الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

بنفس الطبيعة ولو بلحاظ الأفراد المقدورة ، وحينئذ إن أتى بالفرد المزاحم ، يصحّ ، لأنّ تطبيق الطبيعة على هذا الفرد قهريّ ، والإجزاء عقليّ ، ففيه : أنّ تطبيق نفس الطبيعة لا يفيد في كون الفرد مأمورا به ، وتطبيق الطبيعة المأمور بها على الفرد المزاحم أوّل الكلام.

المقدّمة الثالثة التي هي من أهمّ المقدّمات ، وبهذه يتّضح أنّ لازم الترتّب ليس هو طلب الجمع حتّى يكون مستحيلا. والكلام في أمرين :

الأوّل : أنّ انحفاظ الخطاب وفعليّته على تقدير وفي حالة إمّا أن لا يقتضي وضع هذه الحالة ولا رفعها ، بل الأمر محفوظ والحكم فعليّ على هذا التقدير وعند وجود تلك الحالة فقط من دون اقتضاء للتكليف بتحصيل هذه الحالة. وهذا في جملة من الموارد :

منها : في التقسيمات الأوّليّة السابقة على الخطاب.

مثلا : خطاب وجوب الحجّ محفوظ وفعليّ على تقدير حصول الاستطاعة ولكن لا يقتضي لا التكليف بتحصيلها ولا بعدمه.

ومنها : في التقسيمات الثانوية اللاحقة بالخطاب ، كانحفاظ الخطاب على تقدير العلم والجهل ، فإنّ الأمر بوجوب الصلاة فعليّ والخطاب محفوظ على كلا التقديرين ، ولا يقتضي لا رفع شيء منهما ولا وضعه.

وإمّا أن يقتضي رفع تلك الحالة أو وضعها ، وهذا كما في انحفاظ الخطاب وفعليّته حال الامتثال والعصيان ، فإنّ الخطاب عند الامتثال محفوظ ، ضرورة أنّه لا معنى لسقوط الأمر مع حصول الامتثال أو العصيان ، إذ الامتثال أو العصيان لا يعقل مع عدم الأمر ، ومع السقوط أيّ أمر يمتثل أو يعصى؟.

الأمر الثاني : أنّ الخطابين إن كانا واردين على تقدير واحد ، مثل : «إذا قمت في ساعة كذا فاقرأ فاتحة الكتاب» و «إذا قمت في تلك الساعة بعينها

١٦١

تصدّق بدرهم» فلا إشكال في أنّ مقتضاهما طلب الجمع ، وهذا واضح ، إذ بعد حصول القيام يبعث المولى ويحرّك نحو القراءة والتصدّق معا ، وهكذا إذا كان الخطابان مطلقين. فحينئذ إذا كان بين المتعلّقين التمانع والتضادّ ، ففي كلتا الصورتين مقتضاهما طلب الجمع ، كما إذا امر بالتكلّم في ساعة كذا وامر بالسكوت فيها ، سواء قيّد كلّ من الخطابين بصورة القيام أو كان مطلقا.

وإن كان أحدهما واردا على تقدير والآخر على تقدير آخر ، كما إذا كان الأمر بالتكلّم في المثال على تقدير القيام والأمر بالسكوت على تقدير القعود ، فمن الواضح أنّ انحفاظ الخطاب في مثل هذه الصورة لا يقتضي طلب الجمع.

وهكذا إذا كان أحد الخطابين محفوظا على تقدير عدم امتثال الخطاب الآخر وعصيانه ، كانحفاظ خطاب المهمّ على تقدير عصيان خطاب الأهمّ ، فإنّ الأمر بالإزالة وإن كان مطلقا وفعليّا حتّى في حال الاشتغال بالصلاة ، فدائما يقول : «بطّل صلاتك وأزل» إلّا أنّ الأمر بالصلاة يقول : «إن كنت لا تريد الإزالة ولا تشتغل بها وتعصي أمرها ، فلا يجوز لك باقي الأضداد ، بل يجب عليك هذا الضدّ الخاصّ الّذي هو الصلاة ، وأمّا إن كنت تريد الإزالة في أيّ حالة من الحالات وآن من الآنات ، فلا أطلب منك الصلاة» فالخطاب بالأهمّ يقتضي امتثاله وعدم العصيان ، والخطاب بالمهمّ لا يقتضي لا وضع موضوعه الّذي هو العصيان ، ولا رفعه ، إذ يستحيل أن يكون الحكم مقتضيا لموضوعه ، فالخطاب بالأهمّ ناظر إلى رفع موضوع خطاب المهمّ وهدمه ، بخلاف خطاب المهمّ ، فإنّه لا ينظر إلى ذلك ، بل إلى شيء آخر على ذلك التقدير ، فلا الخطاب بالمهم يترقّى ويصل إلى مرتبة خطاب الأهمّ من اقتضاء موضوعه ، ولا خطاب الأهمّ يتنزّل ويقتضي شيئا آخر غير هدم موضوع خطاب المهمّ ، فلا يرجع انحفاظ

١٦٢

الخطابين في ظرف العصيان إلى طلب الجمع ، بل خطاب المهمّ يكون في طول الآخر لا في عرضه.

ونظير ذلك : أنّ الأب يأمر ابنه بالمشي إلى المدرسة ، ويقول : لو عصيت ولم تمض إلى المدرسة فاشتغل بالكتابة ولا تلعب ، فإنّ كلا الخطابين فعليّان ، غاية الأمر أنّ أحدهما في طول الآخر ، فأين هناك طلب الجمع؟ وقد عرفت أنّ محذور الترتّب ليس إلّا توهّم أنّ لازمه طلب الجمع ، فإذا بطل ذلك ، فلا بدّ من القول به ، لما عرفت من إمكانه الملازم لوقوعه.

ولكن ربما يقال ويتوهّم أن ليس المحذور طلب الجمع ، بل نفس طلب الضدّين مستحيل بإيراد نقضين :

الأوّل : أنّه لو فرضنا أنّ الصلاة المقيّدة بعدم الإزالة مأمور بها ، وفرضنا أنّ المكلّف يمكنه الجمع بينهما ، يستحيل طلبهما مع أنّ الجمع بينهما ممكن على الفرض ، فمن ذلك يستكشف أنّ نفس طلب الضدّين مستحيل وإن كان الجمع ممكنا ، وليست الاستحالة ناشئة من طلب الجمع حتّى ترتفع برفعه.

وجوابه واضح لا يحتاج إلى البيان ، فإنّ الصلاة المقيّدة بعدم الإزالة إن كانت مأمورا بها ، ففي الحقيقة متعلّق الأمر أمران : الصلاة وترك الإزالة ، فأمر الإزالة يقول : «أزل» وأمر الصلاة المقيّدة بالإزالة يقول : «لا تزل وصلّ» ومقتضى فعليّة الأمرين طلب الجمع بين النقيضين ، وهو أوضح استحالة من طلبه بين الضدّين.

الثاني : أنّه لو فرضنا أنّ المولى أمر بالحركة إلى كلّ من جانب الشرق والغرب على تقدير ترك الآخر ، فلو ترك امتثال كلّ من الخطابين ولم يتحرّك إلى شيء من الطرفين ، فهو مأمور حينئذ بالجمع بينهما ، لحصول شرط كلّ من

١٦٣

الخطابين ، وهو مستحيل.

وجوابه يظهر من المقدّمة الأولى من أنّ الواجب المشروط لا ينقلب مطلقا بعد حصول شرطه ، فإذا كان كلّ من الخطابين مشروطا بعدم الآخر وهادما لموضوع الآخر ، فأين هناك طلب الجمع؟ وهذا ترتّب من الطرفين.

ونظيره في التكوينيّات هو : أن يكون هناك مقتضيان : أحدهما يقتضي تحريك جسم مطلق إلى طرف الشرق ، والآخر يقتضي تحريكه إلى جانب الغرب ، ولكن كلّ منهما يؤثّر عند عدم تأثير الآخر ، فتحريك هذا متوقّف على عدم تحريك ذاك وبالعكس ، وحينئذ هل يعقل اقتضاء تحريكهما والمزاحمة بينهما!؟

بقي إشكالان أوردا في المقام :

[الأوّل :] أنّ القدرة من شرائط التكليف ، وكلّ خطاب فعليّ لا بدّ وأن يكون متعلّقه مقدورا للمكلّف ، ومن المعلوم أنّه لا يقدر على متعلّق كلّ من خطاب الأهمّ والمهمّ ، فإنّ الخطابين يحتاجان إلى قدرتين ، فلا يمكن محفوظيّة كلّ منهما وفعليّته.

وجوابه : أنّ الإزالة الواجبة على كلّ تقدير مقدورة للمكلّف على كلّ تقدير ، والصلاة الواجبة على تقدير ترك الإزالة مقدورة على ذلك التقدير ، فمتعلّق كلا الخطابين مقدور للمكلّف ، ولا يلزم أن يكون كلا الفعلين مقدورين ، إذ ليس الجمع بينهما مأمورا به حتّى يلزم كون المكلّف قادرا على كليهما ، وهذا واضح جدّاً.

وظهر ممّا ذكرنا أنّ الترتّب إنّما يجري فيما إذا كان الضدّان ممّا لهما ثالث ، وأمّا فيما ليس لهما ثالث ـ كالحركة والسكون ـ فلا يجري الترتّب أصلا ،

١٦٤

لأنّ فرض عصيان أحد الأمرين كالأمر بالحركة فيهما هو فرض ثبوت متعلّق الأمر الآخر ، وهو السكون في المثال ، فطلب السكون على تقدير عصيان الأمر بالحركة طلب للحاصل.

وربما يتوهّم أنّ الإزالة والصلاة تكونان من هذا القبيل ، أي : تكونان من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فلا يجري الترتّب فيهما وإن جرى في غيرهما ، وذلك لأنّ فرض عصيان الأمر بالأهمّ ـ وهو إبطال الصلاة والاشتغال بالإزالة حال اشتغال المكلّف بالصلاة ـ هو بعينه فرض تحقّق الصلاة وثبوتها ، ومن المعلوم أن لا واسطة بين عدم إبطال الصلاة والصلاة.

وفيه أوّلا : أنّ الأمر بالأهمّ ليس هو الأمر بإبطال الصلاة ، بل الأمر بالأهمّ هو الأمر بالإزالة ، وليست الإزالة والصلاة من الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

وثانيا : سلّمنا أنّ أمر الأهمّ هو الأمر بإبطال الصلاة لكنّ الإبطال المأمور به هو الإبطال الملازم مع الإزالة ، ويقابله الإبطال الملازم مع سائر الأفعال ، كالأكل والشرب وغير ذلك. فانقدح أنّ الإزالة والصلاة من الضدّين اللذين لهما ثالث.

الإشكال الثاني : أنّه إذا عصى المكلّف كلا الأمرين ، فإن عوقب بعقاب واحد ، فلازمه أن لا يكون هناك إلّا أمر واحد ، وإن عوقب بعقابين ، فلازمه أن يكون مأمورا بالجمع بين الضدّين.

وفيه : أنّه يعاقب على الجمع في الترك ، فإنّه كان قادرا على الإزالة وحدها وقد تركها ، فيستحقّ من ناحيته العقاب. وكذا كان قادرا على الصلاة في ظرف ترك الإزالة وتركها ، فيستحقّ العقاب من ناحيته أيضا ، فالعقاب على الجمع في الترك.

١٦٥

هذا تمام الكلام في تحقيق مقدّمات الترتّب ، واقتصرنا بالمقدّمات التي ذكرها شيخنا الأستاذ ، وبما لها ارتباط تامّ بالنتيجة.

ولنا طريق آخر إلى إثبات إمكان الترتّب غير متوقّف على المقدّمات المذكورة ، وهو : ما سلكناه في مقام الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ.

وحاصله : أنّ الحكم ـ سواء كان عبارة عن البعث والزجر أو اعتبار اللابدّيّة أو إلقاء المادّة إلى المكلّف أيّا ما كان ـ ليس بين الإنشاءين ولا بين الاعتبارين تضادّ أصلا ، بل التضادّ المعروف في الحكمين بل الأحكام بأسرها إمّا يكون في مبدأ الحكمين أو في منتهاهما.

ففي مثل اجتماع الأمر والنهي إنّما يكون التضادّ في المبدأ ، إذ الأمر إنّما ينشأ عن مصلحة ملزمة في المتعلّق ، والنهي ينشأ عن مفسدة ملزمة فيه أيضا ، ولا يمكن للمولى الجمع بينهما ، لأنّه لا يمكن أن يتّصف فعل واحد بالمصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة في زمان واحد ، وفي مثل وجوب الإزالة والصلاة في زمان واحد يكون التضاد في المنتهى وفي مقام الامتثال ، وذلك لأنّ كلّا من الإزالة والصلاة يمكن أن يكون في حدّ نفسه له مصلحة ملزمة ، فلا تضادّ بين الوجوبين في المبدأ ومنشأ الحكمين ، وإنّما التضادّ يكون في المنتهى وفي مقام الامتثال ، فإنّ العبد لا يقدر على امتثال كلا الأمرين في زمان واحد ، فطلب الجمع بينهما والأمر بهما معا موجب لتحيّر العبد في مقام الامتثال ، فإنّ العبد ـ ولو كان في غاية الخضوع والخشوع وفي مقام الإطاعة والانقياد ـ لا يقدر على امتثال كلا الأمرين ، ويبقى متحيّرا ، فلا يمكن جعل مثل هذا الحكم الموجب للتحيّر.

وأمّا إذا جعل الحكم بنحو لا يكون تضادّ في المبدأ ولا في المنتهى

١٦٦

ولا يكون موجبا لتحيّر العبد فلا مانع من الجعل ، ولذا قلنا في باب الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ : إنّه لا مانع من كون شيء حراما واقعا ومباحا أو واجبا ظاهرا حيث لا تضادّ بين الحكمين لا في المبدأ ولا في المنتهى.

أمّا في المبدأ : فلأنّ الحرام الواقعيّ متمحّض في المفسدة الملزمة ، والوجوب أو الإباحة ، الظاهريّ مسبّب عن مصلحة الجعل ، لا المصلحة الكائنة في نفس الفعل حتّى يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين في الفعل في زمان واحد الّذي يكون مستحيلا.

وأمّا في المنتهى : فلأنّ الحكم الواقعيّ إذا لم يصل إلى المكلّف ، فلا بعث ولا فعليّة له حتّى يكون مجبورا وملزما على امتثاله ، وإن وصل إليه ، فلا موضوع للحكم الظاهريّ أصلا ، فلا يجب عليه إلّا امتثال الحكم الواقعيّ ، فلا يسلب القدرة عنه ولا يبقى متحيّرا في مقام الامتثال. ومسألتنا هذه أيضا تكون من هذا القبيل ، لأنّه لا تضادّ بين منشأ الحكمين ومبدئهما ، إذ من الواضح أنّه لا مانع من وجود المصلحة الملزمة في متعلّق الأمر بالأهمّ والمهمّ كليهما ، وكذا لا تضادّ بين الحكمين في المنتهى وفي مقام الامتثال إذا كان الأمر بالمهمّ في طول الأمر بالأهمّ وبنحو الترتّب ، لا أن يكون الأمران في عرض واحد ، فإنّه إذا اشتغل بالأهمّ ، فلا موضوع للمهمّ ، وإن عصى ، فهو قادر ـ حال كونه عاصيا ـ على امتثال المهمّ ، إذ موضوع الأمر بالمهمّ هو العاصي ، فما دام العنوان باقيا فهو مأمور بامتثال أمر المهمّ ، فلا يبقى متحيّرا في مقام الامتثال ، لقدرته على امتثال كلا الأمرين كلّ في ظرفه.

فالحقّ الحقيق بالتصديق ما أفاده شيخنا الأستاذ من أنّ تصوّر الترتّب ملازم مع تصديقه ، ولا يحتاج بعد تصوّره إلى مئونة البرهان أصلا.

١٦٧

ثمّ إنّ في الشريعة المقدّسة فروعا متّفقا عليها لا يمكن تصحيحها إلّا على الترتّب ، نظير ما إذا كان أحد في السفر وانتهى إلى بلدة يحرم إقامته فيها أو يجب السفر عنها عليه فعصى وقصد الإقامة ، فلا شبهة ولا خلاف بين الأصحاب : أنّ وظيفته التمام ، وهذا الحكم ممّا لا يصحّ إلّا بالترتّب ، لأنّ وجوب الصلاة [تماما] يزاحم الأمر بالسفر ووجوبه أو حرمة الإقامة ، فلا يمكن الحكم بوجوب إتمام إلّا على صحّة الترتّب ، وأنّ موضوع الأمر بالتمام هو العاصي للأمر بالسفر أو النهي عن الإقامة. ونظير هذا كثير في الفقه.

بقي التنبيه على أمرين :

الأوّل : أنّ الترتّب إنّما يجري في الواجبين اللذين أخذت القدرة فيهما بحكم العقل ، نظير الصلاة والإزالة ، فإنّ القدرة فيهما ليست شرعيّة بل عقليّة ، لا فيما أخذت القدرة في موضوعهما شرعا وقيّد بها في لسان الشرع ، كما في باب الوضوء والتيمّم في قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(١) وذلك لأنّ المكلّف قسّم بالواجد والفاقد ، وحكم بوجوب الوضوء على الواجد والتيمّم على الفاقد. فلا يصحّ الوضوء من الفاقد ، لا من جهة الملاك ، لأنّ التقييد بالوجدان كاشف عن عدم الملاك عند الفقدان ، وأنّ الوضوء حكم لواجد الماء لا لفاقده ، ولا من جهة الترتّب ، لأنّ موضوع الوضوء هو الواجد شرعا وموضوع التيمّم هو الفاقد ، سواء كان تكوينا أو شرعا ، كما إذا كان الماء موجودا ولكن يتوقّف حفظ نفس محترمة على شرب هذا الماء الموجود ، فحينئذ يكون المكلّف فاقدا للماء شرعا ، فإذا عصى ولم يحفظ النّفس المحترمة بإعطاء هذا الماء إيّاها ، فلم يخرج عن عنوان الفاقد ،

__________________

(١) المائدة : ٦.

١٦٨

فلا يمكن توجيه الخطاب الترتّبيّ نحوه ، بأن يقال : «أيّها الفاقد للماء تيمّم ، فإن عصيت فتوضّأ» لأنّ حكم الوضوء مساوق للواجديّة شرعا ، فبعد حكم الشارع بكونه فاقد الماء يكون معنى هذا الخطاب أنّه «أيّها الفاقد الواجد توضّأ» ولا يمكن الحكم بالواجديّة في ذلك الحين الّذي حكم بفاقديّته ، فما ذهب إليه السيّد الطباطبائي في عروته من الحكم بصحّة الوضوء على تقدير العصيان (١) ، ممّا لا وجه له.

ونظير ذلك : وجوب الحجّ ، فإنّ موضوعه هو المستطيع ، فإذا كان أحد عنده مال بقدر الكفاية للحج لكن يكون عليه دين أو عنده من تجب عليه نفقته ، لا يكون هذا الشخص مستطيعا عند الشارع ، وحيث قسّم المكلّف إلى المستطيع وغير المستطيع وحكم بوجوب الحجّ على الأوّل دون الثاني ، فمن هذا يستكشف أن لا ملاك لوجوبه على غير المستطيع ، فإن عصى هذا المكلّف ـ الّذي عنده مال بقدر الكفاية للحجّ لكن يجب عليه إنفاقه على من تجب نفقته عليه ـ وحجّ ، لا يكفي عن حجّة الإسلام ، لعدم وجود الأمر بالحجّ ولو على نحو الترتّب ، لأنّه لا يخرج بواسطة عصيان أمر «أنفق على زوجتك» مثلا عن عنوان غير المستطيع شرعا ، ولا يدخل تحت عنوان المستطيع حتّى يكفي عن حجّة الإسلام.

الأمر الثاني : أنّ من المسلّم المحقّق أنّ الجهر موضع الإخفات وبالعكس والإتمام موضع القصر يكونان مسقطين للواجب في حقّه إذا كان عن جهل ، وهذا ممّا لا كلام فيه وإنّما الكلام في أنّه قد اتّفقت الكلمات على أنّه إذا

__________________

(١) ذهب السيّد الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في العروة ـ عند ذكر المسوّغ السادس للتيمّم ـ إلى بطلان الوضوء إذا كان التيمّم متعيّنا ، واعترف به السيّد الخوئي ـ قدس‌سره ـ في المحاضرات ٣ : ١٠١ في مقام الاعتراض على هذه النسبة للسيّد الطباطبائي قدس‌سره.

١٦٩

كان الجهل عن تقصير ، يسقط الأمر ، ولا تجب الإعادة ولا القضاء ، لكنّ المكلّف يكون مستحقّا للعقاب ، لمكان التقصير ، ولذا وقعوا في حيص بيص : أنّ الصلاة إن كانت صحيحة ، فما معنى لاستحقاق العقاب على إتيانها كذلك؟ وإن كانت فاسدة ، فلم لا تجب الإعادة ولا القضاء؟

ودفع هذا الإشكال الشيخ كاشف الغطاء (١) بتصحيحها بالترتّب ، وأنّ موضوع صلاة التمام أو الجهر موضع الإخفات وبالعكس عند الجهل بالحكم إذا كان عن تقصير هو العاصي لأمر الصلاة قصرا ، وهكذا بالقياس إلى الجهر والإخفات ، فلا إشكال في البين.

والشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه أجاب بأنّا لا نقول بالترتّب (٢).

وشيخنا الأستاذ تصدّى لإخراجهما عن مسألة الترتّب بوجوه ثلاثة (٣) :

الأوّل : أنّ الترتّب إنّما يجري في الواجبين اللذين لا يكون بينهما تزاحم بحسب الجعل الأوّليّ ، كما في الإزالة والصلاة ، فإنّ الإزالة إنّما تجب مع عدم وجوب الصلاة أو وجوبها ، وإمكان الجمع بينهما وكذلك الصلاة.

نعم قد يتزاحمان فيما إذا وجبت الصلاة والإزالة مع عدم إمكان الجمع بينهما ، فحينئذ نقول : إنّ كلتيهما واجبتان بنحو الترتّب ، وأمّا فيما كان بحسب أصل الجعل بينهما تزاحم ، فلا يمكن التصحيح بالترتّب ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الجهر والإخفات والقصر والتمام لو جعلا في عرض واحد دائما يكونان متزاحمين ، ولا يمكن تصحيح الجعل فيهما بالترتّب.

وفيه : أنّه لم يدلّ دليل على اختصاص الترتّب بما لم يكن التزاحم إلّا

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٧.

(٢) فرائد الأصول : ٣٠٩.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣١٠.

١٧٠

اتّفاقيّا ، بل الملاك والميزان في جريان الترتّب هو إمكان رفع طلب الجمع بالترتّب ، فكلّما أمكن رفع هذا المحذور بالترتّب يجري الترتّب ، كان التزاحم بين الواجبين دائميّا أو اتّفاقيّا.

الوجه الثاني : أنّ الترتّب إنّما يجري فيما إذا كان عصيان أحد الخطابين دخيلا في موضوع الخطاب الآخر ، وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ المفروض أنّ العصيان للجهر ليس شرطا للإخفات ، بل الشرط هو الجهل.

وفيه : أنّ العمدة في باب الترتّب هو الجمع بين الحكمين بحيث لا يلزم منه طلب الجمع ، كان الشرط العصيان أو صرف الترك.

نعم ، في بعض المقامات لا يصحّ الترتّب إلّا بجعل العصيان شرطا ، وهذا ليس إلّا من باب الاتّفاق ، وإلّا فجريان الترتّب غير منحصر بهذا المورد.

الوجه الثالث : أنّ الترتّب إنّما يجري في الضدّين اللذين يكون لهما ثالث ، بخلاف المقام ، فإنّ الجهر والإخفات والقصر والإتمام يكونان من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فلا يجري الترتّب فيهما.

وفيه : أنّ هذا الكلام وإن كان بظاهره متينا ، إلّا أنّه في الواقع ملحق بالوجهين الأوّلين ، وذلك لأنّ الواجب ليس هو الإخفات في الصلاة أو الجهر ، بل الواجب هو القراءة الجهريّة والإخفاتيّة ، لا قراءة شيء آخر من شعر أو نثر أو غير ذلك ، فضدّ القراءة جهرا ليس منحصرا بالقراءة إخفاتا ، فالحقّ ما ذهب إليه الشيخ كاشف الغطاء.

١٧١
١٧٢

فصل :

في عدم جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه وجوازه.

فنقول : لا يخفى أنّ الأوامر على قسمين : أوامر بعثيّة وأوامر امتحانيّة.

أمّا الأوامر الامتحانيّة : فلا شبهة في جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط ، لأنّ المولى ليس غرضه من الأمر إتيان المأمور به في الخارج ، بل المصلحة قائمة بنفس الأمر.

وأمّا الأوامر الحقيقيّة البعثيّة : فتارة يقع البحث في شرائط الجعل ، وأخرى في شرائط المجعول.

أمّا شرائط الجعل ـ نظير الإرادة والشوق المؤكّد والعلم بالمصلحة وأمثالها التي تكون باعثة لجعل المولى حكما على طريق القضيّة الحقيقيّة ـ فلا شبهة في عدم إمكان تحقّق الجعل بدونها ولا مجال للكلام فيه أصلا ، فإنّ المولى ما لم ير في الفعل مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ولم يكن مريدا لتحقّق الفعل ووجوده في الخارج لا يتحقّق منه جعل أصلا.

وأمّا شرائط المجعول ، التي هي راجعة إلى موضوع الحكم ـ كما مرّ مرارا ـ فلا شبهة في عدم دخالتها في جعل المولى ، فإنّ المولى يجعل وجوب الحجّ على المستطيع ، سواء وجد في الخارج أم لا ، فليست الاستطاعة الخارجيّة شرطا لوجوب الحجّ ـ بمعنى جعله ـ حتّى يبحث عن أنّه مع العلم بانتفائه هل يجوز للآمر الأمر به أم لا؟

نعم ، إذا علم الآمر بأنّ شرائط المجعول لا توجد أبدا ، كما إذا أمر المولى

١٧٣

بالقصاص لمن قتل نفسا متعمّدا ، ويعلم أنّه لا يقع في الخارج قتل نفس أبدا ، يكون جعله هذا وأمره بالقصاص لغوا محضا إن لم تكن مصلحة لنفس هذا الجعل ، كأن يكون نفس هذا الجعل رادعا للعباد عن القتل.

نعم ، في القضايا الخارجية حيث كان الحكم لموضوع خارجيّ فيشترط تحقّقه بجميع شرائطه وقيوده خارجا ، وإلّا يصير الحكم لغوا إذا علم الأمر بانتفاء شرطه.

* * *

١٧٤

فصل :

في أنّ الأوامر هل هي متعلّقة بالطبائع أو الأفراد؟

ويمكن تصوير البحث على وجوه.

الأوّل : أن يكون مرجع البحث إلى أنّ الكلّيّ الطبيعيّ هل هو موجود في الخارج بنفسه أو ما في الخارج هو الفرد الّذي هو الحصّة الملازمة مع الكلّيّ الطبيعيّ؟

فإن قلنا بالأوّل ، فنقول : إنّ الأمر متعلّق بالطبيعة ، وإن قلنا بالثاني ، فنقول : إنّ الأمر متعلّق بالفرد.

ولا يخفى أنّ البحث عن هذا لا ربط له بالمسائل الأصوليّة ، وذلك لأنّ المطلوب بالأوامر هو ما يصدر من المكلّف خارجا ، كان اسمه الكلّيّ الطبيعيّ أو الفرد وإن كان التحقيق أنّ الموجود الخارجيّ هو نفس الطبيعة لا الحصّة الملازمة معها.

الثاني : أن يكون مرجع البحث إلى أنّ الماهيّة هل هي أصيلة أو الوجود؟ فمن قال بالأوّل ، فلا بدّ له من القول بتعلّق الأمر بالطبيعة ، ومن قال بالثاني ، فعليه القول بتعلّقه بالأفراد.

ولكن هذا الوجه أيضا كسابقه لا ينبغي أن يبحث عنه في الأصول ، ولا أثر عمليّ له أصلا.

الثالث : أنّه حيث إنّ الطبيعة لا توجد إلّا مشخّصة ومع اللوازم ، ولا يمكن تحقّقها مجرّدة عن جميع اللوازم والخصوصيّات ، فهل في صورة

١٧٥

تعلّق الأمر بها تكون اللوازم والمشخّصات أيضا متعلّقة للأمر أم لا تكون كذلك ، بل المطلوب هو صرف الوجود ونفس الطبيعة؟

وبعبارة أخرى : هل لوازم الطبيعة كنفسها متعلّقة للأمر أم لا؟

والبحث عنه يقع على وجهين :

أحدهما : أن يكون البحث عن أنّ اللوازم هل تكون مأمورا بها بالأمر المستقلّ؟ وهل يستلزم الأمر بالطبيعة أمرا بعوارضها ولوازمها ومشخّصاتها بأن يكون كلّ واحد منها مأمورا به بأمر مستقلّ أو لا؟

ولا يخفى أنّه لا يمكن المصير إلى هذا ولا يساعده البرهان ، بل الوجدان على خلافه حيث نرى من أنفسنا أنّا إذا أردنا شيئا ، لا نريد إلّا صرف إيجاد الطبيعة ، ولا نريد الطبيعة وكلّ واحد من لوازمها مستقلّا.

الثاني : أنّه هل تكون اللوازم مأمورا بها بأمر تبعي ضمنيّ ، كما في باب مقدّمة الواجب ، أو لا؟ وبعبارة أخرى : هل الأمر بالشيء كما يكون أمرا بمقدّماته الوجوديّة ضمنا وتبعا كذلك يكون أمرا بلوازمه ومشخّصاته ـ وإن لم تكن بمقدّمات له ـ كذلك ـ أي أمرا قهريّا تبعيّا ضمنيّا ـ أو لا؟ وهذا هو المعنى القابل للنزاع ، وله ثمرة مهمّة في بحث اجتماع الأمر والنهي.

ولا يخفى أنّا وإن اخترنا في بحث المقدّمة عدم وجوبها إلّا أنّه على تقدير القول به هناك لا نقول به هنا ، إذ الترشّح والسراية ـ التي تكون في باب المقدّمة لمكان التوقّف الّذي بينها وبين ذيها على تقدير القول به ـ لا تكون في المقام ، بداهة أن لا توقّف بين الشيء ولوازمه ، وصرف الملازمة في الوجود الخارجيّ لا يفي لإثبات الأمر التبعيّ للّوازم ، لما مرّ غير مرّة من أنّ الملازمة لا تقتضي أزيد من أن لا يكون أحد المتلازمين محكوما بحكم مخالف مع

١٧٦

[حكم] الآخر ، وأمّا لزوم اتّحادهما في الحكم فلا.

وثمرة هذا البحث في بحث اجتماع الأمر والنهي ، وهي أنّا لو قلنا بأنّ اللوازم محكومة بحكم نفس الطبيعة ، يتحقّق اجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد فيما إذا صلّى في الدار المغصوبة ، إذ الكون في المكان يكون من لوازم وجود الصلاة في الخارج ، فيكون ـ على القول بسراية الأمر من الطبيعة إلى لوازمها ـ مأمورا به ، وحيث إنّه معنون بعنوان الغصب على الفرض يتعلّق به النهي ، ويكون منهيّا عنه ، فيجتمع الأمر والنهي في موضوع واحد ، وأمّا على ما اخترنا من عدم السراية فلا ، إذا ما تعلّق به الأمر مغاير مع ما تعلّق به النهي.

* * *

١٧٧
١٧٨

فصل :

إذا نسخ الوجوب ، هل يدلّ دليل (١) الناسخ أو المنسوخ على بقاء الجواز أم لا؟

ولا بدّ من التكلّم في مقامين :

الأوّل : فيما يدلّ عليه الدليل الاجتهاديّ.

الثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي.

أمّا الأوّل : فتارة نتكلّم في الدليل (٢) المنسوخ ، وأخرى في الدليل (٣) الناسخ.

أمّا الدليل الناسخ : فلا يدلّ على أحد الأحكام الأربعة مطلقا ، لأنّه لا يتضمّن أزيد من رفع الوجوب ، وهذا الرفع ملازم مع أحد الأحكام الأربعة ، واللازم الأعمّ لا يثبت ملزومه الأخصّ ، فعدم الوجوب ورفعه لا يثبت الإباحة ولا الكراهة ولا الاستحباب.

وأمّا دليل المنسوخ : فلأنّه كان دالّا على ثبوت الوجوب بنحو الإطلاق ، والمفروض أنّه قد نسخ.

وما ربما يقال من أنّ القدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع الإلزام ، فيبقى الجواز على حاله ، وبعبارة أخرى : الوجوب كان مركّبا من جنس ، وهو الجواز ، وفصل ، وهو المنع من الترك ، ورفع الفصل فيبقى الجنس متفصّلا بأحد الفصول المناسبة له ، مدفوع بأنّ هذا إنّما يتعقّل في الموجودات

__________________

(١ ـ ٣) كذا.

١٧٩

الخارجية ، وبعبارة أخرى : يتصوّر هذا في الموادّ والصور ، كالحيوان ، فإنّه مركّب من جنس ، وهو الجسم ، وفصل ، وهو المتحرّك بالإرادة ، وبرفع الروح الحيواني يبقى الجنس على حاله متفصّلا بفصل يناسب له ، بناء على ما هو الحقّ من أنّه لبس بعد لبس ، لا خلع ولبس ، هذا بخلاف الأعراض التي لا جزء لها خارجا ، وإنّما يكون لها أجزاء عقليّة تحليليّة ، كالقيام والقعود والسواد والبياض ، فإنّ فيها خلعا ولبسا لا لبسا بعد لبس ، فلا يمكن أن يقال : إذا وجد القعود فالقيام موجود في ضمنه.

وبالجملة ، ليست للأعراض مادّة ولا صورة ، وإنّما يكون لها أجزاء عقليّة ، كاللون المفرّق للبصر في تعريف البياض ، واللون القابض للبصر في تعريف السواد.

ولو تنزّلنا عن ذلك محالا وقلنا بأنّ الأعراض يكون لها جنس وفصل خارجيّ ، أي المادّة والصورة ، كما قلنا في الجواهر الخارجيّة ، فلا يمكن المصير إليه في الأمور الاعتباريّة ، والأحكام الخمسة كلّها أمور اعتباريّة ، سواء كان الوجوب ـ مثلا ـ هو اعتبار اللابدّيّة المظهر بقول : «افعل» أو نحوه كما اخترناه ، أو كان عبارة عن إلقاء المادّة على المكلّف ، أو كان [الحكم الإلزاميّ] عبارة عن بعث وزجر اعتباريّ منتزع عن قول : «افعل» «ولا تفعل» على اختلاف المسالك ، والأمور الاعتباريّة ليس لها وجود لا جوهريّ ولا عرضيّ وإن كان نفس الاعتبار من الأعراض القائمة بنفس المعتبر إلّا أنّ المعتبر ليس من مقولة من المقولات ، فليس لها جنس ولا فصل ، ولا مادّة ولا صورة ، بل الأمور الاعتباريّة وجودات ضعيفة ومن أضعف الوجودات ، كما أنّ وجود البارئ تعالى من أقوى الوجودات ، فهذان الوجودان لا يدخلان تحت جنس

١٨٠