإنّما عصى سيّده ، فإذا أجازه فهو له جائز» (٢) ظاهر في أنّ معصية الله موجبة لفساد المعاملة.

والجواب عنه : أنّ المراد بالمعصية في كلتا الفقرتين هو المعصية الوضعيّة لا التكليفيّة ، إذ من الواضح أنّ من المحرّمات في الشريعة عصيان العبد لسيّده ، فلا ينفكّ عصيانه عن عصيان الله ، فلا معنى لهذه الجملة لو كان المراد منه معصيته التكليفيّة ، فهو نظير من عصى نبيّه ويقال : إنّه لم يعص الله ، وإنّما عصى نبيّه ، فالمراد من عصيان السيّد هو النكاح بدون إذنه وهو ليس بمحرّم ، إذ لا دليل على أنّ كلّ فعل يصدر من العبد حرام تكليفا إلّا أن يكون بإذن سيّده حتّى ليس له أن يتكلّم بكلام من إجراء صيغة عقد أو غيره إلّا بإذنه ، بل ما يكون حراما هو التصرّف في سلطان المولى ، ومن المعلوم أنّ مجرّد إجراء صيغة العقد ليس تصرّفا في سلطانه ، بل بعد تسلّط المولى عليه باق يمكنه أن لا يجيز ، ولذا لا نحكم بفسق من باع مال الغير فضولا.

والسرّ في ذلك كلّه ما ذكرنا من أنّ مثل هذه الأمور الجزئية ليست تصرّفا عرفا حتّى تكون حراما شرعا.

__________________

(١) انظر الوسائل ٢١ : ١١٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(٢) الكافي ٥ : ٤٧٨ ـ ٣ ، الفقيه ٣ : ٣٥٠ ـ ١٦٧٥ ، التهذيب ٧ : ٣٥١ ـ ١٤٣٢ ، الوسائل ٢١ : ١١٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ١.

٢٤٠