الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

الانتزاعي بمنشإ انتزاعه حقيقة ـ وإن كانت مسلّمة إلّا أنّ تطبيقها على المقام غير تامّ ، وذلك لأنّ مثل السبق واللحوق والتقدّم والتأخّر من العناوين الانتزاعيّة إنّما ينتزع من نفس السابق واللاحق والمتقدّم والمتأخّر ، وكذلك الفوقيّة والتحتيّة ، فالشيء بكونه في مكان عال بالنسبة إلى شيء آخر يكون فوقا ، وينتزع عنه الفوقيّة ، ويكون الأمر بإيجاد الفوقيّة أمرا بإيجاد ذات يكون فوقا ، وعلى هذا فقس التحتيّة والسبق واللحوق وغير ذلك من العناوين الانتزاعيّة ، فذات القيد في المقام ليس منشأ لانتزاع التقيّد ، بل منشؤه على ما بيّنّاه هو ذات الأمر المتقيّد به ، وإنّما القيد طرف الإضافة ، فالشرط للمأمور به ليس منشأ لانتزاع ذلك العنوان الانتزاعي كي ينبسط الأمر بالمركّب عليه أيضا.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّم منه في تقسيم المقدّمة إلى الداخليّة والخارجيّة من أنّ الشروط الشرعيّة داخلة في المأمور به من حيث التقيّد وخارجة عنه من حيث أنفسها ، وهذا تصريح منه بأنّ ذوات الشروط الشرعيّة ليست متعلّقة للأمر.

هذا تمام الكلام في الشرط المتأخّر ، وقد ظهر لك جوازه في الشرعيّات بالنسبة إلى التكليف والوضع والمأمور به.

نعم ، الالتزام به في مقام الإثبات يحتاج إلى الدليل.

الأمر الثالث : في تقسيمات الواجب ، ومنها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، والكلام في شرح حقيقة القسمين كما ذكر في المتن (١) ، فلا حاجة إلى التعرّض لذلك ، وإنّما المهمّ في المقام هو التعرّض لما يرجع إليه الشرط في الجملة الشرطيّة وتحقيق ما هو المشروط به ، وفي ذلك وجوه ثلاثة :

__________________

(١) أي : متن الكفاية.

٢١

الأوّل : ما اختاره في الكفاية (١) من رجوعه إلى الهيئة ، ويقيّد مفادها به ، ونتيجة ذلك اشتراط نفس الوجوب بذلك الشرط.

الثاني : ما نسب في التقريرات إلى الشيخ الأعظم (٢) ـ قدس‌سره ـ من رجوعه إلى المادّة ، وكون مفاد الجملة الشرطية إيراد الطلب على المادّة المقيّدة ، ونتيجة ذلك إطلاق الوجوب وتحقّقه قبل تحقّق الشرط.

ولكنّ الظاهر من كلامه في موضع من الرسائل وفي اشتراط عدم التعليق في صحّة العقد من المكاسب (٣) هو : الالتزام بإرجاع القيد إلى الهيئة ، والالتزام بالواجب المشروط.

الثالث : ما وجّه به شيخنا الأستاذ (٤) ـ قدس‌سره ـ كلام الشيخ من رجوعه إلى المادّة المنتسبة.

وبعبارة أخرى : المشروط هو المادّة بقيد تعلّق الوجوب بها ، وأنّ كلام الشيخ ناظر إلى ذلك ، لأنّ رجوعه إلى المادّة وكون الوجوب مطلقا لا يمكن المصير إليه بعد كون القضيّة الشرطيّة ـ التي هي محلّ الكلام ـ قضية حقيقية يمتنع فيها الحكم من دون فعليّة الموضوع وتحقّقه ، وكيف يمكن فعليّة الوجوب للحجّ قبل تحقّق الاستطاعة!؟

هذا ، ولكن لا يخفى رجوع ذلك عند التأمّل إلى الوجه الأوّل ، إذ تقيّد المادّة من حيث انتساب الوجوب إليها وتعلّقه بها لا معنى له إلّا أنّ تعلّق الوجوب بالمادّة منوط بحصول ذلك الشرط بعد فرض أنّ المادّة ليست مقيّدة

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢١.

(٢) مطارح الأنظار : ٤٩.

(٣) المكاسب : ١٠٠.

(٤) أجود التقريرات ١ : ١٣٠.

٢٢

بذلك القيد ، فلا يمكن عدّ هذا وجها في قبال الوجهين.

ولا ريب أنّ الوجه الثاني مخالف لما هو مقتضى القواعد العربيّة من كون مفاد الجملة الشرطية هو ربط جملة بجملة وتعليقها عليها ، لا ربط المفرد بالجملة ، فمقتضى القواعد العربيّة : رجوع الشرط إلى الهيئة لزوما [و] لو أريد التعبير عن تقييد المادّة بالجملة الشرطيّة ، كان غلطا ، فإنّه إذا قيل لبيان شرطيّة الوضوء للصلاة وعدم صحّتها بدونه : «إذا توضّأت فصلّ» يكون غلطا ، بخلاف ما لو عبّر عن شرطية الزمان لوجوب الصلاة بمثل «إذا زالت الشمس فصلّ» فإنّه ليس بغلط.

وبهذا يظهر أنّ رجوع الشرط إلى المادّة في الجملة الشرطيّة مخالف للصراحة لا للظهور وقد اعترف في التقريرات (١) بذلك وأنّ المصير إلى خلاف الظهور إنّما هو للبرهان العقلي المانع من الأخذ بمقتضى القواعد ، وسيأتي الكلام في البرهان المزبور.

وقد ظهر إلى هنا أنّ مقتضى القواعد لزوم المصير إلى الوجه الأوّل ، وهو مختار صاحب الكفاية قدس‌سره.

وقد أورد عليه بوجوه ثلاثة :

الأوّل : ما في التقريرات (٢) من أنّ مفاد الهيئة من المعاني الحرفيّة ، وهي جزئيّات حقيقيّة ، فالطلب المنشأ بالهيئة جزئي حقيقي ، فلا يمكن ورود القيد عليه.

وفيه أوّلا : ما تحقّق في محلّه من عدم كون المعاني الحرفيّة من

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٩.

(٢) مطارح الأنظار : ٤٥ ـ ٤٦.

٢٣

الجزئيّات ، وأنّ تقيّدها بمكان من الإمكان.

وثانيا : أنّ التقيّد ممكن وإن كان المعنى الحرفي جزئيّا حقيقيّا ، وذلك لأنّ الإطلاق والتقييد في المقام ليس بمعنى الإطلاق والتقييد في باب المطلق والمقيّد ، كما توهّم ، فإنّ الإطلاق في ذلك الباب بمعنى سعة الدائرة وكثرة الحصص ، ويقابله التقييد ، والإطلاق في المقام بمعنى الإرسال وعدم الربط بشيء آخر ، ويقابله التقييد ، بمعنى الربط ، وهو ممكن التحقّق بالنسبة إلى الجزئي الحقيقي ، فالإشكال ناش من الخلط بين المقامين.

وأمّا [ما] أورده المصنّف من أنّ الجزئي الحقيقي إنّما يأبى من التقيّد بعد الإيجاد ، وأمّا إيجاده مقيّدا ومتضيّقا من أصله فلا محذور فيه ، فهو إنّما يتمّ على مبنى كون المعنى الحرفي كلّيّا في نفسه ، وأنّ الشخصيّة تكون بالاستعمال.

وأمّا على مبنى الإيراد من كون المعنى الحرفي جزئيّا حقيقيّا في حدّ نفسه قبل الاستعمال وأنّ اللفظ يستعمل في معناه الّذي هو جزئيّ حقيقيّ فلا يتوجّه ذلك ، كما هو واضح.

الثاني : ما أورده شيخنا الأستاذ (١) من أنّ الإطلاق والتقييد من شئون المفاهيم الاسميّة الاستقلاليّة ، فلا يمكن تحقّقهما في مفاد الهيئة ، الّذي هو معنى حرفي وملحوظ بنحو الآليّة.

وفيه أوّلا : ما تقدّم في مبحث المعنى الحرفي من عدم صحّة ما هو المعروف والمشهور من كون المفاهيم الحرفيّة ملحوظة باللحاظ الآلي ، بل هي كالمفاهيم الاسميّة ملحوظة بالاستقلال ، فإنّ النفي والإثبات في مثل «زيد قائم في الدار» و «زيد ليس بقائم في الدار» إنّما يتوجّهان إلى المعنى الحرفي المفاد

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣١ ـ ١٣٢ ، فوائد الأصول ١ : ١٨١.

٢٤

بلفظ «في» بل الغالب في الجمل الإيجابيّة والسلبيّة هو النّظر إلى المعاني الحرفية بحيث تكون هي المقصودة بالإفادة ، فكيف يكون المعنى الحرفي ـ والحال هذه ـ ملحوظا آليّا!؟ بل الحقّ ـ كما تقدّم ـ أنّها ملحوظة في الجمل الإيجابيّة أو السلبيّة بالاستقلال ، كما هو الحال في المعاني الاسميّة التي تتضمّنها الجملة من دون فرق بينهما من تلك الجهة أصلا.

نعم ، المعنى الحرفي يختلف عن المعنى الاسمي في نفسه ، فهما سنخان من المعنى.

وثانيا : أنّه لا مانع ـ على تقدير الآليّة ـ من تقييد المعنى الحرفي قبل الاستعمال ثمّ تعلّق اللحاظ الآلي بذلك المقيّد ، في حال الاستعمال ، فإنّ آليّة اللحاظ المتعلّق به إنّما تكون في حال استعمال اللفظ فيه ، وهذا لا ينافي تعلّق اللحاظ الاستقلالي به قبل الاستعمال وتقيّده في حال ذلك اللحاظ ليكون استعمال اللفظ في ذلك المقيّد الملحوظ حال الاستعمال باللحاظ الآلي.

الثالث ممّا أورد على الوجه المزبور هو : أنّ حقيقة الإنشاء بعد أن كانت هي الإيجاد ـ غاية الأمر أنّ ذلك في وعاء الاعتبار لا في العالم الخارج ، فلا يمكن تحقّق الإنشاء من دون تحقّق المنشأ ، لأنّ الإيجاد يستحيل انفكاكه عن الوجود ، إذ هما شيء واحد ، والاختلاف بينهما بالاعتبار ، فمن حيث الإضافة إلى الفاعل يكون إيجادا ، ومن حيث الإضافة إلى القابل يكون وجودا ، فيستحيل تحقّق الإيجاد مع عدم تحقّق الوجود بالبداهة ـ فكيف يمكن تحقّق الإنشاء مع عدم تحقّق الطلب المنشأ به في ذلك الظرف!؟

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة أوجه الشبه التي أوردت على الوجه المزبور ، وأقواها.

٢٥

وقد أجاب في الكفاية (١) عنه : بأنّ المنشأ في المقام هو الطلب على تقدير ، لا الطلب الفعلي ، وأنّ إنشاء أمر على تقدير بمكان من الإمكان ، كالإخبار عن أمر على تقدير ، وأنّ المنشأ إذا كان هو المعلّق ، فلا بدّ من عدم تحقّق ذلك المنشأ قبل حصول المعلّق عليه ، وإلّا لزم تخلّف المنشأ عن الإنشاء ، فحيث إنّ المنشأ في المقام هو الطلب على تقدير خاصّ فلا بدّ من عدم تحقّق الطلب والبعث قبل حصول التقدير وتحقّقه.

ولكنّ التأمّل يقتضي عدم صحّة هذا الجواب ، إذ الإشكال إنّما هو من ناحية عدم إمكان تفكيك المنشأ عن الإنشاء بعد أن كان حقيقة الإنشاء هي الإيجاد ، إذ تحقّق الإيجاد في الخارج من غير أن يتحقّق الوجود مستحيل بالبداهة ، فتحقّق إنشاء أمر على تقدير فرع إمكانه ، والمستشكل يبرهن على عدم إمكانه ، فلا وقع لما ذكره في الكفاية ، إذ الكلام في إمكان مثل ذلك.

وأمّا ما ذكره في وجه إمكان ذلك من قياسه على الإخبار فغير تامّ ، لتحقّق الفرق التامّ بين الإخبار والإنشاء ، إذ الإخبار هو الحكاية ، والحكاية عن أمر معلّق كالحكاية عن أمر منجّز في الإمكان بالبداهة ، فيمكن [أن يكون] الإخبار بالفعل والمخبر عنه في المستقبل.

نعم ، اتّصاف متعلّق الإخبار بكونه مخبرا عنه ومحكيّا عنه مقارن لتحقّق الإخبار ، كما في اتّصاف متعلّق الإنشاء بذلك ، لكنّ الكلام ليس في ذلك ، بل في التحقّق ، وأنّه يمكن تحقّق الإخبار من دون تحقّق المخبر عنه في الخارج.

وأمّا الإنشاء فحقيقته الإيجاد على الفرض ، وتعلّق الإيجاد الفعلي بالأمر المستقبل مستحيل بالوجدان.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٣.

٢٦

فظهر أنّ قياس الإنشاء ـ في جواز تعلّقه بالأمر المستقبل ـ على الإخبار في غير محلّه ، وأنّ الشبهة المزبورة لا تندفع بما ذكره.

وتحقيق الجواب عنها ـ بحيث يظهر الفرق بين الواجب المطلق والمشروط وتندفع الشبهة ـ يتوقّف على بيان مقدّمات ثلاث :

الأولى : أنّ الاعتبار كما يمكن تعلّقه بالأمر الفعلي يمكن تعلّقه أيضا بالأمر الاستقبالي ، وذلك لأنّ وعاء الوجود الاعتباري وسيع ، نظير وعاء الوجود الذهني ، فكما يمكن تصوّر الأمر المتأخّر كقيام زيد في الغد كذلك يمكن اعتباره بالفعل ، ويساعد على ذلك العرف والشرع.

ومن هذا القبيل : الوصيّة والتدبير ، فإنّ الموصي يعتبر فعلا للموصى له ملكيته لشيء بعد موته [و] كذلك المدبّر يعتبر فعلا انعتاق عبده بعد الموت ، فصحّة الوصيّة والتدبير عرفا وشرعا تدلّ على إمكان ما ذكرناه.

ويمكن مثل ذلك في الإجارة والبيع ، ووجه ذلك واضح ، فإنّ الشخص بعد ما يكون مالكا للعين ومنافعها بالملكيّة الدائميّة حسب الاعتبار العقلائي الّذي أمضاه الشارع ولذا يجوز له إيجار العين مدّة تكون أزيد من عمره ، كما هو ظاهر المشهور بين الفقهاء ، فله أن يرفع اليد عن بعضها كما له رفع اليد عن جميعها ، فأيّة قطعة أراد رفع اليد عنها كان له ذلك ، فإذا رفع اليد عن الجميع أو عن القطعة منها المتّصلة بالعقد ، كان العقد منجّزا ، وإن رفع اليد عن قطعة متأخّرة عنه ، كان معلّقا ، فتعلّق الاعتبار في البيع والإجارة بالملكيّة المتأخّرة ممكن ، كما في الوصيّة والتدبير ، إلّا أنّ الإجماع قد قام ـ على ما ادّعي ـ على بطلان التعليق في غير الوصيّة والتدبير.

وبالجملة ، اعتبار الأمر المتأخّر بمكان من الإمكان بالوجدان.

٢٧

الثانية من المقدّمات : بيان حقيقة الإنشاء ، والمائز بينه وبين الإخبار ، وقد تقدّم في مبحث المشتقّ وفيما يتعلّق بصيغة الأمر ومادّته أنّ الإنشاء هو الإبراز والحكاية كالإخبار بعينه ، غاية الأمر أنّ المبرز في الإخبار له تعلّق بأمر ربما يكون مطابقا للخارج وربما يكون غير مطابق له ، وتحقّق الصدق والكذب فيه من هذه الجهة ، والمبرز في الإنشاء ليس له تعلّق بمثل ذلك الأمر.

وذلك لأنّ مدلول الجمل الخبرية بمقتضى الظهور العرفي هو إرادة المتكلّم بها الإخبار والحكاية عن أمر ، كقيام زيد ، وليس مدلولها ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها ، ولذا لا يستفيد السامع من نفس اللفظ التحقّق والانتفاء ، بل حصول ذلك يتوقّف على القرائن ، كعلمه بعدم كذب المتكلّم وغير ذلك ، واللفظ في نفسه محتمل للصدق والكذب ، ومن هذه الجهة قلنا بوضع الألفاظ للمعاني المرادة ، ومدلول الجمل الإنشائيّة هو إبراز الاعتبار النفسانيّ.

فالإنشاء والإخبار يشتركان في أنّ حقيقتهما هي الإبراز والحكاية ، واحتمال الصدق والكذب ليس من هذه الناحية ، ويفترقان في أنّ المبرز والمحكيّ في الإخبار له تعلّق بأمر باعتباره يتوجّه فيه احتمال الصدق والكذب ، وأنّ مبرز الإنشاء ومحكيّة ـ وهو الاعتبار النفسانيّ ، كاعتبار الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك ـ ليس له مثل ذلك التعلّق ، وإنّما هو إبراز وكشف عمّا قام بالنفس من الاعتبار الّذي هو فعل من أفعالها ، فما هو المعروف من [أنّ] حقيقة الإنشاء هو الإيجاد في عالم الاعتبار ممّا لا أساس له ، فإنّ مثل لفظ «بعت» ليس موجدا للملكيّة في اعتبار اللافظ وإنّما تتحقّق الملكيّة بفعل النّفس ، وهو الاعتبار ، فيتكلّم المعتبر بذلك اللفظ لإبراز ما تحقّق في نفسه.

الثالثة من المقدّمات : في بيان حقيقة ذلك المعتبر الّذي ينشأ بالهيئة

٢٨

ويكون معلّقا على الشرط.

فنقول : إنّه هو الوجوب ، وهو لغة بمعنى الثبوت ، واصطلاحا ثبوت التكليف في ذمّة المكلّف في عالم الاعتبار ، كاعتبار ثبوت غيره في الذمّة ، كما في الدّين.

وبعبارة أخرى : الوجوب الشرعي المجعول من قبل المولى هو اللابدّيّة ، وكون الفعل على ذمّة المكلّف وعهدته في عالم الاعتبار ، وإمكان تعلّق الاعتبار بمثل ذلك بمكان من الإمكان والوضوح ، ومنشأ اعتبار هذا الأمر قد يكون هو الشوق النفسانيّ المتعلّق بذلك الفعل ، وقد يكون غيره ، كما في المولى الحقيقي.

وبذلك ظهر أنّ ما ذكرنا في مبحث الأمر ـ من أنّ المنشأ والمبرز في صيغة الأمر ومادّته هو الشوق النفسانيّ ، وأنّ الوجوب والاستحباب أجنبيّان عن مفادهما ـ غير صحيح ، بل الصحيح هو أنّ الصيغة وكذلك المادّة مبرزة لاعتبار اللابدّيّة والثبوت ، الّذي منشؤه الشوق النفسانيّ تارة ، وغيره أخرى ، وعليه يكون الوجوب والاستحباب مجعولين ، كما يساعد على ذلك ما هو المعروف بينهم من كون الوجوب أمرا اعتباريّا ، فليسا هما حكمين عقليّين.

ويساوق الوجوب فيما ذكرنا من المعنى ، الإلزام.

والسرّ في عدولنا عمّا اخترناه سابقا أنّ الشوق النفسانيّ ليس أمرا اعتباريّا ، بل هو من الأمور التكوينيّة ، فلا ينافيه ما ذكرنا من الإرسال والتعليق ، لأنّهما من شئون الأمور الاعتبارية ، فلا بدّ من كون مفاد الهيئة الإنشائية أمرا اعتباريّا كي يمكن فيه الإرسال والاشتراط ، وليس ذلك إلّا ما قرّبناه من المعنى.

هذا تمام الكلام في المقدّمات الثلاث ، وبملاحظة مجموعها يتّضح

٢٩

اندفاع الإشكال ، إذ بعد كون مفاد الهيئة أمرا اعتباريّا بمقتضى المقدّمة الثالثة ، وإمكان تعلّق الاعتبار بالأمر المستقبل بمقتضى المقدّمة الثانية ، وكون حقيقة الإنشاء هي الإبراز لا الإيجاد بمقتضى المقدّمة الأولى ، لا يكون محذور في تعلّق الإنشاء الفعلي بالوجوب والإلزام الاستقبالي أصلا ، لأنّ محذور انفكاك المنشأ عن الإنشاء يبتني على كون حقيقة الإنشاء هي الإيجاد ، وقد ظهر خلافه.

فتحقّق أنّ الواجب المطلق هو ما يكون المنشأ فيه اللابدّيّة الفعليّة ، والمشروط هو ما يكون المنشأ فيه هو اللابدّيّة الاستقباليّة. هذا كلّه على تقدير تسليم المقدّمة الثالثة.

وإن أبيت عنه والتزمت بأنّ الوجوب ليس أمرا مجعولا شرعيّا وأنّه ليس في البين اعتبار اللابدّيّة وأنّ المتحقّق في مقام الإنشاء ليس سوى الشوق النفسانيّ ، فالتعليق والاشتراط ممّا لا محذور فيه أيضا ، إذ بعد أن تكون الهيئة لإبراز الشوق ، ففي الواجب المطلق يكون المبرز بها هو الشوق الفعلي ، وفي المشروط يكون هو الشوق المتأخّر ، وإبراز الشوق المتأخّر يكون بمكان من الإمكان.

هذا كلّه فيما يتعلّق بالإشكال على الواجب المشروط في مقام الإثبات ومن جهة الدلالة.

وهذه الإشكالات إنّما ترد إذا كان الدالّ على الوجوب ، ما يكون بصيغة الإنشاء ، وأمّا إذا كان بنحو الجملة الخبريّة ، فلا محذور فيه أصلا.

وقد أورد على الواجب المشروط في مقام الثبوت ، وأنّ الواجب المشروط بالمعنى المشهور لا يمكن تصويره.

٣٠

وملخّص تقريبه : أنّ الأقسام المتصوّرة في مقام الالتفات خمسة ، أحدها : صورة عدم تعلّق الطلب به بعد الالتفات إليه ، وهي خارجة عن محلّ الكلام ، وأربعة منها : صورة تعلّق الطلب به ، وفي جميعها يكون الطلب فعليّا ، فلا محالة يكون القيد ـ في صورة تعلّقه بذلك الفعل على تقدير خاصّ ـ راجعا إلى المادّة ، فليس في مقام التصوّر صورة يكون الطلب فيها واقعا بعد الالتفات والتصوّر معلّقا على تقدير من التقادير من دون فرق في ذلك بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات والقول بتبعيّتها لها في أنفسها.

وقد أجاب في الكفاية (١) عن الإيراد المزبور : بأنّ القسمة المزبورة وإن كانت مع الغضّ عن الطوارئ الخارجيّة حاصرة ، إلّا أنّ هناك بلحاظ العوارض قسما آخر ، وهو تحقّق المانع من الطلب الفعلي بالنسبة إلى الطلب الملتفت إليه قبل حصول التقدير الخاصّ ، فحينئذ لا محالة يكون تحقّق الطلب معلّقا على حصول ذلك التقدير ، وهذا هو الوجوب المشروط.

ثمّ أفاد بأنّ ذلك بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح في أنفسها واضح جدّاً. والسرّ فيه : أنّ الطلب مع تحقّق المانع منه بالفعل لا يكون ذا مصلحة.

وأمّا بناء على تبعيّتها للمصالح والمفاسد في المتعلّقات فربما يتوهّم عدم توجّهه ، إذ بعد فرض تحقّق المصلحة في الفعل ـ التي هي المقتضية له ويكون الحكم دائرا مدارها كما هو المفروض ـ لا ينبغي مجال لعدم الطلب ، إلّا أنّ التوهّم المزبور مردود بأنّ التبعيّة للمصالح في المتعلّقات إنّما هي في الأحكام الواقعيّة الإنشائيّة ، وأمّا الأحكام الفعليّة : فلا يدور مدار تلك المصلحة التي تكون في المتعلّق ، ولذا لم يكن كثير من الأحكام فعليّا في أوّل البعثة ، بل

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٤.

٣١

بعضها لا يبلغ المرتبة الفعلية إلى زمان ظهور الحقّ ، فما هو المشروط والمعلّق على الشرط ـ وهو الحكم في المرتبة الفعليّة ـ ليس بتابع للمصلحة والمفسدة في المتعلّق ، وما هو التابع لذلك ليس بمعلّق على الشرط ، بل يتحقّق من أوّل الأمر ، فالمانع من تحقّق الطلب الّذي ذكرناه هو المانع عن بلوغ الحكم المرتبة الفعليّة ، والمراد من الطلب في المقام هو البالغ تلك المرتبة ، والّذي يكون تابعا هو الحكم بالمرتبة الإنشائية.

هذا ، ولا يخفى أنّ ما أفاده في المقام يبتني على ما أفاده في حاشية الرسائل (١) في مقام الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وفي موضع من الكفاية (٢) في ذلك المقام أيضا من أنّ الحكم الفعلي مرتبة أخرى مجعولة غير الحكم الإنشائيّ ، فالحكم الفعلي يغاير الحكم الإنشائيّ ، وكلّ منهما يجعل بجعل مستقلّ.

وقد صرّح في الكفاية (٣) في هذا المقام بما هو الحقّ من أنّ المجموع حكم واحد ، وأنّ فعليّته بفعليّة الموضوع وتحقّقه ، فليس هناك مرتبتان من الحكم ، فما ذكره في تقريب تحقّق المانع من الطلب ـ على تقدير تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات ـ لا يتّجه ، لابتنائه على أساس فاسد.

وقرّبه بعض المحقّقين بما ملخّصه : أنّ المصالح والمفاسد ليست (٤).

فلا بدّ من الإجابة عنه بجواب آخر يتّضح به الفرق بين الواجب المطلق

__________________

(١) حاشية فرائد الأصول : ٣٨.

(٢) كفاية الأصول : ٣٢١.

(٣) كفاية الأصول : ١٢٥.

(٤) كذا في الأصل ، وما بعدها ساقط فيه.

٣٢

والمشروط لبّا ، وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ القيود ـ بعد ما كان الحقّ عند العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات ـ إمّا أن تكون دخيلة في اتّصاف المتعلّق بكونه ذا مصلحة ـ بحيث لا يكون ذا مصلحة إذا لم يتحقّق القيد ، كما في دخل المرض في اتّصاف شرب الدواء بكونه ذا مصلحة ـ وإمّا أن تكون دخيلة في فعليّة المصلحة وترتّبها على المتعلّق ، كما في بعض الأمور الدخيلة في ترتّب النّفع على الدواء الّذي يشربه المريض ، والثاني إمّا أن يكون اختياريّا أو يكون غير اختياريّ ، فهذه أقسام ثلاثة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا التفت المولى إلى فعل يكون مطلقا من حيث الاتّصاف بكونه ذا مصلحة كما يكون مطلقا من حيث ترتّب المصلحة عليه ، وكان القيد المزبور اختياريّا ، فلا بدّ من تعلّق طلبه فعلا بالقيد والمقيّد معا على تقدير عدم تحقّق القيد ، وإلّا فبالمقيّد فقط.

وكذلك إذا كان القيد المزبور غير اختياري ، وكان متحقّقا ، فإنّه لا بدّ من البعث بالفعل نحو المقيّد. وأمّا إذا كان غير متحقّق ، فإمكان البعث الفعلي نحوه يبتني على إمكان الواجب المعلّق ، كما سيأتي تحقيقه وأنّه لا محذور فيه ، خلافا لشيخنا الأستاذ ، وعلى القول باستحالته فلا بدّ من إنشاء الطلب المشروط ، المعلّق على حصول ذلك الأمر الّذي يكون غير اختياريّ ، ويكون المورد من موارد تحقّق المانع من الطلب الفعلي مع اشتمال الفعل على المصلحة والاتّصاف بكونه ذا مصلحة ، والمانع هو استحالة الطلب في مثل المقام.

هذا كلّه فيما إذا كان القيد دخيلا في ترتّب المصلحة على المتعلّق ، وأمّا إذا كان دخيلا في الاتّصاف ، فلا مناص من كون البعث والطلب معلّقا ومشروطا

٣٣

بحصوله ، سواء كان اختياريّا أو غير اختياري ، إذ لا مقتضي للبعث الفعلي ، بل هو لغو بعد ما كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات.

نعم ، الشوق النفسانيّ ربما يتعلّق به فعلا لكونه متّصفا بالمصلحة في ظرف حصول القيد ، لإمكان تعلّق الشوق بمثل ذلك ، لكنّه غير الوجوب.

وبذلك يظهر أنّ الأقسام ليست بمنحصرة بما ذكر في التقريرات.

توضيح ذلك : أنّ الطلب في كلامه إن كان المراد منه الإنشاء ، فمن الواضح استحالة تعليقه ، لأنّه إمّا أن يحصل أو لا.

وإن كان المراد به الشوق النفسانيّ ، فهو وإن كان ممكن التعلّق فعلا بالأمر المستقبل ، إلّا أنّه خارج عن محلّ الكلام كالإنشاء ، إذ محلّ الكلام هو الوجوب وأنّه هل يمكن تعليقه أو لا يمكن ، فالشوق والإنشاء خارجان عن محلّ الكلام.

وإن كان المراد به الوجوب ـ كما هو الظاهر من كلامه ـ فالبعث يكون فعليّا على تقدير دخالة القيد في ترتّب المصلحة وعدم المانع من فعليّة البعث ، وإلّا فإن كان دخيلا في الاتّصاف أو في الترتّب وكان مانع من البعث الفعلي ، فلا محالة يكون الوجوب ـ وهو المعتبر ـ معلّقا ومشروطا بحصول القيد ، إذ في الأوّل يكون لغوا ، وفي الثاني مستحيل.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالواجب المشروط وإمكانه ، بقي الكلام فيما تعرّض له صاحب الكفاية بقوله : «إن قلت : فما فائدة الإنشاء» (١) إلى آخره.

وحاصل الإشكال : أنّه لو لم يكن طلب فعلا ، فلا حاجة إلى إنشائه

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٤.

٣٤

أيضا ، بل الإنشاء لغو ، كما هو واضح.

وجوابه : أنّه قد لا يقدر على الإنشاء حين وجود المصلحة ، كما في الوصيّة والتدبير ، إذ ليس الموصي قادرا على الإنشاء حين وجود المصلحة ، لأنّه ميّت حينئذ ، وكما إذا قال : «إذا نمت فلا يدخل أحد عليّ» لوضوح أنّه عند النوم لا تكون له القدرة.

هذا ، مع أنّ الخطاب على نحو القضايا الحقيقيّة ، كما في الكفاية.

ثمّ إنّ ما في الكفاية ـ من قوله : «غاية الأمر تكون في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدّمة» (١) إلى آخره ـ إن كان المراد منه أنّه بعد وجود شرط الوجوب لا تكون المقدّمة واجبة مطلقة ، فهو حقّ ، إذ لا ينقلب الواجب المشروط عن كونه واجبا مشروطا بوجود مقدّمته ، فإذا لم يكن واجبا مشروطا (٢) فكيف يتعلّق بمقدّماته الوجودية وجوب مطلق مع لزوم ترشّح سنخ الوجوب المتعلّق بالواجب!؟ فلا بدّ من كون وجوب المقدّمة الوجوديّة وجوبا مشروطا.

وإن كان المراد أنّه قبل وجود مقدّمة الوجوب تكون المقدّمات الوجوديّة واجبة مشروطة ، فهو في حيّز المنع ، إذ بعد عدم طلب فعليّ كيف يترشّح الوجوب مع أنّه ليس هناك إلّا إنشاؤه!؟ فتدبّر.

ثمّ اعلم أنّ الحقّ كون التعلّم واجبا نفسيّا طريقيّا ، لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٣)(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(٤).

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٥.

(٢) كذا ، والظاهر : مطلقا.

(٣) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

(٤) التوبة : ١٢٢.

٣٥

وقوله : «هلّا تعلّمت» (١) بعد سؤاله عن العمل ، وغيرها من الآيات والروايات الشاملة بإطلاقها للواجب المطلق والمشروط ، الظاهرة في أنّ التعلّم واجب نفسي.

فلو قلنا بالوجوب النفسيّ ـ كما قال به الأردبيلي وصاحب المدارك (٢) ـ فلا كلام ، وأمّا لو لم نقل بالوجوب النفسيّ ، فقد يقال بأنّه لا مانع من وجوبه بحكم العقل.

توضيحه أنّه قد يكون التعلّم من المقدّمات المفوّتة ، ولا يمكنه الاحتياط ، كما إذا علم أنّه لو لم يتعلّم ينسى الواجب في ظرفه فلم يقدر على الاحتياط ، وكما إذا دار الأمر بين المحذورين ، كما في الشكّ بين الثلاث والأربع ، فإنّه لا يقدر على إتيان ركعة منفصلة ومتّصلة معا ، أو لم يسع الوقت للاحتياط ، لكثرة أطرافه.

وقد يكون قادرا على الاحتياط في ظرفه.

ففيما إذا كان قادرا على الاحتياط قد يقال : إنّ التعلّم قبل حصول الشرط لا يجب ، لعدم وجوب ذيها ، وبعد حصول الشرط ـ وإن كان لا يتمكّن من التعلّم لكنّه يتمكّن من الاحتياط ـ فبأصل البراءة وقبح العقاب بلا بيان يرفع ، فلا يجب التعلّم.

وهو مدفوع : بأنّه حيث لا يكون لدليل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في المقام حكومة على دليل وجوب دفع الضرر المحتمل ـ كما يكون كذلك في الواجبات الشرعيّة ـ نقول بالبراءة العقليّة فيها من هذه الجهة.

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ـ ٦ وعنه في البحار ٢ : ٢٩ ـ ١٠.

(٢) انظر مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠ ، ومدارك الأحكام ٣ : ٢١٩.

٣٦

والسرّ في عدم حكومته في المقام هو : أنّ دليل القبح إنّما يكون في مورد عدم البيان ، وليس البيان من طرف المولى فيما نحن فيه إلّا جعل الأحكام في منظر المكلّفين ومرآهم ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك في تمامية البيان ، فبمقتضى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل يجب التعلّم قبلا ، فتأمّل.

وأمّا ما لا يقدر على الاحتياط في ظرفه فداخل في المقدّمات الوجوديّة المفوّتة بل هو عينها.

فظهر أنّ التعلّم ليس خارجا عن المقدّمات المفوّتة مطلقا ـ كما التزم به شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بل إنّما يخرج عنها لو كان التكليف به في ظرفه ممكنا لإمكان الاحتياط أو شكّ في إمكان الاحتياط وعدمه ، وأمّا لو لم يمكن ، فهو داخل في المقدّمات المفوّتة قطعا.

وبعد ذلك يقع الكلام في المقدّمات المفوّتة ، ولا بدّ من تقديم مقدّمتين :

الأولى : أنّ لنا قاعدة عقليّة معروفة ، وهي : أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، ويستدلّ بهذه القاعدة في مقامين :

الأوّل : في ردّ الأشاعرة القائلين بأنّ الأفعال الصادرة عن العبيد لا تكون إلّا عن قسر وجبر ، بل كلّ شيء فرض في العالم لا يخلو عن وجهين : إمّا واجب أو ممتنع ، إذ الشيء إمّا أن توجد علّته التّامّة ، فيكون ضروريّ الوجود ، وإمّا أن لا توجد ، فيكون ممتنع الوجود ولا واسطة في البين ، فأين ممكن الوجود؟ فالموجودات والمعدومات أمرها دائر بين ضرورة الوجود وامتناعه ، وأفعالهم أيضا من هذا القبيل.

والجواب عنه ـ كما عن المتكلّمين ـ : أنّ وجوب الوجود وامتناعه وإن

٣٧

كان من جهة وجود العلّة وعدمها إلّا أنّ من أجزاء العلّة هو الاختيار الّذي هو فعل من أفعال النّفس ، فالعبد إمّا أن يختار الوجود بعد تماميّة باقي أجزاء العلّة ، فيصير الفعل واجب الوجود وضروريّ الوجود بالاختيار ، وإمّا أن يختار العدم والترك ، فيصير الفعل ممتنع الوجود بالاختيار ، والامتناع أو الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ففي الحقيقة أمر الوجوب والامتناع يكون بيد العبد ، فمتى اختار الوجود فيوجد علّته فيجب وجوده ، ومتى اختار الترك والعدم يكون ممتنع الوجود.

ثمّ اعلم أنّ المخالف في هذا المقام جميع الأشاعرة.

المقام الثاني : في ردّ مقالة أبي هاشم ـ وهي أنّه لو كان اختيار أمر شيء بيد العبد أوّلا فاختار الوجود أو العدم ، وبعد ذلك خرج عن تحت اختياره بحيث لو اختار بعد ذلك خلاف ما اختاره أوّلا من الوجود أو العدم ومن الفعل أو الترك ، لم يقدر على ذلك ، لا مانع من الخطاب بعد أن خرج عن تحت اختياره بالاختيار ، كما إذا قصد قتل أحد وأخرج السهم من القوس أو ألقاه من شاهق ، فإنّ الفاعل بعد ذلك لا يقدر على إمساك السهم أو الملقى من الشاهق ـ فيجيبون عنها بهذه القاعدة ، وأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا خطابا ، إذ لا يمكن عقلا الخطاب بالحفظ والنهي عن القتل ، لأنّه قبيح حينئذ ، ولكن هذا لا ينافي استحقاق العقاب على القتل ، فالامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لكن عقابا لا خطابا. والفرق بين المقامين واضح.

ولا شبهة في أنّ العقلاء يرون هذا الشخص مستحقّا للعقاب مع تقبيحهم الخطاب ب «لا تفعل» أو نحوه.

المقدّمة الثانية : أنّه قد سبق منّا قريبا أنّ الشروط والقيود على قسمين ،

٣٨

لأنّ منها ما لها دخل في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، ومنها ما لها دخل في حصول المصلحة وتحقّقه.

واشتراط القدرة في التكاليف أيضا على قسمين ونحوين ، لأنّها تارة تكون دخيلة في حصول المصلحة ووجودها.

وبعبارة أخرى : تارة يكون الفعل تامّ المصلحة من جميع الجهات ، ولكنّ القدرة تحسّن الخطاب ، وتكون شرطا في حسنه.

وبعبارة أخرى : الفعل يتّصف بالمصلحة بدونها أيضا ، كلزوم شرب الدواء للمريض ، كان قادرا أم لا ، لكن لا يحسن تكليفه عقلا بذلك عند عدم قدرته عليه ، فإنّ العقل يقبّح تكليف العاجز ، وهذا معنى القدرة العقلية ، وأغلب الأحكام تكون القدرة فيها شرطا بحسب العقل في ظرف الامتثال.

مثلا : صوم شهر رمضان (١) يكون تامّ المصلحة من أوّل الليل بحيث لو كان العبد قادرا على إيجاد اليوم في الليل والصوم فيه ، لما كان نقص في مصلحته ، ولكن حيث يكون هذا الأمر محالا وغير مقدور للمكلّف ، فلا يكون الخطاب ب «صم» حسنا من المولى ، وهذا القسم من القدرة يسمّى بالقدرة العقليّة.

وأخرى يكون للقدرة دخل في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، كما في القدرة على الحجّ ، فإنّها دخيلة في اتّصاف الحجّ بكونه ذا مصلحة ، وغير المستطيع لا تكون مصلحة ملزمة في حجّة ، فلو حجّ متسكّعا وبعد ذلك استطاع ، لا يجزئ هذا الحجّ التسكّعي عن حجّة الإسلام ، وكما في القدرة على الوضوء ، فإنّ غير واجد الماء ومن لا يتمكّن من استعمال الماء لا يتّصف

__________________

(١) الظاهر أنّ هذا المثال ليس مثالا لهذا القسم. (م).

٣٩

وضوؤه بكونه ذا مصلحة ملزمة ، والكاشف عنها أخذها في لسان الدليل ، كما في الحجّ والوضوء ، وهذا القسم من القدرة يسمّى بالقدرة الشرعية.

وهي على أقسام ثلاثة ، لأنّها تارة يكون وجودها في وقت من الأوقات ـ كالتعلّم قبل الصلاة ولو قبل حصول شرط الوجوب ـ موجبا لاتّصاف الواجب بالمصلحة في زمانه ، فالقدرة في وقت ما كافية في اتّصاف الفعل بالمصلحة في ظرفه.

وأخرى تكون القدرة في زمان الوجوب قبل زمان الواجب موجبة لذلك ، كالاستطاعة ، فإنّ حصول الاستطاعة قبل مجيء أيّام الحجّ يصير موجبا لوجوبه فيها ، والقدرة قبل مجيء أيّام الحجّ دخيلة في اتّصاف الحجّ في ظرفه وأيّامه بالمصلحة.

وثالثة تكون القدرة في زمان الواجب موجبة لذلك ، وسيتّضح الفرق بين القسمين الأخيرين عند بيان أحكامهما.

فنقول : أمّا ما كان القدرة المأخوذة فيه قدرة عقلية فلا محالة تكون المصلحة موجودة في ظرفه ، فيجب على المكلّف حفظ هذه القدرة بمعنى أنّه ليس له أن يعجز نفسه حتى يفوت الواجب في ظرفه ، وإن فعل ، كان معاقبا ، لأنّ الفوت مستند إلى اختياره ، فامتناع تحصيل الغرض في زمان الواجب يكون بالاختيار ، وهو لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان لا يمكن تكليفه وينافيه خطابا كما عرفت في المقدّمة الأولى ، وهذا كحفظ الماء لمن يعلم بعطش مولاه غدا وعدم تمكّنه من الماء فيه ، أو عدم النوم لأن يصلّي في الوقت لمن يعلم أنّه لو نام لما يستيقظ إلى مضيّ الوقت.

وأمّا ما كان القدرة المأخوذة فيه قدرة شرعيّة ، فالقسم الأوّل منها كذلك

٤٠