الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

__________________

ـ لاحظ كلّ قيد من قيود متعلّق أمره ورأى أنّ غرضه تعلّق بصرف وجود الطبيعة من دون دخل أيّ خصوصية من الخصوصيّات الفرديّة في حصول غرضه فلا محالة يأمر بالطبيعي على إطلاق وسريانه ، فلا مانع من إطلاق الأمر بالواجب الموسّع بهذا المعنى من الإطلاق.

وتوهّم : أنّ تقييد الطبيعي بخصوص هذا الفرد إذا كان مستحيلا ، فالإطلاق أيضا مستحيل ، فإنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد يكون من تقابل العدم والملكة ، مدفوع بما ذكرنا في بحث التعبّدي والتوصّلي من أنّ تقابلهما في مقام الإثبات وإن كان كذلك إلّا أنّهما في مقام الثبوت متقابلان تقابل السلب والإيجاب.

هذا ، مضافا إلى أنّ استحالة أحد المتقابلين ـ تقابل العدم والملكة ـ لا توجب استحالة المقابل الآخر ، بل ربّما توجب ضرورية الآخر ، كما في علم الممكن بذات البارئ تعالى ، فإنّه مستحيل مع أنّ الجهل به ضروريّ له.

الثاني : أنّ شمول الإطلاق للفرد غير المقدور لغو محض بحيث يقبح التصريح به بأن يقول المولى مثلا : «صلّ في أيّ مكان شئت في السماء أو في الأرض».

وفيه : أنّ غير المقدور شرعا شمول الإطلاق له لا لغويّة فيه ، فإنّ فائدته اكتفاء المكلّف بالفرد المزاحم وتحقّق الامتثال به على تقدير عصيان الواجب المضيّق والإتيان به بل غير المقدور عقلا أيضا ـ إذا أمكن صدوره من المكلّف بلا اختيار منه ـ لا مانع من شمول الإطلاق له لترتّب تلك الفائدة عليه.

نعم ، غير المقدور عقلا إذا لم يمكن صدوره من المكلّف بوجه من الوجوه لا يمكن شمول الإطلاق له ، فإنّه لغو لا فائدة فيه.

الثالث : أنّ زمان المزاحمة لا يمكن التكليف بالطبيعة فيه ، إذ الحصّة المزاحمة منها غير مقدورة شرعا ، فلا يمكن التكليف بها ، وباقي الحصص يمكن التكليف بها بعد الإتيان بالمضيّق لا قبله.

وهذا الإشكال وارد على من يرى استحالة الواجب التعليقي. وأمّا على المختار من إمكانه فيمكن التكليف فعلا بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، فإنّه مقدور ولا يلزم القدرة على متعلّق التكليف حال التكليف.

فالحقّ صحّة ما أفاده المحقّق الثاني قدس‌سره ، وسيجيء أنّا لا نقول بالترتّب إلّا في المضيّقين اللذين يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، وأمّا في الواجبين اللذين يكون أحدهما موسّعا والآخر مضيّقا فيمكن الأمر بهما عرضا ، فلا نحتاج إلى الالتزام بالترتّب. (م).

١٤١

وأجاب صاحب الكفاية (١) وغيره بأنّ عدم الأمر بها لا يوجب فسادها ، لأنّها باقية على ملاكها ومصلحتها بحيث لو تمكّن العبد من إتيان كلا الواجبين لأمر بها ، فهي على حالها ، ولا تنقلب بالمزاحمة عن المحبوبيّة الأوّلية ، ولا تصير مبغوضة له ، فيصحّ التقرّب بها بداعي المحبوبيّة ، بل الإتيان بهذا الداعي أولى في حصول القرب من الإتيان بداعي الأمر.

ثمّ إنّه قد تصدّى جماعة ، منهم شيخنا الأستاذ (٢) ـ قدّس أسرارهم ـ لإثبات الأمر بالضدّ وتصحيحه بنحو الترتّب على العصيان ، ونحن نتكلّم في جهات ثلاث :

الأولى : أنّه هل على القول بالاقتضاء تبطل العبادة المنهيّ عنها بمقتضى الأمر بضدّها أو لا؟

والحقّ هو الثاني ، لما تقدّم من مقدّمة قدّمناها في بحث مقدّمة الواجب من أنّ الأمر والنهي الغيريّين لا يوجبان مصلحة ومفسدة في المتعلّق وليس النهي الغيريّ (١) كالنهي المتعلّق بصوم العيدين بحيث تكون مفسدة في متعلّقه

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٨٥ وما بعدها.

(٣) هذا بإطلاقه غير صحيح ، لأنّه يمكن صيرورة متعلّق النهي الغيري ذا مفسدة ومبغوضا لأجل الأمر بالأهمّ ، كما إذا نهى عبده عن تعظيم الداني لأجل تعظيم العالي فيما إذا كان تعظيم الداني هتكا للعالي ، فإنّ النهي غيري ومع ذلك فيه مبغوضية ولو بالعرض ، وهكذا في ناحية الأمر الغيري ، كما إذا توقّفت حياته على عملية جراحية ، فإنّ هذه العمليّة في نفسها مبغوضة ذاتية ولكن لأجل الأمر الأهمّ ـ وهو بقاء الحياة ـ تصير ذات مصلحة عرضا ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ النهي ـ ولو كان غيريّا ـ يكشف عن منع الشارع عن التطبيق ، فلو فرض وجود الملاك في الفرد المزاحم ، لا يحكم العقل بالتخيير بينه وبين سائر الأفراد مع وجود ـ

١٤٢

توجب عدم صلاحيته لأن يتقرّب به ، بل النهي الغيريّ ناشئ من مقدّميّة ترك الصلاة للإزالة ، لا أنّه نشأ من مفسدة تكون في الصلاة حتّى لا تصلح لأن يتقرّب بها.

الجهة الثانية : في أنّه من أين يستكشف وجود الملاك في حال المزاحمة؟ ومن أخبرنا بذلك مع عدم الأمر؟

وقيل له وجوه :

الأوّل : أنّ إطلاق الأمر بالضدّ يدلّ على وجوبه في نفسه وكونه ذا مصلحة ملزمة وذا ملاك ملزم ، وفي صورة المزاحمة قيّد الإطلاق ـ من حيث دلالته على الوجوب ـ بغير هذا الفرد المزاحم للواجب المضيّق مع كونه موسّعا ، أو للواجب الأهمّ مع كونهما مضيّقين ، ويبقى الإطلاق على حاله من حيث دلالته على كون المأمور به ذا ملاك ملزم ، فيشمل هذا الفرد المزاحم.

وبعبارة أخرى : إذا سقط المدلول المطابقي ـ وهو الوجوب ـ عن الحجّيّة بالنسبة إلى الفرد المزاحم ، لا يسقط مدلوله الالتزاميّ عن الحجّيّة ، بل يبقى على حاله.

وهذا مبنيّ على ما أفاده صاحب الكفاية في بحث التعادل والتراجيح (١) من أنّه إذا كان هناك دليل له مدلولان : أحدهما مطابقيّ ، والآخر التزاميّ ،

__________________

ـ النهي من الشارع. وبعبارة أخرى : النهي النفسيّ يكشف عن ثلاثة أمور :

١ ـ كون المتعلّق ذا مفسدة.

٢ ـ كونه مبغوضا للمولى.

٣ ـ منع الشارع عن تطبيق المكلّف الواجب على أيّ فرد شاء ، والنهي الغيري يشارك النفسيّ في الثالث وإن لم يشاركه في الأوّلين ، ومع منع الشارع عن التطبيق كيف يصحّ العمل ويكون محبوبا للمولى!؟ (م).

(١) كفاية الأصول : ٤٩٩ ، وحاشية فرائد الأصول : ٢٦٦ ، ولم نعثر على تلك الفروع فيهما.

١٤٣

وحصل التعارض بينه وبين دليل آخر في مدلولهما المطابقي ، يسقط هو عن الحجّيّة ، ويبقى الآخر على حاله.

ثمّ فرّع عليه فروعا كثيرة ، منها : أنّه إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودليل آخر على حرمته ، فبعد التساقط في مدلولهما المطابقي ـ وهو الوجوب والتحريم ـ لا يحكم بالجواز والإباحة.

هذا ، ونحن بنينا هناك على تبعيّة الدلالة الالتزاميّة الدلالة المطابقيّة حدوثا وارتفاعا ، وتحقيق الكلام فيه في محلّه.

وملخّص الجواب عنه أوّلا نقضا (١) : بأنّ لازمه أنّه إذا أخبرت البيّنة عن

__________________

[١] أقول : في كلا جوابيه النقضي والحلّي أنّهما من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة الموضوعيّة.

توضيح ذلك : أنّ ورود النقض منوط بما إذا كان مورد النقض غير مقبول عند الكلّ أو الخصم وحده حتى يكشف عدم صحّة اللازم عند المستدلّ عن عدم صحّة الدليل والمدّعى والملزوم ، ولا إشكال في أن يلتزم المستدلّ بهذا اللازم ، فليس مورد النقض ممّا يكون اللازم فيه مقطوع البطلان عند الخصم ، بل هو مشكوك ، ومع الشكّ يكون شرط النقض وموضوعه مفقودا. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ تلك المسألة ـ أعني تبعيّة الدلالة الالتزامية في الحجّية للدلالة المطابقيّة وعدمها ـ فيما إذا كان هناك دليل لفظي على شيء وكان لذلك الشيء لازم ، وفي مورد النقض ليس الأمر كذلك ، فإنّ البيّنة قامت على موضوع الحكم الشرعي ـ وهو الملاقاة ـ وثبت موضوع الحكم تعبّدا ، وليس هناك دلالة لا لفظا ولا عقلا ولا عرفا ، فإذا تبيّن الخلاف ، لا يترتّب الحكم ، وهذا كما إذا قامت بيّنة على خمريّة مائع ثمّ تبيّن خلافه ، فإنّه لا تترتّب الحرمة ، ولا ربط له بمقام الدلالة اللفظية.

وبعبارة أخرى : ليس دليل النجاسة هو البيّنة ، بل لها دليل مستقلّ ، ولا تستفاد من قيام البيّنة على الملاقاة حتى تكون مدلولة التزاميّة ، وبالجملة سواء كانت تلك المسألة صحيحة أم لا ، لا ربط لمورد النقض بها.

نعم إذا ورد دليل لفظي على وجوب غسل الجمعة وآخر على استحبابه ، فلهما دلالة ـ

١٤٤

ملاقاة جسم مع البول ونحن نعلم بكذبها ونحتمل نجاسته من غير هذه الجهة ، تسقط عن الحجّيّة بالنسبة إلى المدلول المطابقي ، وهو ملاقاة هذا الجسم مع البول ، وتبقى على حالها من الحجّيّة بالقياس إلى مدلولها الالتزاميّ ، وهو نجاسة هذا الجسم ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد(١).

__________________

ـ التزامية على عدم الحرمة والكراهة والإباحة ـ وذلك أنّ الأحكام ليس أحدها موضوعا لعدم الآخر بل عدم أحدها لازم لوجود الآخر ، فإذا دلّ الدليل على وجود أحدها يدلّ على عدم غيره بالالتزام ـ وأمّا فيما نحن فيه فالنجاسة ليست مدلولة لمثبت الملاقاة ، وهو البيّنة ، بل قيام البيّنة على الملاقاة كقيامها على خمريّة المائع بعينه كما مرّ ، فكما لا حرمة لذلك المائع بعد كشف كذب البيّنة كذلك فيما نحن فيه ، فإنّه لا يحكم بالنجاسة بعد كذب البيّنة ، ووجهه ما مرّ من أنّ هذا من قبيل انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه لا انتفاء اللازم بانتفاء ملزومه.

فثبت أنّ النقض مخدوش ، لكونه تمسّكا بالدليل في الشبهة الموضوعيّة.

هذا ما يرجع إلى النقض ، وأمّا جوابه الحلّي ففيه : أنّه أيضا خارج عن موضوع تلك المسألة.

بيان ذلك : أنّ تلك المسألة فيما إذا كان في البين دليل لفظي وكان له مدلولان : مطابقي والتزامي ، وتحقّق له ظهوران ، ثم جاء دليل آخر منفصلا وأسقط المطابقي عن الحجّيّة ، ثم يبحث هل الالتزامي أيضا ساقط عن الحجّيّة أم لا؟ وأمّا إذا لم يكن الدليل لفظيّا أو كان لذلك الدليل اللفظي مقيّد متّصل ، فلا يتحقّق له ظهور ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإنّه يقال : أوّلا : أنّ الدالّ على الوجوب هو الأمر ، والدالّ على الملاك ليس هو الأمر بل الوجوب ، والوجوب ليس لفظا ، وهذا من قبيل كشف المعلول عن العلّة ، لأنّ الملاك علّة والحكم معلول ، كما اعترف به قدس‌سره ، فما نحن فيه من قبيل دلالة الدخان على النار ، لا دلالة اللفظ الموضوع على الموضوع له ، فلا مدلول لفظي مطابقي أصلا فضلا عن الالتزامي ، فليست دلالة الوجوب على الملاك الخاصّ دلالة لفظيّة التزاميّة.

وثانيا : لو سلّمت لفظية الدليل والدلالة فحكم العقل بقبح تكليف العاجز عقلا أو شرعا يكون قرينة متّصلة ، فلا ظهور لقوله : «صلّ» بالنسبة إلى الفرد غير المقدور الشرعي من الأوّل حتى يستكشف وجود الملاك فيه ، فقوله : «صلّ» يصير ظاهرا في غير الفرد المزاحم. (م).

(١) وهكذا إذا قامت البيّنة على أنّ مالا ل «زيد» فبالدلالة الالتزاميّة تدلّ على أنّه ليس ـ

١٤٥

وثانيا حلّا : بأنّ وجود الملزوم ملازم لوجود لازمه الّذي لا ينفكّ عنه.

وبعبارة أخرى : الملزوم وجودا وعدما ، حدوثا وارتفاعا ملازم للازم نفسه لا للازم آخر له ملزوم آخر.

مثلا : الحرارة الناريّة تابعة للنار حدوثا وارتفاعا ، ووجودا وعدما ، لا مطلق الحرارة ، فإذا دلّ دليل على وجود النار ، يدلّ على وجود الحرارة الناريّة ، وإذا دلّ دليل على عدم النار ، فلا محالة يدلّ على عدم الحرارة الناريّة ، وهكذا المقام إذا أخبرت البيّنة بملاقاة جسم للبول ، تدلّ بالالتزام على تنجّس هذا الجسم بالنجاسة البوليّة فقط (١) ، فلا يمكننا استكشاف الملاك من هذا الطريق ، بل إذا لم يكن أمر للفرد المزاحم بمقتضى الدليل ، فلم يكن له ملاك بمقتضاه أيضا ، وهذا واضح.

الثاني من الوجوه ـ التي استدلّ بها لاستكشاف الملاك ، وبنى عليه شيخنا الأستاذ (١) ـ هو : أنّ معروض الطلب وموضوعه الّذي هو في مرتبة سابقة على الطلب مطلق ، وإنّما التقييد بالقدرة في نفس الطلب إمّا لقبح خطاب العاجز ، أو لاقتضاء نفس التكليف ذلك ، ومن المعلوم أنّ مرتبة الطلب متأخّرة عن موضوعه ومعروضه ، والتقييد في عروض الطلب المتأخّر عن متعلّقه

__________________

ـ لعمرو ، فإذا اعترف زيد بأنّه ليس له ، فلازم ما ذكر أن يعامل مع هذا المال معاملة مجهول المالك ، ويؤخذ من يد عمرو ، فإنّ يده سقطت بمقتضى إخبار البيّنة بالالتزام بأنّ يده يد عدوان. ولا يعطى المال ل «زيد» لإقراره بأنّه ليس له ، ومن المعلوم عدم جواز أخذ المال من عمرو لا شرعا ولا في المحاكم العرفية. (م).

(١) فإذا علمنا بعدم ملاقاته للبول وخطأ البيّنة في ذلك ، فقد علمنا بعدم تنجّسه بنجاسة بوليّة أيضا ، وأمّا نجاسته بسبب آخر فلم تخبر بها البينة لا مطابقة ولا التزاما ، فالحقّ أنّ الدلالة الالتزامية كما هي تابعة للدلالة المطابقيّة وجودا كذلك تابعة له حجيّة. (م).

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٦٥.

١٤٦

ومعروضه لا يوجب التقييد في المعروض والمتعلّق الّذي هو متقدّم عنه ، بل يبقى المعروض على حاله من الإطلاق ، وعلى مسلك العدليّة ـ من أنّ كلّ ما تعلّق به الطلب فهو ذو ملاك ملزم وذو مصلحة ملزمة ـ يجب أن يكون طبيعيّ الصلاة ـ مثلا ـ بإطلاقه واجدا للملاك التامّ ، وإلّا لكان على المولى البيان ، وأنّ الحصّة المقدورة منه واجدة له دون الطبيعيّ بإطلاقه.

والحاصل : [أنّه] يستكشف الملاك من إطلاق المادّة التي يعرض عليها الطلب مقيّدا بضميمة كبرى كلّيّة مسلّمة عند الإماميّة ، وهي أنّ كلّ ما تعلّق الطلب به وعرض عليه فهو واجد للملاك الملزم.

نعم ، إن كان معروض الطلب وموضوعه مقيّدا بالقدرة ـ كما في آية الحجّ (١) حيث تعلّق الوجوب بالقادر والمستطيع ، وآية الوضوء (٢) ، فإنّ موضوع وجوب الوضوء هو واجد الماء بقرينة المقابلة لموضوع وجوب التيمّم ، الّذي هو فاقد الماء وغير واجده في قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً)(٣) إلى آخره ـ يكشف عن أنّ ما هو واجد للملاك الملزم هو المقيّد بالقدرة لا مطلقا.

أقول : إن كان المراد من الإطلاق ما كان من الدلالات اللفظيّة والظهورات العرفيّة ، فمن المعلوم أنّه يتوقّف على تماميّة مقدّمات الحكمة ، التي منها كون المتكلّم في مقام البيان ، والغالب في الموالي العرفيّة أن لا يكونوا ملتفتين إلى المصلحة الكائنة في متعلّق أمرهم فضلا عن أن يكونوا في مقام بيانها ، وفي المولى الحقيقي وإن كان لا يتصوّر الغفلة إلّا أنّه ليس إلّا في مقام بيان الحكم ،

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) المائدة : ٦.

١٤٧

وأمّا كون متعلّق الحكم ذا مصلحة وذا ملاك ملزم فليس للمولى شغل بذلك ، وما لم يحرز ذلك لا يمكن التمسّك بالإطلاق بهذا المعنى ، فهو نظير الحكم بجواز الأكل ممّا يأخذه الكلب من قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ)(١) الّذي لا يكون إلّا في مقام بيان جواز الأكل ، أمّا محلّ الملاقاة نجس أو طاهر فلا يكون في مقام بيان ذلك.

على أنّه لو كان المولى في مقام البيان أيضا لا يفيد في المقام ، حيث إنّ نفس توجيه الخطاب للعاجز وتكليفه يكون ممّا يصلح للقرينيّة على تقييد المتعلّق ، ولا بدّ في تماميّة الإطلاق من أن لا يكون الكلام محفوفا بما يحتمل ويصلح للقرينيّة على التقييد.

وإن كان المراد من الإطلاق ما يستكشف عقلا إنّا كشف المعلول عن علّته ، سواء كان المولى في مقام البيان من جهة الملاك أم لا ، فلا يجدي أيضا حيث إنّ الكشف ليس إلّا من المعلول الّذي هو الوجوب ، وهو مقيّد ـ على الفرض ـ بغير صورة الابتلاء بالأهمّ أو المضيّق ، فالمنكشف أيضا مقيّد بغير هذه الصورة.

وبعبارة أخرى : الوجوب متعلّق بالحصّة التوأمة مع القدرة ليس إلّا ، فإذن لا وجوب لغيرها ، فمن أين يستكشف الملاك في أزيد من هذا المقدار الّذي هو متعلّق الوجوب؟ فلا طريق لنا لكشف الملاك إلّا في تلك الحصّة التوأمة مع القدرة لا غيرها.

الثالث من الوجوه : ما تقدّم في بحث التعبّدي والتوصّلي لاستكشاف ملاكات الأحكام.

__________________

(١) المائدة : ٤.

١٤٨

وملخّص ما ذكرناه أنّه ذكرنا في بحث الإخبار والإنشاء أنّ كلّا منهما يدلّ على أمر نفسانيّ ، ولا فرق بينهما من حيث الدلالة اللفظيّة ، ولا صدق ولا كذب في هذه المرحلة.

مثلا : «زيد قائم» يدلّ بمقتضى العلقة الوضعيّة على قصد المتكلّم الحكاية عن ثبوت القيام لزيد ، وهكذا «جئني بالماء» يدلّ على أمر نفساني هو اعتبار المتكلّم كون هذا الفعل على ذمّة المخاطب ، والفرق بينهما إنّما هو في المعنى ، وأنّه في الإنشاءات ليس شيء ما وراء النّفس حتى يطابق ما في النّفس إيّاه فيكون صادقا ، أو لا يطابقه ، فيكون كاذبا ، بخلافه في الإخبارات ، فإنّ للمعنى الّذي في النّفس خارجا ربما يطابقه وربما لا يطابقه ، ويكون الصدق والكذب بهذا الاعتبار ، فكما أنّه بالإخبار لا يوجد شيء إلّا الدلالة اللفظيّة التي تكون بين الألفاظ ومعانيها بمقتضى العلقة الوضعيّة الكائنة بينهما كذلك بالإنشاء لا يوجد سوى ذلك ، وصيغة «افعل» وأمثالها إنّما تكون مبرزة لما في النّفس ومظهرة له ، وبه يتحقّق مصداق الطلب ، فباب الإنشاء ليس باب إيجاد المعنى باللفظ أصلا على ما في الكفاية (١) وغيرها ، بل هو ـ كما في الإخبار ـ إبراز ما في النّفس ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، ففي صيغة «افعل» وأمثالها التي هي محلّ كلامنا هو اعتبار كون الفعل على ذمّة المكلّف كما في الدّين ، ولذا يقال : مشغول ذمّة فلان بالصلاة ، كما يقال : مشغول ذمّته بعشر دنانير مثلا ، وهذا المعنى يساعده العرف والاستعمال ، يقال : هذا الفعل على ذمّتك؟ فتقول : نعم على ذمّتي ، ولا يلزم من صحّة هذا الاعتبار أن يكون الفعل مقدورا للمكلّف ، كما لا يلزم في الدّين ، ويعتبر على ذمّة المديون مع عدم القدرة على

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٧.

١٤٩

الأداء.

نعم يعتبر أن لا يكون المعتبر غير مقدور أصلا ، كالطيران إلى السماء أو جمع النقيضين ، إذ اعتبار مثل ذلك لغو محض لا يجوز صدوره من حكيم ، وعلى هذا لا مانع من هذا الاعتبار لطبيعيّ الصلاة أينما سرى بحيث يشمل الفرد المزاحم للواجب المضيّق ، وبمقتضى إطلاق متعلّق الوجوب وعدم تقييده بما يكون مقدورا يستكشف أنّ طبيعيّ الصلاة من دون تقييده بالقدرة اعتبر على ذمّة المكلّفين ، ففي مقام الجعل ـ وهو مقام الاعتبار المتأخّر عن مقام الشوق الناشئ عن المصلحة الإلزاميّة الكائنة في الشيء ـ لا تقييد أصلا.

نعم ، التقييد يكون في المقام الرابع ، وهو مقام الطلب والبعث المتأخّر عن مقام الإبراز وإظهار اعتبار كون الفعل على ذمّة المكلّف على القول باستحالة الترتّب وعدم إمكان تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتّب ، ونحن نثبت إمكانه عن قريب.

وبالجملة ، التقييد يكون في مقام الامتثال لا في مقام الجعل ، بمعنى أنّه حيث لا يمكن الانبعاث من البعث إلى غير المقدور كالجمع بين الضدّين ، فلا يمكن البعث إليه أيضا ، وهذا لا ينافي كون التكليف بغير المقدور فعليّا والجعل موجودا ، وهذا إنكار لشرطيّة القدرة للتكليف ، كالعلم ، وإنّما هي من شرائط التنجيز ومن شرائط الامتثال ، ففي جميع متعلّقات الأحكام وموضوعاتها التي لم تؤخذ القدرة فيها ـ كما في آية الحجّ ـ اعتبر الأفعال على الذمم كاعتبار الماليّات على الذمم ، كان المكلّف عالما أو جاهلا ، قادرا أو عاجزا ، ولا يشترط في فعليّة التكاليف الواقعيّة إمكان الانبعاث ، كما لا يشترط في فعليّة الأموال على الذمم إمكان الانبعاث والقدرة على الأداء ، فالتكليف بالصلاة مع مزاحمتها

١٥٠

للإزالة فعليّ وإن لم يكن البعث إليها فعليّا ، لعدم إمكان الانبعاث ، فإذا كان التكليف فعليّا ، كان الملاك موجودا ، وإذا كان الملاك موجودا ، فيصحّ إتيان الصلاة بداعي المحبوبيّة في ظرف عصيان أمر الإزالة ولو لم نقل بالترتّب.

والتزم بعض بأنّ فعلية التكليف مشروطة بإمكان الانبعاث.

وأورد عليه السيد صدر الدين بأنّ لازمه عدم التكليف في ظرف الجهل ، وهو من التصويب المجمع على بطلانه.

وشيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره ـ حكى هذا الاعتراض في الرسائل ، ولم يأت بجواب عنه.

ويمكن الجواب عنه بأنّه يمكن الانبعاث احتمالا في ظرف الجهل بالاحتياط ولو لا يمكن جزما.

لكن هذا الجواب وإن كان تامّا في الشبهات البدويّة إلّا أنّه لا يتمّ في دوران الأمر بين المحذورين ، فإنّ لازم هذا الشرط سقوط التكليف واقعا وثبوت التخيير الواقعي ، كما نسب إلى شيخ الطائفة (١) ، لعدم إمكان الانبعاث في هذه الصورة لا جزما ولا احتمالا ، ومن المعلوم أنّه لا يلتزم القائل بذلك ، وهذا أحد النقوض الواردة على القائل باشتراط فعليّة التكليف بإمكان الانبعاث.

وينتقض أيضا بما إذا كان المكلّف غافلا عن دخول الوقت أو عن وجوب الصلاة ، فإنّ لازمه أن لا يكون التكليف بالصلاة فعليّا في حقّه ، فمن أين يجيء وجوب القضاء بعد ما لم يكن مكلّفا بالصلاة؟

وأوضح من هذين النقيضين النقض بالأمارات ، فإنّ الأمارة الدالّة على

__________________

(١) عدّة الأصول ٢ : ٨٠.

١٥١

وجوب شيء مثلا وفرضنا أنّ الواقع على خلاف مؤدّاها إن قيل : إنّ الواقع انقلب عمّا هو عليه ، حيث لا يمكن التكليف به ، لاستحالة الانبعاث في هذا الحال ، فهو من التصويب المجمع على بطلانه ، وإن قيل : إنّه فعليّ إلّا أنّ التحريك والبعث إليه ليس بفعليّ ، فهو المطلوب. فهذه النقوض تثبت عدم شرطيّة إمكان الانبعاث في فعليّة التكاليف الواقعيّة.

الجهة الثالثة : في أنّه هل يمكن الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب على عصيان الأهمّ وبشرط مخالفة أمره أم لا؟ ونحن نتكلّم قبل بيان مقدّمات الترتّب في أمرين :

الأوّل : أن لا مانع من القول بإمكان الترتّب إلّا توهّم طلب الجمع بين الضدّين ، نظرا إلى أنّ الأمر بالمهمّ وإن كان مشروطا بالعصيان إلّا أنّ الأمر بالأهمّ مطلق ، فهو موجود في ظرف العصيان وحصول الشرط ، فإذا اشتغل المكلّف العاصي لأمر الإزالة بالصلاة ، فأمر الصلاة لوجود شرطه موجود ، والأمر بالإزالة لإطلاقه أيضا موجود ، فالمولى يطلب الجمع بين الضدّين ، وهو محال.

والجواب عنه : بأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لا يفيد شيئا ، لما مرّ من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا خطابا ، وإلّا لجاز أن يأمر المولى بالجمع بين الضدّين بشرط مجيء زيد ، بأن يقول : إن جاءك زيد فاجمع بين الضدّين ، ويجب أن لا [يكون] مانع من هذا الأمر بدعوى أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وهو واضح البطلان ، وظاهر أنّ هذا المولى لا يليق بالمولويّة.

ونحن نجيب عنه إجمالا ، جوابا إلزاميّا جدليّا ، وتفصيله يأتي إن شاء الله في المقدّمات.

١٥٢

فنقول : نفرض الكلام في الواجبين اللذين لا تعاند بينهما في الوجود ، كما إذا أمر المولى بدخول المسجد على نحو الإطلاق وأمر بقراءة الفاتحة بشرط عصيان أمر الدخول في المسجد ، فنسأل منكر الترتّب عن أنّه إذا دخل المسجد وقرأ الفاتحة معا هل يقعان معا على صفة المطلوبيّة أو لا؟ فإن قال بالأوّل ، فنقول : إنّه خلف واضح حيث إنّ القراءة على هذا الفرض لا أمر لها ، وآتيها بداعي الأمر مشرّع عاص ، وإن قال بالثاني ، فهو المطلوب ، فالقول بالترتّب مقتض لعدم طلب الجمع بين الضدّين لا أنّه موجب لطلبه.

الأمر الثاني : أنّ القول بإمكان الترتّب ملازم لوقوعه ، ولا يحتاج الوقوع إلى برهان ، بل نفس الإمكان مقتض للوقوع.

بيان ذلك : أنّ سقوط كلّ أمر لا بدّ له من موجب ، وإذا فرض أنّ فعليّة الأمر بالضدّين على نحو الترتّب ممكنة وليس التزاحم بين وجودي الأمر بهما بل التزاحم بين امتثاليهما ، فلا بدّ في رفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهمّ من العجز عن الامتثال إمّا تكوينا أو تشريعا ، والعجز التشريعي ليس على الفرض ، والتكوينيّ منه حاصل حال الاشتغال بامتثال الأهمّ لا مطلقا ، فلا يرفع اليد عن إطلاق الأمر بالصلاة إلّا حال الاشتغال بالإزالة ، لمكان العجز عن إتيان الصلاة حينئذ ، إذ الضرورات تقدّر بقدرها ، فإذا عصى المكلّف ، ولم يشتغل بالإزالة ، فلا مانع من شمول إطلاق الأمر بالصلاة هذه الحال ، فتصحّ الصلاة بداعي أمرها.

ويتفرّع عليه أنّه إذا تنجّس موضعان من المسجد متساويان ليس بينهما أهمّ ، فلازم القول بالترتّب وجود الأمر بإزالة نجاسة كلّ من الموضعين ، غاية الأمر كلّ مشروط بعدم الآخر ، ولازم القول باستحالته سقوط الخطابين كليهما ،

١٥٣

وشموله لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، والمفروض أنّه لا يمكن شموله لكليهما بنحو الترتّب ، فلا محالة يسقط الخطابان معا ، إلّا أنّ العقل يكشف خطابا شرعيّا تخييريّا ، لئلا يلزم تفويت الملاك الملزم.

هذا إذا لم يكن أحدهما محتمل الأهمّيّة ، أمّا إذا كان أحدهما كذلك ، فيدور الأمر بين التخيير والتعيين على القول باستحالة الترتّب ، فمن قال بالاشتغال يقول بتعيّن ما يحتمل أنّه أهمّ ، ومن قال بالبراءة ـ وهو ما اخترنا هناك ـ يقول بالتخيير.

ويتعيّن محتمل الأهمّيّة على القول بالترتّب حيث إنّ إطلاق أمره باق على حاله ، فيتمسّك به ، إذ الاشتراط والتقييد مشكوك ، فيؤخذ بالإطلاق ، ويحكم بتعيّن ما يحتمل أهمّيّته.

وأمّا ما لا يكون كذلك بل إمّا مساو مع الآخر أو يكون الآخر أهمّ منه ، فأمره مشروط بعدم الآخر قطعا ، فيرفع اليد عن إطلاقه ، وذلك لأنّه إمّا مساو مع الآخر أو مرجوح والآخر أهمّ منه ، وعلى كلّ تقدير مشروط بعدم الآخر.

وإذا كان أحدهما أهمّ ، فعلى القول باستحالة الترتّب يسقط كلا الخطابين ، فيحكم العقل بتعيين ما يكون أهمّ ، لوجود الملاك الملزم الراجح على الملاك الملزم الموجود في الآخر ، وعلى الترتّب لا يسقط شيء منهما ، ويرفع اليد عن إطلاق المهمّ ، وخطاب الأهمّ باق على إطلاقه ، فيتعيّن تعيّنا شرعيّا.

وبعد ذلك يقع الكلام في مقدّمات الترتّب :

الأولى : أنّ للحكم مقامين : مقام الجعل ومقام المجعول.

أمّا مقام الجعل : فهو كمقام الحكاية في القضايا الحقيقيّة الخبريّة ،

١٥٤

كالحكاية عن ثبوت الحرارة للنار في قولنا : «النار حارّة» فكما أنّ الحكاية عن ثبوت الحرارة للنار لا تشترط بشرط ولا تسبّب بسبب ولا تمنع بمانع سوى الصفات الكائنة في أفق نفس المخبر من الإرادة والاختيار وغير ذلك من مقدّمات الفعل الاختياريّ ـ إذ هي فعل اختياريّ كسائر الأفعال الاختياريّة ـ كذلك جعل الوجوب للصلاة أو الحرمة للخمر لا يسبّب بسبب ولا يشترط بشرط ولا يمنعه مانع إلّا الصفات الكائنة في أفق نفس الجاعل من الإرادة والاختيار والعلم بوجود المصلحة وأمثال ذلك ، إذ هو أيضا فعل اختياريّ لا يتوقّف إلّا على مقدّمات الفعل الاختياريّ ، والأمور الخارجيّة أجنبيّة عن ذلك وعن وجود الموضوع وقيوده حتّى وجود المصلحة.

نعم ، العلم بوجود المصلحة ، الّذي هو أيضا من الصفات النفسانيّة دخيل في الجعل لا وجودها الخارجيّ ، فإذا جعل المولى الوجوب للصلاة أو الحرمة للخمر ، فقد انتقل هذا الحكم من كتم العدم إلى عرصة الوجود وثبتت الحرمة للخمر مثلا في الشريعة المقدّسة ، كانت الخمر موجودة أو لم تكن ، ولا يفرق في ذلك بين ما عبّر بنحو القضيّة الشرطيّة بأن يقول : «إذا تحقّق ووجد في الخارج مصداق الخمر فهو حرام» وبين ما عبّر بنحو القضيّة الخبريّة بأن يقول : «الخمر حرام» أو «لا تشرب الخمر».

وأمّا مقام المجعول وهو مقام الباعثيّة والمحرّكيّة ـ فهو كالمحكيّ في القضايا الخبريّة ، فكما أنّ وجود الحرارة خارجا لا يتوقّف إلّا على وجود النار المفروض وجودها في قولنا : «النار حارّة» كذلك باعثيّة الحكم المجعول ومحرّكيّته لا تتوقف إلّا على انقلاب موضوعه بجميع قيوده وأجزائه من الفرض والتقدير إلى الواقعية والتحقيق ، ولا تشترط بشرط ولا تسبّب بسبب أصلا ، فهي

١٥٥

من قبيل توقّف الحكم على موضوعه لا المعلول على علّته.

وتسمية قيود الموضوع في التكاليف شروطا وفي العقود أسبابا ليست إلّا مجرّد اصطلاح.

وفي هذا المقام أيضا لا يفرق بين التعبير بالقضيّة الشرطيّة ، نحو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) أو الخبريّة ، نحو : «يجب الحجّ على المستطيع» ومن الواضح أنّ الموضوع بعد تحقّقه خارجا لا ينسلخ عن الموضوعيّة ، بل موضوع الحرمة خمر وجدت أو لم توجد.

وبهذا يتّضح أنّ الواجب المشروط بعد وجود شرطه لا ينقلب مطلقا ، إذ الاستطاعة ـ مثلا ـ قيد من قيود موضوع وجوب الحجّ ، والحكم ـ كما عرفت ـ موجود وجدت الاستطاعة خارجا أم لا ، ولا دخل لقيود الموضوع في الجعل أصلا ، بل جعل الحكم على فرض وجودها ، فإذا تحقّقت الاستطاعة يتحقّق وجوب الحجّ ويصير فعليّا ، وبعد التحقّق أيضا فعليّة الوجوب مشروطة ببقاء موضوعه بجميع قيوده ، والبقاء أيضا وجود ثان ، فدائما [وجود] الواجب المشروط بشيء مشروط بوجود شرطه وجد شرطه أم لم يوجد ، إذ الشرط ليس إلّا ما له دخل في موضوع الحكم ، وكلّ حكم تتوقّف فعليّته على وجود موضوعه ، وهذا معنى قولنا : «كلّ شرط موضوع ، وكلّ موضوع شرط».

ويتفرّع على هذه المقدّمة أنّ أمر المهمّ الّذي هو مشروط بعصيان أمر الأهمّ لا ينقلب بعد تحقّق العصيان ، مطلقا ، بل يبقى على ما هو عليه من المشروطيّة بالعصيان ، فموضوع الأمر بالمهمّ بعد تحقّق العصيان أيضا هو عنوان

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

١٥٦

العاصي لا ذاته غير مشروط بالعصيان ، فدائما الأمر بالمهمّ مقيّد بالعصيان.

ويترتّب على هذه المقدّمة أنّ توهّم أنّ الأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه ـ وهو العصيان ـ يصير مطلقا ، والأمر بالإزالة أيضا على الفرض مطلق ، فالمولى يطلب جمع الضدّين في آن واحد وزمان فارد حيث إنّ الطلب في كلّ منهما مطلق وموجود على جميع التقادير ، فاسد ، لوضوح عدم انقلاب الأمر بالمهمّ عمّا هو عليه من المشروطيّة بالعصيان بعد تحقّقه.

المقدمة الثانية : أنّه هل يمكن أن يكون العصيان شرطا مقارنا ، أو لا بدّ وأن يكون شرطا متأخّرا لفعليّة خطاب المهمّ ، أو يكون الشرط هو العزم على نحو الشرط المتقدّم أو المقارن؟

ثمّ إنّه على تقدير [إمكان] أن يكون نفس العصيان شرطا مقارنا هل يصحّ الترتّب بجعله شرطا متأخّرا أو جعل العزم شرطا مقارنا أو متقدّما؟

فالبحث يقع في مقامين :

الأوّل : في إمكان جعل العصيان شرطا مقارنا.

فنقول : إنّ الشرائط كلّها راجعة إلى الموضوع ، وهو نسبته إلى الحكم كنسبة العلّة التامّة إلى معلولها ، فكما لا يعقل انفكاك العلّة التامّة عن معلولها كذلك لا يعقل انفكاك الحكم عن موضوعه ، وإلّا يلزم الخلف.

وبالجملة ، ما فرض كونه موضوعا للحكم إذا تمّ جميع قيوده فإمّا أن يكون الحكم المجعول عليه فعليّا بلا فصل زمانيّ بينهما ، وهو المطلوب ، أو يحتاج إلى مضيّ زمان في تحقّق الحكم وفعليّته ، فيلزم الخلف ، وهكذا الانبعاث عن الحكم لا بدّ وأن يكون في آن تحقّق الحكم وفعليّته ، إذ لو كان قبل تحقّق البعث ، لكان البعث لغوا ، وإن كان بعد تحقّقه زمانا ، فلازمه أن

١٥٧

لا يكون الانبعاث انبعاثا عن ذلك البعث.

والحاصل : أنّ نسبة الانبعاث إلى البعث كنسبة البعث إلى الموضوع ونسبة المعلول إلى علّته التامّة ، فالتقدّم والتأخّر بين البعث والانبعاث ليس تقدّما وتأخّرا زمانيّا ، بل رتبيّا.

وربما يقال بلزوم جعل العصيان في باب الترتّب على نحو الشرط المتأخّر. والوجه في ذلك أمران :

أحدهما : أنّ البعث لا بدّ وأن يكون منفكّا عن الانبعاث زمانا ، ولا يمكن اجتماع البعث والانبعاث في زمان واحد ، وحينئذ لو كان العصيان شرطا مقارنا لخطاب المهمّ ، فيكون زمان العصيان زمان الخطاب بالمهمّ ، وزمان الانبعاث عن خطاب المهمّ بعد زمان العصيان ، وفي ذلك الزمان خطاب الأهمّ ليس بموجود ، إذ هو ساقط بالعصيان ، وحينئذ لا يحتاج إلى الترتّب بين الخطابين.

وفيه : ما عرفت من أنّ زمان العصيان ـ الّذي هو موضوع خطاب المهمّ ـ وخطاب المهمّ والبعث والانبعاث كلّها واحد ، وإنّما التقدّم والتأخّر رتبيّ.

وثانيهما : أنّ البعث لو كان حين الانبعاث وفي زمانه ، فإمّا أن يلزم تحصيل الحاصل ، أو طلب المحال ، لأنّ المطلوب إمّا أن يكون حاصلا ، فيكون طلبا للحاصل ، أو يكون معدوما ، فيستحيل انقلاب المعدوم إلى الموجود.

وبالجملة ، إذا قلنا بلزوم اتّحاد زمان البعث والانبعاث ، ففي الواجب المضيّق ـ مثلا ـ يلزم أحد المحذورين ، إذ الانبعاث لو كان موجودا ، فالأمر طلب للحاصل ، وإن لم يكن موجودا ، فلا يمكن الانبعاث.

١٥٨

وفيه أوّلا : أنّ هذا منقوض بما إذا كان البعث مقدّما زمانا ، لأنّه حين الفعل إن كان الانبعاث موجودا ، فهو طلب للحاصل ، وإن لم يكن موجودا ، فهو طلب للمستحيل.

وثانيا : أنّ البعث يكون نظير الوجود ، فإنّه يعرض الماهيّة المعرّاة عن قيد الوجود والعدم ، وإلّا لو كان عارضا على الماهيّة المقيّدة بالوجود ، لزم تحصّل الحاصل ، أو بالعدم ، لزم المحال ، وهكذا البعث إنّما يعرض ذات المكلّف من دون تقييد بالانبعاث وعدمه.

فتلخّص من جميع ذلك أمران :

الأوّل : عدم الباعث على لزوم التفكيك بين البعث والانبعاث ، وهذا خلط واشتباه بين الجعل والمجعول ، فإنّ الجعل يمكن أن يكون مقدّما على المجعول والموضوع زمانا ، وكذا الواجبات الموسّعة ، فإنّ فعليّة الموضوع ، التي هي عبارة عن فعليّة الحكم والبعث يمكن أن تنفكّ عن فعليّة الانبعاث ، لا من إمكان الانبعاث ، فإنّه يستحيل تخلّف البعث عن إمكان الانبعاث.

والثاني : أنّه لا داعي بناء على هذا إلى الالتزام بكون العصيان شرطا متأخّرا.

المقام الثاني : أنّه على فرض جعل العصيان شرطا متأخّرا أو جعل العزم على العصيان شرطا متقدّما أو مقارنا يمكن تصحيح الترتّب أيضا.

أمّا بناء على جعل العصيان شرطا متأخّرا : فلأنّ فعليّة الأمر بالمهمّ ليست إلّا بعد تحقّق شرطه وهو التعقّب ، وهو لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق نفس العصيان.

لا يقال : إنّ التعقّب فعليّ حين فعليّة الأهمّ ، فالمهمّ أيضا يصير فعليّا ، فيلزم تحريك العبد في رتبة واحدة نحو الضدّين.

١٥٩

فإنّه يقال : إنّ واقع التحريك نحو المهمّ ليس إلّا بعد تحقّق العصيان ، وفي ذلك الوقت يكون العبد قادرا على امتثال المهمّ.

وبالجملة ، التعقّب وإن كان شرطا مقارنا إلّا أنّ حقيقة التعقّب لا تصدق إلّا بعد تحقّق منشأ انتزاعه ، ومع صرف القدرة إلى جانب الأهمّ ، فالعصيان لا يتحقّق ، ولا معنى للتعقّب حينئذ ، ولا يكون خطاب المهمّ فعليّا ، لعدم تحقّق العصيان حينئذ ، فالعبد قادر على الإتيان بالمهمّ ، لعدم صرف قدرته في الأهمّ.

وأمّا العزم على العصيان فدخله في فعليّة خطاب المهمّ على نحوين ، لأنّه إمّا أن يكون صرف حدوثه شرطا أو هو مع بقائه ، فإن كان الأوّل ، فلا محالة يستلزم طلب الضدّين ، فإنّ العبد وإن بنى على المعصية حين فعليّة الأهمّ ، إلّا أنّه بعد ذلك تاب ورجع عن هذا البناء ، فحينئذ يكون الأمران فعليّين في زمان واحد وفي عرض واحد ، فلا يصحّحه الترتّب.

وأمّا لو كان العزم شرطا حدوثا وبقاء ، فحينئذ يمكن تصحيح الترتّب ، لأنّ الأمر بالمهمّ شرطه البناء والعزم على عصيان الأهمّ ، ومن المعلوم أنّ العزم على عصيان الأهمّ لا يصرف قدرته عن امتثال الأهمّ ، فالقدرة باقية.

هذا ، وقد عرفت أنّا لا نحتاج إلى ذلك بعد تعقّل جعل العصيان شرطا مقارنا.

ثمّ لا يخفى أنّ نزاع الترتّب يجري فيما إذا كان أحد الواجبين مضيّقا والآخر موسّعا ، إذ حينئذ لا يمكن الإتيان بالموسّع ولا أمر له إلّا بناء على الترتّب.

وأمّا ما ربما يقال في تصحيح الأمر بأنّ الأمر متعلّق بالطبيعة لا بالفرد ، وحيث إنّ أفرادها على قسمين : مقدورة وغير مقدورة شرعا ، يصحّ تعلّق الأمر

١٦٠